الاربعون حديثاً 131

الشرح :


قال المحقق الكبير احمد بن محمد ، المعروف بابن مسكوية ، في كتابه تهذيب الاخلاق وتطهير الاعراق القيم الذي يقل نظيره في حسـن التنظيم والبيان مـا نصه (1) :
«والغضب بالحقيقة هو حركة للنفس يحدث بها غليان دم القلب شهوة للانتقام . فاذا كانت هذه الحركة عنيفة ، أججت نار الغضب واضرمتها ، فاحتد غليان دم القلب وامتلات الشرايين والدماغ دخانا مظلما مضربا يسوء منه حال العقل ويضعف فعله ، ويصير مثل الانسان عند ذلك على ما حكته الحكماء مثل كهف مليء حريقا واضرم نارا فاختنق فيه اللهيب والدخان وعلا منه الاجيج والصوت المسمى وحي النار ، فيصعب علاجه ويتعذر اطفاؤه ، ويصير كل ما تدنيه منه للاطفاء سببا لزيادته ومادة لقوته . فلذلك يعمى الانسان عن الرشد ويصم عن الموعظة ، بل تصير المواعظ في تلك الحال سببا للزيادة في الغضب ومادة للهيب والتأجج وليس يرجى له في تلك الحال حيلة» .
ثم يقول (2) «واما سقراطيس (3) قال اني للسفينة اذا عصفت بها الرياح وتلاطمت عليها الامواج وقذفت بها الى اللجج التي فيها الجبال ، ارجى مني للغضبان الملتهب ، وذلك ان السفينة في تلك الحال يلطف بها الملاحون ويخلصونها بضروب الحيل فاما النفس اذا استشاطت غضبا فليس يرجى لها حيلة البتة وذلك ان كل ما رُقي به الغضب من التضرع والموعظة والخضوع يصير له بمنزلة الجزل من الحطب يوهجه ويزيده استعارا» انتهى .

(1) تهذيب الاخلاق ، لابي علي احمد بن محمد بن مسكويه ، ص 193 منشورات الجامعة الامريكية ـ بيروت .
(2) تهذيب الاخلاق ، لابي علي احمد بن محمد بن مسكويه ص 195 منشورات الجامعة الامريكية ـ بيروت .
(3) في كتاب (الاربعون حديثا) واما بقراط ... وفي كتاب تهذيب الاخلاق واما سقراطيس ... (المترجم) .
الاربعون حديثاً 132

فصل
في بيان فوائد القوة الغضبية

اعلم ان غريزة الغضب من النعم الالهية التي يمكن بها عمارة الدنيا والآخرة ، وبها يتم الحفاظ على بقاء الفرد والجنس البشري والنظام العائلي ، ولها تاثير كبير في ايجاد المدينة الفاضلة ونظام المجتمع . فلولا وجود هذه الغريزة الشريفة في الحيوان لما قام بالدفاع عن نفسه ضد هجمات الطبيعة ، ولآل امره الى الفناء والاضمحلال . ولولا وجودها في الانسان ، لما استطاع ، ان يصل الى كثير من مراتب تطوره وكمالاته زائدا على تحقق ما تقدم . بل ان التفريط والنقص من حال الاعتدال يعد من مثالب الاخلاق المذمومة ومن نقائص الملكات التي يترتب عليها الكثير من المفاسد والمعايب ، كالخوف ، والضعف ، والتراخي ، والتكاسل ، والطمع ، وقلة الصبر ، وعدم الثبات في المواقف التي تتطلب الثبات ، والخمود ، والخنوع ، وتحمل الظلم ، وقبول الرذائل ، والاستسلام لما يصيبه او يصيب عائلته ، وانعدام الغيرة ، وخور العزيمة ...
ان الله سبحانه يصف المؤمنين بقوله :«اشـداء علــى الكفــار رحمـاء بينهـم»(1) .
ان القيام بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتنفيذ الحدود والتعزيرات وسائر التعاليم السياسية الدينية والعقلية ، لا يكون الا في ظل القوة الغضبية الشريفة . وعلى ذلك ، فان الذين يظنون ان قتل غريزة الغضب بالكامل واخماد أنفاسها يعد من الكمالات والمعارج النفسية انما يرتكبون خطيئة عظيمة ، ويغفلون عن حد الكمال ومقام الاعتدال . هؤلاء المساكين لا يعلمون ان الله تبارك وتعالى لم يخلق هذه الغريزة الشريفة في جميع اصناف الحيوانات عبثا ، وانه جعل هذه الغريزة في بني آدم رأسمال الحياة المُلكية والملكوتية ، ومفتاح الخيرات والبركات . ان الجهاد ضد اعداء الدين ، وحفظ النظام العائلي للانسان ، والدفاع عن النفس والمال والعِرض ، وعن سائر القوانين الالهية ، والجهاد مع النفس وهي الد اعداء الانسان ، لا يكون كل ذلك الا بهذه الغريزة الشريفة . ان منع الاعتداءات والذب عن الحدود والثغور ، ودفع المؤذيات والمضرات عن الفرد والمجتمع ، يجري تحت لواء هذه الغريزة . لذلك سعى الحكماء الى معالجة خمود هذه الغريزة وركودها . وهناك معالجات علمية وعملية لايقاضها وتحريكها : مثل الاقدام على الامور العظيمة المخيفة ، والذهاب الى ميادين الحرب ، والجهاد ضد اعداء الله . فقد نُقل عن بعض المتفلسفين انه كان يرتاد الاماكن المخوفة ويلبث فيها قليلا ويلقي بنفسه في المخاطر العظيمة ، ويركب البحر في اوج تلاطم امواجه ، وذلك لكي يخلص نفسه من الشعور بالخوف ويتحرر من الضعف والكسل .

