أخلاق أهل البيت 287

والمجتمع الذي تعيشه ، وهدر لكرامتهما معاً .
نعم . . . يستساغ للمرأة أن تمارس أعمالاً تخصها وتليق بها ، كتعليم البنات ، وتطبيب النساء وتوليدهن ، وفي حالة فقدان المرأة من يعولها ، أو عجزه عن إعالتها ، فإنها والحالة هذه تستطيع مزاولة الأعمال والمكاسب التي يؤمن عليها من مفاتن المجتمع الخليط ، ويؤمن عليه من فتنتها كذلك .
ولكن الإسلام ، صان كرامة المرأة المعوزة ، وكفل رزقها من بيت المال ، دون أن يحوجها إلى تلك المعاناة ، فلو أدى المسلمون زكاة أموالهم ما بقي فقير محتاجاً .
فماذا يريد دعاة المساواة ؟ أيريدون إعزاز المرأة وتحريرها من الغبن الاجتماعي ؟ فقد حررها الإسلام ورفع منزلتها ومنحها حقوقها المادية والأدبية .
أم يريدون مخادعة المرأة وابتذالها ، لتكون قريبة من عيون الذئاب ومغازلاتهم ؟
وماذا تريد المرأة المتحررة ؟ أتريد المساواة التامة بالرجل ، أم تريد حرية الخلاعة والابتذال ؟
وكلها غايات داعرة ، حرمها الإسلام على المرأة والرجل ليقيهما مزالق الفتن ومآسي الاختلاط .
التمايز بين الجنسين

لقد حرر الإسلام المرأة من تقاليد الجاهلية وأعرافها المقيتة ، وأعزها ورفع منزلتها ، وقرر مساواتها بالرجل في الإنسانية ووحدة المبدأ والمعاد ، وحرمة الدم والعرض والمال ، ونيل الجزاء الأخروي على الأعمال .
وحدد قيم المرأة ومنزلتها من الرجل تحديداً عادلاً حكيماً . فهو يساوي بينهما وبين الرجل فيما تقتضيه الحكمة والصواب ، ويفرق بينهما في بعض الحقوق وبعض الواجبات والأحكام ، حيث يجدر التفريق ويحسن التمايز نظراً لاخلاف خصائصهما ومسؤولياتهما في مجالات الحياة .
وهو في هذا وذاك يستهدف الحكمة والصلاح ، والتقييم العادل لطبائع

أخلاق أهل البيت 288

البشر وخصائصهم الأصيلة . فلم يكن في تمييزه الرجل في بعض الأحكام ليستهين بالمرأة أو يبخس حقوقها ، وإنما أراد أن يحقق العدل ، ويمنح كلاً منهما ما يستحقه ويلائم كفاءته وتكاليفه .
وسنبحث في المواضيع التالية أهم مواطن التفريق والتمايز بين الرجل والمرأة ، لنستجلي حكمة التشريع الإسلامي وسمو مبادئه في ذلك .

1 ـ القوامة :


الأسرة هي الخلية الأولى ، التي انبثقت منها الخلايا الاجتماعية العديدة والمجتمع الصغير الذي نما واتسع منه المجتمع العام الكبير .
ومن الثابت أن كل مجتمع ـ ولو كان صغيراً ـ لا بد له من راع كفؤ يرعى شؤونه ، وينظم حياته ، ويسعى جاهداً في رقية وازدهاره .
لذلك كان لا بد للأسرة من راع وقيم ، يسوسها بحسن التنظيم والتوجيه ويوفر لها وسائل العيش الكريم ، ويحوطها بالعزة والمنعة ، وتلك مهمة خطيرة تستلزم الحنكة والدربة ، وقوة الإرادة ، ووفرة التجربة في حقول الحياة .
فأي شخصين الرجل أو المرأة أحق برعاية الأسرة والقوامة عليها ؟
إن الرجل بحكم خصائصه ومؤهلاته أكثر خبرةً وحذقاً في شؤون الحياة من المرأة ، وأكفأ منها على حماية الأسرة ورعايتها أدبياً ومادياً ، وأشد قوة وجلداً على تحقيق وسائل العيش ومستلزمات الحياة . لذلك كان هو أحق برعاية الأسرة والقوامة عليها . وهذا ما قرره الدستور الإسلامي الخالد «الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض ، وبما أنفقوا من أموالهم» (النساء : 34) .
وليس معنى القوامة هو التحكم بالأسرة وسياستها بالقسوة والعنف ، فذلك مناف لأخلاق الإسلام وآدابه . والقوامة الحقة هي التي ترتكز على التفاهم والتآزر والتجاوب الفكري والعاطفي بين راعي الأسرة ورعيته .
«ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ، وللرجال عليهن درجة» (البقرة : 228) .

