الاربعون حديثاً 48

القلب مسلما ، فلن يبقى عنده بعدها باس او خوف من الميت .
اذا ؛ اصبح معلوما ان التسليم ـ هو من حظ القلب ـ غير العلم وهو من حظ العقل .
من الممكن ان يبرهن انسان بالدليل العقلي ، على وجود الخالق تعالى والتوحيد والمعاد وباقي العقائد الحقة ، ولكن هذه العقائد لا تسمى ايمانا ، ولا تجعل الانسان مؤمنا ، وانما هو من جملة الكفار او المنافقين او المشركين . فاليوم العيون مغشّاة ، والبصيرة الملكوتية غير موجودة ، والعين الملكية لا تُدرك ، ولكن عند كشف السرائر ، وظهور السلطة الالهية الحقة ، وخراب الطبيعة وانجلاء الحقيقة ، سيعرف ويلتفت بان الكثيرين لم يكونوا مؤمنين بالله حقا ، وان حكم العقل لم يكن مرتبطا بالايمان ، فما لم تكتب عبارة «لا اله الا الله» بقلم العقل على لوح القلب الصافي لن يكون الانسان مؤمنا بوحدانية الله .
وعندما ترد هذه العبارة النورانية الالهية على القلب ، تصبح سلطة القلب لذات الحق تعالى ، فلا يعرف الانسان بعدها شخصا آخر مؤثرا في مملكة الحق ، ولا يتوقع من شخص آخر جاها ولا جلالا ، ولا يبحث عن المنزلة والشهرة عند الآخرين .
ولا يصبح القلب مرائيا ولا مخادعا حينئذ . واذا رايتم رياء في قلوبكم ، فاعلموا ان قلوبكم لم تسلم للعقل ، وان الايمان لم يقذف نوره فيها ، وانكم تعدون شخصا آخر الها ومؤثرا في هذا العالم ، لا الحق تعالى ، وانكم في زمرة المنافقين او المشركين اوالكفار .

فصل
في وخامة امر الرياء

تامل ايها الشخص المرائي ... يا من اودعت العقائد الحقة والمعارف الالهية بيد عدو الله ، وهو الشيطان ، واعطيت مختصات الحق تعالى للآخرين ، وبدلت تلك الانوار التي تضيء الروح والقلب وهي راسمال النجاة والسعادة الابدية ومنبع اللقاء الالهي وبذرة القرب من المحبوب ابدلتها بظلمات موحشة وشقاء ابدي وجعلتها راسمال البُعد والابتعاد عن ساحة المحبوب المقدسة ، والابتعاد عن لقاء الله تعالى .
تهيا ، اليها المرائي ، للظلمات التي لا نور بعدها ، وللشدائد التي لا فرج لها ، وللامراض التي لا يرجى شفاؤها ، وللموت الذي لا حياة معه ، وللنار التي تخرج من باطن القلب فتحرق ملكوت النفس وملك البدن حرقا لم يخطر على قلبي وقلبك ، والتي يخبرنا عنها الله تعالى في كتابه المنزل في الآية الشريفة : «نار الله الموقدة * التي تطلع على الافئدة» (1) . فتحدثت الآية

(1) سورة الهمزة ، آية : 6 ـ 7 .
الاربعون حديثاً 49

المباركة عن نار الله ، هذه النار التي تتسلط على القلوب فتحرقها ، وليست هناك نار تحرق القلب سوى النار الالهية ، فاذا فقدت فطرة التوحيد ـ وهي فطرة الله ـ وحل محلها الشرك والكفر ، حينئذ لن تكون شفاعة الشافعين من نصيب الانسان بل يخلد الانسان في العذاب ، وما ادراك ما العذاب ؟ انه العذاب الذي ينبعث عن الغضب الالهي .
اذا ايها العزيز ... من اجل خيال باطل ومحبوبية بسيطة في اعين العباد الضعاف ، ومن اجل جذب قلوب الناس المساكين ، لا تعرض نفسك للغضب الالهي ، ولا تبع ذلك الحب الالهي وتلك الكرامات غير المحدودة ، وتلك الالطاف والمراحم الربانية ، لا تبعها بمحبة بسيطة عند مخلوق ليس له اي اثر ، ولا تكسب منه اية ثمرة سوى الندامة والحسرة ، عندما تقصر يداك عن هذا العالم ـ وهو عالم الكسب ـ ، وعندما ينقطع عملك ، وليس للندم حينئذ تنيجة ولا للانابة من فائدة .

