أخلاق أهل البيت 331

«تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض ، منهم من كلم الله ،ورفع بعضهم درجات» (البقرة : 253) .
وفضل العلماء على الجهال ، والمؤمنين بعضهم على بعض ، لتفاوتهم في مدارج العلم والتقى والصلاح .
«يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات» (المجادلة : 11) .
وهكذا فاضل بين الناس في الرزق ، لاختلاف كفاءاتهم وطاقاتهم في إجادة الأعمال ، ووفرة الانتاج ، فليس من العدل مساواة الغبي بالذكي والكسول بالمجد والعالم المخترع بالعامل البسيط ، إذ المساواة والحالة هذه مدعاة لخفق العبقريات والمواهب وهدر الطاقات والجهود .
«نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ورحمة ربك خير مما يجمعون» (الزخرف : 32) .
5 ـ حق العلم :


للفرد قيمته وأثره في المجتمع بصفته عضواً من أعضائه ، ولبنة في كيانه ، وعلى حسب كفاءته ومؤهلاته الفكرية والجسمية تقاس حياة المجتمع وحالته رقياً أو تخلفاً ، ازدهاراً أو خمولاً ، للتفاعل القوي بين الفرد والمجتمع .
من أجل ذلك دأبت الأمم المتحضرة على تربية أبنائها وتثقيفهم بالعلم ، حتى فرضوا التعليم الإجباري ويسروه مجاناً في مراحله الأولى ، دعماً لحضارتهم وتصعيداً لكفاءاتهم .
وقد كان المسلمون إبان حضاتهم مثلاً رفيعاً وقدوة مثالية في إشاعة العلم لطلابه وتمجيد العلماء وتكريمهم ، حتى استطاعت المعاهد الإسلامية أن تخرج أمة من أقطاب العلم وإعلامه .
كانوا قادة الفكر وبناة الحضارة الإسلامية ، ورواد الأمم إلى العلم

أخلاق أهل البيت 332

والعرفان ، وعليهم تتلمذ الغرب ومنهم اقتبس علمه وحضارته .
قال (سديو) في كتابه تاريخ العرب :
ـ كان المسلمون في القرون الوسطى منفردين في العلم والفلسفة والفنون وقد نشروها أينما حلت أقدامهم ، وتسربت عنهم إلى أوروبا ، فكانوا هم سبباً لنهضتها وارتقائها .
وقال جوستاف لوبون في كتابه حضارة العرب :
ـ ثبت الآن أن تأثير العرب في الغرب عظيم كتأثيرهم في الشرق ، وأن أوروبا مدينة للعرب بحضارتها .
وكان من أقوى بواعث ازدهار العلوم الإسلامية واتساع آفاقها ، أن حق التعليم ـ في المجتمع الإسلامي ـ كان مضموناً ومتاحاً لكل طالب مهما كان عنصره ومستواه شريفاً أو وضيعاً ، غنياً أو فقيراً ، عربياً أو أعجمياً .
وأن الشريعة الإسلامية كما فرضت على كل مسلم طلب العلم والتحلي به والانتفاع بثماره اليانعة ، حتمت على العالم أن ينشر علمه وبذيعه بين المسلمين ولا يكتمه عنهم .
قال الباقر (ع) : «عالم ينتفع بعلمه ، أفضل من سبعين ألف عابد» (1) .
فلم يعرف المسلمون تلك الإثرة العلمية التي اتصف بها رجال الدين الغربيون حتى قيام النهضة الحديثة ، وبذلك أصبح المسلمون مشعلاً وهاجاً بالعلم والعرفان .

6 ـ حق الملكية :


لم يشهد التاريخ فتنة أثارت الجدل الحاد والنزاع الضاري كفتنة المال والملكية في هذا العصر ، فقد انقسم العالم فيها إلى فريقين متناحرين : أحدهما يبيح الملكية الفردية بغير حد أو شرط ، وهو الفريق الرأسمالي .
وثانيهما يستنكرها ويمنعها وهو الفريق الاشتراكي . وغدا العالم من جراء

