الاربعون حديثاً 146

فصل
في بيان الصورة الملكوتية للعصبية

سبق في شرح بعض الاحاديث القول بان المعيار في الصور الملكوتية والبرزخية وفي يوم القيامة هو الملكات وقوتها ، وان ذلك العالم هو محل ظهور سلطان النفس الذي لا يعصي له الجسم امرا . فقد يحشر الانسان في ذلك العالم على صورة حيوان او شيطان . وقد مر بنا في الحديث في بداية المقال : «من كان في قلبه حبة من خردل من عصبية بعثه الله يوم القيامة مع اعراب الجاهلية» . ولعله اشارة الى ذلك الموضوع الذي ذكرناه .
ان الانسان الذي فيه هذه الرذيلة ، لعله عندما ينتقل الى العالم الآخر يرى نفسه من اعراب الجاهلية من دون ان يؤمن بالله تعالى ولا بالنبوة والرسالة ، ويرى انه في الصورة التي يحشر بها اولئك الاعراب ، دون ان يعلم انه كان في الدنيا يعتنق العقيدة الحقة من الايمان بالله وبرسوله وانه من امة الرسول الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم . كما جاء في الحديث عن اهل جهنم ينسون اسم رسول الله ، ولا يستطيعون ان يعرفوا انفسهم ، الا بعد ان يشاء الحق سبحانه ان يُنجيهم . وبما ان هذه السجية من سجايا الشيطان ، كما ورد في بعض الاحاديث ، فلعل اعراب الجاهلية واصحاب العصبية يحشرون يوم القيامة على هيئة الشياطين .
في الكافي في الصحيح ، عن ابي عبد الله الصادق عليه السلام قال : «ان الملائكة كانوا يحسبون ان ابليس منهم وكان في علم الله انه ليس منهم فاستخرج ما في نفسه بالحمية والغضب . فقال خلقتني من نار وخلقته من طين» (1) .
فاعلم ايها العزيز ان هذه الخصلة الخبيثة ، من الشيطان ، وانها من مغالطات ذلك الملعون ومعاييره الباطلة . انه يغالط عن طريق هذا الحجاب السميك الذي يخفي عن النظر كل الحقائق ، بل يظهر كل رذائل النفس محاسن ، وجميع محاسن الآخرين رذائل ، ومعروف مصير الانسان الذي يرى جميع الاشياء على غير حقيقتها وواقعيتها .
وفضلا عن كون هذه الرذيلة هي نفسها تكون سبب هلاك الانسان ، فانها كذلك منشأ الكثير من المفاسد الاخلاقية والاعمال القبيحة التي لا يتسع المجال لذكرها .
وعليه ، اذا عرف الانسان العاقل ان هذه المفاسد ناشئة من تلك السجية الفاسدة ، واذعن للشهادة الصادقة المصدقة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واهل بيته عليهم السلام بأن هذه الرذيلة تجر الانسان الى الهلاك وتدخله النار ، فما عليه الا ان يتصدى لعلاج نفسه من هذه السجية ، وان يطهر قلبه حتى من حبة خردل منها ، حتى يكون طاهرا عند الانتقال من هذه الدنيا

(1) اصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الايمان والكفر ، باب العصبية ، ح 6 .
الاربعون حديثاً 147