أخلاق أهل البيت 289

أما المرأة فإنها بحكم أنوثتها ، رقيقة العاطفة ، مرهفة الحس ، سريعة التأثر ، تتغلب عواطفها على عقلها ومشاعرها . وذلك ما يؤهلها لأداء رسالة الأمومة ، ووظائفها المستلزمة لتلك الخلال ، ويقصيها عن مركز القيادة في الأٍسرة الذي يتطلب الحنكة ، واتزان العواطف ، وقوة الجلد والحزم ، المتوفرة في الرجل ، وهذا ما يؤثره عليها في رعاية الأسرة والقوامة عليها .
هذا إلى أن المرأة السوية بحكم أنوثتها تستخف بالزوج المائع الرخو ، وتكبره إذا كان ذا شخصية قوية جذابية ، تستشعر في ظلال رجولته مفاهيم العزة والمنعة ، وترتاح إلى حسن رعايته وتدبيره .

2 ـ إيثار الرجل على المرأة في الإرث :


وهكذا قضت حكمة التشريع الإسلامي أن تؤثر الرجل على المرأة ، بضعف نصيبها من الإرث ، مما حسبه المغفلون انتقاصاً لكرامة المرأة وبخساً لحقولها .
لا . . . . لم يكن الإسلام ليستهين بالمرأة أو يبخس حقوقها ، وهو الذي أعزها ومنحها حقوقها الأدبية والمادية ، وإنما ضاعف نصيب الرجل عليها في الإرث تحقيقاً للعدل والإنصاف ، ونظراً لتكاليفه ومسؤولياته الجسيمة .
فالرجل مكلف بالإنفاق على زوجته وأسرته وتوفير ما تحتاجه من طعام وكساء وسكن ، وتعليم وتطبيب ، والمرأة معفوة من كل ذلك . وكذلك هو مسؤول عن حماية الإسلام والجهاد في نصرته ، والمرأة غير مكلفة به . والرجل مكلف بالإسهام في دية العاقلة ونحوها من الالتزامات الاجتماعية ، والمرأة معفاة منها .
وعلى ضوء هذه الموازنة بين الجهد والجزاء ، نجد أن من العدل والإنصاف تفوق الرجل على المرأة في الإرث ، وأنها أسعد حالاً ، واوفر نصيباً منه ، لتكاليفه الأٍسرية والاجتماعية ، التي هي غير مسؤولة عنها . وهذا ما شرعه الإسلام «للذكر مثل حظ الانثيين» (النساء : 11) على ان تفضيل الرجل على المرأة في

أخلاق أهل البيت 290

الإرث لا يعم حقوقها الملكية ، وأموالها المكتسبة ، فإنها والرجل سيان ، ولا يحق له أن يبتز فلساً واحداً منها إلا برضاها وإذنها .

3 ـ الشهادة :


وهكذا تجلت حكمة التشريع الإسلامي في تقييم شهادة المرأة ، واعتبار شهادة امرأتين بشهادة رجل واحد . وقد أراد الإسلام بهذا الإجراء أن يصون شهادة المرأة عن التزوير والافتراء ، ليحفظ حقوق المتخاصمين عن البخس والضياع .
فالمرأة سرعان ما تستبد بها عواطفها الجياشة ، وشعورها المرهف ، وانفعالها السريع ، فتزيغ عن العدل ، وتتناسى الحق والواجب ، متأثرة بنوازعها نحو أحد المتداعيين ، قريباً لها أو عزيزاً عليها ، وتفادياً من ذلك ، قرن الإسلام بين المرأتين في الشهادة ، لتكون إحداهما مذكرة للأخرى ورداعة لها عن الزيغ والممالاة «واستشهدوا شهيدين من رجالكم ، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء ، أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى» (البقرة : 282) .
هذا إلى أن الطب الحديث قد اكتشف أن بعض النساء إبان عادتهن الشهرية ، قد تضعف طاقاتهن الذهنية ويغدون آنذاك مظنة للنسيان ، كما أوضحته التقارير السالفة ، في بحث المساواة (1) .
وهذا ما يؤيد ضرورة اقتران امرأتين في الشهادة ، إذ باقترانهما وتذكير إحداهما للأخرى يتجلى الحق ويتضح الواقع .