فصل
تنبيه علمي لاستئصال جذور الرياء

نذكر هنا امرا نأمل ان يكون مؤثرا في علاج هذا المرض القلبي سواء في هذا المقام او المقامات الاخرى ، وهذا الامر مطابق للبرهان ـ الدليل ـ والمكاشفة والعيان واخبار المعصومين وكتاب الله ، وعقلكم يصدقه ايضا .
وهو انه نتيجة لاحاطة قدرة الله تبارك وتعالى بجميع الموجودات ، وبسطة سلطانه على جميع الكائنات ، واحاطة قيمومته بجميع الممكنات ، فان قلوب العباد جميعا هي تحت تصرفه وبيد قدرته وفي قبضة سلطانه ، ولا يتصرف ـ ولن يتصرف ـ احد في قلوب العباد بدون اذنه القيومي واجازته التكوينية ، وحتى اصحاب القلوب انفسهم ليست لهم القدرة على التصرف في قلوبهم بدون اذن من الله تعالى . وبهذا المعنى وردت كلمات اشارة وكناية وصراحة في القرآن وفي اخبار اهل البيت (عليهم السلام) .
اذا ، فالله تعالى هو مالك القلب والمتصرف فيه وانت العبد الضعيف العاجز لا تستطيع ان تتصرف بقلبك بدون اذنه ، بل ان ارادته قاهرة لإرادتك ولإرداة جميع الموجودات . اذن فرياؤك وتملقك ، اذا كانا لاجل جذب قلوب العباد ، ولفت نظرهم ، ومن اجل الحصول على المنزلة والتقدير في القلوب والاشتهار بالصلاح ، فان ذلك خارج كلية عن تصرفك ، وهو تحت تصرف الله ، فاله القلوب وصاحبها يوجه القلوب نحو من يشاء بل من الممكن ان تحصل على نتيجة عكسية . وقد راينا وسمعنا ان اشخاصا متملقين ومنافقين ممن لم تكن لهم قلوب طاهرة ، قد افتضحوا وبان زيفهم ففرض عليهم ما ارادوا الحصول عليه من النتائج في نهاية

الاربعون حديثاً 50

الامر . لقد وردت الاشارة الى هذا المعنى في الحديث الشريف في الكافي : «عن جراح المدائني ، عن ابي عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل : «فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه احدا» (1). قال عليه السلام : الرجل يعمل شيئا من الثواب لا يطلب به وجه الله ، انما يطلب تزكية الناس يشتهى ان يسمع به الناس فهذا الذي اشرك بعبادة ربه . ثم قال : ما من عبد اسر خيرا فذهبت الايام ابدا حتى يظهر الله له خيرا ، وما من عبد اسر شرا فذهبت الايام ابدا حتى يظهر الله له شرا» (2) .
اذا ايها العزيز ، اطلب السمعة والذكر الحسن من الله ، التمس قلوب الناس من مالك القلوب ، اعمل انت لله وحده فستجد ان الله تعالى ـ فضلا عن الكرامات الاخروية ونعم ذلك العالم ـ سيتفضل عليك في هذا العالم نفسه بكرامات عديدة ، فيجعلك محبوبا ، ويعظم مكانتك في القلوب ، ويجعلك مرفوع الراس ـ وجيها ـ في كلتا الدارين . ولكن اذا استطعت فخلص قلبك بصورة كاملة بالمجاهدة والمشقة ، من هذا الحب ايضا ، وطهر باطنك ، كي يكون العمل خالصا من هذه الجهة ، ويتوجه القلب الى الله فقط ، وتنصع الروح ، وتزول ادران النفس . فاية فائدة تجني من حب الناس الضعاف لك ، او بغضهم ، او للشهرة والصيت عند العباد وهم لا يملكون شيئا من دون الله تعالى ؟ وحتى لو كانت له فائدة ـ على سبيل الفرض ـ فانما هي فائدة تافهة ولايام معدودات ، ومن الممكن ان يجعل هذا الحب عاقبة عمل الانسان الى الرياء ، وان يجعل الانسان ـ لا سمح الله ـ مشركا ومنافقا وكافرا ، وانه اذا لم يفتضح في هذا العالم ، فسيفتضح في ذلك العالم في محضر العدل الرباني ، عند عباد الله الصالحين وانبيائه العظام وملائكته المقربين ، ويهان ويصبح مسكينا . انها فضيحة ذلك اليوم ، وما ادراك ما تلك الفضيحة ، والله يعلم اية ظلمات تلي تلك المهانة في ذلك المحضر ! ان ذلك اليوم ـ كما يقول الله تعالى في كتابه ـ يتمنى الكافر فيه قائلا : «يا ليتني كنت ترابا» (3) ، ولكن لا جدوى لهذا التمني .
ايها المسكين ، انك ولاجل محبة بسيطة ، جزئية ، ومنزلة عديمة الفائدة بين العباد ، تجاوزت تلك الكرامات وفقدت رضا الله ، وعرضت نفسك لغضب الله .
لقد استبدلت الاعمال التي كان ينبغي ان تهيئ بها دار الكرامة في الآخرة ، وتوفر الحياة السعيدة الدائمة وتصل بواسطتها الى اعلى عليين في الجنان ، استبدلها بظلمات الشرك والنفاق واعددت لنفسك الحسرة والندامة والعذاب الشديد ، وجعلت نفسك من اهل «سجّين» ،

(1) سورة الكهف ، آية : 111 .
(2) اصول الكافي ـ المجلد الثاني ـ باب الرياء ـ ح 4 .
(3) سورة النبا ، آية : 40 .
الاربعون حديثاً 51

