الاربعون حديثاً 116

هذا الامر الخطير والفساد الكبير الذي يهدد كل وجوده وطاقاته ، متمسكا بالتفسير الظاهري لهذا الحديث الشريف .
عليك اذا ، ان تقوم جاهدا ، بتقليم فروع الحسد ، والسعي لاصلاح النفس ، ولا تدع شيئا منه يترشح الى الخارج ، وعندئذ تضعف جذوره ، ويقف نموه . واذا وافتك المنية وانت ماض في سبيل الاصلاح والترويض للنفس ، فان رحمة الله سوف تشملك ، ولسوف ينالك العفو برحمة الله الواسعة وببركة الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، واذا بقيت منه باقية فان بوارق الرحمة الالهية سوف تحرقها وتطهر النفس وتزكيها .
اما ما جاء في رواية حمزة بن حمران ، عن ابي عبد الله عليه السلام انه قال : «ثلاثة لم ينج منها نبي فمن دونه التفكر في الوسوسة في الخلق والطيرة والحسد الا ان المؤمن لا يستعمل حسده» (1) فانه اما ان يكون من باب المبالغة الدالة على كثرة الابتلاء بها ، واما ان يكون التعبير كناية عن كثرة الابتلاء دون ان يكون القصد هو مضمون الكلام بذاته ، واما انه اعتبر الحسد اعم من الغبطة ، من باب المجاز ، واما انه يقصد بالحسد تمني زوال بعض النعم المستعملة لدى الكفار في ترويج مذهبهم الباطل . والا فان الانبياء والاولياء مطهرون من الحسد بمعناه الحقيقي . ان القلب الملوث بالمساوئ الاخلاقية والقذارات الباطنية لا يمكن ان يهبط عليه الوحي والالهام ، ولا يكون موطن التجليات الذاتية والصفاتية . اذا ، لا بد ان يفسر هذا الحديث بحسب ما ذكر ، او بشكل آخر ، او يرد علمه الى قائله صلوات الله عليه .

. والحمد لله اولا وآخرا

(1) وسائل الشيعة ، المجلد 11 ، ابواب جهاد النفس ، باب تحريم الحسد ، ح 8 .
الاربعون حديثاً 117

الحديث السادس

من اصبح وامسى والدنيا او الاخرة اكبر همه


الاربعون حديثاً 118

بالسند المتصل الى محمد بن يعقوب عن محمد بن يحيى ، عن احمد بن محمد ، عن ابن محبوب ، عن عبد الله بن سنان وعبد العزيز العبدي ، عن عبد الله بن ابي يعفور ، عن ابي عبد الله عليه السلام قال : «من اصبح وامسى والدنيا اكبر همه ، جعل الله الفقر بين عينيه وشتت امره ولم ينل من الدنيا الا ما قسم له ومن اصبح وامسى والآخرة اكبر همـه ، جعـل الله الغنى في قلبه وجمع لـه امـره »(1).

(1) اصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الايمان والكفر ، باب حب الدنيا ، ح 15 .
الاربعون حديثاً 119

الشرح


اعلم ان للدنيا والآخرة اطلاقات حسب آراء ارباب العلوم ولدى مقاييس معارفهم وعلومهم ولا يكون البحث عن حقيقتها على ضوء المصطلحات العلمية بمهمة لدينا ، فان بذل الجهد في فهم الاصطلاحات والرد والقبول والجرح والتعديل يحول دون بلوغ القصد .
وانما المهم في هذا الباب هو فهم الدنيا المذمومة التي على طالب الآخرة ان يتحرز منها . وما يعين الانسان على النجاة ، وسوف نبين ذلك ان شاء الله في بضعة فصول ، ونسال الله تعالى التوفيق في سلوك هذا الطريق .