(1) الوافي ج 1 ص 40 عن الكافي .
أخلاق أهل البيت 333

هذين المبدأين المتناقضين يعاني ضروب الأزمات والمشاكل .
وقد حسم الإسلام هذه الفتنة ، وعالجها علاجاً ناجحاً حكيماً ، لا تجد البشرية أفضل منه أو بديلاً عنه لتحقيق سعادتها وسلامتها .
فهو : لا يمنع الملكية الفردية ، ولا يبيحها من غير شرط .
لا يمنعها : لأن الإنسان مفطور على غريزة التملك ، وحب النفع الذاتي ، وهما نزعتان راسختان في النفس ، لا يستطيع الانفكاك منهما والتخلي عنهما ، وإن تجاهلتهما النظريات الخيالية التي لا تؤمن بغرائز الإنسان وميوله الفطرية .
هي حق طبيعي يحقق كرامة الفرد ،ويشعره بوجوده ، ويحرره من عبودية السلطة التي تحتكر ارزاق الناس وتستعبدهم بها .
يفجر في الإنسان طاقات المواهب والعبقريات ، وينفخ فيه روح الأمل والرجاء ، ويحفزه على مضاعفة الجهود ووفرة الانتاج وتحسينه .
وفي الوقت الذي منح الإسلام حق الملكية فإنه لم يمنحه على طرائق الجاهلية الرأسمالية التي تجيز اكتساب المال واستثماره بأي وجه كان ، حلالاً أم حراماً . مما يوجب اجتماع المال واكتنازه في أيد قليلة وحرمان أغلب الناس منه ، ووقوعهم في أسر الأثرياء يتحكمون فيهم ويستغلون جهودهم كما يشاؤون .
إنه أباح الملكية بأسلوب يضمن صالح الفرد ، ويضمن صالح الجماعة ولا يضر بهذا ولا بأولئك ، وذلك بما وضع لها من شروط .
1 ـ فهو لا يجيز اكتساب المال وتملكه إلا بطرق مشروعة محللة ، وحرم ما سوى ذلك كالربا والرشا والاحتكار ، واكتناز المال الذي فرض الله فيه نصيباً للفقراء ، أو ابتزازه غصباً .
2 ـ شرع قانون الإرث الموجب لتفتيت الثراء وتوزيعه على عدد من الوارث في كل جيل .
3 ـ شرع الفرائض المالية لاعانة الفقراء وإنعاشهم ، كالزكاة والخمس والكفارات ورد المظالم .
وقد استطاع الإسلام بمبادئه الاقتصادية الحكيمة أن يشيع بين المسلمين

أخلاق أهل البيت 334

روح التعاطف والتراحم ، ويحقق العدل الاجتماعي فيهم ، فلا تجد بينهم جائعاً إزاء متخم ، ولا عارياً إزاء مكتس بالحرير .

7 ـ حق الرعاية الإسلامية :


كان من أبرز خصائص المجتمع الإسلامي ومزاياه ، ذلك التجاوب العاطفي ، والأحاسيس الأخوية المتبادلة بين أفراده ، ما جعلهم كالبنيان الموصوص يشد بعضه بعضاً ، أو كالجسد الواحد إذا اشتكى عضو تألمت له سائر الأعضاء .
فما كان للمسلم الحق أن يتغاضى عن الاهتمام بشؤون مجتمعه ، ورعاية مصالحه العامة ، والحرص على رقيه وازدهاره . كما قال النبي (ص) :
«من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم» (1) .
وقال (ص) : «ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع ، وما من أهل قرية فيهم جائع ينظر الله إليهم يوم القيامة» (2) .
وما كان للمجتمع الإسلامي أن يتغاضى عن رعاية أفراده البؤساء ، وهم يعانون مرارة الفاقة ومضض الحرمان ، دون أن يتحسس بمشاعرهم ويتطوع لإغاثتهم والتخفيف من ضرهم .
وحسبك في شرف المؤمن وضرورة دعمه وإسناده ، دعوة أهل البيت عليهم السلام وحثهم على توقيره وإكرامه ورعايته مادياً ومعنوياً ما لو طبقه المسلمون اليوم لكانوا أسعد الأمم ، وأرغدهم عيشاً وأسماهم منعة وجاهاً .
وإليك نماذج من وصاياهم في ذلك :
أ ـ إطعامه وسقيه :