بالصورة التي وردت في الحديث الشريف في الكافي عن الامام الصادق عليه السلام : «قال : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ان الملك ليصعد بعمل العبد مبتهجا به فاذا صعد بحسناته ، يقول الله عز وجل ، اجعلوها في سجين ، انه ليس اياي اراد بها» (1) .
انا وانت في هذا الحال ، لا نستطيع ان نتصور «سجين» ولا ان نفهم ديوان عمل «الفجار» ، ولا ان نرى صور هذه الاعمال وهي في سجين ... وسنرى حقيقة الامر في احد الايام ولكن عندها تقصر ايدينا عن العمل ولا سبيل حينئذ للنجاة .
ايها العزيز ... ! استيقظ وابعد عنك الغفلة والسكرة وزن اعمالك بميزان العقل قبل ان توزن في ذلك العالم ، وحاسب نفسك قبل ان تُحاسب ، واجلُ مرآة القلب من الشرك والنفاق والتلون ، ولا تدع صدا الشرك والكفر يحيط به بمستوى لا يمكن جلاؤه حتى بنيران ذلك العالم ، لا تدع نور الفطرة يتبدل بظلمة الكفر ، لا تدع هذه الآية «فطرة الله التي فطر الناس عليها ...» (2) ان تضيع لا تخن هذه الامانة الالهية بهذا النحو ، نظف مرآة قلبك لكي يتجلى فيها نور جمال الحق فيغنيك عن العالم وكل ما فيه . ولكي تتوهج نار الحب ـ العشق ـ الالهي في قلبك ، فتحرق الانواع الاخرى من الحب ، ولا تستبدل حينذاك جميع هذا العالم بلحظة واحدة من الحب الالهي ، ولكي تحصل على لذة في مناجاة الله وذكره ، تعتبر غيرها من جميع اللذات الحيوانية ، لعبا ولهوا .
واذا لم تكن من اهل هذه العوالم ، وترى هذه المعاني غريبة وعجيبة لديك فاياك ان تضيع تلك النعم الالهية في العالم الآخر التي ذكرت في القرآن المجيد واخبار المعصومين عليهم السلام وتخسرها من اجل جذب قلوب المخلوقين ...
لا تضيّع كل هذا الثواب من اجل شهرة وهمية في ايام معدودات ، لا تحرم نفسك من كل هذه الكرامات ، لا تبع السعادة الابدية بالشقاء الدائم .

فصل
في الدعوة الى الاخلاص

اعلم ان مالك الملوك الحقيقي وولي النعمة الواقعي ، الذي تفضل علينا بكل هذه الكرامات ، وهيا لنا كل هذه النعم ، قبل المجيء الى هذا العالم ، ومن الغذاء الطيب ذي المواد النافعة المناسبة لمعدتنا الضعيفة ، ومن المربي الخادم بلا منة بل بفعل الحب الفطري الذاتي .

(1) اصول الكافي ـ المجلد الثاني ـ كتاب الايمان والكفر ـ باب الرياء ـ ح 7 .
(2) سورة الروم ، آية : 30 .
الاربعون حديثاً 52

وهيأ لنا البيئة والهواء المناسبين وباقي النعم العظيمة الظاهرة والباطنة . كما اعد لنا الكثير في العالم الآخر وفي البرزخ قبل ذهابنا الى هناك ، قد طلب منا هذا المتفضل قائلا :
«اخلص قلبك لي او لاجل كرامتي ، كي تحصل انت على النتيجة ، وتحصل انت على الفائدة» ومع ذلك لا يلقى منا اذنا صاغية بل يرى التمرد عليه والسير على خلاف رضاه ، فاي ظلم عظيم نكون قد اجترحناه بذلك ؟! واي مالك الملوك نحارب ؟! ونتيجة يذلك كله تكون وبالا علينا نحن ، اما الله تعالى فلا يصاب سلطانه بضرر ولا ينقص من ملكه شيء ولا نخرج من سلطنته وسلطته ، حتى اذا كنا مشركين لانه الحقنا الضرر بانفسنا ، «... فان الله غني عن العالمين» (1) فهو غني عن عبادتنا واخلاصنا وعبوديتنا ، ولا يؤثر تمردنا وشركنا وابتعادنا عنه شيئا في مملكته ، وحيث انه ارحم الراحمين فقد اقتضت رحمته الواسعة وحكمته البالغة ان يعرض لنا طريق الهداية وسبيل الخير والشر والحسن والقبح ويدلنا على زلات طريق الانسانية ، ومزالق طريق السعادة ، ولله تعالى في هذه الهداية والارشاد بل في هذه العبادات والاخلاص والعبودية ، له علينا منن عظيمة وجسيمة بحيث لا يمكن ان نفهمها ما لم تنفتح عين البصيرة والبرزخية التي ترى الواقع ، ومادمنا في هذا العالم الضيق والمظلم ، وفي ظلام الطبيعة ، ومادمنا مقيدين بسلاسل الزمان ، والسجن المظلم للمكان الممتد ، فانا لا ندرك منن الله العظيمة علينا ، ونتصور ان نعم الله علينا تتلخص في هذا الاخلاص وهذه العبادة ، وفي ذلك الارشاد وتلك الهداية فحسب .
لا تتوهم ابدا ان لنا المنة على الانبياء العظام والاولياء الكرام او على علماء الامة وهم الادلاء الى سعادتنا ونجاتنا ، والذين انقذونا من الجهل والظلمة والشقاء ، ودعونا الى عالم النور والسرور والبهجة والعظمة والذين تحملوا ولا زالوا يتحملون كل هذه المشاق والمصاعب من اجل تربيتنا وانقاذنا من تلك الظلمات التي تلازم الاعتقادات الباطلة ، والجهل المركب بكل اشكاله ، ومن انواع الضغوطات والعذاب الذي هو صورة الملكات والاخلاق الرذيلة ، ومن تلك الصور الموحشة والمرعبة التي هي ملكوت اعمالنا وافعالنا القبيحة ـ وكذلك ـ لاجل ايصالنا الى تلك الانوار وانواع البهجة والسرور والراحة والانس والنعيم والحور والقصور التي لا نقدر ان نتصورها ، حيث ان عالم الملك هذا مع كل ما له من عظمة ، اضيق من ان يحتوي على واحدة من حُلَل الجنة ، وان اعيننا لا تطيق رؤية شعرة واحدة من شعر حور العين ، وتكون كل هذه المثوبات صورا ملكوتية لتلك العقائد والاعمال والتي ادركها الانبياء العظام ، خصوصا صاحب الكشف الكلي والكتاب الجامع خاتم الانبياء صلى الله عليه وآله وسلم ، ادركوها بالوحي الالهي وراوها وسمعوها ودعونا اليها ، ونحن المساكين كالاطفال ، المتمردين على