فصل
في بيان كلام مولانا المجلسي ـ رحمة الله عليه ـ في حقيقة الدنيا المذمومة

يقول المحقق الخبير والمحدث المنقطع النظير مولانا المجلسي رحمة الله عليه :
(فاعلم ان الذي يظهر من مجموع الآيات والاخبار على ما نفهمه ان الدنيا المذمومة مركبة من مجموع امور تمنع الانسان من طاعة الله وحبه وتحصيل الآخرة ، فالدنيا والآخرة ، ضرتان متقابلتان فكلما يوجب رضى الله سبحانه وقربه فهو من الآخرة ، وان كان بحسب الظاهر من اعمال الدنيا كالتجارات والصناعات والزراعات التي يكون المقصود منها تحصيل المعيشة للعيال لامره تعالى به وصرفها في وجوه البر ، واعانة المحتاجين ، والصدقات ، وصون الوجه عن السؤال وامثال ذلك ، فان هذه كلها من اعمال الآخرة وان كان عامة الخلق يعدونها من الدنيا .
والرياضات المبتدعة والاعمال الريائية ، وان كان مع الترهب وانواع المشقة فانها من

الاربعون حديثاً 120

الدنيا لانها مما يعبد عن الله ولا يوجب القرب اليه كاعمال الكفار والمخالفين) انتهى كلامه (1) .
ونقل المجلسي ـ رحمه الله ـ عن احد المحققين :


«دنياك وآخرتك عبارة عن حالتين من احوال قلبك ، والقريب الداني منهما يسمى الدنيا وهي كل ما قبل الموت ، والمتراخي المتاخر يسمى آخرة ، وهي ما بعد الموت . فكل مالك فيه حظ وغرض ونصيب وشهوة ولذة في عاجل قبل الوفاء ، فهي الدنيا في حقك ...» (2) .
يقول الفقير الى الله : ان الدنيا مرة تطلق على نشاة الوجود النازلة والتي هي دار تصرم وتغير ومجاز ، والآخرة تطلق على الرجوع من هذه النشاة الى ملكوت الانسان وباطنه والتي هي دار بقاء وخلود وقرار . وهاتان النشأتان متحققتان لكل نفس من النفوس وشخص من الاشخاص . وعلى العموم ، لكل كائن مقام ظهور وملك وشهود . وتلك هي مرتبته النازلة الدنيوية . ومقام باطني ، وملكوت غيبي ، وهي النشاة الصاعدة الاخروية . وهذه النشاة النازلة الدنيوية وان كانت ناقصة بذاتها وانها آخر مراتب الوجود ، ولكن لما كانت مهد تربية النفوس القدسية ، ودار تحصيل المقامات العالية ، ومزرعة الآخرة ، فانها من احسن مشاهد الوجود واعز النشآت ، وهي المغنم الافضل عند الاولياء واهل سلوك الآخرة . ولولا هذه الامور الملكية والتغييرات والحركات الجوهرية ، الطبيعية والارادية ، ولولا ان يسلط الله تعالى على هذه النشاة التبدلات والتصرمات ، لما وصل احد من ذوي النفوس الناقصة الى حد كماله الموعود ودار قراره وثباته ، ولحصل النقص الكلي في الملك والملكوت .
ان ما ورد في القرآن والاحاديث عن ذم هذه الدنيا ، لا يكون عائدا في الحقيقة الى الدنيا من حيث نوعها او كثرتها ، بل يعود الى التوجه نحوها وانشداد القلب بها ومحبتها .
وعليه ، يتبين من ذلك ان امام الانسان دنياءان : دنيا ممدوحة ودنيا مذمومة . فالممدوح هو الحصول في هذه النشاة وهي دار التربية ودار التحصيل ومحل التجارة لنيل المقامات واكتساب الكمالات والاعداد لحياة ابدية سعيدة ، مما لا يمكن الحصول عليه دون الدخول الى هذه الدنيا ، كما جاء في خطبة لمولى الموحدين امير المؤمنين عليه السلام ردا على من ذم الدنيا :
«... ان الدنيا دار صدق لمن صدقها ، ودار عافية لمن فهم عنها ، ودار غنى لمن تزود منها ، ودار موعظة لمن اتعظ بها . مسجد احباء الله ، ومصلى ملائكة الله ، ومهبط وحي الله ، ومتجر اولياء الله . أكتسبوا فيها الرحمة ، وربحوا فيها الجنة ...»(3) .