قال علي بن الحسين (ع) : «من أطعم مؤمناً من جوع أطعمه الله من ثمار

(1) الوافي ج 3 ص 99 عن الكافي .
(2) الوافي ج 3 ص 96 عن الكافي .
أخلاق أهل البيت 335

الجنة ، ومن سقى مؤمناً سقاه الله من الرحيق المختوم» (1) .
وقال الصادق (ع) : «من أطعم مؤمناً حتى يشبعه لم يدر أحد من خلق الله ماله من الأجر في الآخرة ، لا ملك مقرب ، ولا نبي مرسل إلا الله رب العالمين .
ثم قال : من موجبات المغفرة إطعام المسلم السغبان ، ثم تلا قول الله تعالى : «أو إطعام في يوم ذي مسغبة ، يتيماً ذي مقربة ، أو مسكيناً ذا متربة» (2) .
وعن ابي عبد الله (ع) قال : قال رسول الله (ص) : «من سقى مؤمناً شربة من ماء من حيث يقدر على الماء ، أعطاه الله بكل شربة سبعين ألف حسنة ، وإن سقاه من حيث لا يقدر على الماء ، فكأنما أعتق عشر رقاب من ولد إسماعيل» (3) .
ب ـ إكساء المؤمن :


وقال الصادق (ع) : «من كسا أخاه كسوة شتاء أو صيف كان حقاً على الله أن يسكوه من ثياب الجنة ، وأن يهون عليه من سكرات الموت وأن يوسع عليه في قبره وأن يلقى الملائكة إذا خرج من قبره بالبشرى ، وهو قوله تعالى في كتابه : «وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون» (4) (الأنبياء : 103) .
وقال (ع) : «من كسا أحداً من الفقراء المسلمين ثوباً من عرى ، أو أعانه بشيء مما يقوته من معيشته وكل الله تعالى به سبعة آلاف ملك من الملائكة يستغفرون لكل ذنب عمله إلى أن ينفخ في الصور .
وعن أبي جعفر (ع) قال : قال رسول الله (ص) : «من كسا أحداً . . الحديث مثله ـ إلا أن فيه سبعين ألف ملك (5) .
ج ـ قضاء حاجة المؤمن :


عن المفضل عن أبي عبد الله (ع) قال : قال لي : «يا مفضل اسمع ما أقول

(1) الوافي ج 3 ص 120 عن الكافي .
(2) الوافي ج 3 ص 120 عن الكافي .
(3) ، (4) ، (5) الوافي ج 3 ص 121 عن الكافي .
أخلاق أهل البيت 336

لك ، واعلم أنه الحق ، وافعله واخبر به علية أخوانك ، قلت : جعلت فداك وما علية أخواني ؟
قال : الراغبون في قضاء حوائج أخوانهم ، قال : ثم قال :
ومن قضى لأخيه المؤمن حاجة قضى الله تعالى له يوم القيامة مائة ألف حاجة ، من ذلك أولها الجنة ، ومن ذلك أن يدخل قرابته ومعارفه وأخوانه الجنة ، بعد أن لا يكونوا نصاباً» (1) .
وقال الصادق (ع) :
«ما قضى مسلم لمسلم حاجة إلا ناداه الله تعالى : علي ثوابك ، ولا أرضى لك بدون الجنة» (2) .
وقال (ع) : «إن المؤمن منكم يوم القيامة ليمر به الرجل له المعرفة به في الدنيا وقد أمر به إلى النار ، والملك ينطلق به ، قال : فيقول له : يا فلان أغثني فقد كنت أصنع إليك المعروف في الدنيا ، وأسعفك في الحاجة تطلبها مني ، فهل عندك اليوم مكافأة ؟ فيقول المؤمن للملك الموكل به خل سبيله ، قال : فيسمع الله قول المؤمن ، فيأمر الملك ان يجبر قول المؤمن فيخلي سبيله» (3) .
د ـ مسرة المؤمن :


عن أبي عبد الله (ع) عن أبيه عن علي بن الحسين (ع) قال : قال رسول الله (ص) : «إن أحب الأعمال إلى الله تعالى إدخال السرور على المؤمنين» (4) .
وعن أبي عبد الله (ع) قال : قال رسول الله (ص) : «الخلق عيال الله ، فأحب الخلق إلى الله من نفع عيال الله ، وأدخل على أهل بيت سروراً» (5) .

(1) الوافي ج 3 ص 117 عن الكافي .
(2) الوافي ج 3 ص 118 عن الكافي .
(3) البحار ، كتاب العشرة ، ص 86 عن ثواب الأعمال للصدوق .
(4) الوافي ج 3 ص 117 عن الكافي .
(5) الوافي ج 3 ص 99 عن الكافي .
أخلاق أهل البيت 337

وقال الصادق (ع) : «من أدخل على مؤمن سروراً خلق الله من ذلك السرور خلقاً فليقاه عند موته فيقول له : ابشر يا ولي الله بكرامة من الله ورضوان ، ثم لا يزال معه حتى يدخله قبره ، فيقول له مثل ذلك فإذا بعث يلقاه فيقول له مثل ذلك ، ثم لا يزال معه عند كل هول يبشره ويقول له مثل ذلك ، فيقول له : من أنت رحمك الله ؟ فيقول له : أنا السرور الذي أدخلته على فلان» (1) .
هـ : زيارة المؤمن :


عن أبي عزة قال : سمعت أبا عبد الله (ع) يقول : «من زار أخاه في الله ، في مرض أو صحة ، لا يأتيه خداعاً ولا استبدالاً ، وكل الله به سبعين ألف ملك ينادونه في قفاه إن طبت وطابت لك الجنة ، فأنتم زوار الله ، وأنتم وفد الرحمن حتى يأتي منزله» (2) .
وقال (ع) : «إن ضيفان الله عزوجل : رجل حج واعتمر فهو ضيف الله حتى يرجع إلى منزله ، ورجل كان في صلاته فهو كنف الله حتى ينصرف ، ورجل زار أخاه المؤمن في الله عزوجل فهو زائر الله في ثوابه وخزائن رحمته» .


الحاكمون وواجباتهم

الإنسان مدني بالطبع ، لا يستغني عن أفراد نوعه ، والانس بهم والتعاون معهم على إنجاز مهام الحياة ، وكسب وسائل العيش .
وحيث كان أفراد البشر متفاوتين في طاقاتهم وكفاءاتهم الجسمية والفكرية فيهم القوي والضعيف والذكي والغبي ، والصالح والفاسد ، وذلك ما يثير فيهم نوازع الأثرة والأنانية والتنافس البغيض على المنافع والمصالح ، مما يسبب بلبلة المجتمع ، وهدر حقوقه وكرامته .

(1) الوافي ج 3 ص 117 عن الكافي .
(2) الوافي ج 3 ص 107 عن الكافي .
أخلاق أهل البيت 338

لذلك كان لا بد للأمم من سلطة راعية ضابطة ، ترعى شؤونهم وتحمي حقوقهم ، وتشيع الأمن والعدل والرخاء فيهم .
ومن هنا نشأت الحكومات وتطورت عبر العصور من صورها البدائية الأولى حتى بلغت طورها الحضاري الراهن . وكان للحكام أثر بليغ في حياة الأمم والشعوب وحالاتها رقياً أو تخلفاً ، سعادة أو شقاءً ، تبعاً لكفاءة الحكام وخصائصهم الكريمة أو الذميمة .
فالحكم المثالي المخلص لأمته هو : الذي يسوسها بالرفق والعدل والمساواة ، ويحرص على إسعادها ورفع قيمتها المادية والمعنوية .
والحاكم المستبد الجائر هو : الذي يستعبد الأمة ويسترقها لأهوائه ومآربه ويعمد على إذلالها وتخلفها . وقد أوضحت آثار أهل البيت عليهم السلام أهمية الحكام وآثارهم الحسنة أو السيئة في حياة الأمة ، فأثنت على العادلين المخلصين منهم ، ونددت بالجائرين وأنذرتهم بسوء المغبة والمصير .
فعن الصادق عن أبيه عليهم السلام قال : قال رسول الله (ص) : «صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت أمتي ، وإذا فسدا فسدت . قيل يا رسول الله ومن هما ؟ قال : الفقهاء والأمراء» (1) .
وعن الصادق عن آبائه عليهم السلام عن النبي (ص) قال : «تكلم النار يوم القيامة ثلاثة : أميراً وقارئاً وذا ثروة من المال . فتقول للأمير : يا من وهب الله له سلطاناً فلم يعدل ، فتزدرده كما يزدرد الطير حب السمسم .
وتقول للقارئ : يا من تزين للناس وبارز الله بالمعاصي فتزدرده .
وتقول للغني : يا من وهب الله له دنيا كثيرة واسعة فيضاً ، وسأله الحقير اليسير فرضاً فأبى إلا بخلاً فتزدرده» (2) .
ولم يكتف أهل البيت عليهم السلام بالإعراب عن سخطهم على الظلم والظالمين ووعيدهم حتى اعتبروا أنصارهم والضالعين في ركابهم شركاء معهم في الإثم والعقاب .