(1) سورة آل عمران : الآية : 97 .
الاربعون حديثاً 53

حكم العقلاء بل المخطئين لهم ، قد واجهناهم دائما بالعناد والمحاربة والانفصال ، ولكن تلك النفوس الزكية والارواح الطيبة الطاهرة ـ الانبياء ـ بما يكون لديهم من الرافة والرحمة بعباد الله ، لم يقصروا ابدا في دعوتهم ، على الرغم من جهلنا وعنادنا ، وساقونا نحو الجنة والسعادة بكل ما يملكون من القوة واساليب الدعوة دون ان يريدوا منا جزاء ولا شكورا .
وحتى عندما يحدد الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم اجره بـ «المودة في القربى» ، فان صورة هذه المودة في العالم الآخر قد تكون بالنسبة الينا اعظم الصور نورا وعطاءا . وهذا هو ايضا من اجلنا نحن ومن اجل وصولنا الى السعادة والرحمة ، اذا ، فاجر الرسالة عائد الينا ايضا ، ونحن الذين ننتفع به ، فاية منة لنا نحن المساكين عليهم ؟! ... واية فائدة تعود عليهم ـ سلام الله عليهم ـ من اخلاصنا لهم وتعلقنا بهم ؟! اية منة لكم ولنا على علماء الامة ؟ بدءا من ذلك العالم الذي يوضح ويبين لنا الاحكام الشرعية ، الى النبي الاكرم صلّى الله عليه وآله وسلم والى ذات الله المقدسة جل جلاله فان لكل منهم حسب درجته ومقامه من حيث ارشادهم لنا الى طريق الهداية مننا لا نستطيع مكافاتهم عليها في هذا العالم ، فهذا العالم لا يليق بجزائهم « ...فلله ولرسوله ولاوليائه المنة» وكما يقول تعالى : «... قل لا تمنوا علي اسلامكم بل الله يمن عليكم ان هداكم للايمان ، ان كنتم صادقين * ان الله يعلم غيب السماوات والارض والله بصير بما تعملون» (1) .
اذا ، فان كنا صادقين في ادعاء الايمان ، فلله المنة علينا في هذا الايمان نفسه . فالله بصير وعالم بالغيب ، وهو يعلم ماهية صور اعمالنا ، وكيفية صورة ايماننا واسلامنا في عالم الغيب . اما نحن المساكين حيث لا نعرف الحقيقة ، فاننا نتعلم العلم من العالم ونمن عليه ، ونصلي جماعة مع العالم ونمن عليه ، مع ان لهم المنة علينا ونحن لا نعلم . بل وان هذه المنة التي نمن بها عليهم هي التي تحبط اعمالنا وتجرها الى «سجّين» ، وتذروها في الهواء لكي تفنى وتذهب .

المقام الثاني
وفيه فصلان

الفصل الاول

اعلم ان الرياء في هذا المقام ، وان لم يكن بحجم المقام الاول ـ من الدفع نحو الكفر ـ الا انه ، بعد الالتفات الى موضوعه ، قد يفضي بعمل المرائي ايضا في هذا المقام (العمل) الى الكفر فيصبح واحدا في النتيجة مع عمل المرائي في ذلك المقام : مقام الرياء في العقيدة .