الى العالم الآخر عند اقتراب اجله ، فينتقل بنفس صافية . ان على الانسان ان يدرك ان الفرصة محدودة والوقت قصير جدا ، لانه لا يعلم متى يحين موعد رحيله .
ايتها النفس الخبيثة لكاتب هذه السطور ، لعل الاجل المقدر قد حان وانت منهمكة في الكتابة ، فينقلك بكل رذائلك الى العالم الذي لا عودة منه .
وايها العزيز يا من تقرأ هذه الوريقات ، خذ العبرة من حال هذا الكاتب الذي يرزح الآن او مستقبلا تحت الثرى ، وهو في العالم الآخر مبتلى باعماله واخلاقه البشعة . لقد ضيع الفرصة الثمينة التي كانت عنده بالبطالة والاهواء ، فاتلف ذلك الرأسمال الالهي وأباده . فانتبه الى نفسك لانك ستكون يوما مثلي دون ان تعلم متى يكون ذلك . فلعلك الآن وانت مشغول بالقراءة ، اذا تباطأت ذهبت الفرصة من يدك . يا اخي ، لا تؤجل هذه الامور لأنها لا تحتمل التأجيل ، فكم من انسان سليم وقوي فاجأه الموت في لحظة واخرجه من هذه الدنيا الى العالم الآخر ولا نعلم عن مصيره شيئا . اذا ، لا تضيع الفرصة ، بل اغتنم اللحظة الواحدة ، لان القضية عظيمة الاهمية ، والرحلة شديدة الخطورة . فاذا قصر الانسان في هذه الدنيا التي هي مزرعة الآخرة ، يكون السيف قد سبق العذل ، ولن تستطيع اصلاح فساد النفس ، ولا يكون نصيبك سوى الحسرة والندم والذل .
ان اولياء الله لم يخلدوا الى الراحة ابدا ، وكانوا دائمي الخوف من هذه الرحلة المحفوفة بالمخاطر . ان حالات علي بن الحسين عليه السلام ، الامام المعصوم ، تثير الحيرة . وأنين امير المؤمنين علي عليه السلام ، الولي المطلق ، تبعث على الدهشة . ما الذي جرى لنكون على هذا القدر من الغفلة ؟ من الذي جعلنا نطمئن ؟ انه لا يغرينا احد بتأجيل عمل اليوم الى الغد الا الشيطان . انه يريد ان يزيد من اعداد انصاره واعوانه ، وان يجعلنا نتخلق باخلاقه حتى نحشر مع اتباعه . ان ذلك الملعون هو الذي يسعى دائما الى تهوين امور الآخرة في اعيننا ، وبتذكيرنا لرحمة الله ولشفاعة الشافعين يريد ان ينسينا ذكر الله وطاعته . ولكن يا للأسف ! فهذه كلها أمنيات باطلة ، وهي من احابيل مكر ذلك الملعون وحيله . ان رحمة الله تحيط بك الآن ، رحمته في صحتك وسلامتك وحياتك وامنك وهدايتك وعقلك وقرصتك وارشادك الى اصلاح نفسك وان آلاف الرحمة الالهية المختلفة تحيط بك من جميع الجهات ، ولكنك لا تنتفع بها ، بل تطيع اوامر الشيطان . فاذا لم تستطع ان تستفيد من رحمات هذه الدنيا ، فاعلم انه لن تنالك في العالم الآخر رحمات الله اللامتناهية وتحرم من شفاعة الشافعين . ان مظهر شفاعة الشافعين في هذه الدنيا هو الاهتداء بهداهم ، وفي ذلك العالم فان باطن الهداية هو الشفاعة . فاذا حرمت الهداية هنا ، حرمت الشفاعة هناك . وعلى قدر اهتدائك تكون لك الشفاعة . ان شفاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . مثل رحمة الله المطلقة تنال من هو جدير بها .

الاربعون حديثاً 148

فاذا انتزع الشيطان ـ لا سمح الله ـ وسائل الايمان من يدك ، فلن تكون جديرا بالرحمة والشفاعة . نعم ، رحمة الله واسعة في الدارين . فاذا كنت تطلب الرحمة ، فلماذا لا تستفيد من فيوضات الرحمة المتتالية في هذه الدنيا ، وهي بذور الرحمات الاخرى ؟ ان هذا العدد الكبير من الانبياء والاولياء دعوك الى مائدة ضيافة الله ونعمه ، ولكنك رفضتها وهجرتها بوسوسة من الخناس ، وبايحاء من الشيطان ، وضحيت بمحكمات كتاب الله ، وبالمتواترات من احاديث الانبياء والاولياء ، وببديهات عقول العقلاء ، وببراهين الحكماء الدامغة ، على مذبح نزعات الشيطان والاهواء النفسية . الويل لي ولك من هذه الغفلة والعمى والصمم والجهل ! .