(1) بحار الانوار ، المجلد ، 73 ، باب حب الدنيا ، ص 63 .
(2) بحار الانوار ، المجلد ، 73 ، باب حب الدنيا ، ص 25 .
(3) نهج البلاغة ، الحكمة رقم 131 (الشيخ صبحي الصالح) .
الاربعون حديثاً 121

وقال الله تعالى :«... ولنعم دار المتقين» (1) وهي دار الدنيا حسب ما ورد في تفسير العياشي عن الامام الباقر عليه السلام . وعليه ، فان عالم الملك ، وهو مظهر الجمال والجلال وحضرة الشهادة المطلقة ، ليس مذموما بهذا المعنى ، بل المذموم هو دنيا الانسان نفسه ، اي التوجه اليها والتعلق بها وحبها ، وهذا هو منشأ كل المفاسد والخطايا القلبية والظاهرية .
كما جاء في كتاب الكافي الشريف عن الامام الصادق عليه السلام : قال عليه السلام : «راس كل خطيئة حب الدنيا» (2) .
وعن ابي جعفر الباقر عليه السلام قال : «ما ذئبان ضاريان في غنم ليس لها راع هذا في اولها وهذا في آخرها باسرع فيها من حب المال والشرف في دين المؤمن» (3) .
فتعلق القلب بالدنيا وحبها ، هو الدنيا المذمومة . وكلما كان التعلق بها اشد كان الحجاب بين الانسان ودار الكرامة ، والحاجز بين القلب والحق سبحانه ، اسمك واغلظ . وان ما جاء في الاحاديث الشريفة من ان لله سبعين الف حجاب من النور والظلمة ، يمكن ان يكون المقصود من حجب الظلمة هذه الميول والتعلقات القلبية نحو الدنيا . فكما كان التعلق بالدنيا اقوى ، كان عدد الحجب اكثر ، وكلما كان الحب لها اشد ، كانت الحجب اغلظ واختراقها اصعب .

فصل
في بيان سبب ازدياد حب الدنيا

اعلم انه ولما كان الانسان وليده هذه الدنيا الطبيعية ، وهي امه ، وهو ابن هذا الماء والتراب ، فان حب الدنيا يكون مغروسا في قلبه منذ مطلع نشوئه ونموه ، وكلما كبر في العمر ، كبر هذا الحب في قلبه ونما . وبما وهبه الله من القوى الشهوانية ووسائل التلذذ للحفاظ على ذاته وعلى البشرية ، يزداد حبه ويقوى تعلقه ، ويظن ان الدنيا انما هي دار اللذات واشباع الرغبات ، ويرى في الموت قاطعا لتلك اللذات ، وحتى لو كان يعرف من ادلة الحكماء او اخبار الانبياء صلوات الله عليهم ان هناك عالما اخرويا فان قلبه يبقى غافلا عن كيفية عالم الآخرة وحالاته وكمالاته ولا يتقبله ، فضلا عن بلوغه مقام الاطمئنان . ولهذا يزداد حبه وتعلقه بهذه الدنيا .
وبما ان حب البقاء فطري في الانسان ، فهو يكره الزوال والفناء ، ويظن ان الموت ،

(1) سورة النمل ، آية : 30 .
(2) و (4) اصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الايمان والكفر ، باب حب الدنيا ، ح 1 و 3 .
(3) نهج البلاغة ـ الخطبة 5 ـ (الشيخ صبحي الصالح) .
الاربعون حديثاً 122