(1) سورة الحجرات ، الآيتان : 17 ـ 18 .
الاربعون حديثاً 54

لقد اوضحنا في شرح الحديث السابق ، انه يمكن ان تكون للانسان في عالم الملكوت صورة تغاير الصورة الانسانية ، وان تلك الصور تتبع ملكوت النفس وملكاتها ، فاذا كنتم ذوي ملكات فاضلة انسانية ، فستجعل هذه الملكات صوركم ، انسانية عندما يحشر الانسان ومعه تلك الملكات ما لم تخرج عن طريق الاعتدال ، بل ان الملكات انما تكون فاضلة حين لا تتصرف النفس الامارة بالسوء فيها ، ولا يكون لخطوات النفس دور في تشكيلها .
يقول استاذنا الشيخ محمد علي الشاه آبادي دام ظله : «ان المعيار في الرياضة الباطلة والرياضة الشرعية الصحيحة هو خطى النفس وخطى الحق ، فاذا كان تحرك السالك بخطى النفس وكانت رياضته من اجل الحصول على قوى النفس وقدرتها وتسلطها ، كانت رياضته باطلة وادى سلوكه الى سوء العاقبة . وتظهر الدعاوي الباطلة ـ عادة ـ من مثل هؤلاء الاشخاص .
اما اذا كان تحرك السالك بخطى الحق وكان باحثا عن الله ، فان رياضته هذه حقة وشرعية وسياخذ الله تعالى بيده ويهديه كما تنص على ذلك الآية الشريفة التي تقول : « والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا...» (1) وسيؤول عمله الى السعادة ، فتسقط عنه «الأنا» ويزول عنه الغرور . ومعلوم ان خطوات الشخص الذي يعرض اخلاقه الحسنة وملكاته الفاضلة على الناس ليلفت انظارهم اليه هي خطوات النفس ، وهو متكبر واناني ومعجب بنفسه ، وعابد لها» .
ومع التكبر تكون العبودية لله وهما ساذجا ، وامرا باطلا ومستحيلا ، وما دامت مملكة وجودكم مملوءة بحب النفس وحب الجاه والجلال والشهرة والترأس على عباد الله ، فلا يمكن اعتبار ملكاتكم ملكات فاضلة ، ولا اخلاقكم اخلاقا الهية . فالفاعل في مملكتكم هو الشيطان ، وليس ملكوتكم وباطنكم على صورة انسان . وعند فتح العيون البرزخية ، ترون ملكوتكم على غير صورة الانسان ، وانما هي صورة احد الشياطين مثلا . وحصول المعارف الالهية والتوحيد الصحيح امر مستحيل بالنسبة الى قلب كهذا ما دام مسكنا للشيطان ، وما دام ملكوتكم غير انساني ، وما دامت قلوبكم غير مطهرة من هذه الانحرافات والانانيات .
في الحديث القدسي يقول الله تعالى : «لا تسعني ارضي ولا سمائي ، بل يسعني قلب عبدي المؤمن» (2) ما من موجود يكون آية جمال المحبوب سوى قلب المؤمن . ان المتصرف في قلب المؤمن هو الله ، لا النفس . الفاعل في وجوده هو المحبوب ، فليس قلب المؤمن متمردا ولا تائها .

(1) سورة العنكبوت ، آية : 69 .
(2) احياء العلوم ـ المجلد الثالث ص 12 . اتحاف السادة المتقين ـ المجلد السابع ص 234 غوالي اللئالي ـ المجلد الرابع ص 7 وفيه (ولكن يسعني) .
الاربعون حديثاً 55

«قلب المؤمن بين اصبعَي الرحمن يقلبه كيف يشاء» (1) .
وانت ايها المسكين العابد للنفس ، والذي تركت الشيطان والجهل يتصرفان في قلبك ، ومنعت يد الحق ان تتصرف في قلبك ، اي ايمان لديك حتى تكون محلا لتجلي الحق والسلطة المطلقة ؟
فاعلم اذا ، انك ما دمت على هذه الحال ، وما دامت رذيلة الغرور موجودة فيك ، فانت كافر بالله ، ومحسوب من زمرة المنافقين ، رغم زعمك بانك مسلم ومؤمن بالله .

الفصل الثاني

ايها العزيز ! استيقظ وانتبه وافتح اذنيك ، وحرم نوم الغفلة على عينيك ، واعلم ان الله خلقك لنفسه كما يقول في الحديث القدسي :
«يابن آدم خلقت الاشياء لاجلك وخلقتك لاجلي» (2) واتخذ من قلبك منزلا له ، فانت وقلبك من النواميس والحرمات الالهية ، والله تعالى غيور ، فلا تهتك حرمته وناموسه الى هذا الحد ، ولا تدع الايادي تمتد الى حرمه وناموسه . احذر غيرة الله ، والا فضحك في هذا العالم بصورة لا تستطيع اصلاحها مهما حاولت . اتهتك في ملكوتك وفي محضر الملائكة والانبياء العظام ستر الناموس الالهي ؟ وتقدم الاخلاق الفاضلة التي تتشبه بها الاولياء الى الحق ، الى غير الحق ؟ وتمنح قلبك لخصم الحق ؟ وتشرك في باطن ملكوتك ؟ كن على حذر من الحق تعالى فانه مضافا الى هتكه لناموس مملكتك في الآخرة ـ وفضحه لك امام الانبياء العظام والملائكة المقربين ، سيفضحك في هذا العالم ويبتليك بفضيحة لا يمكن تلافيها ... وبتمزيق عصمة لا يمكن ترقيعها .
ان الحق تعالى «ستار» ولكنه غيور ايضا ... انه «ارحم الراحمين» ولكنه «اشد المعاقبين» ايضا ، يستر ما لم يتجاوز الحد . فقد تؤدي هذه الفضيحة الكبرى ـ لا سمح الله ـ الى تغليب الغيرة على الستر ، كما سمعت في الحديث الشريف .
فارجع الى نفسك قليلا ، وعد الى الله ، فالله رحيم ، وهو يبحث عن ذريعة لافاضة الرحمة عليك . واذا انبت اليه ، فانه يستر بغفرانه معاصيك وعيوبك الماضية ، ولن يطلع عليها احدا ويجعلك صاحب فضيلة ، ويظهر فيك الاخلاق الكريمة ، ويجعلك مرآة لصفاته تعالى ويجعل ارادتك فعالة في ذلك العالم كما ان ارادته نافذة في جميع العوالم . كما ورد في حديث