فصل
في عصبيات اهل العلم

من جملة العصبيات الجاهلية هو العناد في القضايا العلمية ، والدفاع عن كلمة سبق ان صدرت منه او من معلمه او شيخه ، دون النظر الى احقاق الحق وابطال الباطل . لا شك ان مثل هذا التعصب اقبح من كثير من العصبيات الاخرى واجدر بالذم من جوانب عديدة . فمن جانب المتعصب نفسه نرى ان اهل العلم ينبغي ان يكونوا هم المربين لابناء البشر ، باعتبارهم فروع شجرة النبوة والولاية ، وعارفين بوخامة الامور وعواقب فساد الاخلاق . فاذا اتصف العالم ـ لا قدر الله ـ بالعصبية الجاهلية او بالصفات الرذيلة الشيطانية ، كانت الحجة عليه اتم وعقابه اشد . ان من يعرّف نفسه على انه مصباح الهداية ، وشمع محفل العرفان ، والهادي الى السعادة ، ومعرّف طرق الآخرة ، ثم لا يعمل ـ لا سمح الله ـ بما يقول ، ويختلف باطنه عن ظاهره ، يكون في زمرة اهل الرياء والنفاق ، ويحسب مع علماء السوء ، ويكون عالما بلا عمل . وهذا عقابه اكبر وعذابه اشد . وقد اشار الله سبحانه الى امثال هذا في القرآن بقوله :
«بئس مثل القوم الذين كذّبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين» (1) .
اذا ، من اهم التزامات اهل العلم هو ان يحافظوا على هذه الامور وهذه المقامات ، وان يطهروا انفسهم كل التطهير من هذه المفاسد ، لكي يصلحوا بهذا انفسهم والمجتمع ، وتكون مواعظهم مؤثرة ، وتقع نصائحهم موقعها من القلوب . ان فساد العالِم يؤدي الى فساد الامة . ومن البديهي ان الفساد الذي يتسبب في مفاسد اخرى والخطيئة التي تزيد خطايا اخرى وتعظمها تكون اعظم عند ولي النعم من الفساد الجزئي الذي لا يتعدى الى غيره .
ومن ناحية اخرى في قباحة هذه السجية لدى اهل العلم هو جانب العلم نفسه ، اذ ان هذه العصبية خيانة للعلم وتجاهل لحقه اذ ان من يتحمل عبء هذه الامانة ويلبس لبوسها ، عليه

(1) سورة الجمعة ، آية : 5 .
الاربعون حديثاً 149

ان يرعى حرمتها واحترامها ، وان يعيدها الى صاحبها صحيحة سليمة . فاذا ما تعصب ، تعصب الجاهلية يكون قد خان الامانة وارتكب الظلم والعدوان ، وهذه بذاتها خطيئة كبرى .
والناحية الثانية من جرّاء هذه السجية القبيحة اهانة اهل العلم فيما اذا كان التعصب في المباحث العلمية مع العلم بان اهل العلم من الودائع الالهية الواجب احترامهم . بينما يكون هتكهم هتكا لحرمات الله ومن الموبقات الكبيرة . وقد تؤدي العصبية التي لا تكون في محلها ، الى هتك حرمة اهل العلم . اعوذ بالله من هذه الخطيئة الكبيرة ! .
وهناك جانب آخر هو جانب المتعصب له ، اي الاستاذ وشيخ الانسان . وهذا يوجب العقوق ، وذلك لأن المشايخ العظام والاساطين الكرام ـ نضّر الله وجوههم ـ يميلون الى جانب الحق ، ويهربون من الباطل ، ويسخطون على من يتذرع بالتعصب لقتل الحق وترويج الباطل . ولا شك في ان العقوق الروحي اشد من العقوق الجسمي ، وحق الابوة الروحية اسمى من حق الابوة الجسمية .
اذا ، يتحتم على اهل العلم ـ زادهم الله شرفا وعظمة ـ ان يتبرأوا من المفاسد الاخلاقية والعملية ، وان يزينوا انفسهم بحلية الاعمال الحسنة والاخلاق الكريمة ، وان لا ينزلوا عن المركز الشريف الذي انعم الله تعالى به عليهم ، اذ ان مدى الخسران في ذلك لا يعلمه الا الله . والسلام .

الاربعون حديثاً 150




الاربعون حديثاً 151

الحديث التاسع

النفاق


الاربعون حديثاً 152

بالسند المتصل الى ثقة الاسلام محمد بن يعقوب الكليني ، عن محمد بن يحيى ، عن احمد بن محمد بن عيسى ، عن محمد بن سنان ، عن عون بن القلانسي ، عن ابن ابي يعفور ، عن ابي عبد الله الصادق عليه السلام ، قال : «من لقـي المسلمين بوجهين ولسانين جاء يـوم القيامة وله لسانان مـن نار» (1).

(1) اصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الايمان والكفر ، باب ذي اللسانين ، ح 1 .
الاربعون حديثاً 153

الشرح


لقاء المسلمين بوجهين هو : ان يبدي المرء ظاهر حاله وصورته الخارجية لهم على خلاف ما تكون في باطنه وسريرته . كأن بيدي انه من اهل المودة والمحبة لهم ، وانه مخلص حميم ، بينما يكون في الباطن على خلاف ذلك فيعامل بالصدق والمحبة في حضورهم ، ولا يكون كذلك لدى غيابهم .
اما ذو اللسانين فهو ان يثني على كل من يلقاه منهم ويمتدحه ويتملقه ويظهر المحبة له ، ولكنه في غيابه يعمد الى تكذيبه والى استغابته . فبناء على هذا التفسير ، تكون الحالة الاولى هي : «النفاق العملي» والحالة الثانية هي : «النفاق القولي» . ولعل الحديث الشريف يشير الى صفة النفاق القبيحة . وباعتبار ان هاتين الحالتين هي من اظهر صفات المنافقين وألصقها بهم ، اقتصر الحديث الشريف على ذكرها خاصة .
والنفاق من الرذائل النفسانية والملكات الخبيثة التي تنجم عنها آثار كثيرة منها هذين الاثرين المذكورين . وللنفاق درجات ومراتب . وسوف نحاول ، ان شاء الله ، ان نذكر تلك الدرجات والمراتب ومفاسدها ومعالجتها بقدر الامكان ، خلال بضعة فصول .