4 ـ تعدد الزوجات :


وما فتيء أعداء الإسلام يشنون الحملات الظالمة على الدين الإسلامي وشريعته الغراء ، في صور من النقد اللاذع ، والتنديد الرخيص ، الكاشف عن

(1) انظر ص 486 من هذا الكتاب (قول الطبيب جب هارد) .
أخلاق أهل البيت 291

حقدهم وكيدهم للإسلام .
فمن ذلك تشنيعهم على الإسلام بإباحته تعدد الزوجات ، وأنها على زعمهم اضرار بالزوجة وإرباك لحياتها .
وقد جهل الناقدون أو تجاهلوا أن الإسلام لم يكن المشرع الأول بذلك ، فقد شرعته الأديان السماوية والقوانين الوضعية قبل الإسلام بآماد وقرون مديدة .
«فلا حجر على تعدد الزوجات في شريعة قديمة سبقت التوراة والإنجيل ، ولا حجر على تعدد الزوجات في التوراة أو في الإنجيل ، بل هو مباح مأثور عن الأنبياء أنفسهم ، من عهد إبراهيم الخليل إلى عهد الميلاد . ولم يرد في الإنجيل نص واحد يحرم ما أباحه العهد القديم للآباء والأنبياء ، ولمن دونهم من الخاصة والعامة . وما ورد في الإنجيل يشير إلى الإباحة في جميع الحالات ، والاستثناء في حالة واحدة ، وهي : حالة الأسقف حين لا يطيق الرهبانية فيقع بزوجة واحدة اكتفاء بأهون الشرور . . .
وقال (وسترمارك) العالم الثقة في تاريخ الزواج : أن تعدد الزوجات باعتراف الكنيسة بقي إلى القرن السابع عشر ، وكان يتكرر كثيراً في الحالات التي لا تحصيها الكنيسة والدولة . . .
فالإسلام لم يأت ببدعة فيما أباح من تعدد الزوجات ، وإنما الجديد الذي أتى به : أنه أصلح ما أفسدته الفوضى من هذه الإباحة ، المطلقة من كل قيد ، وانه حسب حساب الضرورات التي لا يغفل عنها الشارع الحكيم ، فلم يحرم أمراً قد تدعو إليه الضرورة الحازبة . ويجوز أن تكون إباحته خير من تحريمه في بعض ظروف الأسرة ، أو بعض الظروف الاجتماعية العامة» (1) .
إن الذين استنكروا إباحة تعدد الزوجات في التشريع الإسلامي ، قد مارسوه فعلاً بطرق الغواية والعلاقات الأثيمة بالخليلات والعشقيات ، وتجاهلوا

(1) عن كتاب حقائق الإسلام ، للأستاذ العقاد ، بتصرف .
أخلاق أهل البيت 292

واقعهم السيء وتحللهم من القيم الأخلاقية ، كأنما يحلو لهم أن يتنكبوا النهج السوي المشروع ، ويتعسفوا الطرق الموبوءة بالفساد .
ولو أنهم فكروا وأمنعوا النظر بتجرد وإنصاف في حكمة ذلك التشريع الإسلامي ، لأيقنوا أنه العلاج الوحيد لحل المشاكل والأزمات التي قد تنتاب الفرد وتنتاب المجتمع ويصلحها إصلاحاً فريداً لا بديل له ولا محيص عنه .

