الاربعون حديثاً 161

الحديث العاشر

اتباع الهوى وطول الامل


الاربعون حديثاً 162

بالاسناد المتصلة الى رئيس المحدثين محمد بن يعقوب ـ رضوان الله عليه ـ عن الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد ، عن الوشّاء ، عن عاصم بن حُميد ، عن ابي حمزة ، عن يحيى بن عقيل قال : قال امير المؤمنين ـ عليه السلام ـ : «انما اخاف عليكم اثنتين : اتباع الهوى وطول الامل ، اما اتباع الهوى فانه يصد عن الحق واما طول الامل فانه ينسي الآخرة» (1).

(1) اصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الايمان والكفر ، باب اتباع الهوى ، ح 3 .
الاربعون حديثاً 163

الشرح :


«الهوى» في اللغة «حب الشيء» و «اشتهاؤه» من دون فرق في ان يكون المتعلق امرا حسنا ممدوحا ، او قبيحا مذموما . او لان النفس بمقتضى الطبيعة ، تميل الى الشهوات الباطلة والاهواء النفسية ، لـولا العقـل والشرع اللـذان يكبحـانها (1) . اما احتمال الحقيقة الشرعية ـ كما يقول بعض المحققين ـ فمستبعد .
اما «الصد» عن الشيء فمعناه المنع والاعراض والإنصراف عنه . وهي معان تناسب الكلمة ، الا ان المعنى المقصود هنا هو المنع والإنصراف عن الشيء ، اذ ان الصد بمعنى الاعراض يكون لازما لا متعديا .
وسوف نحاول ، ان شاء الله ، من خلال مقامين اثنين ان نوضح فساد هاتين الصفتين ، وكيف تقوم الاولى بالمنع عن الحق . وتقوم الثانية بنسيان الآخرة . طالبين من الله التوفيق :

المقام الاول
في ذم اتباع هوى النفس
وفيه فصول

فصل
في بيان ان الانسان عند ولادته يكون حيوانا بالفعل

اعلم ان النفس الانسانية ، على الرغم من كونها ـ في معنى من المعاني الخارجة عن نطاق بحثنا ـ مفطورة على التوحيد ، بل هي مفطورة على جميع العقائد الحقة . ولكنها منذ ولادتها وخروجها الى هذا العالم تنمو معها الميول النفسية والشهوات الحيوانية ، الا من ايّده