فصل
في بيان مراتب النفاق

اعلم ان للنفاق ، مثل سائر الاوصاف والملكات الخبيثة او الشريفة ، درجات ومراتب من حيث القوة والضعف . وان كل رذيلة لم يتصد لها المرء بالعلاج الناجع ، بل خضع لها وتبعها ، مالت الى الاشتداد ، وان درجات اشتداد الرذائل ، مثل درجات اشتداد الفضائل ، غير متناهية ولا تقف عند حد .

الاربعون حديثاً 154

فالمرء اذا ترك النفس الامارة على حالها ، دفعت به بسبب ميلها الذاتي نحو الفساد وعدم ارتياحها ومساعدة الشيطان لها ، والوسواس الخناس الى الفساد . فيتفاقم حالها ، وتزداد قوة وشدة يوما بعد يوم ، حتى يصل الامر بتلك الرذيلة التي تابعها ان تتخذ الصورة الجوهرية للنفس وفصلها الاخير ، وتصبح مملكة الانسان ، ظاهرها وباطنها تحت سيطرة تلك الرذيلة . فاذا كانت رذيلة شيطانية ، كالنفاق والاتصاف بذي الوجهين ، مما هو من صفات ذلك الملعون (اي الشيطان ) ـ كما جاء في القرآن الكريم :«وقاسمهما اني لكما لمن الناصحين» (1) ، بينما كان الامر خلاف ذلك ـ استسلمت مملكة الانسان للشيطان ، واصبحت الصورة الاخير للنفس وباطنها وذاتها وجوهرها ، صورة للشيطان ، وقد تصبح صورته الظاهرة في الدنيا ايضا كصورة الشيطان ، وان كانت ملامحه هنا بشرية .
فاذا لم يقف الانسان بوجه هذه الصفة ولم يردعها ، وترك نفسه وشأنها ، فلن يمضي وقت طويل حتى يفلت الزمام منه ، ويصبح كل همه واهتمامه منصبا على تلك الرذيلة ، حتى انه لا يلتقي شخصا الا وعامله معاملة ذي الوجهين وذي اللسانين ، ولا يعاشر احدا الا وخالطت معاشرته تلك الصفة من التلون والنفاق ، دون ان يخطر له شيء سوى منافعه الخاصة وانانيته وعبادته لذاته ، واضعا تحت قدميه الصداقة والحمية والهمة والرجولة . ومتسما في كل حركاته وسكناته بالتلون ، ولا يمتنع عن اي فساد وقبح ووقاحة . ان شخصا هذا شأنه يكون بعيدا عن البشرية والانسانية ، ومحشورا مع الشياطين .
كل هذا الذي استعرضناه يمثل القوة والضعف في جوهر النفاق نفسه ، ولكنه يختلف باختلاف متعلقه . فقد يكون النفاق في دين الله وقد يكون في السجايا الحسنة والفضائل الاخلاقية ، وقد يكون في الاعمال الصالحة والمناسك الالهية ، وقد يكون في الامور العادية والمتعارف عليها . وهكذا قد ينافق المرء مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، او مع أئمة الهدى عليهم السلام ، او مع الاولياء والعلماء والمؤمنين ، وقد يتسع النفاق فيكون مع المسلمين وسائر خلق الله من الملل الآخرى .
بديهي ان تكون هناك اختلافات في مدى قبح هذه الحالات التي عددناها ووقاحتها ، على الرغم من انها جميعا تشترك من حيث الاصل في الخبث والقبح ، لانها فروع واغصان لشجرة خبيثة واحدة .
فصل

ان النفاق والاتصاف بذي الوجهين ـ وان كانا في انفسهما من الصفات القبيحة التي لا يتصف بها الانسان الشريف ، ويُعتبر المتصف بها خارجا عن المجتمع الانساني ، بل لا يكون