(1) صحيح مسلم ـ المجلد 18 ـ ص 51 . احياء العلوم ـ المجلد الاول ص 76 . الجامع الصغير ـ المجلد الاول ص 83 والمجلد الثاني ص 151 .
(2) المنهج القوي ـ المجلد الخامس ـ ص 516 . علم اليقين ـ المجلد الاول ـ ص 381 .
الاربعون حديثاً 56

منقول : ان اهل الجنة عندما يستقرون في الجنة ، تبلغهم رسالة من الحق تعالى خلاصتها : من الحي الابدي الذي لا يموت ، الى الحي الابدي الذي لا يموت اذا اردت شيئا قلت له كن فيكون ، جعلتك هذا اليوم في مستوى اذا اردت شيئا قلت له كن فيكون .
لا تكن محبا لنفسك ، سلم ارادتك للحق تعالى ، فان الذات المقدسة تتفضل عليك بجعلك مظهرا لارادتك ، وتجعلك متصرفا في شؤونك ، وتخضع لقدرتك مملكة الايجاد في الآخرة ، وهذا هو غير التفويض الباطل ، كما هو معلوم في محله .
فيا ايها العزيز . انت اعرف بنفسك فاختر اما هذا واما ذاك فالله غني عنا وعن كل المخلوقات انه غني عن اخلاصنا واخلاص كل الموجودات .

المقام الثالث (الرياء)
وفيه فصول

فصل

اعلم ان الرياء في هذا المقام ، اكثر من المقامات الاخرى ، واوسع شيوعا اذ اننا نحن العامة من الناس ، لسنا على العموم اهلا لذينك المقامين . ولهذا لا يدخل الشيطان الينا من ذلك الطريق ، ولكن بما ان معظم الناس المتعبدين ، هم من اهل المناسك والعبادات الظاهرية ، فان الشيطان اكثر حرية في التلاعب بهم ، في هذا المقام ومن خلال العبادات .
كما ان مكائد النفس في هذه المرحلة اكثر . وبتعبير آخر : بما ان عامة الناس ، يفوزون بالجنة بالاعمال الجسمانية ، وبما انهم يحصلون على الدرجات الاخروية بممارسة الاعمال الحسنة وترك الاعمال السيئة ، فان الشيطان يدخل عليهم من هذا الطريق نفسه ، ويسقي جذور الرياء والتملق في اعمالهم ، فتفرع وتورق ، ويبدل حسناتهم سيئات ، ويدخلهم جهنم ودركاتها عن طريق المناسك والعبادات ، ويحول الامور التي يريدون ان يعمروا بها آخرتهم الى ادوات لتخريبها ـ الآخرة ـ فيجعل الملائكة ما هو ـ الاعمال ـ من العليين بامر من الله في سجين .
فعلى الذين يملكون هذا الجانب فقط ، ولا زاد لهم سوى زاد الاعمال ، عليهم ان يكونوا حذرين كل الحذر لئلا يفقدوا ـ لا سمح الله ـ الزاد والراحلة كليهما ، ويصبحوا من اهل جهنم ، ولا يبقى لهم طريق نحو السعادة ، وتغلق في وجوههم ابواب الجنة ، وتفتح لهم ابواب النار .

فصل
في دقة امر الرياء

كثيرا ما يتفق ان يكون الشخص المرائي نفسه غافلا ايضا عن كون الرياء قد تسرب الى اعماله ، وان اعماله صارت رياء وهباء اذ ان مكائد الشيطان والنفس من الدقة والخفاء ، وان