(1) يبدو هنا سقط في الكلام .
الاربعون حديثاً 164

الله وكان له حافظ قدسي . ولما كان هذا الاستثناء من النوادر فانه لا يدخل في حسابنا ، لاننا نتناول نوع الانسان عموما .
لقد ثبت في محله بالبراهين ان الانسان منذ اول ظهوره ، وبعد مروره بمراحل عدة ، لا يعدو ان يكون حيوانا ضعيفا لا يمتاز عن سائر الحيوانات الا بقابلياته الانسانية . وان تلك القابليات ليست بمقياس انسانيته الفعلية .
فالانسان حيوان بالفعل عند دخوله هذا العالم ، ولا معيار له سوى شريعة الحيوانات التي تديرها الشهوة والغضب . ولكن لما كان اعجوبة الدهر هذا ـ الانسان ـ له ذات جامعة ، او قابلة على الجمع ، فانه لكي يدبر هاتين القوتين ، تجده يتوسل باستعمال الصفات الشيطانية ، مثل الكذب والخديعة والنفاق والنميمة وسائر الصفات الشيطانية الاخرى . وهو بهذه القوى الثلاث ـ الشهوة ، الغضب ، هوى النفس ـ التي هي اصل كل المفساد المهلكة ، يخطو نحو التقدم ، فتنمو فيه كذلك هذه القوى وتتقدم وتتعاظم . واذا لم تقع تحت تاثير مربّ او معلم ، فانه يصبح عند الرشد والبلوغ حيوانا عجيبا يفوز بقصب السبق في تلك الامور المذكورة على سائر الحيوانات والشياطين ، ويكون اقوى واكمل في مقام الحيوانية والصفات الشيطانية من الجميع . واذا ما استمرت حاله على هذا المنوال ، ولم يتبع في هذه الشؤون الثلاثة سوى اهوائه النفسية ، فلن يبرز فيه شيء من المعارف الالهية والاخلاق الفاضلة والاعمال الصالحة ، بل تنطفئ فيه جميع الانوار الفطرية .
فتقع جميع مراتب الحق التي لا تعدو هذه المقامات الثلاثة التي ذكرناها ـ اي المعارف الالهية ، والاخلاق الفاضلة ، والاعمال الصالحة ـ تحت اقدام الاهواء النفسية . وعندئذ يصبح اتباع الاهواء النفسية والرغبات الحيوانية حائلا دون ان يتجلى فيه الحق من خلال اية واحدة من تلك المراتب ، ويطفئ ظلام النفس واهواؤها كل انوار العقل والايمان ، ولن تتاح له ولادة ثانية ، اي الولادة الانسانية ، بل يمكث على تلك الحال ويكون ممنوعا مصدودا عن الحق والحقيقة الى ان يرحل عن هذا العالم . ان مثل هذا الشخص اذا رحل عن هذا العالم بتلك الحالة ، فلن يرى نفسه في ذلك العالم ، عالم كشف السرائر ، الا حيوانا او شيطانا . لا تشم منه رائحة الانسان والانسانية ابدا ، فيبقى في تلك الحال من الظلام والعذاب والخوف الذي لا ينتهي حتى يقضي الله امرا كان مفعولا . اذن هذه هي حال التبعية الكاملة لاهواء النفس والتي تُبعد الانسان نهائيا عن الحق .
ومن هنا يمكن ان نعرف ان ميزان البعد عن الحق هو اتباع هوى النفس . ومسافة هذا البعد تقدر ايضا بمقدار التبعية . فمثلا ، لو ان هذا الانسان ، استطاع ان يجعل مملكة انسانية هذا الانسان الذي اقترن منذ ولادته بالقوى الثلاثة وترعرعت وتكاملت تلك القوى ايضا مع نمو

الاربعون حديثاً 165

الانسان وتكامله ، لو استطاع ان يجعل هذه المملكة متاثرة بتربية تعاليم الانبياء والعلماء والمرشدين لاستسلم شيئا فشيئا لسلطة تربية الانبياء والاولياء عليهم السلام ، فقد لا يمضي عليه وقت طويل حتى تصبح القوة الكاملة الانسانية ، التي اودعت فيه على اساس القابلية فعلية تظهر للعيان ، وترجع جميع شؤون مملكته وقواها الى شان الانسانية بحيث يجعل شيطان نفسه يؤمن على يديه ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «ان شيطاني آمن بيدي» (1) فتستسلم حيوانيته لإنسانيته ، حتى تصبح مطية مروضة على طريق عالم الكمال والرقي ، وبراقا يرتاد السماء نحو الآخرة ، ويمتنع عن كل معاندة وتمرد . وبعد ان تستسلم الشهوة والغضب الى مقام العدل والشرع تنتشر العدالة في المملكة ، وتتشكل حكومة عادلة حقة يكون فيها العمل والسيادة للحق وللقوانين الحقة ، بحيث لا تتخذ فيها خطوة واحدة ضد الحق ، وتكون خالية من كل باطل وجور .
وعليه ، فكما ان ميزان منع الحق والصد عنه هو اتباع الهوى ، فكذلك ميزان اجتذاب الحق وسيادته هو متابعة الشرع والعقل . وبين هذين المقياسين وهما التبعية التامة لهوى النفس والتبعية التامة المطلقة للعقل منازل غير متناهية ، بحيث ان كل خطوة يخطوها في اتباع هوى النفس ، يكون بالمقدار نفسه قد منع الحق ، وحجب الحقيقة ، وابتعد عن انوار الكمال الانساني واسرار وجوده . وبعكس ذلك ، كلما خطا خطوة مخالفة لهوى النفس ورغبتها ، يكون بالمقدار نفسه قد ازاح الحجاب وتجلى نور الحق في المملكة .