(1) سورة الاعراف ، الآية : 21 .
الاربعون حديثاً 155

شبيها بأي حيوان ويبعثان على الفضيحة والذل في هذه الدنيا امام الاصحاب والاقران ، كما انهما يوجبان الذل والعذاب الاليم في الآخرة ، مثلما جاء وصفه في الحديث الشريف ان صورته في ذلك العالم «انه يحشر بلسانين من نار» ويسببان طأطأة الرأس والفضيحة امام خلق الله وفي حضرة الانبياء المرسلين والملائكة المقربين . ويتضح من هذا الحديث شدة عذاب المنافق وذي الوجهين ، لانه اذا اصبح جوهر الجسم جوهر النار ، كان الاحساس اقوى والالم اشد ـ اعوذ بالله من شدته ـ .
عن علي عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجيء يوم القيامة ذو الوجهين دالعا لسانه في قفاه وآخر من قدّامه يلتهبان نارا حتى يلهبا جسده . ثم يقال هذا الذي كان في الدنيا ذا وجهين ولسانين يُعرف بذلك يوم القيامة (1) . ويكون مشمولا بالآية الشريفة :
«ويقطعون ما امر الله به ان يوصل ويفسدون في الارض اولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار» (2) .
ان النفاق وذا الوجهين مضافا الى ما تقدم يكونان مصدر كثير من المفاسد والمهالك التي يمكن لاية واحدة منها ان تحكم بالفناء على دنيا الانسان وآخرته ، مثل «الفتنة» التي ينص القرآن الكريم على انها«اشد من القتل» (3) . ومثل «النميمة» التي يقول عنها الامام الباقر عليه السلام :
«محرمة الجنة على القتاتين المشائين بالنميمة» (4) .
ومثل «الغيبة» التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «انها اشد من الزنا» . ومثل ايذاء المؤمن وسبه وكشف الستر عنه وافشاء سره ، وغيرها مما يعد كل واحد منها سببا مستقلا لهلاك الانسان .
واعلم انه تتدرج في النفاق وذي الوجهين جملة امور هي : الغمز واللمز والكنايات التي يطلقها البعض على البعض الآخر ، على الرغم من اظهار المحبة والصداقة الحميمة . فعلى الانسان ان يكون على حذر شديد ، وان يراقب سلكوه واعماله . فان مكائد النفس والاساليب الشيطانية الماكرة خفية جدا ، قلّ من استطاع الافلات منها . فقد يصبح الانسان باشارة من اشاراته التي تصدر في غير محلها ، او بغمز وتعريض يصدر منه في غير موضعه ، من ذوي الوجهين ، وقد يكون الانسان مبتلى بهذه الرذيلة حتى نهاية عمره ، بينما هو يتصور نفسه سليما

(1) وسائل الشيعة ، المجلد الثامن ، الباب 143 ، من ابواب احكام العشرة ، ح 5 .
(2) سورة الرعد ، آية : 25 .
(3) سورة البقرة ، آية : 191 .
(4) اصول الكافي ، المجلد الثامن ، كتاب الايمان والكفر ، باب النميمة ، ح 2 ، القتات : النمام .
الاربعون حديثاً 156

وطاهرة ، اذا ، على الانسان ان يكون مثل الطبيب العطوف الحاذق ، والممرض الشفيق المطلع على حالات النفس ، يراقب اعماله وتطوراته دائما ولا يغفل عن ذلك ابدا ، وان يعلم انه ما من مرض اخفى ، وفي الوقت نفسه افتك ، من الامراض القلبية ، وانه ما من ممرض يكون اشفق واعطف على الانسان ، من نفسه .