فناء . ولو انه آمن بعقله بان هذه الدنيا دار فناء ودار ممر ، وان العالم الآخر عالم بقاء سرمدي ، فما دام ايمانه العقلي هذا يكون موجودا ، ولم يدخل الايمان في قلبه ، بل ولم يحصل الاطمئنان الذي هو المرتبة الكاملة للايمان القلبي . فهو لا يزال يميل فطرة ، الى الدنيا والبقاء فيها كما طلب ابراهيم خليل الرحمن من الحق المتعال هذا الاطمئنان ، فانعم به عليه . اذا ، اما ان القلوب لا تؤمن بالآخرة ، مثل قلوبنا ، وان كنا نصدق بها تصديقا عقليا ، واما انها لا اطمئنان فيها ، فيكون حب البقاء في هذا العالم ، وكراهة الموت والخروج من هذا العالم في القلب موجودا . ولو ادركت القلوب ان هذه الدنيا هي ادنى العوالم ، وانها دار الفناء والزوال والتصرم والتغير ، وانها دار الهلاك ودار النقص ، وان العوالم الاخرى التي تكون بعد الموت عوالم باقية وابدية ، وانها دار كمال وثبات وحياة وبهجة وسرور ، لحصل فيها بالفطرة حب تلك العوالم ، ولنفرت من هذه الدنيا . ولو ارتفع الانسان عن هذا العالم ووصل الى مقام الشهادة والوجدان وراى الصورة الباطنية لهذا العالم وللتعلق به ، والصورة الباطنية لذلك العالم ـ عالم الآخرة ـ والتعلق به ، لاصبح هذا العالم ثقيلا عليه ، وغصة في حلقه ، ولنفر منه ، واشتاق للتخلص من هذا السجن المظلم ومن سلسلة قيود الزمان والتغير . كما جاء في كثير من كلام الاولياء .
يقول الامام علي عليه السلام : «والله لابن ابي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي امه» (1) .
ذلك لانه راى بعين الولاية حقيقة هذه الدنيا ، فلا يؤثر على مجاورة رحمة الحق المتعال شيء ابدا . ولولا المصالح لما ثبتت نفوسهم الطاهرة ، لحظة واحدة في سجن الطبيعة المظلمة . ان الوقوع في الكثرة ، ونشاة الظهور والاشتغال بالتدبرات المُلكية بل التاييدات الملكوتية ، يعد كل ذلك للمحبين والمنجذبين ، الم وعذاب ليس بمقدورنا ان نتصورهما .
ان اكثر انين الاولياء انما هو من الم فراق المحبوب والبعد عن كرامته ، كما اشاروا الى ذلك بانفسهم في مناجاتهم ، على الرغم من انهم لا يحجبهم حجاب مُلكي او ملكوتي ، وقد اجتازوا جحيم الطبيعة الذي كان خامدا غير مستعر ، وقد خلوا من التعلق بالدنيا وتطهرت قلوبهم من الخطيئة الطبيعية . الا ان الوقوع في عالم الطبيعة هو بذاته تلذذ طبيعي وقسري ، مما كان يحصل لهم ، ولو باقل مقدار ، فكان ذلك من باب الحجاب . وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
«ليران على قلبي واني لاستغفر الله في كل يوم سبعين مرة» (2) .

(1) نهج البلاغة ـ الخطبة 5 ـ (الشيخ صبحي الصالح) .
(2) نهاية ابن اثير ، ص 180 ، ج 3 . الجامع الصغير ، ج 1 ص 103 . صحيح مسلم ، ج 8 ص 72 .
الاربعون حديثاً 123

ولعل خطيئة آدم ابي البشر نجمت عن هذا التوجه القسري نحو تدبير المُلك والحاجة الاضطرارية الى القمح وسائر الامور الطبيعية ، وهذه خطيئة بالنسبة الى اولياء الله والمنجذبين اليه . ولو بقي آدم عليه السلام في ذلك الانجذاب الالهي ، ولم يدخل في قضية المُلك ، لما حدث كل هذا الشقاء والعناء في الدنيا والآخرة .

فصل
في بيان تأثير الحظوظ الدنيوية في القلب ومفاسده

اعلم ان ما تناله النفس من حظ في هذه الدنيا ، يترك اثرا في القلب ، وهو من تاثير الملك والطبيعة ، وهو السبب في تعلقه بالدنيا . وكلما ازداد التلذذ بالدنيا ، اشتد تاثر القلب وتعلقه بها وحبه لها ،الى ان يتجه القلب كليا نحو الدنيا وزخارفها ، وهذا يبعث على الكثير من المفاسد . ان جميع خطايا الانسان وابتلاءه بالمعاصي والسيئات سببها هو هذا الحب للدنيا والتعلق بها ، كما ورد في الحديث الذي اوردناه من كتاب اصول الكافي قبل قليل .
وان من المفاسد الكبيرة لحب الدنيا ـ كما كان يقول شيخنا العارف (روحي فداه) ـ هو انه اذا انطبع حب الدنيا على صفحة قلب الانسان ، واشتد الانس بها ، انكشف له عند الموت ان الحق المتعال يفصل بينه وبين محبوبه ، ويفرق بينه وبين مطلوبه ، فيغادر الدنيا ساخطا مغتاظا على ولي نعمته . ان هذا القول القاصم للظهر يجب ان يوقظ الانسان ايما ايقاظ للحفاظ على قلبه . فالعياذ بالله من انسان يسخط على ولي نعمته ، مالك الملوك الحق ، اذ ليس احد يعرف صورة هذا السخط والعداء ، غير الله تعالى .
ويقول ايضا شيخنا المعظم ـ دام ظله ـ نقلا عن ابيه المعظم ، انه كان في اواخر عمره خائفا بسبب المحبة التي كان يكنها لاحد اولاده ، ولكنه بعد الانهماك بالرياضات النفسية تخلص من ذلك الخوف ، وانتقل الى دار السرور مسرورا ، رضوان الله عليه .
جاء في «الكافي» باسناده عن طلحة بن زيد ، عن ابي عبد الله عليه السلام قال :
«مثل الدنيا كمثل ماء البحر كلما شرب منه العطشان ازداد عطشا حتى يقتله» (1) .
ان حب الدنيا ينتهي بالانسان الى الهلاك الابدي ، وهو اصل البلايا والسيئات الباطنية والظاهرية وقد نقل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله : «ان الدرهم والدينار اهلكا من كان قبلكم ، وهما مهلكاكم» .
وعلى فرض ان الانسان لم يرتكب معاصي اخرى ـ على الرغم من ان هذا الفرض