فصل
في ذم اتباع الهوى

يقول الله تعالى في ذم اتباع النفس واهوائها :«ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله» (2)«... ومن اضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله» (3) .
وجاء في الكافي الشريف ، بسنده عن الامام الباقر عليه السلام قال : «قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يقول الله عز وجل : وعزتي وجلالي وعظمتي وكبريائي ونوري وعلوّي وارتفاع مكاني لا يؤثر عبد هواه على هواي الا شتت عليه امره ولبست عليه دنياه وشغلت قلبه بها ولم اوته منها الا ما قدرت له وعزتي وجلالي وعظمتي ونوري وعلوي وارتفاع مكاني لا يؤثر عبد هواي على هواه

(1) ورد مثل هذا الحديث في كتاب غوالي اللئالي المجلد 4 ص 97 . وفي كتاب علم اليقين ، المجلد 1 ، ص 282 .
(2) سورة ص ، آية : 26 .
(3) سورة القصص ، آية : 50 .
الاربعون حديثاً 166

الا استحفظته ملائكتي وكفلت السموات والارضين رزقه وكنت له من وراء تجارة كل تاجر واتته الدنيا وهي راغمة» (1) .
وهذا الحديث الشريف من محكمات الاحاديث التي يدل مضمونها على انه ينبع من علم الله تعالى الرائق حتى وان كان مطعونا فيه بضعف السند ، فنحن لسنا بصدد شرحه . وهناك حديث آخر منقول عن الامام علي عليه السلام قال فيه :
«ان اخوف ما اخاف عليكم اثنان اتباع الهوى ، وطول الامل» (2) .
وجاء في الكافي عن الامام الصادق عليه السلام انه قال :
«احذروا اهوائكم كما تحذرون اعدائكم ، فليس شيء اعدى للرجال من اتباع اهوائهم وحصائد السنتهم» (3) .
اعلم ايها العزيز ، ان رغبات النفس وآمالها لا تنتهي ولا تصل الى حد او غاية . فاذا اتبعها الانسان ولو بخطوة واحدة ، فسوف يضطر الى ان يتبع الخطوة خطوات ، واذا رضي بهوى واحد من اهوائها ، اجبر على الرضى بالكثير منها . ولئن فتحت بابا واحدا لهوى نفسك ، فان عليك ان تفتح ابوابا عديدة له .
انك بمتابعتك هوى واحدا من اهواء النفس توقعها في عدد من المفاسد ، ومن ثم سوف تبتلى بآلاف المهالك ، حتى تنغلق ـ لا سمح الله ـ جميع طريق الحق بوجهك في آخر لحظات حياتك ، كما اخبر الله بذلك في نص كتابه الكريم ، وكان هذا هو اخشى ما يخشاه امير المؤمنين وولي الامر ، والمولى ، والمرشد والكفيل للهداية والموجه للعائلة البشرية عليه السلام .
بل ان روح النبي صلى الله عليه وآله وسلم وارواح الائمة عليهم السلام تكون جميعا في قلق واضطراب لئلا تسقط اوراق شجرة النبوة والولاية وتذوي .
قال صلى الله عليه وآله وسلم :
«تناكحوا تناسلوا فاني اباهي بكم الامم ولو بالسقط» (4) .
لا شك في انه لو سار الانسان في مثل هذه الطريق المخوفة المحفوفة بالمخاطر مما قد

(1) اصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الايمان والكفر ، باب اتباع الهوى ، ح 2 .
(2) نهج البلاغة ، خطبة ـ 42 ـ (الشيخ صبحي الصالح) .
(3) اصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الايمان والكفر ، باب اتباع الهوى ، ح 1 .
(4) «مستدرك وسائل الشيعة» كتاب النكاح ـ الباب الاول من ابواب مقدمات النكاح ـ ح 17 . لا تجد في الحديث هنا كلمة (ولو بالسقط) . وورد في تفسير ابو الفتوح الرازي (سورة النور ـ آية 32) (تناكحوا تكثروا فاني اباهي بكم الامم يوم القيامة ولو بالسقط) .
الاربعون حديثاً 167