(1) سورة الفتح ، آية : 29 .
الاربعون حديثاً 133

وعلى اي حال ، فان غريزة الغضب موجودة لدى كل انسان ومودعة في باطنه ، ولكنها في بعضهم خامدة منكمشة ، كالنار تحت الرماد . فالواجب على من يلحظ في نفسه حال الخمول والضعف وانعدام الغيرة ان يعالج الحالة بضدها ، ويخرج نفسه مما هي فيه الى حال من الاعتدال . وهذه الحال المحاولة من الشجاعة التي تعد من الملكات الفاضلة والصفات الحسنة ، مما سوف ترد الاشارة اليه .

فصل
في بيان ذم الافراط في الغضب

اذا كانت حال التفريط ونقص الاعتدال من الصفات المذمومة التي تؤدي الى كثير من المفاسد التي ذكرنا بعضها ، كذلك هي حال الافراط وتجاوز حد الاعتدال ، فهي ايضا تعد من الصفات المذمومة التي تقود الى مفاسد كثيرة . ويكفي لتبيان مفاسد هذه الحال ذكر هذا الحديث الشريف الوارد في الكافي .
عن ابي عبد الله عليه السلام انه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «الغضب يفسد الايمان كما يفسد الخل العسل» (1) .
فقد يصل الغضب بالانسان الى حد الارتداد عن دين الله ، واطفاء نور الايمان ، بحيث ان ظلام الغضب وناره تحرق العقائد الحقة . بل قد يصل الامر الى الكفر الجحودي الذي نتيجته الهلاك الابدي ، ثم ينتبه على نفسه بعد فوات الاوان وحين لا ينفع الندم ويمكن ان تكون نار الغضب ، جمرة الشيطان ، التي وردت في كلام الامام الباقر عليه السلام «ان هذا الغضب جمرة من الشيطان توقد في قلب ابن آدم» (2) صورتها في ذلك العالم ، صورة نار الغضب الالهي .
كما ورد عنه عليه السلام في حديث شريف رواه صاحب «الكافي» :
«مكتوب في التوراة فيما ناجى الله عز وجل به موسى : يا موسى امسك غضبك عمن ملّكتك عليه اكف عنك غضبي» (3) .
ولا شك في انه ليست هناك نار اشد من نار غضب الله عذابا . وقد جاء في كتب الحديث ، عن ابي عبد الله عليه السلام قال : قال الحواريون لعيسى عليه السلام : اي الاشياء اشد ؟ قال اشد الاشياء غضب الله عز وجل ، قالوا بم نتقي غضب الله ؟ قال بان لا تغضبوا (4) .

(1) اصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الايمان والكفر ، باب الغضب ، ح 1 .
(2) اصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الايمان والكفر ، باب الغضب ، ح 12 .
(3) اصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الايمان والكفر ، باب الغضب ، ح 7 .
(4) وسائل الشيعة ، المجلد 11 ، ابواب جهاد النفس ، ص 289 .
الاربعون حديثاً 134