(1) اصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الايمان والكفر ، باب ذم الدنيا ، ح 54 .
الاربعون حديثاً 124

بعيد ، او من المستحيل عادة ـ فان التعلق بالدنيا نفسه معصية ، بل ان مقياس طول بقاء الانسان في عالم القبر والبرزخ هو امثال هذه التعلقات . فكلما كان التعلق بالدنيا اقل كان البرزخ وقبر الانسان اكثر نورا واوسع ، ومكثه فيه اقصر . لذلك فقد ورد في بعض الروايات : ان عالم القبر لاولياء الله لا يزيد عن ثلاثة ايام ، وانما كان هذا لاجل التعلق الطبيعي والعلاقة الجِبِلّية لاولياء الله تجاه هذا العالم .
وان من مفاسد حب الدنيا والتعلق بها هو انه يجعل الانسان يخاف الموت . وهذا الخوف الناشئ من حب الدنيا ، والتعلق القلبي بها المذموم جدا . غير الخوف من المرجع ـ مآل الانسان بعد الموت ـ المعدود من صفات المؤمنين . ان اهم صعوبة في الموت هي ضغوطات لرفع هذه العلائق ، والخوف من الموت .
يقول المحقق والمدقق الاسلامي البارع ، السيد العظيم الشان ، الداماد ، كرم الله وجهه ، في كتابه «القبسات» الذي يعد من الكتب النادرة : «لا يخيفنّك الموت ، فان مرارته في خوفه» (1) .
ومن المفاسد الكبيرة لحب الدنيا انه يمنع الانسان من الرياضات الشرعية والعبادات والمناسك ، ويقوي جانب الطبيعة في الانسان بحيث يجعلها تعصي الروح وتتمرد عليها ويوهن عزم الانسان وارادته ، مع ان من اكبر اسرار العبادات والرياضات الشرعية هو ان تجعل الجسم وقواه الطبيعية تابعة ومنقادة للروح بحيث يكون للارادة دورا مؤثرا في الجسم ويخضع الجسم لاوامر الارادة فيعمل ما تشاء ، ويمتنع عما تشاء ، ويصبح مُلك الجسم وقواه الظاهرة مقهورا ومسخرا للملكوت بحيث انه يقوم بما يريد من دون مشقة ولا عناء .
ان من الفضائل والاسرار الشاقة والصعبة للعبادات تحقق هذا الهدف ـ تسخير مُلك الجسم للملكوت ـ اكثر حيث يصير بذلك الانسان ذا عزم ، ويتغلب على الطبيعة والملك . فاذا اكتملت الارادة وقوي العزم واشتد ، اصبح كمثل الجسم وقواه الظاهرة والباطنة مثل ملائكة الله الذين لا يعصون الله وانما يطيعونه في كل ما يامرهم به وينهاهم عنه ، من دون ان يعانوا في ذلك عنتا ولا مشقة .
كذلك اذا اصبحت قوى الانسان مسخرة للروح ، زال كل تكلف وتعب وتحول الى الراحة واليسر ، واستسلمت اقاليم الملك السبعة للملكوت واصبحت جميع القوى عمالا له .
فاعلم ، يا عزيزي ، ان العزم والارادة القوية لذلك العالم ضروريان وذات فعالية . ان البلوغ لاحد مراتب الجنة والذي يُعد من افضلها هو العزم والارادة . فالانسان الذي ليست له