فصل
في معالجة النفاق

اعلم ان لعلاج هذه الخطيئة الكبيرة طريقان :
احدهما : هو التفكير في المفاسد التي تنتج عنها . ذلك ان الانسان في هذه الدنيا اذا عُرف بهذه الصفة بين الناس سقط من انظارهم ، وافتضح بين الخاصة والعامة ، وفقد كرامته بين اصحابه ، فيطردونه من مجالسهم ، ويتخلف عن محافل انسهم ، ويقصر عن اكتساب الكمالات وبلوغ المقاصد . فعلى الانسان ذي الشرف والضمير ان يطهر نفسه من هذا العار الملطخ للشرف ، لكيلا يبتلى بامثال هذه الحالات من الذل والضعة . كذلك الامر في عالم الآخرة ، عالم كشف الاسرار . اذ كل ما هو مستور في هذه الدنيا عن انظار الناس لا يمكن ستره في عالم الآخرة . فهناك يحشر وهو مشوه الخلقة بلسانين من نار ، ويعذب مع المنافقين والشياطين .
اذا ، فالانسان العاقل اذا ما راى هذه المفاسد ، ولم يجد لذلك الخلق نتيجة غير القبح والرذيلة ، وجب عليه ان يتجنب الاتصاف بهذه الصفة والسلوك للمعالجة وهو :
الطريق الآخر : وهو الاسلوب العملي لعلاج النفس وهو ان يراقب الانسان حركاته وسكناته بكل دقة وتمحيص لتفرة من الوقت ، وان يعمد الى العمل بما يخالف رغبات النفس وتمنياتها ، وان يجاهد في جعل اعماله واقواله في الظاهر والباطن واحدة وان يبتعد عن التظاهر والتدليس في حياته العملية ، وان يطلب من الله تعالى ، خلال ذلك ، التوفيق والنجاح في التغلب على النفس الامارة واهوائها ، ويعينه في محاولاته العلاجية . اذ ان فضل الله تعالى على الناس ورحمته بهم لا نهاية لها . وهو يشمل بعونه كل من خطا نحو اصلاح نفسه ، ويمد يد الرحمة لانتشاله . فاذا ثابر على ذلك بعض الوقت ، كان له ان يرجو لنفسه الصفاء والانعتاق من النفاق ذي الوجهينية ، وان يصل الى حيث يتطهر قلبه من هذه الرذيلة ليصبح موضع الطاف الله ورحمة ولي نعمته الحقيقي . وذلك لان التجربة والبراهين تدل على انه ما دامت النفس في هذه الدنيا ، كانت منفعلة بما يصدر عنها من افعال واقوال ، الصالحة منها والطالحة ، ويكون لكل ذلك اثر فيها . فاذا كان العمل صالحا ، كان اثره نورانيا كماليا ، واذا كان خلاف ذلك ، كان اثره

الاربعون حديثاً 157

مظلما انتقاصيا ، حتى يصبح القلب كله نيّرا او مظلما ، منخرطا في سلك السعداء او الاشقياء . اذا ، فما دمنا في دار العمل وفي هذه المزرعة ، فاننا نستطيع بارادتنا ان ندفع بقلوبنا اما الى السعادة واما الى الشقاء ، لان المرء رهين بعمله وفعله :«فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعلم مثقال ذرة شرا يره» (1) .

فصل
في بيان بعض اقسام النفاق

اعلم ايها العزيز ان من مراتب النفاق وذي اللسانين والوجهين ، النفاق مع الله تعالى والتوجه الى مالك الملوك وولي النعم بوجهين ، حيث نكون من المبتلين به في هذا العالم ونحن غافلون عنه . لان استار الجهل الكثيفة وحجب الانانية المظلمة وحب الدنيا وحب الذات مسدولة عليه ومختفية عنا ومن الصعب جدا ان ننتبه له قبل انكشاف السرائر ، ورفع الحجب ، والظعن عن دنيا الطبيعة ، وشد الرحال عن دار الغرور ودار الجهل والغفلة .
اننا الآن غارقون في نوم الغفلة ، محكومون لسكر الطبيعة ، والميول والرغبات التي تزين لنا كل قبائح الاخلاق وفساد الاعمال ، واذا ما استيقظنا وصحونا من هذه السكرة العميقة يكون قد فات الاوان . اذ نجد انفسنا قد صرنا في زمرة المنافقين وذي والجهين واللسانين وحُشرنا بلسانين من نار ، او بوجهين مشوّهين بشعين ! وعندئذ لن تنفعنا نداءاتنا «رب ارجعون» (2) اننا نجاب بـ «كلا» . ان صفة التلون هذه تكون بحيث اننا ـ انا وانت ـ نقضي كل عمرنا ونحن نظهر التمسك بكلمة التوحيد ، وندعي الاسلام والايمان ، بل المحبة والمحبوبية ، وغير ذلك من الادعاءات على قدر ما نشتهي ونحب .
فاذا كنا من عامة الناس وعوامهم ادعينا الاسلام والايمان والزهد والخلوص .
واذا كنا من اهل العلم والفقه ، ادعينا كمال الاخلاص والولاية وخلافة الرسول ، متشبثين بما نقل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انه قال : «اللهم ارحم خلفائي» (3) ، ويقول الامام صاحب الزمان روحي له الفداء : «انهم حجتي» (4) وغير ذلك من الاقوال المنقولة عن ائمة الهدى سلام الله عليهم في شأن العلماء والفقهاء .