يلقي به الى هوة الفناء ويجعله موضع عقوق ابيه الحقيقي ، اي النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم ، ويبحث على نمط العظيم الذي هو رحمة للعالمين . فما اشد تعاسته ، وما اكثر المصائب والبلايا التي يخبئها له الغيب ! .
فاذا كنت على صلة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، واذا كنت تحب امير المؤمنين عليه السلام واذا كنت من محبي اولادهما الطاهرين ، فاسع لكي تزيل عن قلوبهم المباركة القلق والاضطراب .
لقد جاء في القرآن الكريم في سورة هود :
«... فاستقم كما امرت ومن تاب معك ...» (1) . وجاء في الحديث الشريف ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : «شيبتني سـورة هـود لمكان هذه الآية» (2) .
يقول الشيخ العارف الكامل الشاه آبادي ـ روحي فداه ـ : «هذا ، على الرغم من ان هذه الآية قد جاءت في سورة الشورى ايضا ، ولكن من دون « ومن تاب معك » الا ان النبي خص سورة هود بالذكر ، والسبب ان الله تعالى طلب منه استقامة الامة ايضا ، فكان يخشى ان لا يتحقق ذلك الطلب ، والا فانه بذاته كان اشد ما يكون استقامة ، بل لقد كان صلى الله عليه وآله وسلم مثال العدل والاستقامة» .
اذا ، يا اخي ، اذا كنت تعرف انك من اتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وتريد ان تحقق هدفه ، فاعمل على ان لا تضعه موضع الخجل بقبيح عملك وسوء فعلك . ترى اذا كان احد من اولادك والمقربين اليك يعمل القبيح وغير المناسب من الاعمال التي تتعارض وشأنك ، فكم سيكون ذلك مدعاة لخجلك من الناس وسببا في طأطأة راسك امامهم ؟ اعلم ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وعلي عليه السلام ، هما ابوا هذه الامة بنص ما قاله النبي الكريم : «انا وعلي ابوا هذه الامة» (3) . فلو احضرنا في حضرة رب العالمين يوم الحساب وامام نبينا وائمتنا ، ولم يكن في كتاب اعمالنا سوى القبيح من الاعمال ، فان ذلك سوف يصعب عليهم ولسوف يشعرون بالخجل في حضرة الله والملائكة والانبياء . وهذا هو الظلم العظيم الذي نكون قد ارتكبناه بحقهم ، وانها لمصيبة عظمى نبتلى بها ، ولا نعلم ما الذي سيفعله الله بنا ؟
فيا يها الانسان الظلوم الجهول ، يا من تظلم نفسك ! كيف تكافئ اولياءك الذين بذلوا اموالهم وارواحهم في سبيل هدايتك ، وتحملوا اشد المصائب ، وافظع القتل ، واقسى السبي

(1) سورة هود ، آية : 112 .
(2) تفسير الميزان ـ المجلد الثاني عشر ـ ص 66 .
(3) بحار الانوار ـ ج36 ـ ح 12 ص 11 .
الاربعون حديثاً 169