(1) ، (2) البحار ، كتاب العشرة . ص 209 عن الخصال .
أخلاق أهل البيت 339

فعن الصادق عن أبيه عليهما السلام قال : قال رسول الله (ص) : «إذا كان يوم القيامة نادى مناد . أين الظلمة وأعوانهم ، ومن لاق لهم دواة ، أو ربط لهم كيساً ، أو مد لهم مدة قلم ؟ فاحشرواهم معهم» (1) .
والطغاة مهما تجبروا وعتوا على الناس ، فإنهم لا محالة مؤاخذون بما يستحقونه من عقاب عاجل أو آجل ، فالمكر السيء لا يحيق إلا بأهله ولعنة التاريخ تلاحق الطواغيت وتمطرهم بوابل الذم واللعن وتنذرهم بسوء المغبة والمصير ، وفي التاريخ شواهد جمة على ذلك .
منها ما حكاه الرواة عن ابن الزيات : إنه كان قد اتخذ في أيام وزارته تنوراً من حديد ، وأطراف مساميره محدودة إلى داخل وهي قائمة مثل رؤوس المسال ، وكان يعذب فيه المصادرين وأرباب الدواوين المطلوبين بالأموال ، فكيف ما انقلب واحد منهم أو تحرك من حرارة العقوبة تدخل المسامير في جسمه ، فيجدون لذلك أشد الألم ولم يسبقه أحد إلى هذه المعاقبة .
فلما تولى المتوكل الخلافة اعتقل ابن الزيات ، وأمر بإدخاله التنور وقيده بخمسة عشر رطلاً من الحديد ، فأقام في التنور أربعين يوماً ثم مات (2) .
ومنها : الحجاج بن يوسف الثقفي :
فإنه تأمر على الناس عشرين سنة ، وأحصى من قتله صبراً سوى من قتل في عساكره وحروبه فوجد ـ مائة ألف وعشرين ألفاً ـ وفي حبسه خمسون ألف رجل ، وثلاثون ألف إمرأة ، منهن ستة عشر ألفاً مجردة ، وكان يحبس النساء والرجال في موضع واحد ، ولم يكن للحبس ستر يستر الناس من الشمس في الصيف ، ولا من المطر والبرد في الشتاء .
ثم لاقى جزاء طغيانه وإجرامه خزياً ولعناً وعذاباً ، وكانت عاقبة أمره أنه ابتلى بالآكلة في جوفه ، وسلط الله عزوجل عليه الزمهرير ، فكانت الكوانين المتوقدة بالنار تجعل حوله ، وتدنى منه حتى تحرق جلده وهو لا يحس بها حتى اهلك عليه لعائن الله .

(1) البحار ، كتاب العشرة ص 218 عن ثواب الأعمال للصدوق .
(2) سفينة البحار ج 1 ص 574 .
أخلاق أهل البيت 340

حقوق الرعية على الحاكم

والحاكم بصفته قائد الأمة وحارسها الأمين مسؤول عن رعايتها وصيانة حقوقها ، وضمان أمنها ورخائها ، ودرء الأخطار والشرور عنها . وإليك أهم تلك الحقوق :
أ ـ العدل : وهو أقدس واجبات الحكام ، وأجل فضائلهم ، وأخلد مآثرهم ، فهو أساس الملك ، وقوام حياة الرعية ، ومصدر سعادتها وسلامها . وكثيراً ما يوجب تمرد الناس على الله تعالى ، وتنكبهم عن طاعته ومناهجه تسلط الطغاة عليهم واضطهادهم بألوان الظلامات كما شهدت بذلك أحاديث أهل البيت عليهم السلام .
فعن الصادق (ع) عن آبائه عن علي بن أبي طالب (ع) قال : قال رسول الله (ص) : «قال الله جل جلاله : أنا الله لا إله إلا أنا خلقت الملوك وقلوبهم بيدي ، فأيما قوم أطاعوني جعلت قلوب الملوك عليهم رحمة ، وأيما قوم عصوني جعلت قلوب الملوك عليهم سخطة ، ألا لا تشغلوا أنفسكم بسب الملوك ، توبوا إلي أعطف قلوبهم عليكم» (1) .
وقد بحثت في القسم الأول من هذا الكتاب موضوع العدل وفضائله وأنواعه فراجعه هناك .
ب ـ الصلاح : ينزع غالب الناس إلى تقليد الحكام والعظماء تشبهاً بهم ومحاكاة لهم ، ورغبة في جاههم ومكانتهم .
ولهذا وجب اتصاف الحاكم بالصلاح وحسن الخلق وجمال السيرة والسلوك ليكون قدوة صالحة ونموذجاً رفيعاً تستلهمه الرعية وتسير على هديه ومناهجه .
وانحراف الحاكم وسوء أخلاقه وأفعاله يدفع غالب الرعية إلى الإنحراف وزجها في متاهات الغواية والضلال ، فيعجز الحاكم آنذاك عن ضبطها وتقويمها .
ونفسك فاحفظها من الغي والردى فمتى تغواها تغوي الذي بك يقتدي

(1) البحار ، كتاب العشرة ص 210 عن أمالي الشيخ الصدوق .
أخلاق أهل البيت 341

وفي التأريخ شواهد جمة على تأثر الشعوب بحكامها ، وانطباعها بأخلاقهم وسجاياهم حميدة كانت أو ذميمة كما قيل : ـ الناس على دين ملوكهم .
جـ ـ الرفق : ويجدر بالحاكم أن يسوس الرعية بالرفق وحسن الرعاية ، ويتفادى سياسة العنف والإرهاب ، فليس شيء أضر بسمعة الحاكم وزعزعة كيانه من الاستبداد والطغيان .
وليس شيء اضر بالرعية ، وادعى الى اذلالها وتخلفها من ان تساس بالقسوة والاضطهاد .
فعن أبي جعفر (ع) قال : قال رسول الله (ص) : «إن الرفق لم يوضع على شيء إلا زانه ، ولا نزع من شيء إلا شانه» (1) .
وقال الصادق (ع) : «من كان رفيقاً في أمره نال ما يريد من الناس» (2) .
وقال أمير المؤمنين (ع) في عهده إلى مالك الأشتر : «وأشعر قلبك الرحمة للرعية ، والمحبة لهم والطف بهم ، ولا تكونن سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم ، فإنهم صنفان : إما أخ لك في الدين ، إما نظير لك في الخلق ، يفرط منهم الزلل ، وتعرض لهم العلل ، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ ، فاعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك الله من عفوه وصفحه ، فإنك فوقهم ، ووالي الأمر عليك فوقك ، والله فوق من ولاك ، وقد استكفاك أمرهم وابتلاك بهم» .
وبديهي أن الرفق لا يجمل وقعه ولا يحمد صنيعه إلا مع النبلاء الأخيار ، أما الأشرار العابثون بأمن المجتمع وحرماته فإنهم لا يستحقون الرفق ولا يليق بهم ، إذ لا تجديهم إلا القسوة الزاجرة والصرامة الرادعة عن غيهم وإجرامهم .
إذا أنت أكـرمت الكــريم ملكتــه وإن أنت أكـرمت اللئــيم تمــردا
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى

(1) الوافي ج 3 ص 86 عن الكافي .
(2) الوافي ج 3 ص 87 عن الكافي .
أخلاق أهل البيت 342

مظاهر الرفق

وللرفق صور رائعة ومظاهر خلابة ، تتجلى في أقوال الحاكم وأفعاله .
أ ـ فعليه أن يكون عف اللسان ، مهذب القول ، مجانباً للبذاء .
ب ـ وأن يكون عطوفاً على الرعية يتحسس بآلامها ومآسيها . فإذا داهمها خطر ، وحاق بها بلاء سارع لنجدتها ومواساتها والتخفيف من بؤسها وعنائها .
جـ ـ وأن يتفادى ارهاق الرعية ـ بالأتاوات الباهضة ، والضرائب الفادحة الباعثة على شقائها وعنتها .