(1) «قبسات» ميرداماد ، ص 72 .
الاربعون حديثاً 125

ارادة نافذة ولا عزم قوي لا ينال تلك الجنة ولا ذلك المقام الرفيع .
جاء في الحديث ، ان اهل الجنة عندما يستقرون فيها ، تنزل عليهم رسالة من ساحة القدس الالهي جلت عظمته بهذا المضمون : «هذه رسالة من الحي الثابت الخالد الى الحي الثابت الخالد . انا الذي اقول للشيء : كن ، فيكون . وقد جعلتك اليوم ايضا في مستوى اذا امرت الشيء : وقلت له كن ، فيكون» .
فلاحظ اي مقام وسلطان هذا ؟ واية قدرة الهية هذه التي تجعل ارادة الانسان مظهرا لارادة الله ! فيلبس العدم لباس الوجود ؟ هذه القدرة وهذا النفوذ هما افضل وارفع من كل النعم الجسمانية . وبديهي ، ان تلك الرسالة لم تكتب عبثا وجزافا . ان من كانت ارادته تابعة للشهوات الحيواينة ، وعزيمته ميتة خامدة ، لا يصل الى هذا المقام . ان أعمال الله منزهة عن العبث فكما ان هذا العالم قائم على النظام والترتيب ، على الاسباب والمسببات ، كذلك هي الحال في العالم الآخر ، بل ان العالم الآخر أليق بالنظام والاسباب والمسببات ، وان جميع نظام عالم الآخرة ينبعث من المناسبات والاسباب ، وان نفوذ الارادة يجب ان يتهيأ من هذا العالم ، فان الدنيا مزرعة الآخرة وان هذا العالم مادة لكل نعم الجنة ونقم النار .
اذا ، كل عبادة من العبادات وكل منسك من المناسك الشرعية ، فضلا عن ان لها صورة اخروية وملكوتية ، وبها يتم عمارة الجنة الجسمانية وقصورها ، وتهيئة الغلمان والحور ـ طبقا للبراهين والاحاديث ـ فان لكل عبادة من العبادات ايضا اثرا يحصل في النفس ، مما يقوي الارادة شيئا فشيئا ويصل بقدرتها الى حد الكمال . لذلك كلما كانت العبادات اشق كانت ارغب :«افضـل الاعمـال احمزها»(1) . فالتنازل عن النوم اللذيذ في ليل الشتاء البارد ، والانصراف الى عبادة الحق المتعال ، يزيد من قوة الروح وتغلبها على قوى الجسم ، ويقوي الارادة . واذا كان هذا في اول الأمر على شيء من المشقة والعناء ، فان ذلك يخف تدريجا كلما واصل العبادة ، وازدادت طاعة الجسم للنفس . اذ اننا نلاحظ ان اهل العبادة يقومون بالاعمال دون مشقة وتكلف . اما نحن فشعورنا بالكسل وبالمشقة ناشئ من اننا لا نبدا بالعمل . فلو اننا بدانا العمل وكررناه عدة مرات ، لتبدلت مشقته الى راحة ، بل ان اهلها يلتذون بها اكثر مما نلتذ نحن بمشتهيات الدنيا . اذا ، فالامر يصبح عاديا بالتكرار . والخير عادة .
ولهذه العبادة ثمرات ، منها : ان صورة العمل نفسه تصبح على قدر من الجمال في ذلك العالم لا يكون له نظير في هذا العالم ، ونكون عاجزين عن تصور مثلها .
ومنها : ان النفس تصبح ذات عزم واقتدار ، فتكون لها نتائج كثيرة ، وقد سمعت واحدة منها .

(1) نهاية ابن الاثير ، المجلد الاول ، ص 440 ، مادة «همز» اهمزها اي اقواها واشدها .
الاربعون حديثاً 126

ومنها : ايضا انها تجعل الانسان يانس بالذكر والفكر والعبادة ، فان المجاز قد يقرب الانسان الى الحقيقة ، فيتوجه القلب الى مالك الملوك ، وتحصل المحبة لجمال المحبوب الحقيقي ، ويخف تعلق القلب وحبه للدنيا والآخرة . اذ لو حصلت الجاذبية الربوبية والحال الخاصة ، لامكن ادراك حقيقة العبادة والسر الحقيقي للتذكر والتفكر ، ولسقط كلا العالمين ـ الدنيا والآخرة ـ من نظره ، ولأذهب تجلي الحبيب غبار الرؤية الاثنينية من القلب ولا يعرف احد سوى الله الكرامة المعطاة لمثل هذا العبد ؟ وكما يقوي عزم الانسان بالرياضات الشرعية والعبادات والمناسك وترك الرغبات ويصبح الانسان ذا عزم وارادة ، فكذلك في المعاصي تتغلب الطبيعة لدى الانسان وتضعف ارادته وعزمه . كما سبق ذكر شيء منه .
فصل