المقام الثاني
في ذم طول الامل
وفيه فصلان

فصل
في بيان ان طول الامل ينسي الاخرة

اعلم ان المنزل الاول من منازل الانسانية هو منزل اليقظة كما يقوله كبار اهل السلوك في بيانهم لمنازل السالكين ، ولهذا المنزل كما يقول الشيخ العظيم الشأن الشاه آبادي ـ دام ظله ـ بيوت عشرة ، لسنا الآن بصدد تعدادها . ولكن ما يجب قوله هو ان الانسان ما لم ينتبه الى انه مسافر ، ولا بد من السير ، وان له هدف وتجب الحركة نحوه ، وان البلوغ الى المقصد ممكن ، لما حصل له العزم والارادة للتحرك . ولكل واحد من هذه الامور ، شرح وبيان لو ذكرناه لطال بنا المقام .
ويجب ان نعرف ان من اهم اسباب عدم التيقظ الذي يؤدي الى نسيان المقصد ونسيان لزوم المسير ، والى اماتة العزم والارادة ، هو ان يظن الانسان ان في الوقت متسعا للبدء بالسير ، وانه اذا لم يبدا بالتحرك نحو المقصد اليوم ، فسوف يبدأه غدا ، واذا لم يكن في هذا الشهر ، فسيكون في الشهر المقبل .
فان طول الامل هذا وامتداد الرجاء ، وظن طول البقاء ، والامل في الحياة ورجاء سعة الوقت ، يمنع الانسان من التفكير في المقصد الاساسي الذي هو الآخرة . ومن لزوم السير نحوه ومن لزوم اتخاذ الصديق وتهياة الزاد للطريق ، ويبعث الانسان على نسيان الآخرة ومحو المقصد من فكره ـ ولا قدّر الله ـ اذا اصيب الانسان بنسيان للهدف المنشود في رحلة بعيدة وطويلة ومحفوفة بالمخاطر مع ضيق الوقت ، وعدم توفر العُدّة والعدد رغم ضرورتها في السفر ، فانه من الواضح لا يفكر في الزاد ، والراحلة ولوازم السفر وعندما يحين وقت السفر يشعر بالتعاسة ، ويتعثر ويسقط في اثناء الطريق ، ويهلك دون ان يهتدي الى سبيل .

فصل

اعلم اذا ، ايها العزيز ، ان امامك رحلة خطرة لا مناص لك منها ، وان ما يلزمها من عدة وعدد وزاد وراحلة هو العلم العمل الصالح . وهي رحلة ليس لها موعد معين ، فقد يكون الوقت ضيقا جدا ، فتفوتك الفرصة . ان الانسان لا يعلم متى يقرع ناقوس الرحيل للانطلاق فورا . ان طول الامل المعشعش عندي وعندك الناجم من حب النفس ومكائد الشيطان الملعون ومغرياته ، تمنعنا من الاهتمام بعالم الآخرة ومن القيام بما يجب علينا . واذا كانت هناك مخاطر

الاربعون حديثاً 170

وعوائق في الطريق ، فلا نسعى لازالتها بالتوبة والانابة والرجوع الى طريق الله ، ولا نعمل على تهيئة زاد وراحلة ، حتى اذا ما ازف الوعد الموعود اضطررنا الى الرحيل دون زاد ولا راحلة . ومن دون العمل الصالح ، والعلم النافع ، اللذان تدور عليهما مؤونة ذلك العالم ، ولم نهيأ لأنفسنا شيئا منهما . وحتى لو كنا قد عملنا عملا صالحا ، فانه لم يكن خالصا بل مشوبا بالغش ، ومع آلاف من موانع القبول . واذا كنا قد نلنا بعض العلم ، فقد كان علما بلا نتيجة وهذا العلم اما ان يكون لغوا وباطلا ، واما انه من الموانع الكبير في طريق الآخرة . ولو كان ذلك العلم والعمل صالحين ، لكان لهما تاثير حتمي وواضح فينا نحن الذين صرفنا عليهما سنوات طوالا ، ولغيّرا من اخلاقنا وحالاتنا . فما الذي حصل حتى كان لعملنا وعلمنا مدة اربعين او خمسين سنة تاثير معكوس بحيث اصبحت قلوبنا اصلب من الصخر القاسي ؟ ما الذي جنيناه من الصلاة التي هي معراج المؤمنين ؟ اين ذلك الخوف وتلك الخشية الملازمة للعلم ؟ لو اننا اجبرنا على الرحيل ونحن على هذه الحال ـ لا سمح الله ـ لكان علينا ان نتحمل الكثير من الحسرات والخسائر العظيمة في الطريق ، مما لا يمكن ازالته ! .
اذا ، فنسيان الآخرة من الامور التي يخافها علينا ولي الله الاعظم ، الامام امير المؤمنين عليه السلام ، ويخاف علينا من الباعث لهذا النسيان وهو طول الامل ، لانه يعرف مدى خطورة هذه الرحلة ، ويعلم ماذا يجري على الانسان الذي يجب ان لا يهدأ لحظة واحدة عن التهيؤ واعداد الزاد والراحلة ، عندما ينسى العالم الآخر ، ويستهويه النوم والغفلة من دون ان يعلم ان هناك عالما آخر ، وان عليه ان يسير اليه حثيثا . وما سيحصل له وما هي المشاكل التي يواجهها ؟
يحسن بنا ان نفكر قليلا في سيرة امير المؤمنين والنبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم ، وهما من اشرف خلق الله ومن المعصومين عن الخطأ والنسيان والزلل والطغيان ، لكي نقارن بين حالنا وحالهم . ان معرفتهم بطول السفر ومخاطره قد سلبت الراحة منهم ، وان جهلنا اوجد النسيان والغفلة فينا .
ان نبينا صلى الله عليه وآله وسلم قد روض نفسه كثيرا في عبادة الله ، وقام على قدميه في طاعة الله حتى ورمت رجلاه ، فنزلت الآية الكريمة تقول له :«طه * ما انزلنا عليك القرآن لتشقى» (1) . وعبادات علي عليه السلام وتهجده وخوفه من الحق المتعال معروف للجميع .
اذا ، اعلم ان الرحلة كثيرة المخاطر ، وانما هذا النسيان الموجود فينا ليس الا من مكائد النفس والشيطان ، وما هذه الآمال الطوال الا من احابيل ابليس ومكائده . فتيقظ ايها النائم من