أ ـ المبررات :


ونستطيع أن نستجلي أهداف الشريعة الإسلامية في تعدد الزوجات على ضوء المبررات التالية :
1 ـ قد تمرض الزوجة جسمياً أو عقلياً ، وتعجز آنذاك عن آداء رسالتها الزوجية ، ولا تستطيع تلبية رغبات الزوج ، ورعاية الأسرة والأبناء ، مما يفضي بهم إلى القلق والتسيب .
ولا ريب أنها أزمة خانقة تستدعي العلاج الحاسم الحكيم ، وهو لا يخلوا من فروض ثلاثة :
أ ـ إما أن يترك الزوج هملاً يعاني مرارة الحرمان من حقوقه الزوجية ، ويغدو عرضة للتردي في مهاوي الرذيلة والإثم ، وتترك الأسرة كذلك نهباً للفوضى والتبعثر . وهذا إجحاف بالزوج والأسرة ، وإهدار لحقوقهما معاً .
ب ـ واما أن يتخلص الزوج من زوجته المريضة بالطلاق ، والتخلي عنها ، ويدعها تقاسي شدائد المرض ووحشة النبذ والانفراد ، وهذا ما يأباه الوجدان لمنافاته مباديء الإنسانية وسجايا النبل والوفاء .
ج ـ وإما أن يتسرى الزوج على زوجه المريضة ، متخذاً زوجه أخرى تلبى رغباته ، وتلم شعث الأسرة ، وتحيط الأولى بحسن الرعاية واللطف ، وهذا هو أفضل الحلول وأقربها إلى الرشد والصواب .
2 ـ وقد تكون الزوجة عقيمة محرومة من نعمة النسل والإنجاب ، فماذا يصنع الزوج والحالة هذه ، أيظل محروماً من الأبناء يتحرق شوقاً إليهم ، وتلهفاً

أخلاق أهل البيت 293

عليهم مستجيباً لغريزة الأبوة ووخزها الملح في النفس . فإن هو صبر على ذلك الحرمان آثراً هوى زوجته على هواه ، فذلك نبل وتضحية وإيثار . أو يتسرى عليها بأخرى تنجب له أبناءً يملؤون فراغه النفسي ، ويكونون له قرة عين وسلوة فؤاد . وهذا هو منطق الفطرة والغريزة الذي لا يحيد عنه إلا نفر قليل من الناس .
3 ـ والنساء ـ في الغالب ـ أوفر عدداً وأكثر نفوساً من الرجال ، وذلك لأمرين :
أ ـ ان الرجال أكثر تعرضاً لأخطار العمل وأحداث الوفاة من النساء ،لممارستهم الأعمال الشاقة الخطيرة ، المؤدية إلى ذلك ، كالمعامل والمناجم والمطافي ونحوها ، مما يسبب تلفهم وقتلهم عن النساء .
أضف إلى ذلك ، أن الرجال أضعف مناعة من النساء وأكثر إصابة بعدوى الأوبئة والامراض ، مما يجعلهم اقل عددا منهن «ويعزوا علماء الحياة ذلك الى ما تتميز به المرأة على الرجل بدنياً . وإلى أن الأمراض كلها تقريباً تهلك من الرجال أكثر مما تهلك من النساء ، ولذا فإن في الولايات المتحدة في الوقت الحاضر (7,700,000 أرملة) ، ويتنبأ مكتب التعداد الأمريكي بأن هذه الفئة سيرتفع عددها في أمريكا بمعدل مليونين كل 10 سنين .
وان الدكتورة (ماريون لانجر) العالمة الاجتماعية المتخصصة في استشارات الزواج تقول : أن لدى المجتمع حلين ممكنين فقط لتغطية النقص المتزايد في الرجال أما تعدد الزوجات ، أو إيجاد طريقة ما لإطالة أعمار الرجال . . . » (1) .

ب ـ الحروب :


فإنها تفني أعداداً ضخمة من الرجال وتسبب هبوط نسبتهم عن النساء هبوطاً مريعاً . فقد كان المصابون في الحرب العالمية الأولى (واحداً وعشرين

(1) الإسلام والعلم الحديث ، عن مجلة المختار (عدد فبراير 1958) .
أخلاق أهل البيت 294

