الاربعون حديثاً 178

فكل يجد معشوقه في شيء ، ظانا ان ذلك هو الكمال وكعبة الآمال ، فيتخيله في امر معين ، فيتوجه اليه ، ويتفانى في سبيله تفاني العاشق . ان اهل الدنيا وزخارفها يحسبون الكمال في الثروة ، ويجدون معشوقهم فيها ، فيبذلون من كل وجودهم الجهد والخدمة الخالصة في سبيل تحصيلها فكل شخص ، مهما يكن نوع عمله ، ومهما يكن موضع حبه وتعشقه ، فانه لاعتقاده بان ذلك هو الكمال يتوجه نحوه . وهكذا حال اهل العلوم والصنايع ، كل يرى الكمال في شيء ويعتقد انه معشوقه ، بينما يرى اهل الآخرة والذكر والفكر غير ذلك ...
وعليه ، فجميعهم يسعون نحو الكمال . فاذا ما تصوروه في شيء موجود او موهوم تعلقوا به وعشقوه . ولكن لا بد ان نعرف انه على الرغم من هذا الذي قيل ، فان حب هؤلاء وعشقهم ليس في الحقيقة لهذا الذي ظنوه بانه معشوقهم ، وان ما توهموه وتخيلوه ويبحثون عنه ليس هو كعبة آمالهم . اذ لو ان كل واحد منهم رجع الى فطرته لوجد ان قلبه في الوقت الذي يظهر العشق لشيء ما فانه يتحول عن هذا المعشوق الى غيره اذا وجد الثاني اكمل من الاول ، ثم اذا عثر على اكمل من الثاني ، ترك الثاني وانتقل بحبه الى الاكمل منه ، بل ان نيران عشقه لتزداد اشتعالا حتى لا يعود قلبه يلقي برحاله في اية درجة من الدرجات ولا يرضى باي حد من الحدود .
مثلا ، اذا كنت تحب جمال القدود ونضارة الوجوه ، وعثرت على ذلك عند من تراها كذلك ، توجه قلبك نحوها . فاذا لاح لك جمال اجمل ، لا شك في انك سوف تتوجه الى الجميل الاجمل ، او انك على الاقل تطلب الاثنين معا ، ومع ذلك لا تخمد نار الاشتياق عندك ، ولسان حال فطرتك يقول : كيف السبيل اليهما معا ؟ ولكن الواقع هو انك تطلب كل جميل تراه اجمل ، بل قد تزداد اشتياقا بالتخيل ، فقد تتخيل ان هناك جميلا اجمل من كل ما تراه بعينك ، في مكان ما ، فيحلق قلبك طائرا الى بلد الحبيب ، ولسان حالك يقول : انا بين الجمع وقلبي في مكان آخر . وقد تعشق ما تتمنى . فانت ان سمعت باوصاف الجنة وما فيها من الوجوه الساحرة ـ حتى وان لم تكن تؤمن بالجنة لا سمح الله ـ قالت فطرتك : ليت هذه الجنة موجودة وليتهن كنّ من نصيبي ! .
وهكذا الذين يرون الكمال في السلطان والنفوذ واتساع الملك ، يتجه حبهم واشتياقهم الى ذلك . فهم اذا بسطوا سلطانهم على دولة واحدة ، توجهت انظارهم الى دولة اخرى ، فاذا دخلت تلك الدولة ايضا تحت سيطرتهم ، تطلعت اعينهم الى اكثر من ذلك . فهم كلما استولوا على قطر ، اتجه حبهم الى الاستيلاء على اقطار اخرى ، بل تزداد نار تطلعاتهم لهيبا ، واذا بسطوا سلطانهم على الارض كلها ، وتخيلوا امكان بسط سلطتهم على الكواكب الاخرى ، تمنت قلوبهم لو كان بالامكان ان يطيروا الى تلك العوالم كي يخضعوها لسيطرتهم .