الاربعون حديثاً 57

صراط الانسانية من الرهافة والظلمة بحيث ان الانسان لا ينتبه الى ما هو فيه ان لم يكن حذرا جدا انه يحسب ان أعماله لله ولكنها للشيطان ، ولما كان الانسان مجبولا على حب النفس ، فان حجاب حب النفس يستر عنه معايب نفسه ، وقد ياتي بيان بعض ذلك ضمن شرح بعض الاحاديث ان شاء الله ، ونسال الله التوفيق .
ففي دراسة علوم الدين ، مثلا ـ وهي من الطاعات والعبادات المهمة ـ يبتلي الانسان الكامل بالرياء من حيث لا يدري وذلك بسبب الحجاب الغليظ لحب النفس .
ان الانسان يرغب ان يتفرد في فهم معضلة علمية ، وحلها لدى محضر المعلماء والرؤساء والفضلاء ، ويبتهج اكثر ، كلما كان توضيحه للمسألة العلمية احسن ، ولفت انتباه الحاضرين اكثر ، ويحب ان ينتصر على كل من يناظره . انه يشعر بنوع من الدلال العلمي والتفوق ، واذا اقترن ذلك بتصديق من احدى الشخصيات ، لكان نور على نور . ان هذا المسكين غافل عن انه احرز هنا موقعا لدى الفضلاء والعلماء ولكنه سقط من عين ربهم ومالك ملوك العالم ، وان عمله قد ترك بامر من الحق المتعال في سجين . ثم إن عمله هذا من الرياء ممزوج بعدة معاص اخرى ، مثل فضحه واذلاله وايذائه اخا له في الايمان ، واحيانا التجرؤ على مؤمن وهتكه ، وكل واحدة من هذه الاعمال هي من الموبقات وكافية وحدها لادخال الانسان في جهنم . واذا القت النفس مرة اخرى شباك كليدها ، لتقول لك : ان هدفي هو اعلان الحكم الشرعي واظهار كلمة الحق وهو من افضل الطاعات ، وليس لاظهار العلم والتكبر وحب الظهور ، فاسال نفسك في الباطن انه لو كان زميلي المساوي لي في الدرجة العلمية هو الذي قال ذلك الحكم الشرعي وهو الذي حل تلك المعضلة وكنتِ انتِ مغلوبة في ذلك المحضر ، اكان ذلك على حد سواء عندك ؟ اذا كان كذلك فانت صادق . واذا لم تترك كيدها وقالت لك : ان اظهار الحق فضيلة ، وله ثواب عند الله تعالى ، وانا اريد ان انال هذه الفضيلة ، واعمر دار الثواب ، فقل لها : لنفرض ان الله تعالى انعم عليك بتلك الفضيلة نفسها في حالة مغلوبيتك وتصديقك بالحق ، فهل تبقين طالبة للغلبة ؟ فاذا رجعتم الى باطنكم ورايتم انكم ما زلتم تميلون الى الغلبة ، والاشتهار بين العلماء بالعلم والفضل ، وان بحثكم العلمي كان لاجل الحصول على المكانة في قلوب اولئك ، اذا ، فاعلموا انكم مراؤون في هذا البحث العلمي الذي هو من افضل الطاعات والعبادات وان عملكم هذا ـ بحسب الرواية الشريفة في كتاب (الكافي) ـ هو في «سجين» ، وانكم مشركون بالله . وان هذا العمل هو لاجل حب الجاه والشرف وهما ـ بحسب الرواية ـ اشد ضررا على الايمان من ذئبين اطلقا على قطيع بلا راع .
اذا ، فعليكم انتم اهل العلم والمتكفلين باصلاح الامة والارشاد الى الآخرة واطباء الامراض النفسية ، ان تصلحوا انفسكم اولا وتجعلوا مزاجكم النفسي سالما ، كي لا تكونوا في

الاربعون حديثاً 58

زمرة «العالم بلا عمل» وهو صنف معلوم الحال والعاقبة .
اللهم طهر قلوبنا من كدر الشرك وانفاق ، وصفّ مرآة قلوبنا من صدا حب الدنيا وهي منشا جميع هذه الامور . اللهم رافقنا ، وخذ بايدينا نحن المساكين المبتلين بهوى النفس وحب الجاه والشرف في هذا السفر المملوء بالخطر وفي هذا الطريق المليء بالمنعطفات والصعاب والظلمات انك على كل شيء قدير .
ان صلاة الجماعة واحدة من العبادات العظيمة في الاسلام ، وفضل امامتها اعظم . ومن هنا فان الشيطان ينفذ اكثر الى هذه العبادة ، وهو مع الامام اشد عداوة ، ويسعى الى ان ينتزع منه هذه الفضيلة ، ويفرغ عمله من الاخلاص ، ويدخله الى «سجين» ، ويجعله مشركا بالله . ولاجل ذلك يدخل الشيطان الى قلوب بعض ائمة الجماعة بطرق مختلفة مثل : العُجُب (سياتي بيانه ان شاء الله لاحقا) ومثل : الرياء وهو اظهار هذه العبادة العظيمة ، امام الناس من اجل الحصول على منزلة في قلوب الناس والاشتهار بالعظمة لديهم . فمثلا يرى امام الجماعة ان احد المشهورين بالتقوى والدين قد حضر الى صلاة جماعته ، ولاجل جذب قلبه ، يكثر من خضوعه ويلتجا الى اساليب مختلفة ، وحيل كثيرة لصيده ، ومن اجل تعظيم نفسه عند الغائبين الذين لم يحضروا صلاة جماعته ، يتحدث في المجالس عن ذلك المتدين ، ويحاول افهام الناس ان فلانا ياتم به ويشارك في صلاة جماعته . ثم هو ايضا يقابله بالود والحب في قلبه ، لاجل حضوره في صلاة جماعته ويُكنّ له من الحب والاخلاص ما لم يُكن لحظة طوال حياته ، لله ولا لاولياء الله ، خصوصا اذا كان هذا المتدين من التجار المحترمين . واذا حدث لا سمح الله ان ضل احد الاشراف طريقه والتحق بصلاة الجماعة ، فان المصيبة على امام الجماعة من وسوسة الشيطان تكون اعظم . ان الشيطان لا يترك حتى امام جماعة قليلة الافراد ، فيذهب اليه ويوحي له فيوسوس في نفسه : انني قد اعرضت عن الدنيا ، واقضيها في مسجد صغير ، مع الفقراء والمساكين . وهذا ايضا مثل ذاك ، او اسوا منه ، لانه يثقل قلبه برذيلة الحسد ايضا ، فهو فضلا عن كونه لم ينل من الدنيا شيئا ، يسلبه الشيطان عدته لآخرته ، فيخسر الدنيا والآخرة .
وفي الوقت نفسه لم يرفع الشيطان يده عنا : انا وانت من الذين نقصر في الحضور في صلاة الجماعة ونحمل الهم والاسى لعدم توفر الظروف والمناخ لاقامة صلاة الجماعة بامامتنا ، فيدفعنا الى الاساءة الى جماعة المسلمين والطعن بهم وخلق عيوب للجماعة ، ونعد عدم الاشتراك في الجماعة ، عزلة ، نظهر انفسنا كاننا زاهدون في الدنيا ومنزهون عن حب الجاه والذات ، في حين اننا اسوا من كلتا الفئتين السالفتين ، فلا نحن نلنا الدنيا الكاملة التي نالتها الطائفة الاولى ، ولا دنيا الطائفة الثانية الناقصة ، ولا نحن فزنا بالآخرة ، مع اننا ايضا لو اتيح لنا ما نريد لكنا اشد من كلتا الطائفتين حبا للجاه والمال .