لا يخفى على كل ذي وجدان ان الانسان ، بحسب فطرته الاصلية وجبلته الذاتية ، يعشق الكمال التام المطلق ، ويتوجه قلبه شطر الجميل على الاطلاق والكامل من جميع الوجوه . وهذا من فطرة الله التي فطر الناس عليها وبهذا الحب للكمال ، تتوفر ارادة الملك والملكوت ، وتتحقق اسباب وصول عشاق الجمال المطلق الى معشوقهم .
غير ان كل امرئ يرى الكمال في شيء ما ، حسب حالة ومقامه ، فيتوجه قلبه اليه . فاهل الآخرة يرون الكمال في مقامات الآخرة ودرجاتها ، فقلوبهم متوجهة اليها . واهل الله يرون الكمال في جمال الحق ، والجمال في كماله سبحانه يقولون : «... وجهت وجهي للذي فطر السماوات والارض ...» (1) ويقولون : «لي مع الله حال»(2) وفيهم حب وصاله وعشق جماله . واهل الدنيا عندما رأوا ان الكمال في لذائذها ، وتبين لاعينهم جمالها ، اتجهوا فطريا نحوها . ولكن على الرغم من كل ذلك ، فانه لما كان التوجه الفطري والعشق الذاتي قد تعلقا بالكمال المطلق ، كان ما عدا ذلك من التعلقات عرضيا ومن باب الخطأ في التطبيق . ان الانسان مهما كثر ملكه وملكوته ، ومهما نال من الكمالات النفسية او الكنوز الدنيوية او الجاه والسلطان ، ازداد اشتياقه شدة ، ونار عشقه التهابا . فصاحب الشهوة ، كلما ازدادت امامه المشتهيات ، ازداد تعلق قلبه بمشتهيات اخرى ليست في متناول يده ، واشتدت نار شوقه اليها . كذلك النفس التي تطلب الرئاسة ، فهي عندما تبسط لواء قدرتها على قطر من الاقطار ، تتوجه بنظرة طامعة الى قطر آخر ، بل لو انها سيطرت على الكرة الارضية برمتها ، لرغبت في التحليق نحو الكرات الاخرى للاستيلاء عليها . الا ان هذه النفس المسكينة لا تدري بان الفطرة انما تتطلع الى شيء آخر . ان

(1) سورة الانعام ، آية : 79 .
(2) اشارة الى الحديث المشهور المنقول عن رسول الله صلى الله عليه وآله (لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل) راجع كتاب احاديث المنوي .
الاربعون حديثاً