(1) سورة الزلزلة ، آية : 7 ـ 8 .
(2) سورة المؤمنون ، آية : 99 .
(3) وسائل الشيعة ، المجلد الثامن عشر ، ابواب صفات القاضي ص 100 ـ 101 .
(4) وسائل الشيعة ، المجلد الثامن عشر ، ابواب صفات القاضي ص 100 ـ 101 .
الاربعون حديثاً 158

واذا كنا من اهل العلوم العقلية ، ادعينا الايمان الحقيقي المبرهن ، وزعمنا اننا نملك علم اليقين ، وعين اليقين ، وحق اليقين ، معتقدين ان سائر خلق الله ناقصو علم وايمان ، ونستشهد بالآيات القرآنية والاحاديث الشريفة الواردة بحقنا .
واذا كنا من اهل العرفان والتصوف ، ادعينا المعارف الالهية والانجذاب الروحي والفناء في الله ، والبقاء بالله ، وولاية الامر ، وما الى ذلك من الاقوال مما يخطر بالبال من الالفاظ الجذابة .
وهكذا فان كل طائفة منا تدعي بلسانها وظاهر حالها ان لها مرتبتها واظهار حقيقة من الحقائق الشائعة . فاذا كان هذا الظاهر مطابقا للباطن ، واتفق العلن مع السر ، وكان صادقا مصدقا ، فهنيئا لارباب النعيم نعيمهم . اما اذا كان ، مثل كاتب هذه السطور ، الاسود الوجه ، القبيح ، المشوه الخلقة ، فليعلم انه من المنافقين وذوي الوجهين واللسانين ، وعليه ان يبادر الى علاج نفسه ، وان يغتنم الفرصة قبل فواتها من التعاسة والذل والظلام .
ايها العزيز المدعي للاسلام : قد ورد في «الكافي» حديث شريف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انه قال : «المسلم من سلم المسلمـون مـن يـده ولسانـه» (1) فلماذا نقوم انا وانت وعلى قدر ما نستطيع ونتمكن ، على ايصال الاذى الى من هم اقل منا ولا نمتنع عن ظلمهم والاجحاف بحقهم ؟ واذا لم تصل ايدينا اليهم فلن نتوقف عن تجريحهم بحد اللسان في حضورهم ، او حتى في غيابهم ، فنعمد الى هتك اسرارهم ، والكشف عن مكنوناتهم ، واغتيابهم ، والصاق التهم بهم .
اذا ، فإدعاؤنا نحن الذين لا يسلم المسلمون من ايدينا والسنتنا ، للاسلام مخالف للحقيقة ، وباطننا يخالف ظاهرنا ، واننا من زمرة المنافقين ومن ذوي الوجهين .
يا من تدّعي الايمان وخضوع القلب في حضرة الله ذي الجلال ، اذا كنت تؤمن بكلمة التوحيد ، ولا يعبد قلبك غير الواحد ، ولا يطلب غيره ، ولا ترى الالوهية تستحق الا لذاته المقدسة ، واذا كان ظاهرك وباطنك يتفقان فيما تدّعي ، فلماذا نجدك وقد خضع قلبك لاهل الدنيا كل هذا الخضوع ؟ لماذا تعبدهم ؟ أليس ذلك لانك ترى لهم تاثيرا في هذا العالم ، وترى ان ارادتهم هي النافذة ، وترى ان المال والقوة هما الطاقة المؤثرة والفاعلة ؟ وان ما لا تراه فاعلا في هذا العالم هو ارادة الحق تعالى ، فتخضع لجميع الاسباب الظاهرية ، وتغفل عن المؤثر الحقيقي وعن مسبب جميع الاسباب ، ومع كل ذلك تدّعي الايمان بكلمة التوحيد . اذا ، فانت ايضا خارج عن زمرة المؤمنين ، وداخل في زمرة المنافقين ومحشور مع اصحاب اللسانين .

(1) اصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الايمان والكفر ، باب المؤمن وعلاماته ح 12 .
الاربعون حديثاً 159

