أخلاق أهل البيت 344

حقوق الحاكم على الرعية

الحاكم العادل هو : قطب رحى الأمة ، ورائد نهضتها ، وباني أمجادها ، وحارسها الأمين . وهو عنصر فعال من عناصر المجتمع ، وجزء أصيل لا يتجزأ عنه ، لهذا وجب أن يكون التجاوب في العواطف والمشاعر قوياً بين الحاكم والمحكوم ، والراعي والرعية ، ليستطيع الأول أداء رسالته الإصلاحية لأمته ، وتحقيق أهدافها وأمانيها ، ولتنال الأمة في ظلال حكمه مفاهيم الطمأنينة والحرية والرخاء .
لذلك كان للحاكم حقوق على الرعية إزاء حقوقها عليه ، وكان على كل منها رعاية حقوق الآخر ، والقيام بواجبه نحوه .
وهذا ما أوضحه أمير المؤمنين (ع) حيث قال :
«فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة ، ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية ، فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه ، وأدى الوالي إليها حقها ، عز الحق بينهم ، وقامت مناهج الدين واعتدلت معالم العدل ، وجرت على إذلالها السنن ، فصل بذلك الزمان ، وطمع في بقاء الدولة ، ويئست مطامع الأعداء .
وإذا غلبت الرعية واليها ، وأجحف الوالي برعيته ، اختلفت هنالك الكلمة ، وظهرت معالم الجور ، وكثر الإدغال في الدين ، وتركت محاج السنن ، فعمل بالهوى وعطلت الأحكام ، وكثرت علل النفوس ، فلا يستوحش لعظيم حق عطل ، ولا لعظيم باطل فعل ، فهنالك تذل الأبرار ، وتعز الأشرار ، وتعظم تبعات الله عنه العباد» (1) .
وإليك مجملاً من حقوق الحاكم :
1 ـ الطاعة : للحاكم حق الطاعة على رعيته فيما يرضي الله عزوجل ، حيث لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .
والطاعة هي : المشجع الأول للحاكم على إخلاصه للرعية ، وتحسسه
(1) نهج البلاغة . من كلام له (ع) في حق الحاكم على المحكوم .
أخلاق أهل البيت 345

بمشاعرها وآلامها ، ودأبه على إسعادها وتحقيق آمالها وأمانيها .
أما التمرد والعصيان والخذلان فهي خلال مقيتة تستقز الحاكم وتستثير نقمته على الرعية ، وبطئه بها ، وتقاعسه على إصلاحها ورقيها ، ومن ثم إحباط جهوده الهادفة البناءة في سبيلها .
انظر كيف يوصي الإمام موسى بن جعفر (ع) شيعته بطاعة الحاكم : «يا معشر الشيعة لا تذلوا رقابكم بترك طاعة سلطانكم ، فإن كان عادلاً فاسألوا الله إبقاءه ، وإن كان جائراً فاسألوا الله إصلاحه ، فإن صلاحكم في صلاح سلطانكم ، وإن السلطان العادل بمنزلة الوالد الرحيم ، فأحبوا له ما تحبون لأنفسكم ، واكرهوا له ما تكرهون لأنفسكم» (1) .
2 ـ المؤازرة : والحاكم مهما سمت كفاءته ومواهبه ، فإنه قاصر عن الاضطلاع بأعباء الملك ، والقيام بواجبات الرعية وتحقيق منافعها العامة ، ومصالحها المشتركة إلا بمؤازرة أكفائها ، ودعمهم له ، ومعاضدتهم إياه بصنوف الجهود والمواهب المادية والمعنوية ، الجسمية والفكرية . وبمقدار تجاوبهما وتضامنها يستتب الأمن ، ويعم الرخاء ويسعد الراعي والرعية .
3 ـ النصيحة : كثيراً ما يستبد الغرور بالحاكم ، وتستحوذ عليه نشوة الحكم وسكرة السلطان ، فينزع إلى التجبر والطغيان ، واستعباد الرعية ، وخنق حريتها ، وامتهان كرامتها ، واستباحة حرماتها ، وسومها سوء المذلة والهوان .
وهذا ما يحتم على الغيارى من قادة الرأي ، واعلام الأمة أن يبادروا إلى نصحه وتقويمه ، والحد من طغيانه ، فإن أجدى ذلك ، وإلا فقد أعذر المصلحون وقاموا بواجب الإصلاح .
وقد جاء في الحديث عن الصادق عن آبائه عليهم السلام عن النبي (ص) قال :
«السلطان ظل الله في الأرض ، يأوي إليه كل مظلوم ، فمن عدل كان له الأجر ، وعلى الرعية الشكر ، ومن جار كان عليه الوزر وعلى الرعية الصبر حتى
(1) البحار . كتاب العشرة ص 218 عن أمالي الشيخ الصدوق .
أخلاق أهل البيت 346

يأتيهم الأمر» (1)
أما في العصر الحاضر وقد تطورت فيه أساليب الحياة ، ووسائل الإصلاح ، فلم يعد الحكام يستسيغون العظة والنصح ولا تجديهم نفعاً .
من أجل ذلك فقد استجازت الحكومات المتحضرة نقد حكامها المنحرفين عن طريق البرلمانات والصحف والمذكرات التي تندد بإثرتهم وأنانيتهم ، وتنذرهم عليها بلعنة الشعب ، وثورته الماحقة على الطغاة والمستبدين .


حاجات الجسم والنفس

يتألف الإنسان من عنصرين : عنصر الجسد ، وعنصر الروح ، وهما مترابطان ترابطاً وثيقاً ، ومتفاعلاًن تفاعلاً قوياً ، لا ينفك أحدهما عن الثاني إلا بتصرم العمر ، ونهاية الحياة . وسعادة الإنسان وهناؤه الجسمي والفكري منوط بصحة هذين العنصرين وسلامتهما معاً . لهذا كان على ناشد السعادة ومبتغيها أن يعني بهما عناية فائقة تضمن صحتهما وازدهارهما ، وصيانتهما من المضار .
ولكل من الجسم والروح أشواقه وحاجاته :
فحاجات الجسم هي : المآرب المادية الموجبة لنموه وصحته وحيويته ، كالغذاء والشراب والكساء ونحوها من ضرورات الحياة .
وحاجات الروح هي : الأشواق الروحية والنفسية التي تتعشقها الروح ، وتهفو إليها ، كالمعرفة ، والحرية والعدل ، وراحة الضمير ورخاء البال وما إلى ذلك من المثل العليا والأماني الروحية . ولا مناص من تلبية هذه المرآب والرغائب الجسمية والروحية لتحقيق صحة الجسم والروح ، وضمان هنائهما المرجو .
فحرمان الجسم من أشواقه يفضي به إلى الضعف والسقم والانحلال وحرمان الروح والنفس من أمانيها ، يقودها إلى الحيرة والقلق والشقاء .
(1) البحار . كتاب العشرة . ص 214 عن أمالي الشيخ أبي علي ابن الشيخ الطوسي .
أخلاق أهل البيت 347


والسعادة الحقة منوطة بصحة الجسم والنفس وازدهارهما معاً ورعاية حقوقهما المادية والروحية .

حقوق الجسد

وتتلخص هذه الحقوق في رعاية القوانين الصحية ، واتباع الآداب الإسلامية الكفيلة بصحة الجسم وحيويته ونشاطه . كالاعتدال في الطعام والشراب وتجنب الكحول والعادات الضارة ، كالخمر والحشيش والأفيون والتوقي من الشهوات الجنسية الآثمة ، واعتياد النظافة ، وممارسة الرياضية البدنية ، ومعالجة الأمراض الصحية ونحو ذلك من مقومات الصحة وشرائطها مما هو معروف لغالب الناس لتوفر التوعية الصحية ، والنصائح الطبية في حقول الإعلام الصحفي والإذاعي . فلا أجد حاجة إلى تفصيله والاطناب فيه .

حقوق النفس

بيد أن صحة النفس ووسائل وقايتها وعلاجها ، وعوامل رقيها وتكاملها ، ورعاية حقوقها وواجباتها ، يجهلها أو يتجاهلها الكثيرون لقلة احتفائهم بالقيم الروحية والمفاهيم النفسية ، وجهلهم بعلل النفس وانحرافاتها . وما تعكسه من آثار سيئة على حياة الناس .
فالأمراض الجسمية تبرز سماتها وأعراضها على الجسم في صور من الشحوب والهزال والانهيار .
أما العلل النفسية والروحية فإن مضاعفاتها لا يتبينها إلا العارفون من الناس ، حيث تبدو في صور مقيتة من جموح النفس ، وتمردها على الحق ، ونزوعها إلى الآثام والمنكرات ، وهيامها بحب المادة وتقديسها وعبادتها ، ونبذها للقيم الروحية ومثلها العليا . مما يوجب مسخها وهبوطها إلى درك الحيوان .
من أجل ذلك كانت العلل الروحية والنفسية أصعب علاجاً ، وأشد عناءً من العلل الجسمية ، لعسر علاج الأولى ، ويسر الثانية في الغالب .
وكانت عناية الحكماء والأولياء بتهذيب النفس ، وتربية الوجدان أضعاف عنايتهم بالجسد .

أخلاق أهل البيت 348


وهذا ما يحتم على كل واع مستنير أن يعني بتركيز نفسه ، وتصعيد كفاءتها ، وتهذيب ملكاتها ، ووقايتها من الشذوذ والانحراف ، وذلك برعاية حقوقها ، وحسن سياستها وتوجيهها .
وإليك طرفاً من طلائع حقوق النفس :

1 ـ تثقيف النفس :


وذلك : بتنويرها بالمعرفة الإلهية والعقيدة الحقة ، وتزويدها بالمعارف النافعة التي تنير للإنسان سبل الهداية وتوجهه وجهة الخير والسداد . وهذه هي أسمى غايات النفس وأشواقها .
فهي تصبو إلى العقيدة ، وتهفو إلى الإيمان بالله عزوجل ، وتتعشق العلم ، وتهفو إلى استجلاء الحقائق ، واستكشاف أسرار الكون وألغاز الحياة . تتطلع إلى ذلك تطلع الظمآن إلى الماء ، وتلتمس الذي لنفسها كما يلتمسه هو سواء بسواء . فإن ظفرت بذلك أحست بالطمأنينة والارتياح ، وإن فقدته شعرت بالقلق والسأم .

2 ـ إصلاح السريرة :


للإنسان صورتان : صورة ظاهرية تتمثل في إطار جسده المادي ، وصورة باطنية تتمثل فيها خصائصه النفسية ، وسجاياه الخلقية .
وكما تكون الصورة الظاهرية هدفاً للمدح أو الذم ، ومدعاة للحب أو الكره نظراً لصفاتها الجميلة أو القبيحة . كذلك الصورة الباطنية يعروها المدح والذم ، وتبعث على الإعجاب أو الإستنكار ، تبعاً لما تتسم به من طيبة أو خبث ، من تلالوء أو ظلام .
وكما يهتم العقلاء بتجميل صورهم المادية ، وإضهارها بالمظهر اللائق الجذاب . كذلك يجدوا الاهتمام بتجميل صورهم الباطنية ، وتزيينها بالطيبة وصفاء السريرة وجمال الخلق . لتغدو وضاءة مشعة بألوان الخير والجمال . وذلك

أخلاق أهل البيت 349

بتطهيرها من أوضار الرياء والنفاق ، والحسد والمكر ونحوها من السجايا الهابطة المقيتة .
من أجل ذلك حرض أهل البيت عليهم السلام على تهذيب النفس وإصلاح السريرة ، وحسن الطوية لتكون ينبوعاً ثراً فياضاً الفضائل وحسن الأخلاق .
فعن الصادق عن آبائه عليهم السلام قال : «قال أمير المؤمنين (ع) : كانت الفقهاء والحكماء إذا كاتب بعضهم بعضاً ، كتبوا بثلاث ليس معهن رابعة :
من كانت الآخرة همه كفاه الله همه من الدنيا ، ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته ، ومن أصلح فيما بينه وبين الله عزوجل أصلح الله له فيما بينه وبين الناس» (1) .
وقال الصادق (ع) : «ما من عبد يسر خيراً إلا لم تذهب الأيام حتى يظهر الله له خيراً ، وما من عبد يسر شراً ، إلا لم تذهب الأيام حتى يظهر الله له شراً» (2) .
وعنه (ع) قال : قال رسول الله (ص) : «سيأتي على الناس زمان ، تخبث فيه سرائرهم ، وتحسن فيه علانيتهم ، طمعاً في الدنيا ، لا يريدون به ما عند ربهم ، يكون دينهم رياءً ، لا يخالطهم خوف ، يعمهم الله بعقاب ، فيدعونه دعاء الغريق ، فلا يستجيب لهم» (3) .

3 ـ ضبط النفس :


تنزع النفس بغرائزها وشهواتها إلى الشذوذ والانحراف ، وتخدع أربابها بسحرها الفاتن وأهوائها المظللة ، حتى تجمح بهم في متاهات الغواية والضلال «إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي» (يوسف : 53) .

(1) البحار م 14 ج 2 ص 204 عن الخصال والأمالي وثواب الأعمال للصدوق (ره) .
(2) الوافي ج 3 ص 147 عن الكافي .
(3) الوافي ج 3 ص 148 عن الكافي .
أخلاق أهل البيت 350

وهذا ما يحفز كل واع مستنير ، أن يعني بضبط نفسه ، والسيطرة عليها وتحصينها ضد المعاصي والآثام ، وترويضها على طاعة الله تعالى ، واتباع شرعته ومنهاجه .
وقد حث القرآن الكريم على ضبط النفس ، والحد من جماحها وتوجيهها شطر الخير والصلاح .
قال تعالى : «ونفس وما سواها ، فألهمها فجورها وتقواها ، قد أفلح من زكاها ، وقد خاب من دساها» (الشمس : 7 ـ 10) .
وقال تعالى : «وأما من خاف مقام ربه ، ونهى النفس عن الهوى ، فإن الجنة هي المأوى» (النازعات : 41) . «فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا ، فإن الجحيم هي المأوى» (النازعات : 37) .
وهكذا حرض أهل البيت عليهم السلام على ضبط النفس ، وقمع نزواتها ، معتبرين ذلك أفضل صور الجهاد .
فعن موسى بن جعفر عن آبائه عليهم السلام قال . «قال أمير المؤمنين (ع) : إن رسول الله (ص) بعث سرية ، فلما رجعوا قال : مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر . قيل : يا رسول الله وما الجهاد الأكبر ؟
قال (ص) : جهاد النفس . ثم قال : أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه» (1) .
وعن عبد الله بن الحسن ، عن أمه فاطمة بنت الحسين بن علي (ع) عن أبيها (ع) قال : قال رسول الله (ص) : «ثلاث خصال ، من كن فيه ، استكمل ، خصال الإيمان : الذي إذا رضى لم يدخله رضاه في إثم ولا باطل ، وإذا غضب لم يخرجه الغضب من الحق ، وإذا قدر لم يتعاط ما ليس له» (2) .

(1) سفينة البحار ج 1 ص 197 عن معاني الأخبار للصدوق .
(2) سفينة البحار ج 2 ص 550 عن الخصال للصدوق .
أخلاق أهل البيت 351

4 ـ محاسبة النفس :


والمراد منها هو : محاسبة النفس في كل يوم عما عملته من الطاعات والمعاصي ، والموازنة بينهما ، فإن رجحت كفة كفة الطاعات ، شكر المحاسب الله على توفيقه لها ، وفوزه بشرف طاعته ورضاه .
وإن رجحت كفة المعاصي أدب المحاسب نفسه بالتقريع والتأنيب على إغفال الطاعة ، والنزوع للآثام .
قال الإمام موسى بن جعفر (ع) : «ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم ، فإن عمل حسنة استزاد الله تعالى ، وإن عمل سيئة استغفر الله تعالى منها وتاب إليه» (1) .
وقد بحثت هذا الموضوع في القسم الأول من هذا الكتاب فراجعه هناك .
هذه لمحات خاطفة من حقوق النفس ، تفاديت الأطناب فيها خشية السأم والملل .
وقد وقع الفراغ من هذه الأبحاث على يد مؤلفها مهدي بن المغفور له العلامة الحجة السيد علي الصدر ابن آية الله العظمى السيد حسن الصدر أعلى الله مقامهما ـ في ليلة الأربعاء 17 شوال سنة 1390 هـ والحمد لله أولاً وآخراً .
تم الكتاب بعون الله الوهاب


(1) الوافي ج 3 ص 62 عن الكافي .
أخلاق أهل البيت 352


السابق السابق الفهرس