الاربعون حديثاً 179

وقس على ذلك اصحاب الصناعات ورجال العلم ، وغيرهم ، وكل افراد الجنس البشري ، مهما تكن مهنتهم وحِرَفهم ، فهم كلما تقدموا فيها مرحلة متقدمة ، رغبوا في بلوغ مرحلة اكمل من سابقتها ، ولهذا يشتد شوقهم وتطلعهم .
اذاً ، فنور الفطرة قد هدانا الى ان نعرف ان قلوب جميع ابناء البشر ، من اهالي اقصى المعمورة وسكان البوادي والغابات الى شعوب الدول المتحضرة في العالم ، وابتداء بالطبيعيين والماديين وانتهاء باهل الملل والنحل ، تتوجه قلوبهم بالفطرة الى الكمال الذي لا نقص فيه ، فيعشقون الكمال الذي لا عيب فيه ولا كمال بعده ، والعلم الذي لا جهل فيه ، والقدرة التي لا تعجز عن شيء ، والحياة التي لا موت فيها ، اي ان «الكمال المطلق» هو معشوق الجميع . جميع الكائنات والعائلة البشرية ، يقولون بلسان فصيح واحد وبقلب واحد : اننا نعشق الكمال المطلق ، اننا نحب الجمال والجلال المطلق ، اننا نطلب القدرة المطلقة ، والعلم المطلق . فهل هناك في جميع سلسلة الكائنات ، او في عالم التصور والخيال ، وفي كل التجويزات العقلية والاعتبارية ، كائن مطلق الكمال ومطلق الجمال ، سوى الله تقدست اسماؤه ، مبدا العالم جلت عظمته ؟ وهل الجميل على الاطلاق الذي لا نقص فيه الا ذلك المحبوب المطلق ؟
فيا ايها الهائمون في وادي الحسرات والضائعون في صحاري الضلالات . بل ايتها الفراشات الهائمة حول شمعة جمال الجميل المطلق ، ويا عشاق الحبيب الخالي من العيوب والدائم الازلي ، عودوا قليلا الى كتاب الفطرة وتصفحوا كتاب ذاتكم لتروا ان قلم قدرة الفطرة الالهية قد كتب فيه :«اني وجهت وجهي للذي فطر السموات والارض» (1) فهل ان «فِطَر الله التي فطر الناس عليها» هي فطرة التوجه نحو المحبوب المطلق ؟ وهل ان الفطرة التي لا تتبدل «لا تبديل لخلق الله» هي فطرة المعرفة ؟ فإلى متى توجه هذه الفطرة التي وهبك الله اياها نحو الخيالات الباطلة ، نحو هذا وذاك من المخلوقات لله ؟ اذا كان محبوبك هو هذا الجمال الناقص والكمالات المحدودة ، فلماذا عندما تصل اليها يبقى اشتياقك ملتهبا لا يخمد ، بل يزداد ويشتد ؟ .
تيقظ من نوم الغفلة واستبشر فرحا بان لك محبوبا لا يزول ، ومعشوقا لا نقص فيه ، ومطلوبا من دون عيب ، وان لك مقصودا يكون نور طلعته هو النور «الله نور السموات والارض» ، وان محبوبك ذو احاطة واسعة «لو دليتم بحبل الى الارضين السفلى لهبطتم على الله» (2) . اذن يستوجب عشقك الحقيقي معشوقا حقيقيا ، ولا يمكن ان يكون شيئا متوهما متخيلا ، اذ ان كل موهوم ناقص ، والفطرة انما تتوجه الى الكمال . فالعاشق الحقيقي والعشق

(1) سورة الانعام ، آية : 79 .
(2) راجع كتاب معجم الاحاديث النبوية . مادة (د ل و) .
الاربعون حديثاً 180

الحقيقي لا يكون من دون معشوق ، ولا يكون غير الله الكامل ، معشوقا تتجه اليه الفطرة . فلازَمُ تعشّق الكمال المطلق وجود الكمال المطلق . وقد سبق ان عرفنا ان احكام الفطرة ولوازمها اوضح من جميع البديهيات «افي الله شك فاطر السموات والارض» (1) .

المقام الثاني
في بيان ان توحيد الحق المتعالي وصفاته الاخرى فطرية

في بيان أن توحيد الحق ـ تعالى شأنه ـ واستجماع ذاته لكل الكمالات من الأمور الفطرية ، وبالانتباه إلى ما جاء في المقام الأول يتضح ذلك أيضا إلا أننا سنبرهن على ذلك ببيان آخر هنا أيضا .
إعلم أن من الأمور الفطرية التي «فطر الناس عليها» هو النفور من النقص ، ولذلك فإن لإنسان ينفر من كل ناقص ، فهو ينفر منه لأنه وجد فيه نقصا وعيبا . إذاً ، فالفطرة تنفر من النقص والعيب كما أنها تنجذب إلى الكمال . فالفطرة لا بد وأن تتوجه إلى الواحد الأحد ، لأن كل كثير ومركب ناقص ، ولا تكون الكثرة دون محدودية والمحدودية نقص . وكل ناقص مرغوب عنه من جانب الفطرة وليس بمرغوب فيه . إذاً ، أمكن من هاتين الفطرتين : «فطرة حب الكمال» و «فطرة النفور من النقص» إثبات التوحيد . بل إن استجماع الله لجميع الكمالات ، وخلو ذاته المقدسة من كل نقص ، قد ثبت بالفطرة أيضا . وسورة التوحيد المباركة التي تبيّن نسب الحق المتعالي ، وبحسب رأي شيخنا الجليل (2) (روحي فداه) إن الهوية المطلقة ، التي تتوجه إليها الفطرة ، والتي أشير إليها في صدر سورة التوحيد المباركة بكلمة «هو» «هو» المباركة ، تعد برهانا على الصفات الست المذكورة بعد ذلك . إذ لمّا كانت ذات الله المقدسة هوية مطلقة ، والهوية المطلقة يجب أن تكون كاملة مطلقة ، وإلّا لكانت محدودة ، ولم تكن مطلقة ، فهو مستجمع لجميع الكمالات ، فهو (الله) . وفي الوقت الذي يكون مستجمعا لجميع الكمالات يكون بسيطا ، وإلا فالهوية لا تكون مطلقة ، إذاً فهو «أحد» ولازم الأحدية هو الواحدية ولما كانت الهوية المطلقة المستجمعة لجميع الكمالات منزهة عن جميع النقائص ، التي تعود بأجمعها إلى الماهية ، إذاً فتلك الذات المقدسة هي «الصمد» وليست جوفاء . ولما كانت الهوية مطلقة ، فلن يتولد منها شيء ولا ينفصل عنها شيء ، ولا ينفصل هو عن شيء «لم يلد ولم يولد» وإنما هو مبدأ كل شيء ومرجع جميع الموجودات ، بدون الانفصال الذي يوجب النقصان . والهوية المطلقة أيضا

(1) سورة إبراهيم ، آية : 10 .
(2) الشيخ محمد علي الشاه آبادي .
الاربعون حديثاً 181

ليس لها كفو ، إذ لا يمكن تصور التكرار في الكمال الصرف . إذاً فالسورة المباركة (الإخلاص) من أحكام الفطرة ولبيان نسب الحق المتعال .

المقام الثالث
في بيان ان المعاد فطري

ان «المعاد» او يوم القيامة من الامور الفطرية المجبولة عليها طينة البشر . وهذا ايضا ، مثل المقامين السابقين ، يمكن البرهنة عليه بطرق كثيرة وامور فطرية عديدة ، ونحن هنا نشير الى بعض منها .
اعلم ان من الفطريات الالهية التي فُطرت عليها العائلة البشرية كافة هي فطرة حب الراحة . فلو انك في كل ادوار التمدن والتوحش ، والتدين والعناد رجعت الى هذا الانسان ، الجاهل والعالم ، والوضيع والشريف ، والمدني والبدوي ، وسألته : «لِمَ كل هذا التعلق المتنوع والاهواء الشتى ، وما الغاية من تحمل كل هذه المشقات والصعوبات والمعاناة في الحياة ؟» فانهم جميعا وبكلمة واحدة وبلسان الفطرة الصريح يجيبون قائلين : بأن كل ما يتوخونه انما هو لراحتهم ، والغاية النهائية والمرام الاخير واقصى ما يتمنونه هو الراحة المطلقة الخالية من كل تعب ونصب . فلما كانت هذه الراحة التي لا تمازجها مشقة والتي لا يشوبها الم ونقمة هي معشوقة الجميع ، وكانت هذه المعشوقة المفقودة لدى كل انسان مقصورة في شيء ، لذلك فهو عندما يحب شيئا يتصور محبوبه فيه ، مع ان مثل هذه الراحة المطلقة لا وجود لها في كل ارجاء العالم وزواياه . اذ ليس من الممكن ان تعثر على راحة غير مشوبة بالألم . ان جميع نِعم هذا العالم يصاحبها العناء والعذاب المضني ، وما من لذة الا وفيها الم . ان العذاب والتعب والالم والحزن والهم والغم تملأ ارجاء الارض .
وعلى امتداد حياة الانسان لن تجد فردا واحدا يتساوى عذابه وراحته ، ونعمته توازي تعبه ونقمته ، ناهيك عن الراحة الخالصة المطلقة . وبناء على ذلك فان معشوق الانسان لا يوجد في هذا العالم الدنيوي . ان العشق الفطري الذي جبل عليه ابناء البشر لا يكون من دون معشوق موجود فعلا .
اذا ، لا بد من ان يكون هناك في دار التحقق وعالم الوجود عالم لا تشوب راحته شائبة من الم وعذاب وتعب ، راحة مطلقة لا يخالطها شيء من العناء والشقاء ، سرور دائم خالص لا يعتوره حزن ولا هم . ذلك العالم هو «دار نعيم الله» ، عالم كرم ذات الله المقدسة .
وهو عالم يمكن اثباته بفطرة الحرية ونفوذ الارادة الموجودة في فطرة كل انسان . ولما كانت مواد هذا العالم وما به من العسر والضيق مما يستعصي على حرية الانسان وارادته ، فلا بد

الاربعون حديثاً 182

اذا ، ان يكون هناك عالم آخر تكون للارادة فيه كلمة نافذة ، ولا تستعصي مواده على ارادة الانسان ، ويكون الانسان في ذلك العالم فعالا لما يشاء والحاكم بما يريد ، حسبما تقتضيه الفطرة .
اذا ، يعتبر العشق للراحة والعشق للحرية هما الجانبان المودعان لدى الانسان ، بموجب فطرة الله التي لا تتبدل ، فيحلق بهما في عالم الملكوت الاعلى متقربا الى الله .
وفي المقام مواضيع اخرى لا تسعها هذه الاوراق ، وفيها فطرات اخرى لاثبات المعارف الحقة ، مثل اثبات النبوة ، وبعثة الرسل ، وانزال الكتب السماوية . بل بفطرة واحدة من هذه الفطر المذكورة يمكن اثبات جميع المعارف . ولكننا نكتفي بهذا القدر لئلا نخرج عن الموضوع ولكيلا نشرح ما لا يتناسب مع الحديث الشريف .
الى هنا عرفنا ان العالم بالمبدأ ، ,الكمالات ، ووحدتها ، والمعاد ، وعالم الآخرة كلها من الامور الفطرية . والحمد لله .

الاربعون حديثاً 183

الحديث الثاني عشر

التفكر


الاربعون حديثاً 184

بسندي المتصل الى محمد بن يعقوب ـ رضوان الله عليه ـ عن علي بن ابراهيم ، عن ابيه ، عن النوفلي ، عن السكوني ، عن ابي عبد الله عليه السلام قال : «كان امير المؤمنين عليه السلام يقول : نبه بالتفكر قلبك وجاف عن الليل جنبك واتق الله ربك» (1) .

(1) اصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الايمان والكفر ، باب التفكر ، ح 1 .
الاربعون حديثاً 185

الشرح :


«كان يقول» يختلف عن «قال» او «يقول» من حيث الدلالة ، لأنه يفيد الاستمرار والدوام . وهذا يعني ان الامام عليه السلام كان يكرر هذا الكلام . «والتنبيه» هو الاخراج من الغفلة والايقاظ من النوم . وكلا المعنيين مناسب هنا . فالقلوب قبل التفكر غافلة ، وقبل الايقاظ نائمة ، والتنبيه يخرجها من الغفلة ، ويوقظها من النوم . والنوم واليقظة ، والغفلة والفطنة ، لكل من مُلك الجسد وملكوت النفس ، مختلفان . فقد تكون العين الظاهرة يقظة وجانب المُلك واعيا ، ولكن عين الباطن والبصيرة تغط في نوم ثقيل ، وجانب ملكوت النفس في غفلة ومن دون وعي .
و «التفكر» اعمال الفكر ، وهو ترتيب الامور المعلومة للوصول الى النتائج المجهولة . فهو اعم من التفكر الذي يعد من مقامات السالكين . لان الخواجه الانصاري يعرفه بقوله : «اعلم ان التفكر تلمُّسُ البصيرة لاستدراك البغية» (1) . ومعلوم ان مطلوبات القلب هي المعارف ، ولهذا فان المراد بالتفكر في هذا الحديث الشريف هو المعنى الخاص الذي يعود الى القلوب وحياتها .
وللقلب تعريفات واصطلاحات كثيرة : فاذا عرّف عند الاطباء وعامة الناس ، كان المراد منه تلك القطعة من اللحم الصنوبرية الشكل التي بانقباضها وانبساطها يجري الدم في الشرايين ، ومن ذلك تتولد الروح الحيوانية التي هي بخار لطيف .
وعند الحكماء يطلق على بعض مقامات النفس . وله عند اصحاب العرفان مقامات ومراتب ، يكون التعمق في بيان هذه المصطلحات خارجا عن قصدنا .
وفي القرآن الكريم والاحاديث الشريفة يطلق (القلب) في المواضيع المختلفة على كل

(1) «منازل السائرين» ج 1 ، ص 57 .
الاربعون حديثاً 186

واحد من المعاني المتداولة بين العامة والخاصة ، مثل«اذ بلغت القلوب الحناجر» (1) وهو بمعناه المتداول بين الاطباء ، «... لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم اعين لا يبصرون بها» (2) وهو المعنى المتداول على السنة الحكماء . «ان في ذلك لذكرى لمن كان له قلب او القى السمع وهو شهيد»(3)وهو الاصطلاح الجاري عند العرفاء . وما جاء في الحديث الشريف بشأن التفكر هو المتداول عند الحكماء . اما القلب في اصطلاح العرفاء ، فلا علاقة له بالتفكر ، وخصوصا في بعض مراتبه ، كما يعرف ذلك اهل الاصلاح .
وقول الامام عليه السلام : «جاف عن الليل جنبك» ، الجفاء بمعنى «البعد» و «جافاه عنه ، فتجافى جنبه عن الفراش» اي «نبا» كما في الصحاح . ونسبة المجافاة الى الليل من الاسناد الى المجاز ، او من جعل الليل فراشا ادعاء ، او ان الكلمة استعملت في معناها الحقيقي وان الاسناد يكون حقيقيا ولكن الفرق في الارادة الجدية والاستعمالية ، كما احتملوه في مطلق المجازات ، وحسبما اسهب في شرحه الشيخ الفقيه والاصولي والاديب المتبحر «الشيخ رضا الاصفهاني» في «جلية الحال» . ومهما يكن ، فتلك كناية عن النهوض عن فراش النوم في الليل من اجل العبادة . وبعد ذلك سوف يتم بيان التقوى ومراتبها ، ان شاء الله ... ولكننا سوف نبين ضمن فصول عديدة مناسبات الحديث الشريف فيما يلي :

فصل
في بيان فضيلة التفكر

اعلم ان للتفكر فضائل كثيرة . فالتفكر هو مفتاح ابواب المعارف وخزائن الكمالات والعلوم ، وهو مقدمة لازمة وحتمية للسلوك الانساني ، وله في القرآن الكريم والاحاديث الشريفة تعظيم بليغ وتمجيد كامل ، كما ان تاركه معير ومذموم . وقد جاء في «الكافي» الشريف عن الامام الصادق عليه السلام :
«افضل العبادة ادمان التفكر في الله وفي قدرته» (4) . ويرد ذكر لهذا الحديث فيما بعد . وفي حديث آخر : «تفكر ساعة خير من قيام ليلة» . وفي حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «ان تفكر ساعة من خير عبادة سنة» . وفي حديث غيره : «ان تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة» ، وفي رواية : «سبعين سنة» ، وعن بعض علماء الفقه والحديث : «الف سنة» . وعلى كل

(1) سورة الاحزاب ، آية : 10 .
(2) سورة الاعراف ، آية : 179 .
(3) سورة ق ، آية : 37 .
(4) اصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الايمان والكفر ، باب التفكر ، ح 3 .
الاربعون حديثاً 187

حال ، ان للتفكر درجات ومراتب ، ولكل مرتبة نتيجة او نتائج ، وسوف نتناول بعضها .
الاول : هو التفكر في الحق تعالى ، واسمائه وصفاته وكمالاته . ونتيجة ذلك هو العلم بوجوده وبانواع تجلياته ، التي منها الاعيان الواقعية والمظاهر الخارجية . وهذا افضل مراتب التفكر ، واعلى مراتب العلوم ، واتقن مراتب البرهان . اذ ان الانتباه الى ذات العلة ، والتفكر في السبب المطلق ، يدفع بالانسان الى العلم به وبالمسببات والمعلولات . وهذا هو رسم تجليات قلوب الصديقين ، ولذلك سمي باسم : «برهان الصديقين» . فالصديقون بمشاهدة الذات يشهدون الاسماء والصفات ، وفي مرآة الاسماء ، يشهدون الاعيان والمظاهر . وما تسمية هذا القسم من البرهان باسم «برهان الصديقين» الا لان الصدّيق اذا اراد ان يظهر مشاهداته في صورة برهان ، وان يضع ما وجده ذوقا وشهودا في قالب الالفاظ ، لكان هكذا . ولا يعني هذا الاسم ان كل من استدل بهذا البرهان على ذات الله وتجلياته كان من الصديقين ، ولا ان معارف الصديقين هي من سنخ البراهين ، فان لهم براهين خاصة وهيهات ان تكون علومهم من جنس التفكر ، او ان تكون ثمة مشابهة بين مشاهداتهم وبين البرهان ومقدماته . فما دام القلب في حجاب البرهان ، وخطوته هي خطوة التفكر ، لا يكون قد وصل الى اول مراتب الصديقين . واذا ما خرج من حجاب العلم والبرهان السميك ، فلا علاقة له بالتفكر ، بل يفوز في آخر الامر ومنتهى السلوك بمشاهدة جمال الجميل المطلق ، من دون واسطة البرهان ، وحتى من دون واسطة اي كائن ، ويذوق اللذة الدائمة السرمدية ، ويتحرر من الدنيا وما فيها ، ويبقى في الفناء التام تحت قباب الكبرياء ، ولا يبقى منه اسم ولا رسم ويصبح مجهولا مطلقا ، الا اذا شملته العناية الالهية وارجعته الى مملكته وممالك الوجود على قدر سعة وجود عينه الثابتة ، ويتم له في هذا الرجوع كشف سبحات الجمال والجلال ، ويشهد في مرآة الذات الاسماء والصفات ، ومنها يفوز بمشاهدة عينه الثابتة وكل ما هو تحت ظل حمايته ، وتتكشف كيفية سلوك المظاهر والرجوع الى الظاهر ، على قلبه ، ثم يتشرف برداء النبوة . اذ في هذا المقام يظهر اختلاف مقامات الانبياء والرسل ، وتنكشف لهم في هذا المقام سعة دائرة الرسالة او ضيقها والمبعوث منه والمبعوث اليه . ان الاسهاب في المقال بهذا الشأن لا يتناسب مع هذه الاوراق ، حتى اننا تغاضينا عن برهان الصديقين ايضا لأن له مقدمات يطول شرحها هنا .

تتميم
في بيان التفكر الممنوع والمرغوب في ذات الحق

لا بد ان نعرف ان قولنا : «التفكر في الذات والاسماء والصفات» قد يحمل الجاهل على الظن بأن التفكر في ذات الله ممنوع بحسب الروايات ، دون ان يعلم ان التفكر الممنوع هو

الاربعون حديثاً 188

التفكر في اكتناه الذات وكيفيتها ، حسب ما يستفاد من الاحاديث الشريفة (1) . وقد يُمنع غير المؤهل ، من النظر في بعض المعارف ذات المقدمات الدقيقة . وهذان المقامان يتفق بشأنهما الحكماء ايضا . الا ان استحالة اكتناه الذات الالهية مبرهنة في كتبهم ، ومنع التفكر فيها مسلّم به عند الجميع .
اما شرائط الدخول في هذه العلوم ، ومنع تعليم غير المؤهل ، فمذكورة في كتبهم . ووصاياهم في خصوص شرائط الدخول مسطورة في اوائل كتبهم او اواخرها ، كما فعل اماما الفن وفيلسوفا الاسلام العظيمان ، «الشيخ ابن سينا» في آخر «الاشارات» (2) و «صدر المتألهين» في آخر «الاسفار» (3) . حيث اوردا وصاياهما البليغة (فراجع) (4) .
اما النظر في ذات الله لغرض اثبات وجوده وتوحيده وتنزيهه وتقديسه ، فهو الغاية من ارسال الانبياء والمقصد لآمال العرفاء . والقرآن الكريم والاحاديث الشريفة مشحونة بالاخبار حول العلم بذات الله وكمالاته واسمائه . وكتب الاخبار المعتبرة ، مثل «الكافي» و «توحيد» الشيخ الصدوق ، تتعمق في اثبات ذات الله واسمائه وصفاته . والفرق بين المأثورات عن الانبياء وكتب الحكماء انما هو في الاصطلاحات والايجاز والتفصيل فقط ، مثلما ان الفرق بين الفقه والاخبار الخاصة بالفقه هو في الاصطلاحات والايجاز والتفصيل ايضا ، لا في المعنى .
لكن المصيبة في ان هناك بعض الجهلاء في لباس اهل العلم الغير عارفين بالكتاب والسنة والجاهلين بهما ، ظهروا في القرون الاخيرة ، من دون أية رؤية صحيحة او اعتماد على معيار صحيح او معرفة بالكتاب والسنة ، وجعلوا جهلهم وحده دليلا على بطلان العلم بالمبدأ والمعاد ، ولكي يروجوا بضاعتهم حرّموا النظر في المعارف التي هي غاية ما يقصده الانبياء والاولياء سلام الله عليهم ، والتي امتلأ بها كتاب الله واخبار اهل البيت عليهم السلام وراحوا يرمون اهل المعرفة بكل شتيمة واتهام ، وسببوا انحراف قلوب عباد الله عن العلم بالمبدأ والمعاد ، وكانوا سببا في تفريق الكلمة وتشتيت شمل المسلمين . ولو سأل سائل : لِم كل هذا التكفير والتفسيق ؟ لتشبث المجيب بالحديث القائل : «لا تتفكروا في ذات الله» . ان هذا الجاهل المسكين مخطئ وجاهل من جهتين :
الاولى انه ظن ان الحكماء يقومون بالتفكر في ذات الله ، مع انهم يرون ان التفكر في ذات الله واكتناهها ممتنع ، وهذا من المسائل المبرهن عليها في هذا العلم .

(1) «تفكروا في خلق الله ولا تتفكروا في الله فانكم لن تقدروا قدره» «المحجة البيضاء» ج 8 ص 193 .
(2) «الاشارات والتنبيهات» ج 3 ، ص 419 ط . الحيدري طهران .
(3) «الاسفار الاربعة» ج 1 ، ص 10 (دار المعارف الاسلامية) .
(4) الكتابين المذكورين . المصدر نفسه ، ص 50 .
الاربعون حديثاً 189

والثاني : انه لم يفهم معنى الحديث ، فظن انه لايجوز التفوّه بأي شيء عن ذات الله المقدسة مطلقا . اننا سنذكر بعض الاحاديث ونجمع بينها وبين ما في نظرنا القاصر ، ونجعل الانصاف هو الحكَم ، على الرغم من ان هذا يخرج قليلا عن موضوعنا ، ولكن لعل فيه بعض الضرورة لرفع الشبهة وابطال الباطل .
الكافي باسناده عن ابي بصير : قال ابو جعفر عليه السلام : «تكلموا في خَلق الله ولا تتكلموا في الله فان الكلام في الله لا يزداد صاحبه الا تحيرا» (1) .
يدل هذا الحديث بذاته على ان المراد هو التكلم في اكتناه ذات الله وكيفيته ومحاولة تعليله . والا فان الكلام في اثبات ذاته تعالى وسائر كمالاته وتوحيده وتنزيهه لا يوجب التحير . ولعل النهي موجه الى الذين يكون التكلم حتى في هذه الامور موجبا لحيرتهم . وقد احتمل المرحوم المحدث المجلسي رحمه الله هذين الاحتمالين ، اللذين قربناهما ، من دون تعليق ، ولكن قوى الاحتمال الاول .
وفي رواية اخرى عن حريز : «تكلموا في كل شيء ولا تتكلموا في ذات الله» (2) . وهناك روايات اخرى بهذا المضمون او قريبة منه ، مما لا نجد ضرورة لذكرها .
وفي «الكافي» عن ابي جعفر (محمد الباقر) عليه السلام قال : «اياكم والتفكر في الله ولكن اذا اردتم ان تنظروا الى عظمته ، فانظروا الى عظيم خلقه (3) .
الظاهر ان هذا الحديث ايضا يشير الى التفكر في كنه ذات الله ، لانه يقول في نهايته : «اذا اردتم ان تنظروا الى عظمته فانظروا الى عظيم خلقه» . اي استدلوا من عظمة المخلوق على عظمة الخالق عز وجل . ويكون هذا على سبيل المثال لمختلف طبقات الناس الذين يمر طريق معرفتهم من خلال المخلوق .
هذه الاحاديث وامثالها التي تنهى عن التكلم في ذات الله والتفكر فيه هي نفسها دليل على ما نقصده . والحديث الذي يوضح هذا الامر هو الحديث الشريف في «الكافي» في باب التفكر .
عن ابي عبد الله (جعفر) الصادق عليه السلام قال : «افضل العبادة ادمان التفكر في الله وفي قدرته» (4) .
وفي حديث آخر في «الكافي» :

(1) اصول الكافي ، المجلد الاول ، كتاب التوحيد ، باب النهي عن الكلام في الكيفية ، ح 1 .
(2) و (3) اصول الكافي ، المجلد الاول ، كتاب التوحيد ، باب النهي عن الكلام في الكيفية ، ح 1 و ح 7 .
(4) اصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الايمان والكفر ، باب التفكر ، ح 3 .
الاربعون حديثاً 190

سئل علي بن الحسين (عليهما السلام) عن التوحيد ، فقال :
«ان الله عز وجل علم انه يكون في آخر الزمان اقوام متعمقون فانزل الله تعالى «قل هو الله احد» ، والآيات من سورة الحديد الى قوله : «وهو عليم بذات الصدور» فمن رام وراء ذلك فقد هلك» (1) .
اذاً ، يتضح ان هذه الآيات التي تشير الى التوحيد ، وتنزيه الله ، والبعث ، ورجوع الكائنات [الى الله] نزلت للمتعمقين واهل التفكير العميق .
فهل مع كل هذا يمكن القول ان التفكر في ذات الله حرام ؟ اي حكيم او عارف جاء بمعارف اكثر مما جاء في اول (سورة الحديد) ؟ ان منتهى معرفتهم هو الوصول الى قوله تعالى : «سبح لله ما في السموات والارض» هل هناك افضل بيانا في وصف الله تعالى وتجلي ذاته المقدسة من الآية الشريفة: «هو الاول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم» ؟ .
اقسم بحياة الحبيب انه لو لم تكن لبيان حقية كتاب الله الكريم غير هذه الآية الشريفة لكفت ذوي القلوب . ارجعوا قليلا الى كتاب الله ، والى خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، واخبار خلفائه المعصومين سلام الله عليهم ، وقارنوا لتروا مَن مِن الحكماء والعارفين جاء ببيانات اجلى واوضح مما جاء بها اولئك في كل من مواضيع المعارف ؟ ان اقوالهم مشحونة بوصف الحق والاستدلال على ذات الله وصفاته المقدسة ، بحيث ان كل طائفة تحظى على قدر سعتها وادراكها .
اذاً ، يتضح من مجموع هذه الاخبار ان التفكر في ذات الله ممنوع اذا كان ذلك في مرتبة التفكر في كنه ذات الله وكيفيته ، كما جاء في حديث «الكافي» : «من نظر في الله كيف هو ، هلك» (1) ، او ان الجمع بين الاخبار الناهية والآمرة يستدعي منع فريق من الناس الذين لا تطيق قلوبهم الاستماع الى البرهان وليس لهم الاستعداد للدخول في مثل هذه البحوث . والدليل على هذا الجمع موجود في الاخبار نفسها .
اما الذين لهم الاستعداد والاهلية ، فيكون من الراجح لهم التفكر ، بل هو افضل من جميع العبادات .
على كل حال ، لقد خرجنا كليا عن المقصد . ولكن لم يكن لنا مناص من ان نتعرض لهذا الراي الفاسد والتهمة التي لا ترضي الحق والمتداولة في هذا الزمان على الالسنة ، لعل ذلك يُحدث بعض التاثير في قلوب بعضهم . ولو تم تاثير هذا القول في قلب شخص واحد لكفاني . والحمد لله واليه المشتكى .

(1) اصول الكافي ، المجلد الاول ، كتاب التوحيد ، باب النسبة ، ح 3 .
الاربعون حديثاً 191

فصل
في التفكر في المصنوع

ومن مراتب التفكر ، التفكر في روائع الصنع واتقانه ودقائق الخلق ، بما يتناسب وقدرة الانسان من طاقة للتفكر . ونتيجة هذا التفكر هي معرفة المبدا الكامل والصانع الحكيم ، وهذا على العكس من «برهان الصديقين» . اذ ان مبدا البرهان في ذاك المقام هو الحق تعالى عز اسمه ، ومنه يحصل العلم بالتجليات والمظاهر والآيات . واما في هذا المقام فمبدا البرهان هو «المخلوقات التي عن طريقها يتم العلم بالمبدا والصانع . وهذا البرهان يكون للعامة من الناس الذين لا حظّ لهم من برهان الصديقين . ولهذا ، قد ينكر الكثيرون ان يصبح التفكر في الحق مبدا العلم به ، وان يؤدي العلم بالمبدا الى العلم بالمخلوق .
وملخص الكلام ، ان التفكر في لطائف الصنعة ودقائقها وفي اتقان نظام الخليقة ، من العلوم النافعة ، ومن افضل الاعمال القلبية ، وخير من جميع العبادات ، لان نتيجته اشرف نتيجة . وعلى الرغم من ان النتيجة الاصلية لجميع العبادات والسر الحقيقي لها هو الحصول على المعرفة . فان كشف هذا السر والحصول على تلك النتيجة ليسا متيسرين للجميع ، بل ان لذلك اهلا تكون لهم في كل عبادة بذرة لمشاهدة او لمشاهدات . وعلى اي حال ان الاطلاع على لطائف الصنعة واسرار الخليقة بحسب الحقيقة والواقع لم يتيسر للبشر ، حتى الآن . ان اساس الخليقة ونظامها يكون من الدقة والاستحكام ومن الجمال والكمال في مستوى لو ان الانسان امعن النظر في اي كائن مهما كان حقيرا ، مستخدما كل علومه التي اكتسبها خلال قرون ، لما استطاع ان يطلع على نسبة واحد بالألف ، من ذلك ، فكيف له ان يتمكن من ادراك النظام الكلي الجميل ، ساعيا عن طريق الافكار البشرية الجزئية الناقصة ، لفهم بدائعه ودقائقه . اننا سنلفت انتباهك الى احدى دقائق الخلق مما هو قريب بعض الشيء من الافهام ويعد من المحسوسات ، (ثم اقرا الحديث المفصل عن هذا المجمل) .
ايها العزيز ، انظر وتامل في العلاقة التي بين هذه الشمس والارض . وفي المسافة المعينة بين الارض والشمس ، وحركة الارض حول نفسها وحول الشمس . تلك الحركة التي تكون على مدار محدد فيحصل منها الليل والنهار والفصول . فما اتقنه من صنع وما اكملها من حكمة ؟ ولولا هذا التنظيم ، اي لو كانت الشمس اقرب او ابعد ، لما تكوّن في الارض ـ في الحالة الاولى من الحر ، وفي الحالة الثانية من البرد ـ معدن ، ونبات ، وحيوان . وكذلك لو توقفت الارض عن الحركة ، على ما هي عليه من البعد عن الشمس لما كان الليل او النهار ، ولا كانت الفصول ، ولما تكونت الارض نهائيا او القسم الاكبر منها .
ولا يقتصر على هذا ايضا ، فان الاوج ، او اقصى نقطة للارض عن الشمس ، يقع في

السابق السابق الفهرس التالي التالي