(1) سورة طه ، آية : 1 ـ 2 .
الاربعون حديثاً 171

هذا السبات وتنبه ، واعلم انك مسافر ولك مقصد ، وهو عالم آخر ، وانك راحل عن هذه الدنيا ، شئت ام ابيت . فاذا تهيات للرحيل بالزاد والراحة لم يصبك شيء من عناء السفر ، ولا تصاب بالتعاسة في طريقه ، والا اصبحت فقيرا مسكينا سائرا نحو شقاء لا سعادة فيه ، وذلة لا عزة فيها وفقر لا غناء معه وعذاب لا راحة منه . انها النار التي لا تنطفئ ، والضغط الذي لا يخفف ، والحزن الذي لا يتبعه سرور ، والندامة التي لا تنتهي ابدا .
انظر ايها الاخ الى ما يقوله الامام في دعاء كميل وهو يناجي الحق عز وجل :
«وانت تعلم ضعفي عن قليل من بلاء الدنيا وعقوباتها» الى ان يقول : «وهذا ما لا تقوم له السموات والارض» . ترى ما هذا العذاب الذي لا تطيقه السموات والارض ، الذي قد اعد لك ؟ افلا تستيقظ وتتنبه ، بل تزداد كل يوم استغراقا في النوم والغفلة ؟
فيا ايها القلب الغافل ! انهض من نومك واعد عدتك للسفر ، «فقد نودي فيكم بالرحيل» (1) ، وعمال عزرائيل منهمكون في العمل ويمكن في كل لحظة ان يسوقوك سوقا الى العالم الآخر . ولا تزال غارقا في الجهل والغفلة ؟
«اللهم اني اسالك التجافي عن دار الغرور ، والانابة الى دار السرور والاستعداد للموت قبل حلول الفوت» (2) .

(1) نهج البلاغة ـ الخطبة ـ 204 ـ (الشيخ صبحي الصالح) .
(2) مفاتيح الجنان ، دعاء ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان .
الاربعون حديثاً 172




الاربعون حديثاً 173

الحديث الحادي عشر

الفطرة


الاربعون حديثاً 174

بالسند المتصل الى محمد بن يعقوب ، عن محمد بن يحيى ، عن احمد بن محمد ، عن ابن محبوب ، عن علي بن رئاب ، عن زُرارة قال : «سالت ابا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل : « فطرت الله التي فطر الناس عليها » . قال : «فطرهم جميعا على التوحيد» (1) .