وهكذا يتضح ان غضب الله من اصعب الامور واشدها ، وان نار غضبه اشد احراقا ، وصورة الغضب للانسان في هذه الدنيا هي صورة نار غضب الله في العالم الآخر . وكما ان الغضب يظهر من القلب ، فلعل نار الغضب الالهي الذي يكون مبدأه الغضب وسائر الرذائل القلبية الاخرى ، تنبعث من باطن القلب ، وتسري الى الظاهر ، وتخرج السنة نيرانها المؤلمة من الاعضاء الظاهرية مثل العين والاذن واللسان وغيرها بل ان هذه الاعضاء تكون ابواب تنفتح على جهنم ، فتحيط نار جهنم بالاعمال والآثار الجسمية التي في ظاهر جسد الانسان ، لتتجه الى باطنه ، فيقع الانسان في العذاب والشدة بين جهنمين : احدهما يبرز من باطن القلب ويدخل السنة لهيبها بواسطة ام الدماغ الى عالم الجسم . وثانيهما صورة قبائح الاعمال وتجسم الافعال ، حيث تتصاعد نيرانها من الظاهر الى الباطن ، والله سبحانه وتعالى يعلم مدى هذا الضغط ؟ وهذا العذاب ؟ انه غير الاحتراق وغير الإنصهار . اتظن ان احاطة جهنم تشبه هذه الاحاطات التي تتصورها ؟ ان الاحاطة هنا انما تكون بظاهر السطح فقط . اما الاحاطة هناك فتكون بالظاهر وبالباطن ، بالسطوح وبالاعماق . واذا اصبحت صورة الغضب عند الانسان صفة راسخة لا سمح الله ـ وصورة الغضب آخر مراحل الرسوخ ـ كانت المصيبة اعظم ، واصبح للانسان في البرزخ ويوم القيامة صورة السباع ، السباع التي لا شبيه لها في هذه الدنيا . وذلك لان سبعية الانسان ، وهو في حالة الغضب ، لا يمكن مقارنتها بسبعية اي حيوان آخر من الحيوانات . وكما ان الانسان في حالة كماله اعجوبة الدهر ولن تجد له نظيرا ، كذلك في حال نقصه واتصافه بالرذائل وبالصفات الخسيسة لن تجد بين الكائنات من يقف معه في ميزان المقارنة ، لقد وصفهم الله بقوله : «ان هم الا كالانعام بل هم اضل» (1) ، ووصف قلوبهم فقال : «فهي كالحجارة او اشد قسوة» (2) .
هذا الذي مر بك كان جانبا من مفاسد نار الغضب الحارقة ، اذا لم يستتبع الغضب معاص اخرى ، بل بقي نارا داخلية مظلمة تتعقد في الباطن وتنحبس وتختنق فتطفئ نور الايمان ، كالنار المشتعلة التي يخالطها الدخان الاسود الذي يغشى النور فيطفئه . ولكن ذلك امر بعيد ، بل قد يكون من الامور المستحيلة ان يكون الانسان في حال غضب شديد مستعرة ناره ، ثم يمتنع عن ارتكاب معاص وموبقات مهلكة اخرى . فكثيرا ما يؤدي الغضب المستعر ، وهذه الجمرة الشيطانية الملعونة ، في مدة دقيقة واحدة الى القاء الانسان في هاوية الهلاك والعدم ، كان يسب الانبياء والمقدسات ـ والعياذ بالله ـ او يقتل نفسا بريئة مظلومة ، او يهتك

(1) سورة الفرقان ، آية : 44 .
(2) سورة البقرة ، آية : 74 .
الاربعون حديثاً 135

الحرمات ، فيخسر الدنيا والآخرة ، كما جاء في الكافي عن ابي عبد الله عليه السلام في حديث له :
كان ابي يقول : «اي شيء اشد من الغضب ؟ ان الرجل ليغضب فيقتل النفس التي حرم الله ويقذف المحصنة» (1) .
لقد وقعت افظع الفتن وارتكبت افجع الاعمال بسبب الغضب واشتعال ناره الحارقة . وعلى الانسان ، وهو سليم النفس ، ان يكون على حذر كثير من حال غضبه . واذا كان يعرف من نفسه حدوث حالات الغضب ، عليه ، في اثناء هدوئه النفسي ، ان يعالجها وان يفكر في مبادئها وفي مفاسدها عند اشتدادها وآثارها ونتائجها في النهاية ، لعله يصل الى معرفة طريق لانقاذ نفسه . فليفكر في ان هذه الغريزة التي وهبها الله تعالى اياه لحفظ نظام الظاهر والباطن وعالم الغيب والشهادة ، اذا استخدمها لغير تلك الاهداف وبخلاف ما يريد الله سبحانه وضد المقاصد الالهية ، فما مدى خيانته ؟ وما هي العقوبات التي يستحقها ؟ وكم هو ظلوم جهول ؟ لانه لم يصن امانة الحق تعالى ، بل استعملها في العدوات والمخاصمات . ان امرء هذا شانه لا يمكن ان يامن الغضب الالهي .
ثم ان عليه ان يفكر في المفاسد العملية والاخلاقية التي تتولد من الغضب ومن سوء الخلق . اذ كل مفسدة من هذه المفاسد يمكن ان تكون سببا في ابتلاء الانسان بصورة دائمة ببلايا شديدة في الدنيا ، وبالعذاب والعقاب في الآخرة .
اما المفاسد الاخلاقية التي تتولد من هذا الخلق فهي الحقد على عباد الله ، وقد ينتهي به الامر الى الحقد على الانبياء والاولياء ، بل وحتى على ذات الله المقدسة الواجبة الوجود وولي النعم ، وشدة هذا القبح وهذه المفسدة واضح للجميع . نعوذ بالله تعالى من شر نفس عنيدة اذا ما انفصم وثاقها للحظة واحدة ، جرت الانسان الى تراب الذل وقادته الى ارض الهلاك الابدي . وكذلك الحسد الذي مرت بك بعض مفاسده وشروره في شرح الحديث الخامس . وغير ذلك من المفاسد الاخرى التي تتولد من الغضب .
واما مفاسد الغضب المؤثرة في الاعمال فانها ليست بمحصورة ، فلعله يتفوه بما فيه الارتداد او سب الانبياء والاولياء ـ والعياذ بالله ـ وهتك الحرمات الالهية ، وخرق النواميس المقدسة ، وقتل الانفس الزكية ، والافتراء على العوائل المحترمة بما يصمها بالعار والذل ويقضي على النظام العائلي بكشف الاسرار وهتك الاستار . وغير ذلك من المفاسد التي لا تحصى والتي يبتلي بها الانسان لدى فورة الغضب الباعثة على نسف الايمان وهدم البيوت .