آثار الرفق

للرفق خصائص وآثار طيبة تفيء على الحاكم والمحكوم بالخير والوئام . فهو مدعاة حب الرعية للراعي وإخلاصها له وتفانيها في سبيله .
كما هو عاصم للرعية عن الملق والنفاق الناجمين عن رهبة الحاكم المتجبر والخوف من بطشه وفتكه . وقد مدح الله رسوله الأعظم بالرفق والعطف فقال تعالى :
«فبما رحمة من الله لنت لهم ، ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك» (آل عمران : 159) .
د ـ اختبار الأعوان :
لا يستطيع الحاكم مهما أوتي من قدرة وكفاءة أن يستقل بسياسة الرعية ، ويضطلع بمهام الحكم وإدارة جهازه ، فهو لا يستغني عن أعوان يؤازرونه على تحقيق أهدافه وإنجاز أعماله .
ولهؤلاء الأعوان أثر كبير وخطير في توجيه الحاكم وتكييف أخلاقه وآرائه حسبما تتصف به من خلال وميول رفيعة أو وضيعة .
لذلك كان على الحاكم أن يختار بطانته وأعوانه من ذوي الكفاءة والنزاهة والصلاح ، لتمحضه النصيحة ، وتؤازره على إسعاد الرعية وتحقيق آماله وأمانيها ،

أخلاق أهل البيت 343

دونما نزوع إلى إثرة أو محاباة تضر بصالح الرعية وتجحف بحقوقها .
هـ ـ محاسبة العمال والموظفين : كثيراً ما يزهو الموظف بمنصبه ونفوذه ، ويستحوذ عليه الغرور فيتحدى الناس ، ويتعالى عليهم ، ويمتهن كرامتهم ويهمل أعمالهم ولا ينجزها إلا بدافع من الطمع أو المحاباة ، الخوف أو الرجاء مما يعرقل مهماتهم ويستثير سخطهم وحنقهم على جهاز الحكم . لهذا يجب على الحاكم مراقبة الموظفين ومحاسبتهم على أعمالهم ومكافأة المحسن منهم على إحسانه ، ومعاقبة المسيء على إساءته ، ليؤدي كل فرد منهم واجبه نحو المجتمع ، وليستشعر الناس مفاهيم العزة والكرامة والرخاء .
وبذلك تتسق شؤون الرعية ، ويسودها العدل ، وتنجو من مآسي الملق والتزلف إلى الموظفين بالرشا وألوان الشفاعات .
و ـ إسعاد الرعية :
والحاكم بوصفه قائد الأمة وراعيها الأمين ، فهو مسؤول عن رعايتها والعناية بها ، والحرص على إسعادها ورقيها مادياً وأدبياً . وذلك : بتفقد شؤون الرعية ، ورعاية مصالحها وضمان حقوقها وإشاعة الأمن والعدل والرخاء فيها وتصعيد مستوياتها العلمية والصحية والاجتماعية والأخلاقية والعمرانية : بنشر العلم وتحسين طرق الوقاية والعلاج وتهذيب الأخلاق والاهتمام بالتنمية الصناعية والزراعية والتجارية ، بالأساليب العلمية الحديثة واستغلال الموارد الطبيعية ، وتشجيع المواهب والطاقات على الإبداع في تلك المجالات على أفضل وجه ممكن .
وبذلك تتوطد دعائم الملك ، وتعلو أمجاد الأمم ، وتتوثق أواصر الود والإخلاص بين الحاكم والمحكوم ، ويتبوأ الحاكم عرش القلوب . ويحظى بخلود الذكر وطيب الثناء .
وقد عرضت في حقوق المجتمع الإسلامي طرفاً من حقوق أفراده تندرج في حقوق الرعية على الحاكم ، باعتباره المسؤول الأول عن رعايتها وصيانة حقوقها ، وضمان أمنها ورخائها .

السابق السابق الفهرس التالي التالي