(1) اصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتب الايمان والكفر ، باب فطرة الخلق على التوحيد ، ح 3 .
الاربعون حديثاً 175

الشرح :


يقول اهل اللغة والتفسير : ان «الفطرة» تعني الخلق . وفي الصحاح : «الفطرة» بالكسر «الخِلقة» . ويمكن ان تكون الكلمة ماخوذة من «فَطَر» اي «شقّ ومزقّ» كأن الخلق اشبه بشق حجب العدم والغيب . وبهذا المعنى يكون افطار الصائم ، فكأنه يمزق استمرارية الامساك المتصل .
على كل حال ، البحث اللغوى خارج عن نطاق بحثنا . انما هذا الحديث الشريف اشارة الى الآية المباركة في سورة الروم : «فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن اكثر الناس لا يعلمون» (1) .

فصل
في معنى الفطرة

اعلم ان المقصود من «فطرة الله» التي فطر الناس عليها هو الحال والكيفية التي خلق الناس وهم متصفون بها والتي تعد من لوازم وجودهم . ولذلك «تخمرت» طينتهم بها في اصل الخلق . والفطرة الالهية ـ كما سيتبيّن فيما بعد ـ من الالطاف التي خص الله تعالى بها الانسان من بين جميع المخلوقات ، اذ ان الموجودات الاخرى غير الانسان اما انها لا تملك مثل هذه الفطرة المذكورة واما ان لها حظا ضئيلا منها .
وهنا لا بد من معرفة ان الفطرة ، وان فسرت في هذا الحديث الشريف وغيره من الاحاديث بالتوحيد ، الا ان هذا هو من قبيل بيان المصداق ، او التفسير باشرف اجزاء الشيء ، كاكثر التفاسير الواردة عن اهل بيت العصمة عليهم السلام ، وفي كل مرة تفسر بمصداق جديد

(1) سورة الروم ، آية : 30 .
الاربعون حديثاً 176

بحسب مقتضى المناسبة ، فيحسب الجاهل ان هناك تعارضا . والدليل على ان المقام كذلك هو ان الآية الشريفة تعتبر «الدين» هو «فطرة الله» مع ان الدين يشمل التوحيد والمبادئ الاخرى .
وفي صحيحة عبد الله بن سنان فسرت الفطرة على انها تعني «الاسلام» . وفي حسنة زرارة فسرت بالمعرفة ، وفي الحديث المعروف : «كل مولود يولد على الفطرة» (1) جاءت في قبال «التهوّد» و «التنصّر» و «التمجّس» . كما ان الامام الباقر عليه السلام في حسنة زرارة المذكورة فسرها بالمعرفة . وعليه ، فالفطرة ليست مقصورة على التوحيد ، بل ان جميع المبادئ الحقة هي من الامور التي فطر الله تعالى الانسان عليها .

فصل
في تحديد احكام الفطرة

لا بد ان نعرف بان ما هو من احكام الفطرة لا يمكن ان يختلف فيه اثنان ، من ناحية انها من لوازم الوجود وقد تخمرت في اصل الطبيعة والخلقة . فالجميع ، من الجاهل والمتوحش والمتحضر والمدني والبدوي ، مجمعون على ذلك . وليس ثمة منفذ للعادات والمذاهب والطرق المختلفة للتسلل اليها والاخلال بها . ان اختلاف البلاد والاهواء والمانوسات والآراء والعادات ، التي توجب وتسبب الخلاف والاختلاف في كل شيء ، حتى في الاحكام العقلية ، ليس لها مثل هذا التاثير ابدا في الامور الفطرية . كما ان اختلاف الادراك والافهام قوة وضعفا لا تؤثر فيها . واذا لم يكن الشيء بتلك الكيفية فليس من احكام الفطرة ويجب اخراجه من فصيلة الامور الفطرية . ولذلك تقول الآية : «فطر الناس عليها» (2) اي انها لا تختص بفئة خاصة ولا طائفة من الناس . ويقول تعالى ايضا : «لا تبديل لخلق الله» (3) اي لا يغيره شيء ، كما هو شأن الامور الاخرى التي تختلف بتاثير العادات وغيرها .
ولكن مما يثير الدهشة والعجب انه على الرغم من عدم وجود اي خلاف بشأن الامور الفطرية ، من اول العالم الى آخره ، فان الناس يكادون ان يكونوا غافلين عن انهم متفقون ، ويظنون انهم مختلفون ، ما لم ينبههم احد على ذلك ، وعند ذلك يدركون انهم كانوا متفقين رغم اختلافهم في الظاهر ـ كما سيتضح ذلك فيما ياتي من البحث ان شاء الله ـ .
وهذا ما تشير اليه الجملة الاخيرة من الآية الشريفة : «ولكن اكثر الناس لا يعلمون»(4) .
فيتضح مما سبق ذكره ان احكام الفطرة اكثر بداهة من كل امر بديهي . اذ لا يوجد في

(1) غوالي اللئالي ، المجلد الاول ، ص 35 .
(2) و (3) سورة الروم ، آية : 30 .
(4) سورة الروم ، آية : 30 .
الاربعون حديثاً 177

جميع الاحكام العقلية حكم مثلها في البداهة والوضوح ، حيث لم يختلف فيه الناس ولن يختلفوا . وعلى هذا الاساس تكون الفطرة من اوضح الضروريات وابده البديهيات ، كما ان لوازمها ايضا يجب ان تكون من اوضح الضروريات . فاذا كان التوحيد او سائر المعارف من احكام الفطرة او من لوازمها ، وجب ان يكون من اوضح الضروريات واجلى البديهيات «ولكن اكثر الناس لا يعلمون» .
فصل

اعلم ان المفسرين ، من العامة والخاصة ، فسروا كل على طريقته ، كيفية كون الدين او التوحيد من الفطرة . ولكننا في هذه الوريقات لا نجري مجراهم وانما نستفيد في هذا المقام من آراء الشيخ العارف الكامل (الشاه آبادي) الذي هو نسيج وحده في هذا الميدان ، ولو ان بعضها قد ورد بصورة الاشارة والرمز في بعض كتب المحققين من اهل المعارف ، وبعضها الآخر مما خطر في فكري القاصر .
اذاً ، لا بد ان نعرف ان من انواع الفطرة الالهية ما يكون على «اصل وجود المبدا» تعالى وتقدس ومنها الفطرة على «التوحيد» واخرى على «استجماع ذات الله المقدسة لجميع الكمالات» واخرى على «المعاد ويوم القيامة» واخرى على «النبوة» و «وجود الملائكة والروحانيين وانزال الكتب واعلان طريق الهداية» . وهذه الامور بعضها من الفطرة ، وبعضها من لوازم الفطرة . فالايمان بالله تعالى وبملائكته وكتبه ورسله وبيوم القيامة ، هو الدين القيم المحكم والمستقيم والحق على امتداد حياة المجموعة البشرية . ولسوف نشير الى بعض منها مما يتناسب والحديث الشريف ، طالبين التوفيق من الحق تعالى .

المقام الاول
في بيان ان اصل وجود المبدأ المتعالي جل وعلا من الامور الفطرية

وهذا يتضح بعد التنبيه الى مقدمة واحدة هي : ان من الامور الفطرية التي جبلت عليها سلسلة بني البشر باكملها ، بحيث انك لن تجد فردا واحدا في كل المجموعة البشرية يخالفها ، وان العادات والاخلاق والمذاهب والمسالك وغيرها لا يمكن ان تبدلها ولا ان تحدث فيها خللا ، انها «الفطرة التي تعيش الكمال» . فانت ان تجولت في جميع الادوار التي مر بها الانسان ، واستنطقت كل فرد من الافراد ، وكل طائفة من الطوائف ، وكل ملة من الملل ، تجد هذا العشق والحب قد جبل في طينته ، فتجد قلبه متوجها نحو الكمال . بل ان ما يحدد الانسان ويدفعه في سكناته وتحركاته ، وكل العناء والجهود المضنية التي يبذلها كل فرد في مجال عمله وتخصصه ، انما هو نابع من حب الكمال ، على الرغم من وجود منتهى الخلاف بين الناس فيما يرونه من الكمال ؟ واين يوجد الحبيب ويشاهد المعشوق ؟ .

السابق السابق الفهرس التالي التالي