مليون نسمة) بين قتيل وجريح . وكانت ضحايا الحرب العالمية الثاني (خمسين مليون نسمة) .
وقد أحدث ذلك فراغاً كبيراً في صفوف الرجال وأثار أزمة عالمية تستدعي العلاج الحاسم الناجع .
أما الأمم الغربية ، فقد وقفت إزاء هذه الأزمة موقف العاجز الحائر في علاجها وملافاتها . . . لمنعها تعدد الزوجات ، فراحت تعاجله عن طريق الفساد الخلقي ، مما دنسها وأشاع فيها البغاء وكثرة اللقطاء ، وعمتها الفوضى الأخلاقية .
وأما الإسلام ، فقد عالج ذلك علاجاً فذاً فريداً يلائم الفطر البشرية ، ومقتضيات الظروف والحالات . حيث أباح التعدد وقاية للفرد والمجتمع من تلك المآسي التي عانتها الأمم المحرمة له ، «فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ، فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة» (النساء : 3) .
وحين شرع الإسلام التعدد لم يطلقه ارسالاً وجزافاً ، فقد اشترط فيه العدل والمساواة بين الأزواج صيانة لحقوق المرأة وكرامتها .
بيد أن ذلك العدل مشروط في مستلزمات الحياة المادية ، كالمطعم والملبس والمسكن ، ونحوها من المآرب الحسية المتاحة للإنسان ، والداخلة في نطاق وسعه وقدرته .
أما النواحي الوجدانية والعاطفية ، كالحب والميل النفسي ، فإنها خارجة عن طوق الإنسان ، ولا يستطيع العدل فيها والمساواة ، لوهنه إزاء سلطانها الآسر ، «ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم» (النساء : 129) .
وقد يعترض البعض أن المرأة الغربية قادرة على ممارسة الأعمال وكسب المعاش ، فهي غنية عن الزواج .
وهو زعم باطل يكذبه واقع الفطرة الإنسانية وغرائزها الراسخة في النفس . فحاجة المرأة إلى الرجل ليست مقصورة على المآرب المادية فحسب ، وإنما هي حاجة نفسية ملحة تستكمل به كيانها وتشعر بوجودها كحاجة الرجل إليها على سواء .

أخلاق أهل البيت 295

4 ـ ومن مبررات التعدد أنه قد يتصف بعض الرجال بطاقة جنسية عارمة ، تتطلب المزيد من التنفيس والإفضاء وتستدعي الأزواج ، فإن تيسر له ذلك ، وإلا نفس عن طاقته بالدعارة والفساد ، كما حدث ذلك في الأمم التي حرمت التعدد المشروع ، فابتلت بالتعدد الموبوء من الخليلات والعشيقات .


الطلاق في الإسلام

وهكذا انطلقت حناجر لاغية ، تتشددق بانتقاد الإسلام على تشريع الطلاق ، بانه يهدد كيان المرأة وسعادتها ، فتغدو بنزوة من نزوات الرجل ولوثة من لوثاته الغاضبة ، طريدة كسيرة القلب مهدورة الكيان .
وهذا من صور التجني والتشنيع على الإسلام ، إذ لم يكن هو المشرع الأول للطلاق ، ولا المقنن الوحيد له ، وإنما كان شائعاً في أغلب الأمم ومن أقدم العصور . وكان آنذاك بأسلوب فوضوي يهدر حقوق الزوجة وكرامتها ، ويجعلها طريدة شريدة هائمة حيث تشاء .
فقد شاع عند اليونانيين دون قيد أو شرط ، وأباحه الرومانيون دينياً ومدنياً بعد أن حرمته الأجيال الأولى منهم .
وحينما جاءت الشريعة الموسوية قلصت من نطاق الطلاق وأباحته في حالات ثلاث : الزنا والعقم والعيب الخلقي والخلقي .
وأما الشريعة المسيحية فقد حرمته الا في حالتين : اقتراف أحد الزوجين أو كلاهما جريمة الفسق ، أو في حالة العقم .
وهذا ما دفع الأمم الغربية الحديثة ، بضغط الحاجة الملحة إلى تقنين الطلاق المدني وجعله قانوناً ثابتاً ، وإن خالف دينها وشريعتها .
ولما أطل الإسلام بعده الزاهر وتشريعه الكافل ، أقر الطلاق وأحاطه بشروط من التدابير الوقائية والعلاجية ، لتقليصه وملافاة أزماته ومشاكله .
فهو أبغض الحلال إلى الله عز وجل ، ولكن الضرورة تبيح المحذور ، فهناك حالات يتسع الخلاف فيها بين الزوجين ويشتد الخصام وتغدو الحياة

أخلاق أهل البيت 296

الزوجية آتوناً مستعراً بالشحناء والبغضاء ، مما يتعذر فيها التفاهم والوفاق .
وهنا يعالج الإسلام هذه الحالة المتوترة والجو المكفهر المحموم بحكمة وتدرج بالغين ، فهو «لا يسرع إلى رباط الزوجية المقدس فيفصمه لأول وهلة ، ولأول بادرة من خلاف ، انه يشد على هذا الرباط بقوة ، ويستمسك به في استماتة ، فلا يدعه يفلت إلا بعد المحاولة واليأس .
انه يهتف بالرجال «وعاشروهن بالمعروف ، فان كرهتموهن ، فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً» (النساء : 19) ، فيميل بهم إلى التريث والمصابرة حتى في حالة الكراهية .
فإن تجاوز الأمر مسألة الكره والحب ، إلى النشوز والنفور ، فليس الطلاق أول خاطر يهدي إليه الإسلام ، بل لا بد من محاولة يقوم بها الاخرون وتوفيق يحاوله الخيرون «وإن خفتم شقاق بينهما ، فابعثوا حكماً من أهله ، وحكماً من أهلها ، أن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما . إن الله كان عليماً خبيراً» (النساء : 35) «وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً ، فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما ، والصلح خير» (النساء : 128) . فإن لم تجد هذه الوساطة فالأمر إذن جد ، وهناك ما لا تستقيم معه هذه الحياة ، وإمساك الزوجين على هذا الوضع محاولة فاشلة ، ويزيدها الضغط فشلاً . ومن الحكمة التسليم بالواقع وإنهاء هذه الحياة ـ على كره من الإسلام ـ فان أبغض الحلال إلى الله الطلاق .
ولعل هذه التفرقة تثير في نفس الزوجين رغبة جديدة لمعاودة الحياة فكثيراً ما نرى حسنات الشيء عندما نحرمه ، والفرصة لم تضع ، «الطلاق مرتان ، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان» (البقرة : 229) وهناك فترة العدة في حال الدخول بالزوجة ، وعليه أن ينفق عليها في هذه الفترة ولا يقتر . وفي خلالها يجوز له ـ إن كان قد ندم ـ أن يراجع زوجه ، وأن يستأنفا حياتهما بلا أي إجراء جديد .
فإن تركت مدة العدة تمضي دون مراجعة ، ففي استطاعتهما أن يستأنفا هذه الحياة متى رغبا . ولكن بعقد جديد .

أخلاق أهل البيت 297

وتلك هي التجربة الأولى وهي تكشف لكلا الزوجين عن حقيقة عواطفها ، وعن جدية الأسباب التي انفصلا بسببها ، فإذا تكررت هذه الأسباب ، أو جد سواها ، واندفع الزوج إلى الطلاق مرة أخرى ، فعندئذ لا تبقى سوى فرصة واحدة ، هي الثالثة .
فإذا كانت الثالثة ، فالعلة إذن عقيمة والمحاولة غير مجدية ، ومن الخير له ولها أن يجرب كل منهما طريقه ، ومن الخير كذلك أن يتلقى الزوج ـ إن كان عابثاً ـ نتيجة عبثه أو تسرعه «فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره» (البقرة : 230) (1) .
فماذا ينقم الثرثارون على الإسلام بتشريع الطلاق ؟ أيريدون إلغاءه وتحريمه ، لتشيع المآسي في المجتمع الإسلامي ، التي عاشتها الأمم الكاثوليكية ، التي حرمت الطلاق وحرمت تعدد الزوجات ، مما اضطرهم إلى اتخاذ العشيقات والأخدان ، وتعسف مسالك الغواية والآثام الخلقية ؟


حقوق الأقرباء

فضل الأقرباء :


الأقرباء : هم الأسرة التي ينتمي إليها الإنسان ، والدوحة التي تفرع منها وهم ألصق الناس نسباً به ، واشدهم عطفاً عليه ، وأسرعهم إلى نجدته ومواساته .
وقد وصفهم أمير المؤمنين (ع) فقال : «يا أيها الناس أنه لا يستغني الرجل وإن كان ذا مال عن عشيرته ؟ ودفاعهم عنه بأيديهم وألسنتهم ، وهم أعظم الناس حيطة من ورائه ، وألمهم لشعثه ، وأعطفهم عليه عند نازلة إذا نزلت به» (2) .

(1) نقل بتصرف واختصار عن كتاب السلام العالمي ، لسيد قطب ص 64 ـ 67 .
(2) نهج البلاغة .
أخلاق أهل البيت 298

وأفضل الأقرباء وأجدرهم بالإعجاب والثناء هم : المتحابون المتعاطفون المتآزرون على تحقيق أهدافهم ومصالحهم .
وكلما استشعر الأرحام وتبادلوا مشاعر التضامن والتعاطف كانوا أعز قدراً ، وأمنع جانباً ، وأشد قوة على مجابهة الأعداء ومعاناة الشدائد والأزمات .
من أجل ذلك أولت الشريعة الإسلامية شؤون الأسرة عناية بالغة ، ورعتها بالتنظيم والتوجيه لمكانتها الاجتماعية وأثرها في إصلاح المجتمع الإسلامي وازدهار حياته .

صلة الرحم

وفي طليعة المبادئ الخلقية التي فرضتها الشريعة وأكدت عليها صلة الأرحام ، وهم (المتحدون في النسب) وإن تباعدت أواصر القربى بينهم وذلك بالتودد إليهم والعطف عليهم وإسداء العون المادي لهم ودفع المكاره والشرور عنهم ومواساتهم في الأفراح والأحزان .
وإليك طرفاً من نصوص أهل البيت (ع) في صلة الأرحام ورعايتهم :
عن أبي جعفر (ع) قال : قال رسول الله (ص) :
«أوصي الشاهد من أمتي والغائب منهم ومن في أصلاب الرجال وأرحام النساء إلى يوم القيامة أن يصل الرحم وإن كان منه على مسيرة سنة فإن ذلك من الدين» (1) .
وعن علي بن الحسين (ع) قال : قال رسول الله (ص) : ـ
«من سره أن يمد الله في عمره ، وأن يبسط في رزقه ، فليصل رحمه ، فإن الرحم لها لسان يوم القيامة ذلق تقول : يا رب صل من وصلني واقطع من قطعني» (2) .

(1) الوافي ج 3 ص 93 عن الكافي .
(2) البحار ، كتاب العشرة ص 27 عن عيون أخبار الرضا وصحيفة الرضا (ع) .
أخلاق أهل البيت 299

وعن الرضا عن آبائه عليهم السلام قال : قال رسول الله (ص) : ـ
«من ضمن لي واحدة ضمنت له أربعة : يصل رحمه ، فيحبه الله تعالى ، ويوسع عليه رزقه ، ويزيد في عمره ، ويدخله الجنة التي وعده» (1) .
وقال أبو عبد الله (ع) : «ما نعلم شيئاً يزيد في العمر إلا صلة الرحم ، حتى أن الرجل يكون أجله ثلاث سنين ، فيكون وصولاً للرحم ، فيزيد الله في عمره ثلاثين سنة فيجعلها ثلاثاً وثلاثين سنة فيكون قاطعاً للرحم فينقصه الله تعالى ثلاثين سنة ، ويجعل أجله إلى ثلاث سنين» (2) .
وقال (ع) :
«صل رحمك ولو بشربة من ماء ، وأفضل ما يوصل به الرحم كف الأذى عنها . وصلة الرحم منسأة في الأجل محبة في الأهل» (3) .
وقال (ع) : ـ
«إن صلة الرحم والبر ليهونان الحساب ، ويعصمان من الذنوب ، فصلوا أرحامكم ، وبروا بأخوانكم ولو بحسن السلام ورد الجواب» (4) .
وقال أبو جعفر (ع) : ـ
«صلة الأرحام تزكي الأعمال ، وتنمي الأموال ، وتدفع البلوى ، وتيسر الحساب ، وتنسى في الأجل» (5) .
وعن أبي عبد الله (ع) : «أن رجلاً أتى النبي (ص) فقال : يا رسول الله أهل بيتي أبوا إلا توثباً علي وقطيعة لي وشتيمة فأرفضهم ؟
قال (ص) : إذاً يرفضكم الله جميعاً .
قال : فكيف أصنع ؟

(1) الوافي ج 3 ص 94 عن الكافي .
(2) الوافي ج 3 ص 94 عن الكافي .
(3) الوافي ج 3 ص 94 عن الكافي .
(4) الوافي ج 3 ص 94 عن الكافي .
(5) الوافي ج 3 ص 94 عن الكافي .
أخلاق أهل البيت 300

قال (ص) : تصل من قطعك ، وتعطي من حرمك ، وتعفو عمن ظلمك ، فإنك إذا فعلت ذلك كان لك من الله عليهم ظهيراً» (1) .
وقد أحسن بعض الشعراء المتقدمين حيث قال :
وإن الذي بيني وبين بنـي أبـي وبين بني عمـي لمختلـف جـدا
فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهـم وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجـدا
وإن ضيعوا غيبي حفظت غيوبهم وإن هم هووا عني هويت لهم رشدا
لهم جل مالي إن تتابع لي غنـي وإن قـل مالي لـم أكلفهـم رفـدا

خصائص صلة الرحم

ولا غرابة أن نلمس في هذه النصوص قوة التركيز والتأكيد على صلة الرحم ، وذلك لما تنطوي عليه من جليل الخصائص والمنافع .
فالأسرة الرحمية تضم عناصر وأفراداً متفاوتين حالاً وأقداراً ، فيهم الغني والفقير ، والقوي والضعيف ، والوجيه والخامل ، وهي بأسرها فرداً وجماعة لا تستطيع أن تنال أماني العزة والمنعة والرخاء ، وتجابه مشاكل الحياة ومناوأة الأعداء بجلد وثبات إلا بالتضامن والتعاطف اللذين يشدان أزرها ويجعلانها جبهة متراصة لا تزعزعها أعاصير المشاكل والأحداث ، ولا يستطيع مكابدتها الأعداء والحساد .
وقد جسد أكثم بن صيفي هذا الواقع في حكمته الشهيرة حيث :
«دعى أبناءه عند موته ، فاستدعى أضمامة من السهام ، فتقدم إلى كل واحد منهم أن يكسرها فلم يقدر أحد على كسرها .
ثم بددها فتقدم إليهم أن يكسروا فاستسهلوا كسرها ، فقال :
كونوا مجتمعين ليعجز من ناوأكم عن كسركم كعجزكم عن كسرها مجتمعة ، فإنكم إن تفرقتم سهل كسركم وأنشد :
كونوا جميعاً يا بني إذا اعترى خطب ولا تتفرقوا آحادا

(1) الوافي ج 3 ص 94 عن الكافي .
أخلاق أهل البيت 301

تأبى القداح إذا اجتمعن تكسراً وإذا افترقن تكسرت أفرادا

هذا إلى ما في صلة الرحم من جليل الخصائص والآثار التي أوضحتها النصوص السالفة .
فهي :
مدعاة لحب الأقرباء وعطفهم وإيثارهم وموجبة لطيلة العمر ، ووفرة المال ، وزكاة الأعمال الصالحة ونحوها في الرصيد الأخروي ، ومنجاة من صروف الأقدار والبلايا .

قطيعة الرحم

وهي :
فعل ما يسخط الرحم ويؤذيه قولاً أو فعلاً ، كسبه واغتيابه وهجره وقطع الصلات المادية وحرمانه من مشاعر العطف والحنان .
وتعتبر الشريعة الإسلامية قطيعة الرحم جرماً كبيراً وإثماً ماحقاً توعد عليها الكتاب والسنة .
قال تعالى : «فهل عسيتم أن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم» (محمد : 22) .
وقال سبحانه : «والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ، ويقطعون ما أمر الله به أو يوصل ، ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون» (البقرة : 27) .
وقال رسول الله (ص) : «أربعة أسرع شيء عقوبة : رجل أحسنت إليه فكافأك بالإحسان إساءة ، ورجل لا تبغي عليه وهو يبغي عليك ، ورجل عاهدته على أمر فوفيت له وغدر بك ، ورجل وصل قرابته فقطعوه» (1) .
وعن أبي جعفر (ع) قال : في كتاب علي (ع) «ثلاث خصال لا يموت

(1) الوافي ج 14 ص 47 من وصية النبي (ص) لعلي (ع) .

السابق السابق الفهرس التالي التالي