الاربعون حديثاً 59

والشيطان لا يكتفي بامام الجماعة وحده فلا تنطفئ شعلة شهوته بجعله ـ امام الجماعة ـ من اهل النار ، بل يدخل الى صفوف المصلين المؤمنين ، فحيث ان فضيلة الصف الاول اعظم من سائر الصفوف ، وان جانب يمين الامام اكثر فضلا من جانب يساره ، فهو يستهدفه اكثر من غيره .
مسكين هذا المتدين . يجره من بيته البعيد ويجلسه في الجانب اليمين من الصف الاول ، ثم يوسوس له كي يتباهى على الناس بهذه الفضيلة ، اذ لا يدري هذا المسكين ماذا يفعل ، فياخذ باظهار فضله بتفاخر ودلال ، ويبرز شركه الباطن فيكون مصيره الى «سجين» ثم يذهب الشيطان الى باقي الصفوف ويدفعهم الى ان يكذبوا من في الصف الاول بالكناية والاشارة وان يجعلوا ذلك المتدين المسكين هدفا لسهام الطعن والشتم ، معتبرين انفسهم منزهين عن مثل اطواره . واحيانا قد يُرى شخص محترم ، خصوصا اذا كان من اهل الفضل والعلم ، قد اخذ الشيطان بيده واجلسه في الصف الاخير ، وكانه يريد ان يقول للحاضرين : اني بمقامي هذا لا ينبغي ان اصلي مع شخص كهذا ، ولكن لكوني قد اعرضت عن الدنيا وليس لدي هوى في النفس ، فقد جئت بل وجلست في الصف الاخير ولن التقي اشخاصا من هذا القبيل في الصف الاول من صلاة الجماعة .
ولا يكتفي الشيطان بالامام والماموم ، بل ياخذ بزمام بعض المصلين المنفردين عن الجماعة فيقوده من السوق او المنزل ، بدلال وتبختر ، الى زاوية في المسجد ، حيث يفرش سجادته منفردا ، دون ان يرى اي امام عادلا ، ويصلي في حضور الناس ويطيل السجود والركوع والاذكار الطويلة . هذا الانسان يضمر في باطنه كلمة للناس هي : «انني متدين ومحتاط الى الدرجة التي اترك معها صلاة الجماعة لئلا ابتلي بامام غير عادل» . هذا الانسان ، فضلا عن انه معجب بنفسه ومُراء ، فانه لا يعرف المسائل الشرعية ايضا ، وذلك لان مرجع تقليد هذا الشخص ، قد لا يشترط اكثر من مجرد حسن الظاهر في صحة الاقتداء ، ولكن عمله هذا ليس من هذا الباب ، بل من اجل الرياء امام الناس ، ولاجل الحصول على المكانة والمنزلة في القلوب .
وهكذا سائر اعمالنا ، فهي تحت تصرف الشيطان الملعون الذي ينزل في كل قلب كدر ملوث ، ويحرق الاعمال الظاهرة والباطنة ويجعلنا من اهل النار عن طريق الاعمال الحسنة .

فصل
في الدعوة الى الاخلاص

اذا ايها العزيز ، كن دقيقا في اعمالك وحاسب نفسك في كل عمل ، واستنطقها عن الدافع في الاعمال الخيرة ، والامور الشريفة ، فما الذي يدفعها الى السؤال عن مسائل صلاة

السابق السابق الفهرس التالي التالي