العشق الفطري الجبلي يتجه الى المحبوب المطلق ، ان جميع الحركات الجوهرية والطبيعية والارادية ، وجميع التوجهات القلبية والميول النفسية تتوجه نحو جمال الجميل الاعلى على الاطلاق ، ولكنهم لا يعلمون ، فينحرفون بهذا الحب والعشق والاشتياق ـ التي هي براق المعراج واجنحة الوصول ـ الى وجهة هي خلاف وجهتها ، فيحرروها ويقيدوها بلا فائدة .
لقد بعدنا عن القصد ، وهو انه لما كان الانسان متوجها قلبيا الى الكمال المطلق ، فانه مهما جمع من زخرف الحياة فان قلبه يزداد تعلقا بها . فاذا اعتقد ان الدنيا وزخارفها هي الكمال ازداد ولعه بها ، واشتدت حاجته اليها ، وتجلى امام بصره فقره اليها . بعكس اهل الآخرة الذين اشاحوا بوجوههم عن الدنيا ، فكلما ازداد توجههم نحو الآخرة ، قلّ التفاتهم واهتمامهم بهذه الدنيا ، وتلاشت حاجتهم اليها ، وظهر في قلوبهم الغنى ، وزهدوا في الدنيا وزخارفها . كما ان اهل الله مستغنون عن كلا العالمين (الدنيا والآخرة) ، متحررون من كلتا النشأتين وكل حاجتهم نحو الغنى المطلق ، متجليا الغنى بالذات في قلوبهم ، فهنيئا لهم .
اذا ، مضمون الحديث الشريف يمكن ان يكون اشارة لما مر شرحه من قوله : «من اصبح وامسى والدنيا اكبر همه جعل الله الفقر بين عينيه ، وشتت امره ، ولم ينل من الدنيا الا ما قسم له ، ومن اصبح وامسى والآخرة اكبر همه جعل الله الغنى في قلبه وجمع له امره» .
ومن المعلوم ، ان من يتجه قلبه الى الى الآخرة ، تغدو امور الدنيا وصعابها في نظره حقيرة سهلة ، ويجد هذه الدنيا متصرمة ، ومتغيرة ، ويراها معبرا ومتجرا ودارا للابتلاء والتربية ، ولا يهتم بما فيها من الم وسرور ، فتخف حاجاته ويقل افتقاره الى امور الدنيا والى الناس ، بل يصل الى حيث لا تبقى له حاجة ، فيجتمع له امره ، وتنتظم اعماله ، ويفوز بالغنى الذاتي والقلبي .
اذا ، كلما نظرتَ الى هذه الدنيا بعين المحبة والتعظيم ، وتعلق قلبك بها ، ازدادت حاجتك بحسب درجات حبك لها ، وبان الفقر في باطنك وعلى ظاهرك ، وتشتتت امورك واضطربت ، وتزلزل قلبك ، واستولى عليه الخوف والهم ، ولا تجري امورك كما تشتهي ، وتكثر تمنياتك ويزداد جشعك ، ويغلبك الغم والتحسر ، ويتمكن اليأس من قلبك والحيرة ، كما وردت الاشارة الى بعض ذلك في الحديث الشريف . فقد روي في «الكافي» باسناده عن حفص بن قرط ، عن ابي عبد الله الامام جعفر الصادق عليه السلام انه قال :
«من كثر اشتباكه بالدنيا كان اشد لحسرته عند فراقها» (1) .
وعن ابي يعفور قال ، سمعت ابا عبد الله (الصادق) عليه السلام يقول :
«من تعلق قلبه بالدنيا تعلق قلبه بثلاث خصال هم لا يفنى وامل لا يدرك ورجاء لا ينال» (2) .

(1) و (2) اصول الكافي ، كتاب الايمان والكفر ، باب حب الدنيا ، ح 16 و 17 .
الاربعون حديثاً 128

اما اهل الآخرة ، فانهم كلما ازدادوا قربا من دار كرم الله ، ازدادت قلوبهم سرورا واطمئنانا ، وازداد انصرافهم عن الدنيا وما فيها . ولولا ان الله قد عين لهم آجالهم لما مكثوا في هذه الدنيا لحظة واحدة . فهم ، كما يقول امير المؤمنين ، علي بن ابي طالب عليه السلام : «نزلت انفسه في البلاء ، كالتي نزلت في الرخاء ، ولولا الاجل الذي كتب الله عليهم ، لم تستقر ارواحهم في اجسادهم طرفة عين شوقا الى الثواب» (1) . جعلنا الله واياكم منهم ، ان شاء الله .
اذا ، يا عزيزي ، بعد ان عرفت مفاسد هذا التعلق والحب ، وادركت ان ذلك يفضي بالانسان الى الهلاك ، ويجرده من الايمان ، ويجعل دنياه وآخرته متشابكتين مضطربتين ، فشمر عن ساعد الجد ، وقلل حسب طاقتك ، التعلق بهذه الدنيا ، واقتلع جذور حبها من نفسك ، واحتقر هذه الايام القليلة التي تقضيها في الحياة ، وازهد في خيراتها المشوبة بالالم والعذاب والنقمة ، واطلب من الله ان يعنيك عن الاخلاص من هذا العذاب وهذه المحنة ، ويجعل قلبك يانس بدار كرمه تعالى : «وما عند الله خير وابقى» .

(1) نهج البلاغة ـ الخطبة 193 ـ (الشيخ صبحي الصالح) .
الاربعون حديثاً 129

الحديث السابع

الغضب


الاربعون حديثاً 130

بالسند المتصل الى محمد بن يعقوب عن علي بن ابراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن داود بن فرقد قال : قال ابو عبد الله عليه السلام : «الغضب مفتاح كل شر» (1).

(1) اصول الكافي ، المجل الثاني ، كتاب الايمان والكفر ، باب الغضب ، ح 3 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي