أخلاق أهل البيت 302

صاحبهن أبداً حتى يرى وبالهن : البغي ، وقطيعة الرحم ، واليمين الكاذبة يبارز الله بها .
وإن أعجل الطاعات ثواباً لصلة الرحم ، وإن القوم ليكونون فجاراً فيتواصلون فتنموا أموالهم ويثرون ، وإن اليمين الكاذبة وقطيعة الرحم لتذران الديار بلاقع من أهلها ، وتثقل الرحم ، وإن ثقل الرحم انقطاع النسل» (1) .
وعن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (ص) قال : قلت له :
«إن أخوتي وبني عمي قد ضيقوا علي الدار وألجأوني منها إلى بيت ولو تكلمت أخذت ما في أيديهم .
قال : فقال لي : اصبر فإن الله سيجعل لك فرجاً .
قال : فانصرفت ، ووقع الوباء سنة (131 هـ ) فماتوا والله كلهم فما بقي منهم أحد .
قال : فخرجت فلما دخلت عليه قال :
ما حال أهل بيتك ؟
قال : قلت : قد ماتوا والله كلهم فما بقي منهم أحد .
فقال : هو بما صنعوا بك وبعقوقهم إياك وقطع رحمهم بتروا ، أتحب أنهم بقوا وأنهم ضيقوا عليك ، قال : قلت أي والله» (2) .
وفي خبر شعيب العقرقوفي في دخول يعقوب المغزلي على موسى بن جعفر (ع) وقوله (ع) له : يا يعقوب قدمت أمس ووقع بينك وبين أخيك شرفي موضع كذا وكذا حتى شتم بعضكم بعضاً ، وليس هذا ديني ولا دين آبائي ولا نأمر بهذا أحداً من الناس ، فاتق الله وحده لا شريك له ، فإنكما ستفترقان بموت ، أما إن أخاك سيموت في سفره قبل أن يصل إلى أهله ، وستندم أنت على ما كان منك ، وذلك أنكما تقاطعتما فبتر الله أعماركما .

(1) الوافي ج 3 ص 156 عن الكافي .
(2) سفينة البحار ج 1 ص 516 عن الكافي .
أخلاق أهل البيت 303

فقال له الرجل : فأنا جعلت فداك متى أجلي ؟
فقال (ع) : أما إن أجلك قد حضر ، حتى وصلت عمتك بما وصلتها به في منزل كذا وكذا فزيد في أجلك عشرون .
ٍقال شعيب : فأخبرني الرجل ولقيته حاجاً أن أخاه لم يصل إلى أهله حتى دفنه في الطريق» (1) .
مساويء قطيعة الرحم

ونستنتج من هذه النصوص أن لقطيعة الرحم مغبة سيئة وآثاراً خطيرة تنذر القاطع وتعاجله بالفناء ، وقصف الأعمار ، ومحق الديار ، والخسران المبين في دينه ودنياه .


حقوق الأصدقاء

فضل الأصدقاء

الإنسان مدني بالطبع ، لا يستطيع اعتزال الناس والانفراد عنهم ، لأن اعتزالهم باعث على استشعار الغربة والوحشة والإحساس بالوهن والخذلان إزاء طوارئ الأحداث وملمات الزمان .
من أجل ذلك كان الإنسان تواقاً إلى اتخاذ الخلان والأصدقاء ، ليكونوا له سنداً وسلواناً ، يسرون عنه الهموم ويخففون عنه المتاعب ، ويشاطرونه السراء والضراء .
وقد تضافرت دلائل العقل والنقل على فضل الأصدقاء والترغيب فيهم ، وإليك طرفاً منها :
قال أمير المؤمنين (ع) في حديث له : «عليك بأخوان الصدق ، فأكثر من اكتسابهم ، فإنهم عدة عند الرخاء ، وجنة عند البلاء» (2) .

(1) سفينة البحار ج 1 ص 516 عن الكافي .
(2) البحار كتاب العشرة ص 51 عن أمالي الشيخ الصدوق .
أخلاق أهل البيت 304

وقال الصادق (ع) : «لقد عظمت منزلة الصديق حتى أن أهل النار يستغيثون به ويدعونه قبل القريب الحميم» .
قال الله سبحانه مخبراً عنهم : «فما لنا من شافعين ولا صديق حميم» (1) (الشعراء : 100 ـ 101) .
وقال بعض الحكماء :
إن أخوان الصدق هم خير مكاسب الدنيا ، زينة في الرخاء ، وعدة في الشدة ، ومعونة على خير المعاش والمعاد .
وقيل لحكيم : أيما أحب إليك ، أخوك أم صديقك ؟
فقال : إنما احب اخي إذا كان صديقاً لي .

واقع الصداقة والأصدقاء

قد يحسب الناس أن الصديق هو من يحسن مجاملتهم ويظهر البشاشة والتودد إليهم ، ويعتبرونه خلاً وفياً وصديقاً حميماً ، فإذا اختبروه في واقعة اسفر عن صديق مزيف ، وخل مخادع عاطل من خلال الصداقة الحقة وواقعها الأصيل .
ومن هنا كثرت شكايات الأدباء قديماً وحديثاً من تنكر الأصدقاء وجفائهم وخذلانهم رغم ما يكنونه لهم من حب وإخلاص .
وأغلب الظن أن سبب تلك المأساة أمران :
الأول : الجهل بواقع الصداقة والأصدقاء وعدم التمييز بين الخصائص وخلال الواقعيين من المزيفين منهم .
الثاني : اتصاف أغلب الأصدقاء بنقاط الضعف الشائعة في الأوساط الاجتماعية من التلون والخداع وعدم الوفاء التي سرعان ما يكشفهما محك الاختبار . وقد أوضح أمير المؤمنين (ع) واقع الأصدقاء وابعاد صداقتهم فيما رواه أبو جعفر الباقر (ع) فقال :

(1) البحار كتاب العشرة ص 51 عن أمالي ابن الشيخ الطوسي .
أخلاق أهل البيت 305

«قام رجل بالبصرة إلى أمير المؤمنين (ع) فقال :
يا أمير المؤمنين أخبرنا عن الأخوان .
فقال (ع) : الأخوان صنفان : أخوان الثقة ، وأخوان المكاشرة .
فأما أخوان الثقة : فهم الكف والجناح ، والأهل والمال ، فإذا كنت من أخيك على حد الثقة ، فابذل له مالك ، وبدنك ، وصاف من صافاه وعاد من عاداه ، واكتم سره وعيبه ، واظهر منه الحسن ، واعلم أيها السائل أنه أقل من الكبريت الأحمر .
وأما أخوان المكاشرة : فإنك تصيب لذتك منهم ، فلا تقطعن ذلك منهم ، ولا تطلبن ما وراء ذلك من ضميرهم ، وابذل لهم ما بذلوا لك من طلاقة الوجه ، وحلاوة اللسان» (1) .
وقال الصادق (ع) : «لا تكون الصداقة إلا بحدودها ، فمن كانت فيه هذه الحدود أو شيء منها فانسبه إلى الصداقة ، ومن لم يكن فيه شيء منها ، فلا تنسبه إلى شيء من الصداقة :
فأولها : ان تكون سريرته وعلانيته لك واحدة .
والثانية : أن يرى زينك زينه وشينك شينه .
والثالثة : أن لا تغيره عليك ولاية ولا مال .
والرابعة : أن لا يمنعك شيئاً تناله مقدرته .
والخامسة : وهي تجمع هذه الخصال أن لا يسلمك عند النكبات» (2) .
وقال بعض الحكماء : المودات ثلاث :
مودة في الله عز وجل لغير رغبة ولا رهبة ، فهي التي لا يشوبها غدر ولا خيانة .
ومودة مقارنةً ومعاشرة ، ومودة رغبة أو رهبة .
وهي : شر المودات ، وأسرعها انتقاضاً .

(1) الوافي ج 3 ص 104 عن الكافي .
(2) الوافي ج 3 ص 104 عن الكافي .
أخلاق أهل البيت 306

وقال مهيار الديلمي :
ما أنا من صبغـة أيامكـم ولا الـذي ان قلبوه انقلبـا
ولا ابن وجهين ألم حاضراً مـن الصديق وألوم الغيبـا
قلبي للأخوان شطوا أو دنوا وللهوى ساعف دهـر أو نبا
من عاذري من متلاش كلما أذنـب يوماً وعذرت أذنـبا
يضحك في وجهي ملء فمه وإن أغب وذكر اسمي قطبا
يطير لي حمامـة فإن رأى خصاصة دب ورائي عقربا
ما أكثر النـاس وما أقلهـم وما أقل في القليل النجبـا

اختيار الصديق

للصديق أثر بالغ في حياة صديقه وتكييفه فكرياً وأخلاقياً ، لما طبع عليه الإنسان من سرعة التأثر والانفعال بالقرناء والأخلاء ، ما يخفره على محاكاتهم والاقتباس من طباعهم ونزعاتهم .
من أجل ذلك كان التجاوب قوياً بين الأصدقاء ، وكانت صفاتهم سريعة العدوى والانتقال ، تنشر مفاهيم الخير . والصلاح تارة ، ومفاهيم الشر والفساد أخرى ، تبعاً لخصائصهم وطبائعهم الكريمة أو الذميمة ، وإن كانت عدوى الرذائل أسرع انتقالاً وأكثر شيوعاً من عدوى الفضائل .
فالصديق الصالح : رائد خير ، وداعية هدى ، يهدي إلى الرشد والصلاح .
والصديق الفاسد : رائد شر ، وداعية ضلال ، يقود إلى الغي والفساد . وكم انحرف أشخاص كانوا مثاليين هدياً وسلوكاً ، وضلوا في متاهات الغواية والفساد ، لتأثرهم بالقرناء والأخلاء المنحرفين .
وهذا ما يحتم على كل عاقل أن يتحفظ في اختيار الأصدقاء ، ويصطفي منهم من تحلى بالخلق المرضي والسمعة الطيبة والسلوك الحميد .

خلال الصديق المثالي

وأهم تلك الخلال وألزمها فيه هي :

أخلاق أهل البيت 307

1 ـ أن يكون عاقلاً لبيباً مبرءاً من الحمق . فإن الأحمق ذميم العشرة مقيت الصحبة ، مجحف بالصديق ، وربما أراد نفعه فأضره وأساء إليه لسوء تصرفه وفرط حماقته ، كما وصفه أمير المؤمنين (ع) في حديث له فقال :
«وأما الأحمق فإنه لا يشير عليك بخير ولا يرجى لصرف السوء عنك ولو أجهد نفسه ، وربما أراد منفعتك فضرك ، فموته خير من حياته وسكوته خير من ، نطقه ، وبعده خير من قربه» (1) .
2 ـ أن يكون الصديق متحلياً بالإيمان والصلاح وحسن الخلق ، فإن لم يتحل بذلك كان تافهاً منحرفاً يوشك أن يغوي أخلاءه بضلاله وانحرافه .
انظر كيف يصور القرآن ندم النادمين على مخادنة الغاوين والمضللين وأسفهم ولوعتهم على ذلك :
«ويوم يعض الظالم على يديه يقول : يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا ، يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً ، لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولاً» (الفرقان : 27 ـ 29) .
وعن الصادق (ع) عن آبائه قال : قال رسول الله (ص) .
«المرء على دين خليله ، فلينظر أحدكم من يخالل» (2) .
وعن أبي جعفر (ع) عن أبيه عن جده (ع) قال :
قال أمير المؤمنين (ع) : «مجالسة الأشرار تورث سوء الظن بالأخيار ، ومجالسة الأخيار تلحق الأشرار بالأخيار ، ومجالسة الأبرار للفجار تلحق الأبرار بالفجار ، فمن اشتبه عليكم أمره ، ولم تعرفوا دينه ، فانظروا إلى خلطائه ، فإن كانوا أهل دين الله ، فهو على دين الله ، وإن كانوا على غير دين الله فلا حظ له من دين الله ، ان رسول الله (ص) كان يقول :
«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يواخين كافراً ، ولا يخالطن فاجراً ،

(1) البحار . كتاب العشرة . ص 56 عن الكافي .
(2) البحار . كتاب العشرة . ص 52 عن أمالي أبي علي بن الشيخ الطوسي .
أخلاق أهل البيت 308

ومن آخى كافراً ، أو خالط فاجراً كان كافراً فاجراً» (1) .
وهكذا يحذر اهل البيت عليهم السلام من مخادنة أنماط من الرجال اتسموا بأخلاق ذميمة وسجايا هابطة باعثة على النفرة وسوء الخلة .
وعن أبي عبد الله عن أبيه عليهم السلام قال : قال لي أبي علي بن الحسين (ع) :
«يا بني انظر خمسة فلا تصاحبهم ، ولا تحادثهم ، ولا ترافقهم ، فقلت : يا ابه من هم عرفنيهم . قال :
إياك ومصاحبة الكذاب فإنه بمنزلة السراب يقرب لك البعيد ويبعد لك القريب .
وإياك ومصاحبة الفاسق فإنه بايعك بأكلة أو أقل من ذلك .
وإياك ومصاحبة البخيل فانه يخذلك في ماله أحوج ما تكون إليه .
وإياك ومصاحبة الأحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك .
وإياك ومصاجبة القاطع لرحمه فإني وجدته ملعوناً في كتاب الله عزوجل في ثلاث مواضع . . . الخبر» (2) .
وقال أبو العتاهية :
أصحب ذو العقل وأهل الدين فالمرء منسوب إلى القرين

وقال أبو نؤاس :
ولقد نهزت مع الغواة بدلوهم واسمت سرح اللهو حيث أساموا
وبلغت ما بلغ امرؤ بشبابـه فـإذا عصـارة كـل ذاك أثـام

3 ـ أن يكون بين الصديقين تجاوب عاطفي ورغبة متبادلة في الحب والمؤاخاة ، فذلك أثبت للمودة وأوثق لعرى الإخاء ، فإن تلاشت في أحدهما نوازع الحب والخلة وهت علاقة الصداقة وغدا المجفو منها الحريص على توثيقها

(1) البحار . كتاب العشرة . ص 53 عن كتاب صفات الشيعة للصدوق .
(2) الوافي ج 3 ص 105 عن الكافي .
أخلاق أهل البيت 309

عرضة للنقد والازدراء .
قال أمير المؤمنين (ع) : «زهدك في راغب فيك نقصان عقل (حظ) ورغبتك في زاهد فيك ذل نفس» (1).
وقال الشهيد الأول رحمه الله :
غنينا بنا عن كل من لا يريـدنا وإن كثرت أوصافه ونعوته
ومن صد عنا حسبه الصد والقلا ومن فاتنا يكفيه أنا نفوتـه

وقال الطغرائي :
جامل أخاك إذا استربت بوده وانظر به عقب الزمان العائد
فإن استمر به الفساد فخلـه فالعضو يقطع للفساد الزائـد

مقاييس الحب

وقد تلتبس مظاهر الحب في الاخلاء خاصة والناس عامة ، وتخفى سماته وعلائمه ، ويغدو المرء آنذاك في شك وارتياب من ودهم أو قلاهم ، وقد وضع أهل البيت عليهم السلام مقاييس نفسية تستكشف دخائل الحب والبغض في النفوس وتجلو أسرارها الخفية .
قال الراوي : سمعت رجلاً يسأل أبا عبد الله (ع) فقال : الرجل يقول أودك ، فكيف أعلم أنه يودني ؟
فقال (ع) : امتحن قلبك ، فإن كنت توده فإنه يودك» (2) .
وقال (ع) في موطن آخر :
«انظر قلبك ، فإن أنكر صاحبك ، فاعلم أنه أحدث» (3) يعني قد أحدث ما يوجب النفرة وضعف المودة .
وعن أبي جعفر (ع) قال :

(1) نهج البلاغة .
(2) الوافي ج 3 ص 106 عن الكافي .
(3) الوافي ج 3 ص 106 عن الكافي .
أخلاق أهل البيت 310

«لما احتضر أمير المؤمنين (ع) جمع بينه ، حسناً وحسيناً وابن الحنفية والأصاغر فوصاهم ، وكان في آخر وصيته : ـ يا بني عاشروا الناس عشرة ، إن غبتم حنوا إليكم ، وإن فقدتم بكوا عليكم ، يا بني إن القلوب جنود مجندة تتلاحظ بالمودة ، وتتناجى بها ، وكذلك هي في البغض ، فإذا أحببتم الرجل من غير خير سبق منه إليكم فارجوه ، وإذا أبغضتم الرجل من غير سوء سبق منه إليكم فاحذروه» (1) .

الصداقة بين المدّ والجزر

اختلف العقلاء في أيهما أرجح وأفضل ، الإكثار من الأصدقاء أو الإقلال منهم .
ففضل بعضهم الإكثار منهم والتوفر عليهم ، لما يؤمل فيهم من جمال المؤانسة وحسن المؤازرة والتأييد .
ورجح آخرون الإقلال منهم ، لما ينجم عن استكثارهم من ضروب المشاكل المؤدية إلى التباغض والعداء ، كما قال ابن الرومي :
عدوك من صديقك مستفاد فلا تستكثرن من الصحـاب
فإن الداء أكـثر ما تـراه يكون من الطعام أو الشراب

والحق أن قيم الأصدقاء ليست منوطة بالقلة أو الكثرة ، وإنما هي فيما يتحلون به من صفات النبل والإخلاص والوفاء ، التي لا تجتمع إ لا في المثاليين منهم ، وهم فئة قليلة نادرة تتألق في دنيا الأصدقاء تألق اللآلي بين الحصا .
وصديق مخلص وفي خير من ألف صديق عديم الإخلاص والوفاء ، كما قال الإسكندر : المستكثر من الأخوان من غير اختيار كالمستوفر من الحجارة ، والمقل من الأخوان المتخير لهم كالذي يتخير الجوهر .

حقوق الأصدقاء

وبعد أن أوضح أهل البيت عليهم السلام فضل الأصدقاء الأوفياء ،

(1) البحار كتاب العشرة ص 46 عن أمالي الشيخ أبي علي ابن الشيخ الطوسي .
أخلاق أهل البيت 311

رسموا لهم سياسة وآداباً وقرروا حقوق بعضهم على بعض ، ليوثقوا أواصر الصداقة بين المؤمنين ، ومن ثم لتكون باعثاً على تعاطفهم وتساندهم . وإليك طرفاً من تلك الحقوق :

1 ـ الرعاية المادية :


قد يقع الصديق في أزمة اقتصادية خانقة ، ويعاني مرارة الفاقة والحرمان ويغدو بأمس الحاجة إلى النجدة والرعاية المادية ، فمن حقه على أصدقائه النبلاء أن ينبروا لإسعافه ، والتخفيف من أزمته بما تجود به أريحيتهم وسخاؤهم ، وذلك من ألزم حقوق الأصدقاء وأبرز سمات النبل والوفاء فيهم ، وقد مدح الله أقواماً تحلوا بالإيثار وحسن المواساة فقال تعالى :
«ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة» (الحشر : 9) .
وقال الإمام موسى بن جعفر (ع) لرجل من خاصته :
«يا عاصم كيف أنتم في التواصل والتواسي ؟
قلت : على أفضل ما كان عليه أحد .
قال (ع) : أيأتي أحدكم إلى دكان أخيه أو منزله عند الضائقة فيستخرج كيسه ويأخذ ما يحتاج إليه فلا ينكر عليه ؟ قال : لا .
قال (ع) : «فلستم على ما أحب في التواصل» (1) .
وعن أبي إسماعيل قال : قلت لأبي جعفر (ع) : «جعلت فداك ، إن الشيعة عندنا كثير ، فقال (ع) :
فهل يعطف الغني على الفقير ؟ وهل يتجاوز المحسن عن المسيء ؟ ويتواسون . فقلت : لا .
فقال عليه السلام :
ليس هؤلاء شيعة ، الشيعة من يفعل هذا» (2) .