(1) اصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الايمان والكفر ، باب الغضب ، ح 4 .
الاربعون حديثاً 136

لذلك يمكن ان توصف هذه السجية بانها ام الامراض النفسية ومفتاح كل شر . ويقابلها كظم الغيظ واخماد سعير الغضب فانه من جوامع الكلم ودائرة تمركز الحسنات ومجمع الكرامات . كما جاء في الحديث (الكافي) عن ابي عبد الله عليه السلام انه قال سمعت ابي يقول :
«اتى رسول الله رجل بدوي ، فقال : اني اسكن البادية فعلمني جوامع الكلام فقال : آمرك ان لا تغضب . فاعاد عليه الاعرابي المسألة ثلاث مرات حتى رجع الرجل الى نفسه . فقال : لا اسال عن شيء بعد هذا . ما امرني رسول الله الا بالخير . قال : وكان ابي يقول : اي شيء اشد من الغضب ؟ ان الرجل ليغضب فيقتل النفس التي حرم الله ويقذف المحصنة» (1) .
قعد ان يدرك الانسان ، في حال تعلقه وسكون نفسه وخمود غضبه ، المفاسد الناجمة عن الغضب ، والمصالح الناجمة عن كظم الغيظ ، يلزم ان يحتم على نفسه ان يطفئ هذا اللهيب الحارق وهذه النار المشتعلة في قلبه ، مهما لاقى من عنت ونصب في سبيل ذلك ، ليغسل قلبه من الظلام والكدر ، ويعيد اليه صفاءه ونقاءه . وهذا امر ممكن تماما بشيء من مخالفة النفس والعمل ضد هواها ، وبقليل من النصح والارشاد والتدبر في عواقب الامور . وهذه وسيلة يمكن بها ازالة جميع الاخلاق الفاسدة والعادات القبيحة من ساحة النفس ، وابدالها بجميع الصفات الحسنة والاخلاق المحمودة التي يجب ان يتحلى بها القلب .

فصل
في بيان علاج الغضب المشتعل

ان للغضب المشتعل علاجا علميا وعمليا ايضا .
اما علاجه العلمي فهو ان يتفكر الانسان في تلك الامور التي ذكرت ، ويعد هذا من العلاج العملي ايضا .
اما العلاج العملي فاهمه صرف النفس عن الغضب عند اول ظهوره . وذلك لان الغضب اشبه بالنار ، فهو يزداد شيئا فشيئا ويشتد ، حتى يتعالى لهيبه ، وترتفع حرارته ويفلت العنان من يد الانسان ، ويخمد نور العقل والايمان ، ويطفئ سراج الهداية ، فيصبح الانسان ذليلا مسكينا . فعلى الانسان ان ياخذ حذره قبل ان يزداد اشتعاله ويرتفع سعيره ، فيشغل نفسه بامور اخرى ، او ان يغادر المكان الذي ثار فيه غضبه ، او ان يغير من وضعه . فاذا كان جالسا فلينهض

(1) اصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الايمان والكفر ، باب الغضب ، ح 4 .
(2) اصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الايمان والكفر ، باب الغضب ، ح 12 .
(3) اصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الايمان والكفر ، باب الغضب ، ح 2 .
الاربعون حديثاً 137

واقفا ، واذا كان واقفا فليجلس ، او ان يشغل نفسه بذكر الله تعالى . بل هناك من يرى وجوب ذكر الله في حال الغضب ، او ان يشغل نفسه بأي امر آخر .
على كل حال ، يسهل كبح جماح الغضب في بداية ظهوره . ولهذا العمل في هذه المرحلة نتيجتان :
الاولى : هي ان يهدئ النفس ويقلل من اشتعال الغضب . والثانية : هي انه يؤدي الى المعالجة الجذرية للنفس . فاذا راقب الانسان حاله وعامل نفسه بهذه المعاملة تغيرت حاله تغيرا كليا واتجهت نحو الاعتدال . وقد وردت الاشارة الى بعض ذلك في كتاب (الكافي) باسناده عن ابي جعفر عليه السلام قال :
«ان هذا الغضب جمرة من الشيطان توقد في قلب ابن آدم وان احدكم اذا غضب احمرت عيناه وانتفخت اوداجه ودخل الشيطان فيه ، فاذا خاف احدكم ذلك من نفسه فليلزم الارض فان رجز الشيطان يذهب عنه عند ذلك» (1) .
وباسناده ، عن ميسر قال : ذُكر الغضب عند ابي جعفر الباقر عليه السلام فقال :
«ان الرجل ليغضب فما يرضى ابدا حتى يدخل النار فأيما رجل غضب على قوم وهو قائم فليجلس من فوره ذلك فانه سيذهب عنه رجز الشيطان وايما رجل غضب على ذي رحم فليدن منه فليمسه ، فان الرحم ، اذا مُست ، سكنت» (2) .
يستفاد من هذا الحديث الشريف علاجان عمليان حال ظهور الغضب . الاول عام ، وهو الجلوس من القيام ، اي تغيير وضعية الانسان ، ففي حديث آخر انه اذا كان جالسا عند الغضب فليقم واقفا .
وقد نقل عن الطرق العامة ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما كان يغضب ، يجلس ، اذا كان واقفا ، ويستلقي على قفاه اذا كان جالسا ، فيسكن غضبه .
والعلاج العملي الآخر علاج خاص بالأرحام ، وهو أن يمسّه فيسكن غضبه .
هذه معالجات يقوم بها الغاضب لنفسه . اما اذا اراد الآخرون معالجة الغاضب فعند ظهور بوادر الغضب ، عليهم ان يعالجوه باحدى الطرق العلمية والعملية المذكورة . ولكن اذا اشتدت حاله واشتعل غضبه ، فان النصائح تنتج عكس المطلوب . ولذلك يكون علاجه وهو في هذه الحال صعبا ، الا بتخويفه من قبل شخص يهابه ويخشاه ، وذلك لان الغاضب انما يغضب

(1) اصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الايمان والكفر ، باب الغضب ، ح 12 .
(2) اصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الايمان والكفر ، باب الغضب ، ح 2 .
الاربعون حديثاً 138

عندما يرى نفسه اقوى ممن يغضب عليه ، او يرى انه ، على الاقل ، يتساوى معه في القوة . اما مع الذين يرى انهم اقوى منه ، فلا يُظهر الغضب امامهم ، بل تكون الفورة والاشتعال في باطنه ويبقى محبوسا في داخله ويولد الحزن في قلبه . وعليه فان العلاج في حالات انفعال الشديدة من الغضب والفورة يكون على جانب كبير من الصعوبة . نعوذ بالله منه .

فصل
في بيان ان معالجة الغضب باقتلاع جذوره

من اهم سبل معالجة الغضب هي اقتلاع جذوره بازالة الاسباب المثيرة له . وهي امور عديدة ، سوف نتناول بعضا منها مما يتناسب وهذا الكتاب .
من تلك الاسباب حب الذات ، ويتفرع عنه حب المال والجاه والشرف والنفوذ والتسلط . وهذه كلها تتسبب في اشعال نار الغضب ، اذ ان من كانت فيه هذه الانواع من الحب ، يهتم بهذه الامور كثيرا ، ويكون لها في قلبه مكان رفيع . فاذا اتفق ان واجه بعض الصعوبات في واحدة منها ، او احس بان هناك من ينافسه فيها ، تنتابه حال من الغضب والهيجان دون سبب ظاهر ، فلا يعود يملك نفسه ، ويستولي عليه الطمع وسائل الرذائل الناجمة عن حب الذات والجاه وتمسك بزمامه ، وتحيد باعماله عن جادة العقل والشرع . ولكن اذا لم يكن شديد التعلق والاهتمام بهذه الامور ، فان هدوء النفس والطمانينة الحاصلة من ترك حب الجاه والمقام وسائر تفرعاته ، تمنع النفس من ان تخطو خطوات تخالف العدالة والروية . ان الانسان البسيط غير المتكلف يتحمل المنغصات ولا تتقطع حبال صبره ، فلا يستولي عليه الغضب المفرط في غير وقته . اما اذا اقتلع جذور حب الدنيا من قلبه اقتلاعا ، فان جميع المفاسد تهجر قلبه وتحل محلها الفضائل الاخلاقية السامية .
ومن الاسباب الاخرى لإثارة الغضب هو ان الانسان قد يظن الغضب ، وما يصدر عنه من سائر الاعمال القبيحة والرذائل السافلة ، كمالا ، وذلك لجهله وقلة معرفته . فيحسب الغضب من الفضائل ، ويراه بعض الجهال فتوة وشجاعة وجراة ، فيتباهى ويطري على نفسه في انه فعل كذا وكذا ، فيحسب هذه الصفة الرذيلة المهلكة شجاعة ، هذه الشجاعة التي تكون من اعظم صفات المؤمنين ، والصفات الحسنة . فلا بد وان نعرف بان الشجاعة غير الغضب ، وان اسبابها ومبادئها وآثارها وخواصها تختلف عن اسباب الغضب ومبادئه وآثاره وخواصه . مبدا الشجاعة هو قوة النفس والطمانينة والاعتدال والايمان وقلة المبالاة بزخارف الدنيا وتقلباتها . اما الغضب فناشئ عن ضعف النفس وتزلزلها ، وقلة الايمان ، وعدم الاعتدال في المزاج وفي الروح ، وحب الدنيا والاهتمام بها ، والتخوف من فقدان اللذائذ البشرية . لذلك تجد هذه الرذيلة

الاربعون حديثاً 139

مستحكمة في المرضى اكثر مما هي في الاصحاء ، وفي الصغار اكثر مما هي في الكبار ، وفي الشيوخ اكثر مما هي في الشبان . فالشجاعة عكس الغضب تماما . ومن كانت فيه رذائل اخلاقية كان اسرع الى الغضب ممن فيهم فضائل اخلاقية ، اذ يكون البخيل اسرع في الغضب من غيره اذا تعرض ماله وثروته للخطر .
هذا من حيث مبادئ الشجاعة والغضب وما يوجبهما ، وهما من حيث الآثار والنتائج مختلفان ايضا . فالغاضب ، وهو في حال ثورة غضبه ، يكون اشبه بالمجنون الذي فقد عنان عقله ، ويصبح مثل الحيوان المفترس الذي لا تهمه عواقب الامور ، فيهجم دون ترو او احتكام الى العقل ، فيسلك سلوكا قبيحا ، يفقد سيطرته على لسانه ويده وسائر اعضائه ، وتلتوي شفتاه في هيئة قبيحة بحيث انه لو اعطي مرآة ، لخجل من صورته التي يراها فيها .
ان بعض اصحاب هذه الرذيلة يغضبون لأتفه الامور ، بل يغضبون حتى على الحيوانات والجمادات ، ويلعنون حتى الريح والارض والبرد والمطر وسائر الظواهر الطبيعية اذا كانت خلاف رغباتهم . ويغضبون احيانا على القلم والكتاب والاواني فيمزقونها او يحطمونها . اما الشجاع فهو بخلاف ذلك تماما . فاعماله لا تكون الا عن روية ووفق ميزان العقل وطمانينة النفس . يغضب في محله ، ويحلم في محله ، لا تهزه التوافه ولا تغضبه . واذا غضب غضب بمقدار ، وينتقم بعقل ، ويعرف كيف ينتقم ومتى وممن ؟ وكيف يعفو ومتى وممن ؟ وفي حال غضبه لا يفقد زمام نفسه ، ولا يبادر بالكلام البذيء ولا بالاعمال القبيحة ، ويزن كل اعماله بميزان العقل والشرع والعدل والانصاف ، ويخطو خطوات لا يندم عليها بعد ذلك .
فعلى الانسان الواعي ان لا يخلط بين هذا الخُلق الذي يتصف به الانبياء والاولياء والمؤمنون ، ويعد من الكمالات النفسية . والخلق الآخر الذي هو من النقائص والصفات الشيطانية ومن وسوسة الخناس . الا ان حجاب الجهل وعدم المعرفة وحب الدنيا وحب الذات ، يعمي عين الانسان ويصم اذنه ويلقيه في المسكنة والعذاب .
وهناك اسباب اخرى ذكروها للغضب ، مثل العجب والزهو والكبرياء والمراء والعناد والمزاح وغيرها مما يطيل البحث الدخول في تفاصيلها ، ولعل اكثرها ينطوي تحت هذين الموضوعين المذكورين بصورة مباشرة او غير مباشرة . والحمد لله .

الاربعون حديثاً 140




الاربعون حديثاً 141

الحديث الثامن

العصبية


الاربعون حديثاً 142

بسندي المتصل الى محمد بن يعقوب عن علي بن ابراهيم ، عن ابيه ، عن النوفلي ، عن السكوني ، عن ابي عبد الله عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «من كان في قلبه حبة من خردل من عصبية ، بعثه الله يوم القيامة مع اعراب الجاهلية» (1) .

(1) اصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الايمان والكفر ، باب العصبية ، ح 3 .
الاربعون حديثاً 143

الشرح


الخردل ، نبات معروف له خواص كثيرة ، ويصنع منه الشمع . والعصبي : هو الذي يعين قومه على الظلم ويغضب لعصبته ويحامي عنهم . وعُصبة المرء اقرباؤه من جهة الاب ، لانهم يحيطون به فيقوى بهم . والتعصب بمعنى الحماية والدفاع .
يقول الفقير الى الله : العصبية واحدة من السجايا الباطنية النفسانية . ومن آثارها الدفاع عن الاقرباء ، وجميع المرتبطين به وحمايتهم ، بما في ذلك الارتباط الديني او المذهبي او المسلكي ، وكذلك الارتباط بالوطن وترابه ، وغير ذلك من ارتباط المرء بمعلمه ، او باستاذه ، او بتلامذته وما الى ذلك . والعصبية من الاخلاق الفاسدة والسجايا غير الحميدة ، وتكون سببا في ايجاد مفاسد في الاخلاق وفي العمل . وهي بذاتها مذمومة حتى وان كانت في سبيل الحق ، او من اجل امر ديني ، من غير ان يكون مستهدفا لاظهار الحقيقة ، بل يكون من اجل تفوقه او تفوق مسلكه ومسلك عصبته ، اما اظهار الحق والحقيقة واثبات الامور الصحيحة والترويج لها وحمايتها والدفاع عنها ، فإما انه ليس من التعصب ، وإما انه ليس تعصبا مذموما .
ان المقياس في الاختلاف يتمثل في الاغراض والاهداف وخطوات النفس والشيطان او خطوات الحق والرحمن . وبعبارة اخرى ، ان المرء اذا تعصب لاقربائه او احبته ودافع عنهم ، فما كان بقصد اظهار الحق ودحض الباطل ، فهو تعصب محمود ودفاع عن الحق والحقيقة . ويعد من افضل الكمالات الانسانية ، ومن خلق الانبياء والاولياء . وعلامته المميزة هو ان يميل الانسان الى حيث يميل الحق فيدافع عنه ، حتى وان لم يكن هذا الحق الى جانب من يحب ، بل حتى لو كان الحق الى جانب اعدائه . ان شخصا هذا شانه يكون من جملة حماة الحقيقة ، ومن زمرة المدافعين عن الفضيلة وعن المدينة الفاضلة ، ومن الاعضاء الصالحين في المجتمع ، ومن المصلحين لمفاسده .

الاربعون حديثاً 144

اما اذا تحرك بدافع قومية وعصبيته بحيث اخذ بالدفاع عن قومه واحبته في باطلهم وسايرهم فيه ودافع عنهم ، فهذا شخص تجلت فيه السجية الخبيثة ، سجية العصبية الجاهلية . واصبح عضوا فاسدا في المجتمع ، وافسد اخلاق المجتمع الصالح ، وصار في زمرة اعراب الجاهلية ، وهم فئة من اعراب البوادي قبل الاسلام ممن كانوا يعيشون في ظلام الجهل ، وقد قويت فيهم هذه النزعة القبيحة ، والسجية البشعة بل ان هذه الصفة توجد في معظم اهل البوادي ـ عدى من اهتدى بنور الهداية ـ كما ورد في الحديث الشريف عن الامام امير المؤمنين عليه السلام : أن الله سبحانه يعذب طوائف ستة بامور ستة :
اهل البوادي بالعصبية ، واهل القرى بالكبر والامراء بالظلم ، والفقهاء بالحسد ، والتجار بالخيانة واهل الرساتيق بالجهل .

فصل
في بيان مفاسد العصبية

يستفاد من الاحاديث الشريفة عن اهل بيت العصمة والطهارة ان العصبية من المهلكات والباعثة على سوء العاقبة والخروج من عصمة الايمان ، وانها من ذمائم اخلاق الشيطان .
جاء في الكافي بسنده الصحيح ، عن ابي عبد الله الصادق عليه السلام قال : «من تعصب او تُعصب له فقد خلع ربق الايمان من عنقه» (1) . اي ان المتعصب بتعصبه يكون قد خرج من ايمانه ، واما المتعصب له ، فبما انه قد رضي بعمل المتعصب ، يصبح شريكا له في العقاب . كما جاء في الحديث الشريف : «ومن رضي بعمل قوم حشر معهم . اما اذا لم يرض به واستنكره فلن يكون منهم» .
وعن ابي عبد الله الصادق عليه السلام قال : «من تعصب عصّبه الله بعصابة من النار» (2) .
وعن ابي عبد الله عليه السلام قال : «لم يدخل الجنة حمية غير حمية حمزة بن عبد المطلب وذلك حين اسلم غضبا للنبي» (3) .
وقد وردت قصة اسلام حمزة بن عبد المطلب بعبارات مختلفة ، وهي خارجة عن نطاق بحثنا هذا . وعلى كل حال . فمن المعلوم ان الايمان ، وهو الفوز الالهي ومن الخِلَع الغيبية لله جل جلاله ، الذي يفيض بها على المخلصين من عباده ، والخاصة في محفل انسه ، يتنافى مع

(1) اصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الايمان والكفر ، باب العصبية ، ح 2 .
(2) اصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الايمان والكفر ، باب العصبية ، ح 4 .
(3) اصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الايمان والكفر ، باب العصبية ، ح 5 .
الاربعون حديثاً 145

مثل هذه السجية الموقوتة التي تدوس الحق والحقيقة ، وتطأ باقدام الجهل على الصدق والاستقامة .
ولا شك في ان القلب اذا غطاه صدأ حب الذات والارحام والتعصب القومي الجاهلي ، فلن يكون فيه مكان لنور الايمان ، ولا موضع للاختلاء مع الله ذي الجلال تعالى . ان ذلك الانسان الذي تظهر في قلبه تجليات نور الايمان والمعرفة ، ويطوق رقبته الحبل المتين والعروة الوثقى للايمان ، ويكون رهن الحقيقة والمعرفة ، هو ذلك الانسان الذي يلتزم بالقواعد الدينية وتكون ذمته مرهونة لدى القوانين العقلية ، ويتحرك بامر من العقل والشرع ، دون ان يهز موقفه اي من عاداته واخلاقه وما يأنس به من مألوفاته . فلا تحيد به عن الطريق المستقيم . ان الانسان الذي يدعي الاسلام والايمان هو ذلك الذي يستسلم للحقائق ويخضع لها ، ويرى اهدافه ، مهما عظمت ، فانية في اهداف ولي نعمته ، ويضحي بنفسه وبارادته في سبيل ارادة مولاه الحقيقي . ومن الواضح ان مثل هذا الشخص لا يعرف العصبية الجاهلية ، وانه بريء منها ، ولا يتجه قلبه الا الى حيث الحقائق ، ولا تغشي عينيه استار العصبية الجاهلية السميكة . وفي سبيل اعلاء كلمة الحق والاعلان عن الحقيقة يطأ بقدميه على كل العلاقات والارتباطات ، ويفدي بجميع الأقرباء والأحبة والعادات على اعتاب ولي النعم المطلق . واذا تعارضت العصبية الاسلامية عنده مع العصبية الجاهلية ، قدّم الاسلام وحب الحقيقة .
ان الانسان العارف بالحقائق يعلم ان جميع العصبيات والارتباطات ليست سوى امور عرضية زائلة ، إلا تلك العلاقة بين الخالق والمخلوق ، وتلك هي العصبية الحقيقية التي هي امر ذاتي غير قابل للزوال ، وهو اوثق من كل ارتباط ، واقوى من كل حسب واسمى من كل نسب .
في حديث شريف ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : «كل حسب ونسب منقطع يوم القيامة الا حسبي ونسبي» (1) . وذلك لان حسب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم روحاني وباق ، وبعيد عن جميع العصبيات الجاهلية ، وهذا الحسب والنسب الروحانيين في ذلك العالم ، يكون ظهوره اكثر وكماله اوضح ونسبه علاقة الهية لا تظهر على كمال حقيقتها الا في ذلك العالم . ان هذه العلائق الجسمانية المُلكية القائمة على العادات البشرية انما تتقطع باتفه الاسباب ، وليس لاي منها في ذلك العالم نفع ولا قيمة ، الا تلك العلائق التي تتوثق في نظام ملكوتي الهي وتحت ظل ميزان القواعد الشرعية والعقلية . التي لا انفصام لها .

(1) وسائل الشيعة ، كتاب النكاح ، الباب الثامن من ابواب مقدمات وآداب النكاح ، ح 5 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي