|
|
وقال (ص) : «أعقل الناس أشدهم مداراة للناس» (1) .
والجدير بالذكر أن من أقوى عوامل ازدهار الصداقة وتوثيق أواصر الحب والإخلاص بين الأصدقاء ، هو أن يتفادى كل منهم جهده عن تصديق النمامين والوشاة المغرمين بغرس بذور البغضاء والفرقة بين الأحباب وتفريق شملهم ، وفصم عرى الإخاء بينهم . وهؤلاء هم شرار الخلق كما وصفهم رسول الله (ص) حيث قال :
«ألا أنبئكم بشراركم ؟ قالوا بلى يا رسول الله . قال : المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الأحبة ، الباغون للبراء المعايب» (2) .
* * *
|
|
الاعتدال في حب الصديق والثقة به
|
ومن الحكمة أن يكون العاقل معتدلاً في محبة الأصدقاء والثقة بهم والركون إليهم دون إسراف أو مغالاة ، فلا يصح الإفراط في الاطمئنان إليهم واطلاعهم على ما يخشى إفشاءه من أسراره وخفاياه .
فقد يرتد الصديق ويغدو عدواً لدوداً ، فيكون آنذاك أشد خطراً وأعظم ضرراً من الخصوم والأعداء .
وقد حذرت وصايا أهل البيت عليهم السلام وأقوال الحكماء والأدباء نظماً ونثراً من ذلك :
قال أمير المؤمنين (ع) : «أحبب حبيبك هوناً ما ، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما ، وابغض بغيضك هوناً ما ، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما» (3) .
وقال الصادق (ع) لبعض أصحابه :
«لا تطلع صديقك من سرك إلا على ما لو اطلع عليه عدوك لم يضرك فإن
|
(1) معاني الأخبار للصدوق .
(2) البحار كتاب العشرة ص 191 عن الكافي .
(3) نهج البلاغة .
|
الصديق قد يكون عدوك يوماً ما» (1) .
قال المعري :
| خف من تود كما تخاف معادياً |
|
وتمار فيمن ليس فيه تمار |
| فالرزء يبعثه القريب وما درى |
|
مضر بما تجنى يدا أنمار |
وقال أبو العتاهية :
| ليخل امرؤ دون الثقات بنفسه |
|
فما كل موثوق به ناصح الحب |
|
حقوق الجوار
|
|
|
 |
لقد جهد الإسلام في حث المسلمين وترغيبهم في التآزر والتعاطف ، ليجعلهم أمة مثالية في اتحادها وتعاضدها على تحقيق أهدافها ، ودفع الأزمات والأخطار عنها .
ودأب على غرس تلك المفاهيم السامية في نفوس المسلمين ليزدادوا قوة ومنعة وتجاوباً في أحاسيس الود ومشاعر الإخاء .
«محمد رسول الله ، والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم» (الفتح : 29) .
«وتعاونوا على البر والتقوى ، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان» (المائدة :2) .
وكان من ذلك تحريض المسلمين على حسن الجوار ورعاية الجار ، لينشيء من المتجاورين جماعة متراصة متعاطفة تتبادل اللطف والإحسان ، وتتعاون على كسب المنافع ودرئ المضار ، ليستشعروا بذلك الدعة والرخاء والقوة على معاناة المشاكل والأحداث .
ولقد أوصى القرآن الكريم برعاية الجار والإحسان إليه فقال :
«واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى
|
|
(1) البحار ، كتاب العشرة ص 49 عن أمالي الصدوق .
|
واليتامى والمساكين وابن السبيل والجار ذي القربى ، والجار الجنب ، والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم» (النساء : 36) .
والمراد ـ بالجار ذي القربى ـ الجار القريب داراً أو نسباً ـ والجار الجنب ـ هو البعيد جواراً أو نسباً .
وعن أبي عبد الله (ع) قال : «قال رسول الله (ص) : كل أربعين داراً جيران من بين يديه ومن خلفه ، وعن يمينه وعن شماله» (1) .
و ـ الصاحب بالجنب ـ الرفيق في السفر ، أو الزميل في التعلم ، أو في الحرفة .
و ـ ابن السبيل ـ المسافر أو الضيف .
و ـ ما ملكت أيمانكم ـ الأهل والخدم .
وناهيك في حرمة الجار وضرورة رعايته قول النبي (ص) فيه : «ما زال جبرئيل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» (2) .
وعن أبي عبد الله (ع) قال : قال رسول الله (ص) :
«حسن الجوار يعمر الديار ـ وينسيء في الأعمار» (3) .
وقال الصادق (ع) : «ليس منا من لم يحسن مجاورة من جاوره» (4) .
وعن أبي جعفر (ع) قال : قال رسول الله (ص) : «ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع ، وما من أهل قرية يبيت فيهم جائع ينظر الله إليهم يوم القيامة» (5) .
وقال الصادق (ع) : «إن يعقوب لما ذهب منه بنيامين نادى يا رب أما ترحمني ، أذهبت عيني ، وأذهبت ابني . فأوحى الله تعالى إليه : لو أمتهما لأحييتهما لك حتى أجمع بينك وبينهما ، ولكن تذكر الشاة التي ذبحتها وشويتها وأكلت ،
|
(1) الوافي ، ج 3 ص 97 عن الكافي .
(2) الوافي ، ج 3 ص 96 عن الفقيه .
(3) ، (4) ، (5) الوافي ج 3 ص 96 عن الكافي .
|
وفلان إلى جانبك صائم لم تنله منها شيئاً» (1) .
وفي رواية آخرى قال : «وكان بعد ذلك يعقوب ينادي مناديه كل غداة من منزله على فرسخ ، ألا من أراد الغداء فليأت إلى يعقوب . وإذا أمسى نادى : ألا من أراد العشاء فليأت إلى يعقوب» (2) .
وخلاصتها أن يساس الجار باللطف وحسن المداراة كابتدائه بالسلام وعيادته في المرض ، وتهنئته في الأفراح ، وتعزيته في المصائب ، وعدم التطلع إلى حرمه ، والاغضاء عن هفواته ، وكف الأذى عنه ، وإعانته مادياً إذا كان معوزاً ، وإعارة ما يستعيره من الأدوات المنزلية ، ونصحه إذا ما زاغ وانحرف عن الخط المستقيم .
ومن طريف ما يحكى في حسن الجوار :
«إن رجلاً كان جاراً لأبي دلف ببغداد ، فأدركته حاجة ، وركبه دين فادح حتى احتاج إلى بيع داره ، فساوموه فيها ، فسمى لهم ألف دينار ، فقالوا له : إن دارك تساوي خمسمائة دينار . فقال : أبيع داري بخمسمائة ، وجوار أبي دلف بخمسمائة ، فبلغ أبا دلف الخبر ، فأمر بقضاء دينه ووصله ، وقال : لا تنتقل من جوارنا . فانظر كيف صار الجوار يباع كما تباع العقار» .
|
حقوق المجتمع الإسلامي
|
|
|
 |
كان المجتمع الإسلامي إبان رقيه وازدهاره ، نموذجاً فذاً ونمطاً مثالياً بين المجتمعات العالمية المتحضرة ، بخصائصه الرفيعة ، ومزاياه الغر التي بوأته قمم المفاخر والأمجاد ، وأنشأت من أفراده أسرة إسلامية مرصوصة الصف ، خفاقة
|
|
(1) ، (2) الوافي ج 3 ص 96 عن الكافي .
|
اللواء ، مرهوبة الجانب ، مرهوبة بالفضائل والمكرمات .
لقد كان فذاً في عقيدته التي حوت أسرار التوحيد وأوضحت خصائص الألوهية وصفاتها الحقة ، وجلت واقع النبوة والأنبياء ، وفصلت حقائق المعاد ، وما يجيش به من صور النعيم والعذاب .
حوت كل ذلك ، وصورته تصويراً رائعاً يستهوي العقول والقلوب ويقنع الضمائر حتى باركها الله واصطفاها بين العقائد والأديان .
«ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين» (آل عمران : 85) .
وكان فذاً في شريعته الغراء ، تلك التي تكاملت بها شرائع السماء وبلغت قمة الوحي الإلهي ما جعلها الشريعة الخالدة عبر الحياة ، والدستور الأمثل للبشرية جمعاء .
وكان فذاً في أخلاقه ، فقد ازدهرت في ربوعه القيم الأخلاقية وتكاملت حتى أصبحت طابعاً مميزاً للمسلم الحق كما وصفه الرسول الأعظم (ص) بقوله :
«المؤمن من أمنه الناس على أموالهم ودمائهم ، والمسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه ، والمهاجر من هجر السيئات» (1) .
وكان مثلاً رفيعاً في آدابه الاجتماعية :
قال أمير المؤمنين (ع) : «يا بني اجعل نفسك ميزاناً بينك وبين غيرك ، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك ، وأكره له ما تكره لها ، ولا تظلم كما لا تحب أن تظلم ، وأحسن كما تحب أن يحسن إليك ، واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك ، وارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك ، ولا تقل ما لا تعلم ، وإن قل ما تعلم ، ولا تقل ما لا تحب أن يقال لك» (2) .
وكان فريداً في تآخيه : فقد أعلن مبدأ المؤاخاة وحققه بين أفراده بأسلوب
|
(1) الوافي ج 14 ص 48 عن الفقيه .
(2) نهج البلاغة ، من وصيته لابنه الحسن (ع) .
|
لم تستطع تحقيقه سائر الشرائع والمبادئ «إنما المؤمنون أخوة» (الحجرات : 10) وأصبح المجتمع أسرة واحدة تستشعر روح الإخاء ، وتتجاوب في عواطفها ومشاعرها ، وكان ذلك من أعظم منجزات الإسلام وفتوحاته الإصلاحية .
وكان مثالياً في أريحته وتكافله : فالمسلم معني بشؤون المجتمع والاهتمام بمصالحه والعطف على بؤسائه ومعوزيه .
فعن أبي عبد الله (ع) قال : قال رسول الله (ص) : «من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم» (1) .
وعنه (ع) قال : قال رسول الله (ص) : «الخلق عيال الله ، وأحب الخلق إلى الله من نفع عيال الله ، وأدخل على بيت سروراً» (2) .
للفرد قيمته ومنزلته في المجتمع ، بصفته لبنة في كيانه ، وغصناً من أغصان دوحته ، وبمقدار ما يسعد الفرد ، وينال حقوقه الاجتماعية يسعد المجتمع ، وتشيع فيه دواعي الطمأنينة والرخاء ، وبشقائه وحرمانه يشقى المجتمع وتسوده عوامل البلبلة والتخلف .
لذلك كان حتماً مقضياً على المجتمع رعاية مصالح الفرد ، وصيانة كرامته ومنحه الحقوق الاجتماعية المشروعة ، ليستشعر العزة والسكينة والرخاء في إطار أسرته الاجتماعية ، وإِليك أهم تلك الحقوق :
وهو حق طبيعي مقدس يجب رعايته وصيانته ، ويعتبر الإسلام هدره والاعتداء عليه جنابة نكراء وجرماً عظيماً يتوعد عليه بالنار : «ومن يقتل مؤمناً معتمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها ، وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً» (النساء : 93) .
|
(1) الوافي ج 3 ص 99 عن الكافي .
(2) الوافي ج 3 ص 99 عن الكافي .
|
ولم يكتف الإسلام بإنذار السفاكين ، ووعيدهم بالعقاب الأخروي ، فقد شرع القصاص من القاتل عمداً ، والدية عليه خطأ ، حماية لدماء المسلمين ، وحسماً لأحداث القتل وجرائمه «ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون» (البقرة : 129) .
وليس للإنسان أن يفرط في حياته ويزهقها بالانتحار ، وإنما يجب عليه حفظها وصيانتها من الأضرار والمهالك «ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة» (البقرة : 195) .
وقد بالغ الإسلام في قدسية الأرواح وحمايتها ، حتى حرم قتل الجنين وإجهاضه تخلصاً منه ، وفرض الدية على قاتله .
لقد شرف الله المؤمن وحباه بصنوف التوقير والإعزاز ، وألوان الدعم والتأييد . فحفظ كرامته ، وصان عرضه ، وحرم ماله ودمه ، وضمن حقوقه ، ووالى عليه ألطافه ، حتى أعلن في كتابه الكريم عنايته بالمؤمن ورعايته له في الحياة العاجلة والآجلة : «إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون ، نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما توعدون» (حم السجدة : 30 ـ 31) .
«الذين آمنوا وكان يتقون ، لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة» (يونس : 63 ـ 64) .
«إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد» (غافر : 51) .
وحرم الإسلام بعد هذا كل ما يبعث على استهانة المؤمن وخدش كرامته وتلويث سمعته باغتيابه والتجسس عليه ، والسخرية منه ليطهر المجتمع الإسلامي من عوامل التباغض والفرقة . وليشع في ربوعه مفاهيم العزة والكرامة .
«يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن ، إن بعض الظن إثم ، ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً ، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه» (الحجرات : 12) .
«يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ، ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن ، ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب ، بئس الإسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون» (الحجرات : 11) .
وهكذا حرص الإسلام على إعزاز المؤمن وحماية شرفه وكرامته حتى بعد وفاته ، فجعل حرمته ميتاً كحرمته حياً ، وفرض على المسلمين تجهيزه بعد الممات وتغسيله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه ، وحرم كلما يثلب كرامته كالمثلة به ونبش قبره ، واستغابته والطعن فيه .
وقد جهد الإسلام في حماية المسلمين وضمان كرامتهم فرداً ومجتمعاً مادياً وأدبياً :
فشرع الحدود والديات صيانة لأرواحهم وأموالهم وحرماتهم ، وردعاً للمجرمين العابثين بأمن المجتمع ومقدراته .
«ولكم في القصاص حياة يا أولي الألبابب ، لعلكم تتقون» (البقرة : 129) .
«إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً ، أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض» (المائدة : 33) .
وبالغ الإسلام في عقوبة الزاني لاستهتاره بقدسية أعراض الناس ، وانتهاكه صميم كرامتهم وشرفهم .
«الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة ، ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله» (النور : 2) .
وقرر الحد الصارم على السارق حسماً لأجرامه وحرصاً على أمن المسلمين واطمئنانهم .
«والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالاً من الله» (المائدة : 38) .
وهكذا أعلن أهل البيت عليهم السلام شرف المؤمن وعزته ، وأحاطوه بهالة من التوقير والإجلال وألوان الحصانة والصيانة :
فعن أبي جعفر (ع) قال : قال رسول الله (ص) : «سباب المؤمن فسوق ، وقتاله كفر ، وأكل لحمه معصية ، وحرمة ماله كحرمة دمه» (1) .
وعن أبي عبد الله (ع) قال :
قال رسول الله (ص) : «قال الله عزوجل : من أهان لي ولياً ، فقد أرصد لمحاربتي . وما تقرب إلي عبد بشيء أحب إلي مما افترضت عليه ، وإنه ليتقرب إلي بالنافلة حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ولسانه الذي ينطق به ، ويده التي يبطش بها ، ان دعاني اجبته، وان سالني اعطيته ، وما ترددت عن شيء أنا فاعله كترددي عن موت عبدي المؤمن ، يكره الموت وأنا أكره مساءته» (2) .
وعنه (ع) قال :
قال رسول الله (ص) : «يا معشر من أسلم بلسانه ، ولم يخلص الإيمان إلى قلبه ، لا تذموا المسلمين ، ولا تتبعوا عوراتهم ، فإنه من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته ، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في بيته» (3) .
وعنه عليه السلام قال :
قال رسول الله (ص) : «من أذاع فاحشة كان كمبتدئها ومن عيّر مؤمنا بشيء لم يمت حتى يركبه» (4) .
|
(1) سفينة البحار ج 1 ص 41 عن الكافي .
(2) سفينة البحار ج 1 ص 41 عن الكافي .
(3) البحار كتاب العشرة ص 177 عن الكافي .
(4) الوافي ج 3 ص 163 عن الكافي .
|
والحرية هي : انعتاق الإنسان وتحرره من أسر الرق والطغيان ، وتمتعه بحقوقه المشروعة . وهي من أقدس الحقوق وأجلها خطراً ، وأبلغها أثراً في حياة الناس .
لذلك أقر الإسلام هذا الحق وحرص على حمايته وسيادته في المجتمع الإسلامي .
وليست الحرية كما يفهمها الأغرار هي التحلل من جميع النظم والضوابط الكفيلة بتنظيم المجتمع ، وإصلاحه وصيانة حقوقه وحرماته ، فتلك هي حرية الغاب والوحوش الباعثة على فساده وتسيبه . وإنما الحرية الحقة هي :
التمتع بالحقوق المشروعة التي لا تناقض حقوق الآخرين ولا تجحف بهم . وإليك طرفاً من الحريات :
فمن حق المسلم أن يكون حراً طليقاً في عقيدته وممارسة عباداته ، وأحكام شريعته . فلا يجوز قسره على نبذها أو مخالفة دستورها ، ويعتبر ذلك عدواناً صارخاً على أقدس الحريات ، وأجلها خطراً في دنيا الإسلام والمسلمين ، وعلى المسلم أن يكون صلباً في عقيدته ، صامداً إزاء حملات التضليل التي يشنها أعداء الإسلام ، لإغواء المسلمين وإضعاف طاقاتهم ومعنوياتهم .
ومن حق المسلم الرشيد أن يكون حراً في تصرفاته ، وممارسة شؤونه المدنية ، فيستوطن ما أحب من البلدان ، ويختار ما شاء من الحرف والمكاسب ويتخصص فيما يهوى من العلوم ، وينشيء ما أراد من العقود ، كالبيع والشراء والإجارة والرهن ونحوها . وهو حر في مزاولة ذلك على ضوء الشريعة الإسلامية .
|
|
ج ـ حرية الدعوة الإسلامية :
|
وهذه الحرية تخص الأكفاء من المسلمين القادرين على نشر التوعية الإسلامية ، وإرشاد المسلمين وتوجيههم وجهة الخير والصلاح . وذلك ما يبعث على تصعيد المجتمع الإسلامي ورقية دينياً وثقافياً واجتماعياً ، ويعمل على وقايته وتطهيره من شرور الرذائل والمنكرات .
«ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ، ويأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون» (آل عمران : 104) .
وقال رسول الله (ص) :
«لا يزال الناس بخير ما أمروا بالمعروف ، ونهوا عن المنكر ، وتعاونوا على البر ، فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات ، وسلط بعضهم على بعض ، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء» (1) .
كانت الأمم العالمية تعيش حياة مزرية ، تسودها الأثرة والأنانية ، وتفرقها نوازع الامتيازات الطبقية . فكان التفاوت الطبقي من أبرز مظاهر العرب الجاهلين . إذ كانوا يضطهدون الضعفاء ويستعبدونهم كالأرقاء ، ولا يؤاخذون الأشراف على جناية أو جرم تمييزاً لهم عن سوقة الناس .
وحسبك ما كان عليه ملوك العرب يومذاك من الأنانية واستذلال الناس .
فكان عمر بن هند ملكاً عربياً : وقد عود الناس أن يكلمهم من وراء حجاب ، وقد استكثر على سادة القبائل أن تأنف أمهاتهم من خدمته في داره .
وكان النعمان بن المنذر قد بلغ به العسف أن يتخذ لنفسه يوماً للرضى ، يغدق فيه النعم على كل قادم إليه خبط عشواء ، ويوماً للغضب يقتل فيه كل طالع عليه من الصباح إلى المساء .
ومن القصص المشهورة : قصة (عمليق) ملك طسم وجديس . كان
|
|
(1) الوافي ج 9 ص 29 عن التهذيب .
|
يستبيح كل عروس قبل أن تزف إلى عروسها» (1) .
وهكذا كانت الأمم الغربية في تمايزها الطبقي حتى قيام الثورة الفرنسية التي طفقت تنادي بالمساواة وتحفز عليها مما أيقظ الغربيين وآثار فيهم شعور المساواة .
ولكن رواسب الطبقية لا تزال عالقة في نفوس الغربيين تستشف من خلال أقوالهم وتصرفاتهم :
فالألمانية النازية : تقدس الجنس الآري ، وتفضله على سائر الأجناس البشرية .
«والأمم الأمريكية : لا يزال الصراع فيها قائماً بين البيض والسود من جراء أنانية البيض وترفعهم عن مخالطة السود ، ومشاركتهم في المدارس والمطاعم وسائر مرافق الحياة .
وهكذا درجت بريطانيا على إشاعة التفاوت الطبقي بين البيض والملونين في جنوب أفريقيا ، حيث جعلت البيض سادة مدللين ، والسود أرقاء مستعبدين لهم .
وكذلك نجد التمايز والتفاوت واضحين في ظلال الحكم الشيوعي بين العامل ورئيسه ، والجندي وقائده ، والفنانين والكادحين . ولم يستطع رغم تشدقه بالمساواة : محو الطبقية بين أتباعه .
لقد شرع الإسلام مبدأ المساواة ، ونشر ظلاله في ربوع المجتمع الإسلامي بأسلوب مثالي فريد ، لم تستطع تحقيقه سائر الشرائع والمبادئ . فأفراد المجتمع ذكوراً وإناثاً ، بيضاً وسوداً ، عرباً وعجماً ، أشرافاً وسوقة أغنياء وفقراء . كلهم في شرعة الإسلام سواسية كأسنان المشط ، لا يتفاضلون إلا بالتقوى والعمل الصالح .
|
|
(1) حقائق الإسلام . للعقاد ص 150 .
|
«يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم» (الحجرات : 13) .
والقوانين الإسلامية والفرائض الشرعية نافذة عليهم جميعاً دون تمايز وتفريق بين الأجناس والطبقات . وما أنفك النبي (ص) عن تركيز مبدأ المساواة وتصعيده حتى استطاع تطويره والتسامي به إلى المؤاخاة الروحية بين المؤمنين .
«إنما المؤمنون أخوة» (الحجرات : 10) .
حسبك في ذلك أن الملوك كانوا يحسبون أنهم فوق مستوى البشر ، ويترفعون عنهم في أبراج عاجية يطلون منها زهواً وكبراً على الناس .
يأمر القرآن الكريم سيد المرسلين أن يعلن واقعه للناس :
«قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي إنما إلهكم إله واحد» (الكهف :110) .
لذلك كان هو (ص) ، وذريته الأطهار ؛ المثل الأعلى في تطبيق مبدأ المساواة والدعوة إليه قولاً وعملاً .
قال (ص) : «إن الله تبارك وتعالى قد أذهب بالإسلام نخوة الجاهلية وتفاخرها بآبائها ، ألا إن الناس من آدم ، وآدم من تراب ، وأكرمهم عند الله أتقاهم» (1) .
ويحدثنا الرواة : أنه (ص) كان في سفر فأمر بإصلاح شاة ، فقال رجل : يا رسول الله علي ذبحها ، وقال آخر علي سلخها ، وقال آخر علي طبخها ، فقال (ص) : وعلي جمع الحطب . فقالوا : يا رسول الله نحن نكفيك ، فقال : قد علمت أنكم تكفوني ، ولكن أكره أن أتميز عليكم ، فإن الله يكره من عبده أن يراه متميزاً بين أصحابه وقام فجمع الحطب (2) .
يحدث الرواة : أن سوادة بن قيس قال للنبي (ص) في أيام مرضه : يا
|
(1) الوافي ج 14 في وصية النبي (ص) لعلي (ع) .
(2) سفينة البحار ج 1 ص 415 .
|
رسول الله إنك لما أقبلت من الطائف استقبلتك ، وأنت على ناقتك العضباء ، وبيدك القضيب الممشوق ، فرفعت القضيت وأنت تريد الراحلة فأصاب بطني ، فأمره النبي (ص) أن يقتص منه فقال : اكشف لي عن بطنك يا رسول الله ، فكشف عن بطنه . فقال سوادة : أتأذن لي أن أضع فمي على بطنك ، فأذن له فقال : أعوذ بموضع القصاص من رسول الله (ص) النار يوم النار ، فقال (ص) : يا سوادة بن قيس أتعفو أم تقتص ؟ فقال : بل أعفو يا رسول الله ، فقال : اللهم أعف عن سوادة بن قيس كما عفى عن نبيك محمد» (1) .
وهكذا كان أمير المؤمنين (ع) :
قال الصادق (ع) : «لما ولي علي (ع) صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال :
إني لا أرزؤكم من فيئكم درهماً ما قام لي عذق بيثرب ، فلتصدقكم أنفسكم ، أفتروني مانعاً نفسي ومعطيكم ؟
قال : فقلم إليه عقيل كرم الله وجهه فقال له : الله ! لتجعلني وأسود بالمدينة سواء . فقال (ع) : اجلس أما كان هنا أحد يتكلم غيرك ؟ وما فضلك عليه إلا بسابقة أو تقوى» (2) .
«ومشى إليه ثلة من أصحابه عند تفرق الناس عنه ، وفرار كثير منهم إلى معاوية طلباً لما في يديه من الدنيا ، فقالوا : يا أمير المؤمنين أعط هذه الأموال وفضل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي والعجم ومن تخاف عليه من الناس فراره إلى معاوية .
فقال لهم أمير المؤمنين (ع) : أتأمروني أن أطلب النصر بالجور لا والله ما أفعل ، ما طلعت شمس ولاح في السماء نجم ، والله لو كان ما لهم لي لواسيت بينهم ، وكيف وإنما هي أموالهم» (3) .
|
(1) سفينة البحار ج 1 ص 671 .
(2) البحار م 9 ص 539 عن الكافي .
(3) البحار م 9 ص 533 (بتصرف وتلخيص) .
|
«وقال عمر بن الخطاب للناس يوماً : ما قولكم لو أن أمير المؤمنين شاهد امرأة على معصية ـ يعني أتكفي شهادته في إقامة الحد عليها ـ ؟ .
فقال له علي بن أبي طالب : يأتي بأربعة شهود أو يجلد حد القذف شأنه في ذلك شأن سائر المسلمين (1) .
وقد انبهر الكاتب الغربي ـ جب ـ بمبدأ المساواة في الإسلام ، وراح يعرب عن إعجابه وإكباره لذلك ، فقال في كتابه ـ مع الإسلام ـ :
ليس هناك أيه هيئة سوى الإسلام يمكن أن تنجح مثله نجاحاً باهراً في تأليف هذه الأجناس البشرية المتنافرة في جبهة واحدة أساسها المساواة .
وإذا وضعت منازعات دول الشرق والغرب العظمى موضع الدرس فلا بد من الالتجاء إلى الإسلام لحزم النزاع .
وبتقرير مبدأ المساواة استشعر المسلمون مفاهيم العزة والكرامة ، ومعاني الوئام والصفاء ، وغدوا قادة الأمم وروادها إلى العدل والحرية والمساواة .
وفي الوقت الذي قرر الإسلام فيه المساواة ، فإنه قررها بأسلوب منطقي حكيم يلائم العقول النيرة والفطر السلمية ويساير مبادئه الخالدة في إشاعة العدل ، وإتاحة فرص التكافؤ بين عامة المسلمين ، وإناطة التفاضل والتمايز بينهم فيما هو مقدور لهم وداخل في إمكاناتهم من أعمال الخير والصلاح دون ما كان خارجاً عن طاقتهم وإرادتهم من وفرة المال أو سعة الجاه .
«إن أكرمكم عن الله أتقاكم» (الحجرات : 13) .
فهو يشرع المساواة تحقيقاً لمبادئه العادلة البناءة ويقرر التمايز كذلك نظراً لبعض القيم والكفاءات التي لا يجوز إغفالها وهدرها .
«قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون» (الزمر : 9) .
لذلك فضل الله الأنبياء بعضهم على بعض ، لاختلاف كفاءتهم وجهادهم في سبيل الله تعالى ، وإصلاح البشر وإسعادهم .
|
|
(1) عن كتاب حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة ص 27 لمحمد الغزالي .
|
| |