(1) البحار كتاب العشرة ص 46 عن كتاب قضاء الحقوق للصوري .
(2) البحار كتاب العشرة ص 71 عن الكافي .
أخلاق أهل البيت 312

وقال أبو تمام :
أولى البرية حقاً أن تراعيـه عند السرور الذي أساك في الحزن
إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا من كان يألفهم في المنزل الخشـن

وقال الواقدي :
كان لي صديقان : أحدهما هاشمي ، وكنا كنفس واحدة ، فنالتني ضيقة شديدة وحضر العيد ، فقالت امرأتي : أما نحن في أنفسنا فنصبر على البؤس والشدة ، وأما صبياننا هؤلاء فقد قطعوا قلبي رحمة لهم ، لأنهم يرون صبيان الجيران وقد تزينوا في عيدهم ، وأصلحوا ثيابهم ، وهم على هذه الحال من الثياب الرثة ! فلو احتلت بشيء تصرفه في كسوتهم ! فكتبت إلى صديقي الهاشمي أسأله التوسعة علي ، فوجه إلي كيساً مختوماً ، ذكر أن فيه ألف درهم ، فما استقر قراري حتى كتب إلى الصديق الآخر يشكو مثل ما شكوت إلى صاحبي ، فوجهت إليه الكيس بحاله ، وخرجت إلى المسجد فأقمت فيه ليلي مستحياً من امرأتي .
فلما دخلت عليها استحسنت ما كان مني ، ولم تعنفني عليه .
فبينما أنا كذلك إذ وافى صديقي الهاشمي ومعه الكيس كهيئته ، فقال لي : أصدقني عما فعلته فيما وجهت إليك ؟
فعرفته الخبر على وجهه ، فقال : إنك وجهت إلي وما أملك على الأرض إلا ما بعثت به إليك ، وكتبت إلى صديقنا أسأله المواساة فوجه إلي بكيسي ! فتواسينا الألف أثلاثاً !
ثم نمي الخبر إلى المأمون فدعاني ، فشرحت له الخبر ، فأمر لنا بسبعة آلاف دينار ، لكل واحد ألفا دينار وللمرأة ألف دينار! (1) .

2 ـ الرعاية الأدبية :


وهكذا تنتاب الصديق ضروب الشدائد والارزاء ما تسبب إرهاقه وبلبلة حياته ، ويغدو آنذاك مفتقراً إلى النجدة والمساندة لإغاثته وتفريج كربه .

(1) قصص العرب ج 1 ص 290 .
أخلاق أهل البيت 313

فحقيق على أصدقائه الأوفياء أن يسارعوا إلى نصرته والذب عنه ، لساناً وجاهاً ، لإنقاذه من أعاصير الشدائد والأزمات ، ومواساته في ظرفه الحالك .
هذا هو مقياس الحب الصادق والعلامة الفارقة بين الصديق المخلص من المزيف .
قال أمير المؤمنين (ع) :
«لا يكون الصديق صديقاً حتى يحفظ أخاه في ثلاث : في نكبته ، وغيبته ، ووفاته» (1) .
وقال اشريف الرضي :
يعرفك الأخوان كل بنفسه وخير أخ من عرفتك الشدائد
* * *
3 ـ المداراة :


والأصدقاء مهما حسنت أخلاقهم ، وقوت علائق الود بينهم فإنهم عرضة للخطأ والتقصير ، لعدم عصمتهم عن ذلك . فإذا ما بدرت من أحدهم هناة وهفوة في قول أو فعل ، كخلف وعد ، أو كلمة جارحة أو تخلف عن مواساة في فرح أو حزن ونحو ذلك من صور التقصير .
فعلى الصديق إذا ما كان واثقاً بحبهم وإخلاصهم أن يتغاضى عن إساءتهم ويصفح عن زللهم حرصاً على صداقتهم واستبقاءاً لودهم ، إذ المبالغة في نقدهم وملاحاتهم ، باعثة على نفرتهم والحرمان منهم .
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معائبه

انظر كيف يوصي أمير المؤمنين (ع) ابنه الحسن (ع) بمداراة الصديق المخلص والتسامح معه والحفاظ عليه :
«احمل نفسك من أخيك عند صرفه على الصلة ، وعند صدوده على اللطف والمقاربة ، وعند جمده على البذل ، وعند تباعده على الدنو ، وعند شدته

(1) نهج البلاغة .
أخلاق أهل البيت 314

على اللين ، وعند جرمه على العذر ، حتى كأنك له عبد ، وكأنه ذو نعمة عليك .
وإياك أن تضع ذلك في غير موضعه أو تفعله بغير أهله ، لا تتخذون عدو صديقك صديقا فتعادي صديقك، وامحض أخاك النصيحة حسنة كانت أو قبيحة ، وتجرع الغيظ . فإني لم أر جرعة أحلى منها عاقبة ولا ألذ مغبة ، ولن لمن غالظك فإنه يوشك أن يلين لك ، وخذ على عدوك بالفضل فإنه أحلى الظفرين ، وإن أردت قطيعة أخيك فاستبق له من نفسك بقية ترجع إليها إن بدا له ذلك يوماً ما ، ومن ظن بك خيراً فصدق ظنه . ولا تضعين حق أخيك اتكالاً على ما بينك وبينه . فإنه ليس لك بأخ من أضعت حقه» (1) .
وقال الإمام الحسن (ع) لبعض ولده :
«يا بني لا تواخي أحداً حتى تعرف موارده ومصادره ، فإذا استبطنت الخبرة ورضيت العشرة فآخه على إقالة العثرة ، والمواساة في العشرة» (2) .
وقال أبو فراس الحمداني :
لم اواخذك بالجفاء لأني واثق منك بالوداد الصريح
فجميل العدو غير جميل وقبيح الصديق غير قبيـح

وقال بشار بن برد :
إذا كـنت في كل الأمـور معاتبـاً صـديقك لم تلق الذي لا تعاتـبه
فـعش واحداً أوصل أخـاك فإنـه مـقارف ذنـب مـرة ومجانـبه
إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى ظمئت واي الناس تصفو مشاربه

وقال أبو العلاء المعري :
من عاش غير مداج من يعاشره أساء عشرة أصحاب وأخدان
كم صاحب يتمنى لو نعيت لـه وإن تشكيت راعاني وفدّاني

ومن أرواع صور مداراة الأصدقاء وأجملها وقعاً في النفوس : الإغضاء عن

(1) نهج البلاغة . في وصيته لابنه الحسن (ع) .
(2) تحف العقول .
أخلاق أهل البيت 315

إساءتهم والصفح عن مسيئهم .
ولذلك مظاهر وأساليب رائعة :
1 ـ أن يتناسى الصديق الإساءة ويتجاهلها ثقة بصديقه ، وحسن ظن به ، واعتزازاً بإخائه ، وهذا ما يبعث المسيء على إكبار صديقه ووده والحرص على صداقته .
2 ـ أن يتقبل معذرة صديقه عند اعتذاره منه ، دونما تشدد أو تنعت في قبولها . فذلك من سمات كرم الأخلاق وطهارة الضمير والوجدان .
3 ـ أن يستميل صديقه بالعتاب العاطفي الرقيق ، استجلاباً لوده ، فترك العتاب قد يشعر بإغفاله وعدم الاكتراث به ، أو يوهمه بحنق الصديق عليه وإضمار الكيد له .
ولكن العتاب لا يجدي نفعاً ولا يستميل الصديق إلا إذا كان عاطفياً رقيقاً كاشفاً عن حب العاتب ورغبته في استعطاف صديقه وإستدامة وده . إذ العشرة فيه والإفراط منه يحدثان رد فعل سيء يضاعف نفار الصديق ويفصم عرى الود والإخاء .
لذلك حثت الشريعة الإسلامية على الصفح والتسامح عن المسيء وحسن مداراة الأصدقاء خاصة والناس عامة .
قال تعالى : «ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم ، واستغفر لهم ، وشاورهم في الأمر» (آل عمران : 159) .
وقال سبحانه : «إدفع بالتي هي أحسن ، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ، وما يلقاها إلا الذين صبروا ، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم» (حم السجدة : 34 ـ 35) .
وعن أبي عبد الله (ع) قال : «قال رسول الله (ص) : «أمرني ربي بمداراة الناس كما أمرني بأداء الفرائض‌» (1) .

(1) الوافي . ج 3 ص 86 عن الكافي .

السابق السابق الفهرس التالي التالي