وانت يا من تدّعي الزهد والاخلاص ، اذا كنت مخلصا حقا ، وانك لاجل الله ولاجل دار كرامته تزهد عن مشتهيات الدنيا ، فما الذي يحملك على ان تفرح بمدح الناس لك والثناء عليك بقولهم انك من اهل الصلاح والسداد ؟ فيملأ السرور قلبك ، ولماذا لا تبخل بشيء في سبيل مجالسة اهل الدنيا وفي سبيل زخارفها ، وتفر من الفقراء والمساكين ؟
فاعلم ان زهدك وإخلاصك ليسا حقيقيين ، بل ان زهدك في الدنيا هو من اجل الدنيا ، وان قلبك ليس خالصا لوجه الله ، وانك كاذب في دعواك ، وانك من المتلونين المنافقين .
وانت يا من تدّعي الولاية من جانب ولي الله ، ولاخلافة من جانب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فان كان واقعك مطابقا للحديث المروي في كتاب «الاحتجاج» : «صائنا لنفسه ، حافظا لدينـه ، مخالفا لهـواه ، مطيعا لأمـر مولاه» (1) . واذا كنت ورقة على غصن الولاية والرسالة ، ولا تميل الى الدنيا ، ولا تحب التقرب الى السلاطين والاشراف ، ولا تنفر من مجالسة الفقراء ، فان اسمك يطابق مسماه ، وانك من الحجج الالهية بين الناس ، والا فانك من علماء السوء ، وفي زمرة المنافقين ، وحالك أسوأ من الطوائف التي ذكرناها ، وعملك اقبح ، ويومك اشد سوادا ، لان الحجة على العلماء اتم .
وانت يا من تدّعي امتلاك الحكمة الالهية ، والعلم بحقائق المبدأ والمعاد ، اذا كنت عالما بالحقائق في الاسباب والمسببات ، واذا كنت حقا عالما بالصور البرزخية واحوال الجنة والنار ، فلا بد ان لا يقر لك قرار ، وعليك ان تصرف كل وقتك في اعمار عالم البقاء ، وان تهرب من هذه الدنيا ومغرياتها ، فانت عالم بما هنالك من مصائب وظلام وعذاب لا يطاق . اذا ، لماذا لا تتقدم ولو خطوة واحدة خارج حجب الكلمات والالفاظ والمفاهيم ، ولم تؤثر في قلبك البراهين الفلسفية قدر جناح ذبابة ؟ اذا ، انت خارج عن زمرة المؤمنين والحكماء ، ومحشور في زمرة المنافقين ، وويل للذي يقضي عمره وسعيه في علوم ما وراء الطبيعة ، دون ان يسمح له انتشاؤه بخمر الطبيعة ولو بدخول حقيقة واحدة الى قلبه .
وانت يا من تدّعي المعرفة والإنجذاب والسلوك والمحبة والفناء ، اذا كنت حقا من اهل الله ومن اصحاب القلوب ، ومن ذوي السابقة الحسنة ، فهنيئا لك . ولكن كل هذه الشطحات وهذا التلون وتلك الادعاءات اللامسؤولة التي تكشف عن حب الذات ووسوسة الشيطان ، تتعارض مع المحبة والانجذاب «ان اوليائي تحت قبابي لا يعرفهم غيري» (2) . فانت اذا كنت من اولياء الله والمنجذبين اليه ومحبيه ، فان الله يعلم بذلك ، فلا تظهر للناس مدى مقامك ومنزلتك

(1) الاحتجاج ، المجلد الثاني ، احتجاجات الامام الحسن العسكري عليه السلام ص 458 .
(2) احياء العلوم ، المجلد الرابع ، ص 256 .
الاربعون حديثاً 160

بهذه الصورة ، ولا تسع لتلفت قلوب عباد الله الضعيفة من وجهة خالقها الى وجهة المخلوق ولا تغتصب بيت الله . واعلم ان عباد الله اعزاء وقلوبهم ثمينة ويجب ان تشتغل في محبة الله ، فلا تتلاعب الى هذا الحد ببيت الله ولا تتعرض لحرماته ، «فان للبيت ربا» فاذا لم تكن صادقا في دعاواك ، فانت في زمرة اهل النفاق ومن ذوي الوجهين .
لنكتف بهذا القدر هنا ، اذ ليس الاسهام في هذا الموضوع مما يجدر بي وانا ذو الوجه المظلم ! .
يا ايتها النفس اللئيمة التي تتظاهرين بالتفكير للخروج من الايام المظلمة والنجاة من هذه التعاسة . اذا كنت صادقة ، وقلبك يواكب لسانك ، وسرك يطابق علنك ، فلماذا انت غافلة الى هذا الحد ؟ ولماذا يسيطر عليك القلب المظلم والشهوات النفسانية وتتغلب عليك ، دون ان تفكري في رحلة الموت المليئة بالمخاطر ؟
لقد تصرم عمرك دون ان تبتعد عن اهوائك ورغباتك . لقد امضيت عمرا منغمسا في الشهوة والغفلة والشقاء وسيحل الاجل قريبا ، وانت ما زلت تمارس اعمالك واخلاقك القبيحة . فانت نفسك واعظ غير متعظ ، ومن زمرة المنافقين وذوي الوجهين . ولئن بقيت على هذا الحال فستحشر بوجهين ولسانين من نار ...
اللهم ايقظنا من هذه الرقدة المديدة ، وصحنا من السكر والغفلة ! وانر قلوبنا بنور الايمان ! وارحم حالنا ! اننا لسنا من رجال هذا الميدان . فمد الينا يدك واعنا على النجاة من مخالب الشيطان واهواء النفس ، بحق اوليائك محمد وآله الطاهرين صلوات الله عليهم اجمعين .

السابق السابق الفهرس التالي التالي