أخلاق أهل البيت 271

وفروجهم وجميع أعمالهم .
ثم عطف الله تعالى على النساء المؤمنات ، فأمرهن بما أمر به الرجال المؤمنين من غض الأبصار وحفظ الفروج ، لاتحاد الجنسين ، وتساويهما في الغرائز والميول ، وانجذاب كل منهما نحو الآخر .
وخص النساء بتوجيهات تنظم سلوكهن ، وتذكي فيهن مشاعر الحشمة والعزة والوقار : «ولا يبدين زينتهن» لا يظهرن مواضع الزينة لغير المحارم ، «إلا ما ظهر منها» كالثياب او الوجه والكفين ، «وليضربن بخمرهن على جيوبهن» وليسدلن الخمر والمقانع على نحورهن وصدورهن تستراً من الأجانب .
ثم رخصهن في إبداء زينتهن للمحارم ، ومن يؤمن من الافتتان والإغراء منهن وعليهن ، لنفرة الطباع من ذلك «ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن ، أو آبائهن ، أو آباء بعولتهن ، أو أبنائهن ، أو أبناء بعولتهن ، أو إخوانهن ، او بني أخوانهن ، او بني اخواتهن ، أو ما ملكت أيمانهن» وهم الإماء . «أو التابعين غير أولي الأربة من الرجال» وهم الذين يتبعون الناس طمعاً في برهم ونوالهم من لا يهفو إلى النساء ، ولا حاجة له فيهن ، كالبله من الرجال او الشيوخ العاجزين الصلحاء .
«أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء» وأريد به جميع الأطفال الذين لا يعرفون عورات النساء لسذاجتهم ، وضعف غريزتهم الجنسية .
«ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن» للاعلام عن خلخالها أو اسماع صوته .
«وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون» (النور : 31) . تسعدون في الدارين .
* * *

وهكذا جاءت أحاديث أهل البيت عليهم السلام تحض على العفاف ، وغض الأبصار عن النظرة المحرمة ، فضلاً عن الاختلاط ، سيان في ذلك الرجال والنساء .

أخلاق أهل البيت 272

قال الصادق (ع) : «النظرة سهم من سهام إبليس مسموم ، وكم نظرة أورثت حسرة طويلة» (1) .
وقال (ع) : «أول النظرة لك ، والثانية عليك ، والثالثة فيها الهلاك» (2) .
وقال (ع) : «نهى رسول الله (ص) أن يدخل الرجل على النساء إلا بإذن أوليائهن» (3) .
وعن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام قالا : «ما من أحد إلا وهو يصيب حظاً من الزنا ، فزنا العين النظر ، وزنا الفم الغيبة ، وزنا اليدين اللمس ، صدق الفرج ذلك أم كذب» (4) .
وقال الصادق (ع) : «من نظر إلى امرأة فرفع بصره إلى السماء ، لم يرتد إليه بصره حتى يزوجه الله من الحور العين» (5) .
وعنه ، عن أبيه عليهما السلام قال : قال رسول الله (ص) : «كل عين باكية يوم القيامة إلا ثلاثة أعين : عين بكت من خشية الله ، وعين غضت عن محارم الله ، وعين باتت ساهرة في سبيل الله» (6) .
* * *


منزلة المرأة في الإسلام

أجدني وأنا أتحدث عن الحقوق الزوجية منساقاً إلى التحدث عن منزلة المراة في الإسلام ، ورعايته لها وعطفه عليها ، ما جعلها حظية سعيدة في ضلاله .
ولا يستطيع الباحث أن يتبين أبعاد حظوتها وسعادتها في عهده الزاهر إلا

(1) الوافي ج 12 ص 127 ، عن الكافي .
(2) الوافي ج 12 ص 127 ، عن الفقيه .
(3) الوافي ج 12 ص 123 ، عن الكافي .
(4) الوافي ج 12 ص 127 ، عن الكافي .
(5) الوافي ج 12 ص 127 ، عن الفقيه .
(6) البحار م 23 ص 101 عن خصال الصدوق (ره) .
أخلاق أهل البيت 273

بالمقارنة بينها وبين غيرها من النساء اللاتي سبقنها أو تخلفن عنها في التأريخ ، ليستجلي عزتها وتفوقها عليهن .
ولا يستطيع أن يتبين ذلك إلا بدراسته على ضوء المباديء السماوية الخالدة ، والقيم المنطقية الاصلية المبرئة من نوازع الهوى والجهل وسيطرة الأعراف والتقاليد التي لا تصلح أن تكون مقياساً ثابتاً وحكماً عدلاً في تمحيص الحقائق وتقييمها واستجلاء الواقع من المزيف منها ، لتلونها بالمحيط الذي نبعت منه والظرف الذي شاعت فيه ، فطالما استحسن العرف خلالاً قبيحة واستقبح سجايا كريمة ، متأثراً بدوافع هذا أو ذاك .
وإنما يصلح العرف في التحكيم إذا كان مستنيراً بهدي الله تعالى وتوجيهه السديد الحكيم ، فإنه آنذاك لا يخطيء في حكمه ، ولا يزيغ عن العدل والصواب .

المرأة في التأريخ القديم

لقد اضطرب المعيار الاجتماعي في تقييم المرأة وتحديد منزلتها الاجتماعية في عصور الجاهلية القديمة او الحديثة . وتأرجح بين الإفراط والتفريط ، وبين التطفيف والمغالاة ، دون أن يستقر على حال رضي من القصد والاعتدال .
فاعتبرت حيناً من الدهر مخلوقاً قاصراً منحطاً ، ثم اعتبرت شيطاناً يسول الخطيئة ويوحي بالشر ، ثم اعتبرت سيدة المجتمع تحكم بأمرها وتصرفه بمشيئتها ، ثم اعتبرت عاملة كادحة في سبيل عيشها وحياتها .
وكانت المرأة في أغلب العصور تعاني الشقاء والهوان ، مهدورة الحق مسترقة للرجل ، يسخرها لأغراضه كيف يشاء .
وهي في تقييم الحضارة الرومانية في تأرجح واضطراب ، بين التطفيف والمغالاة : اعتبرتها رقيقاً تابعاً للرجل ، يتحكم فيها كما شاء . ثم غالت في قيمها فحررتها من سلطان الأب والزوج ، ومنحتها الحقوق الملكية والإرثية وحرية الطلاق ، وحرية التبذل والإسفاف ، فكانت الرومانية تتزوج الرجل بعد الآخر دونما خجل أو استحياء .

أخلاق أهل البيت 274

فقد كتب «جوونيل 60 ـ 140 م» عن امرأة تقلبت في أحضان ثمانية أزواج في خمس سنوات . وذكر القديس «جروم 340 ـ 420 م» عن امرأة تزوجت في المرة الأخيرة الثالث والعشرين من أزواجها ، وكانت هي أيضاً الحادية والعشرين لبعلها (1) .
ثم أباحوا لها طرق الغواية والفساد ، مما سبب تفسخ المجتمع الروماني ثم سقوطه وانهياره .
وهي في عرف الحضارة اليونانية تعتبر من سقط المتاع ، تباع وتشترى ، وتعتبر رجساً من عمل الشيطان .
وقضت شرائع الهند القديمة (أن الوياء والموت والجحيم والسم والأفاعي والنار . . خير من المرأة) وكان حقها في الحياة ينتهي بانتهاء أجل زوجها الذي هو سيدها ومالكها ، فإذا رأت جثمانه يحرق ألقت بنفسها في نيرانه ، وإلا حاقت عليها اللعنة الأبدية .
وأما رأي التوراة في المرأة ، فقد وضحه سفر الجامعة في الكلمات الآتية : «درت أنا وقلبي لأعلم ولأبحث ولأطلب حكمة وعقلاً ، ولأعرف الشر أنه جهالة ، والحماقة أنها جنون ، فوجدت أمر من الموت المرأة ، التي هي شباك ، وقلبها شراك ، ويداها قيود» (الإصحاح 14 الفقرة 17) (2) .
وكانت المرأة من وجهة نظر المسيحية ـ خلال العصور الوسطى ـ مخلوق شيطاني دنس ، يجب الابتعاد عنه .
قال «ليكي» في كتاب تأريخ أخلاق أوروبا : «وكانوا يفرون من ظل النساء ، ويتأثمون من قربهن والاجتماع بهن ، وكانوا يعتقدون أن مصادفتهن في الطريق والتحدث إليهن ـ ولو كن أمهات وأزواجاً أو شقيقات ـ تحبط أعمالهم وجهودهم الروحية» (3) .

(1) الحجاب للمودودي ص 22 .
(2) مقارنة الأديان ج 3 الإسلام ص 196 بتصرف للدكتور أحمد شبلي .
(3) ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ، للسيد الندوي ص 160 .
أخلاق أهل البيت 275

وهكذا كان المجتمع الغربي فيما خلا تلك العصور ، يستخف بالمرأة ولا يقيم لها وزناً . (فقد عقد في فرنسا اجتماع سنة 586 م يبحث شأن المرأة وما إذا كانت تعد إنساناً أو لا تعد إنساناً . وبعد النقاش ، قرر المجتمعون أن المرأة إنسان ولكنها مخلوقة لخدمة الرجل) (1) .
وفي انجلترا حرم «هنري الثامن» على المرأة الإنجليزية قراءة الكتاب المقدس ، وظلت النساء حتى سنة 1850 م غير معدودات من المواطنين ، وظللن حتى سنة 1882 م ليس لهن حقوق شخصية ، ولا حق لهن في التملك الخالص ، وإنما كانت المرأة ذائبة في أبيها أو زوجها (2) .

المرأة في المجتمع العربي الجاهلي

وقد لخص الأستاذ الندوي حياة المرأة في المجتمع العربي الجاهلي ، حيث قال :
«وكانت المرأة في المجتمع الجاهلي عرضة غبن وحيف ، تؤكل حقوقها وتبتز أموالها ، وتحرم من إرثها ، وتعضل بعد الطلاق أو وفاة الزوج من أن تنكح زوجاً ترضاه ، وتورث كما يورث المتاع أو الدابة ، وكانت المرأة في الجاهلية يطفف معها الكيل ، فيتمتع الرجل بحقوقه ولا تتمتع هي بحقوقها ، ومن المأكولات ما هو خالص للذكور ومحرم على الإناث ، وكان يسوغ للرجل أن يتزوج ما يشاء من النساء من غير تحديد .
وقد بلغت كراهة البنات إلى حد الوأد ، وكانوا يقتلون البنات بقسوة ، فقد يتأخر وأد الموؤدة لسفر الوالد وشغله ، فلا يئدها إلا وقد كبرت وصارت تعقل ، وكان بعضهم يلقي الأنثى من شاهق» (3) .

المرأة في الحضارة الغربية الحديثة

ولما بلغت الحضارة الغربية الحديثة أوجها ، نالت المرأة فيها ـ بعد جهاد

(1) ، (2) مقارنة الأديان ، للدكتور أحمد شلبي ج 3 ص 200 .
(2) ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ، للسيد الندوي ص 57 بتصرف .
أخلاق أهل البيت 276

شاق وتضحيات غالية ـ حريتها وحقوقها ، وغدت تشستشعر المساواة بالرجل ، وتشاطره الأعمال في الدوائر والمتاجر والمصانع ، ومختلف الشؤون والنشاطات الاجتماعية .
وابتهجت المرأة الغربية بهذه المكاسب التي نالتها بالدموع والمآسي ، متجاهلة واقع غبنها وخسرانها في هذا المجال . ولو أنها حاكمت وعادلت في ميزان المنطق بين المغانم التي حققتها والمغارم التي حاقت بها . . . لأحست بالأسى والخيبة والخسران .
فقد خدعها دعاة التحرر في هذه الحضارة المادية ، وغرروا بها واستغلوا سذاجتها استغلالاً ماكراً دنيئاً . استغلوها لمضاربة الرجل ، ومكايدته حينما بدأ يطالب بمضاعفة أجور العمل وتخفيف ساعاته ، فاستجابت لذلك . . . تعمل أعمال الرجل قانعة بأجر دون أجره .
واستغلوا أنوثتها في الحقل التجاري لمضاعفة الأرباح المادية ، لقدرتها على اجتذاب الزبائن وتصريف البضائع ، مستثيرين كوامن الجنس في نفوسهم فأي استغلال أنكى وأسوأ من هذا الاستغلال ؟
وكان عليها بعد هذا أن تضطلع بمهامها النسوية من الحمل والوضع والتربية والتدبير المنزلي ، إلى جانب كفاحها في سبيل العيش كيلا يمسها السغب والحرمان لنكول الرجل عن إعالتها في الغالب .
وبالرغم مما حققته المرأة الأوروبية من صنوف الإنجازات والمكاسب ، فإنها تعتبر في المعيار المنطقي خاسرة مخفقة ، قد خسرت إزاء تحررها دينها واخلاقها وكرامتها ، وأصبحت في حالة مزرية من التبذل والإسفاف . كما شهد به الغربيون أنفسهم مما أوضحناه سالفاً ونزيده إيضاحاً في الأبحاث التالية .

تحرير المرأة في الإسلام

وندرك من هذا العرض السالف مبلغ التخبط والتأرجح في تقييم المرأة عبر العصور القديمة والحديثة ، دون أن تهتدي الأمم إلى القصد والاعتدال ، مما

أخلاق أهل البيت 277

أساء إلى المرأة والمجتمع الذي تعيشه إساءة بالغة .
فلما انبثق فجر الإسلام وأطل على الدنيا بنوره الوضاء ، أسقط تلك التقاليد الجاهلية وأعرافها البالية ، وأشاد للإنسانية دستوراً خالداً يلائم العقول النيرة والفطر السلمية ، ويواكب البشرية عبر الحياة .
فكان من إصلاحاته أنه صحح قيم المرأة وأعاد إليها اعتبارها ، ومنحها حقوقها المادية والأدبية بأسلوب قاصد حكيم ، لا إفراط فيه ولا تفريط ، فتبوأت المرأة المسلمة في عهده الزاهر منزلة رفيعة لم تبلغها نساء العالم .
لقد أوضح الإسلام واقع المرأة ، ومساواتها بالرجل في المفاهيم الإنسانية ، واتحادها معه في المبدأ والمعاد ، وحرمة الدم والعرض والمال ، ونيل الجزاء الأخروى على الأعمال ، ليسقط المزاعم الجاهلية إزاء تخلف المرأة عن الرجل في هذه المجالات .
«يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم» (الحجرات : 13) .
«من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون» (النحل : 97) .
وكان بعض الأعراب يئد البنات ويقتلهن ظلماً وعدواناً ، فجاء الإسلام ناعياً ومهدداً على تلك الجريمة النكراء ، ومنح البنت شرف الكرامة وحق الحياة «وإذا الموءودة سئلت ، بأي ذنب قتلت» (التكوير : 8 ـ 9) .
«ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق ، نحن نرزقهم وإياكم ، إن قتلهم كان خطئاً كبيراً» (الإسراء : 31) .
وقضت الأعراف الجاهلية أن تسوم المرأة ألوان التحكم والافتئات ، فتارة تقسرها على التزويج ممن لا ترغب فيه ، أو تعظلها من الزواج ، وأخرى تورث كما يورث المتاع ، يتحكم بها الوارث كيف يشاء ، فله أن يزوجها ويبتز مهرها ، أو يعضلها حتى تفتدي نفسها منه أو تموت ، فيرثها كرهاً واغتصاباً . وقد حررها الإسلام من ذلك الأسر الخانق والعبودية المقيتة ، ومنحها حرية اختيار الزوج

أخلاق أهل البيت 278

الكفؤ ، فلا يصح تزويجها إلا برضاها ، وحرم كذلك استيراثها قسراً وإكراهاً :
«يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً ، ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن» (النساء : 19) .
وكانت التقاليد الجاهلية ، وحتى الغربية منها ، إلى عهد قريب تمنع المرأة حقوق الملكية ، كما حرمتها الجاهلية العربية حقوق الإرث ، لأن الإرث في عرفهم لا يستحقه إلا رجال القبيلة وحماتها المدافعون عنها بالسيف . وقد اسقط الإسلام تلك التقاليد الزائفة . ومنح المرأة حقوقها الملكية والإرثية ، وقرر نصيبها من الإرث . . أما كانت ، أو بنتاً ، أو أختاً ، أو زوجة :
«للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن» (النساء : 32) .
«للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون ، وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون» (النساء : 7) .
وفرض للزوجة على زوجها حق الإعالة ، ولو كانت ثرية موسرة .
وقد عرضنا في حقوق الزوجة طرفاً من وصايا أهل البيت عليهم السلام في رعايتها وتكريمها ، تعرب عن اهتمام الشريعة الإسلامية بشؤون المرأة ورفع معنوياتها .
واستطاع الإسلام بفضل مبادئه وسمو آدابه أن يجعل المرأة المسلمة قدوة مثالية لبناء الأمم ، في رجاحة العقل وسمو الإيمان وكرم الأخلاق ، ورفع منزلتها الاجتماعية ، حتى استطاعت أن تناقش وتحاج الخليفة الثاني إبان خلافته ، وهو يخطب في المسلمين وينهاهم عن المغالاة في المهور ، فانبرت له امرأة من صف الناس ، وقالت : ما ذاك لك .
فقاله : ولم ؟
أجابت : لأن الله تعالى يقول : «وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً ، أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً» (النساء : 20) .
فرجع عمر عن رأيه ، وقال : أخطأ عمر وأصابت امرأة .

أخلاق أهل البيت 279

وقد سجل التاريخ صفحات مشرقة بأمجاد المرأة المسلمة ومواقفها البطولية في نصرة الإسلام ، يقصها الرواة بأسلوب رائع ممتع يستثير الإعجاب والإكبار .
فهذه «نسيبة المازنية» كانت تخرج مع رسول الله (ص) في غزواته ، وكان ابنها معها ، فأراد أن ينهزم ويتراجع ، فحملت عليه ، فقالت : يا بني ، إلى أين تفر عن الله وعن رسوله ؟ فردته .
فحمل عليه رجل فقتله ، فأخذت سيف ابنها ، فحملت على الرجل فقتلته ، فقال رسول الله (ص) : بارك الله عليك يا نسيبة .
وكانت تقي رسول الله (ص) بصدرها وثديها ، حتى أصابتها جراحات كثيرة (1) .
وحج معاوية سنة من سنيه ، فسأل عن امرأة من بني كنانة كانت تنزل بالحجون ، يقال لها «درامية الحجون» وكانت سوداء كثيرة اللحم ، فأخبر بسلامتها ، فبعث إليها . فجيء بها ، فقال : ما حالك يابنة حام ؟ قالت : لست لحام إن عبتني ، إنما أنا امرأة من بني كنانة ، ثمت من بني أبيك .
قال : صدقت ، أتدرين لم بعثت إليك ؟
قالت : لا يعلم الغيب إلا الله .
قال : بعثت إليك لأسألك ، علام أحببت علياً وأبغضتني ، وواليته وعاديتني ؟
قالت : أو تعفيني يا أمير المؤمنين .
قال : لا أعفيك .
قالت : أما إذا أبيت ، فإني أحببت علياً على عدله في الرعية ، وقسمه بالسوية . وأبغضتك على قتال من هو أولى منك بالأمر ، وطلبتك ما ليس لك بحق . وواليت علياً على ما عقد له رسول الله من الولاء ، وعلى حبه للمساكين ، وإعظامه لأهل الدين ، وعاديتك على سفكك الدماء ، وشقك العصا وجورك في

(1) عن سفينة البحار ج 2 ص 585 .
أخلاق أهل البيت 280

القضاء ، وحكمك بالهوى .
قال : فلذلك انتفخ بطنك .
قالت : يا هذا ، بهند والله يضرب المثل في ذلك لا بي .
قال معاوية : يا هذه ، اربعي ، فإنا لم نقل إلا خيراً ، فرجعت وسكنت .
فقال لها : يا هذه ، هل رأيت علياً ؟
قالت : أي والله لقد رأيته .
قال : فكيف رأيتيه .
قالت : رأيته والله لم يفتنه الملك الذي فتنك ، ولم تشغله النعمة التي شغلتك .
قال : هل سمعت كلامه .
قالت : نعم والله ، كان يجلو القلوب من العمى كما يجلو الزيت الصدأ .
قال : صدقت ، فهل لك من حاجة ؟
قالت : أو تفعل إذا سألتك ؟ قال : نعم .
قالت : تعطيني مائة ناقة حمراء فيها فحلها وراعيها .
قال : تصنعين بها ماذا ؟
قالت : أغذو بألبانها الصغار ، وأستحيي بها الكبار ، وأكتسب بها المكارم ، وأصلح بها بين العشائر .
قال : فإن أعطيتك ذلك ، فهل أحل عندك محل علي ؟
قالت : ماء ولا كصداء ، ومرعى ولا كالسعدان ، وفتى ولا كمالك .
ثم قال : أما والله لو كان علي حياً ما أعطاك منها شيئاً .
قالت : لا والله ولا وبرة واحدة من مال المسلمين .
* * *

واستدعى معاوية امرأة من أهل الكوفة تسمى «الزرقاء بنت عدي» كانت

أخلاق أهل البيت 281

تعتمد الوقوف بين الصفوف وترفع صوتها صارخة ، يا أصحاب علي ، تسمعهم كلامها كالصوارم ، مستحثة لهم بقول لو سمعه الجبان لقاتل ، والمدبر لأقبل ، والمسالم لحارب ، والفار لكر ، والمتزلزل لاستقر .
فلما قدمت على معاوية ، قال لها : هل تعلمين لم بعثت إليك ؟
قالت : لا يعلم الغيب إلا الله سبحانه وتعالى .
قال : ألست الراكبة الجمل الأحمر يوم صفين ، وأنت بين الصفوف توقدين نار الحرب ، وتحرضين على القتال ؟
قالت : نعم . قال : فما حملك على ذلك ؟
قالت : يا أمير المؤمنين ، انه قد مات الرأس ، وبتر الذنب ، ولن يعود ما ذهب ، والدهر ذو غير ، ومن تفكر أبصر ، والأمر يحدث بعده الأمر .
قال : صدقت ، فهل تعرفين كلامك وتحفظين ما قلت ؟
قالت : لا والله ولقد أنسيته .
قال : لله أبوك ، فلقد سمعتك تقولين «أيها الناس ، ارعوا وارجعوا ، إنكم أصبحتم في فتنة ، غشتكم جلابيب الظلم ، وجارت بكم عن قصد المحجة ، فيا لها فتنة عمياء صماء بكماء ، لا تسمع لناعقها ، ولا تسلس لقائدها . إن المصباح لا يضيء في الشمس ، وإن الكواكب لا تنير مع القمر ، وإن البغل لا يسبق الفرس ، ولا يقطع الحديد إلا بالحديد ، ألا من استرشد أرشدناه ، ومن سألنا أخبرناه .
أيها الناس : إن الحق كان يطلب ضالته فأصابها ، فصبراً يا معشر المهاجرين والأنصار على الغصص ، فكأنكم وقد التأم شمل الشتات ، وظهرت كلمة العدل ، وغلب الحق باطله ، فإنه لا يستوي المحق والمبطل . أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون . فالنزال النزال ، والصبر الصبر ، ألا أن خضاب النساء الحناء ، وخضاب الرجال الدماء ، والصبر خير الأمور عاقبة ، أئتوا الحرب غير ناكصين ، فهذا يوم له ما بعده» .

أخلاق أهل البيت 282

ثم قال : يا زرقاء ، أليس هذا قولك وتحريضك ؟
قالت : لقد كان ذلك .
قال : لقد شاركت علياً في كل دم سفكه .
فقالت : أحسن الله بشارتك أمير المؤمنين ، وأدام سلامتك ، فمثلك من بشر بخير ، وسر جليسه .
فقال معاوية : أو يسرك ذلك ؟
قالت : نعم والله لقد سرني قولك ، وأنى لي بتصديق الفعل . فضحك معاوية ، وقال : والله لوفاؤكم له بعد موته أعجب عندي من حبكم له في حياته (1) .
وهذه أم وهب ابن عبد الله بن خباب الكلبي ، قالت لابنها يوم عاشوراء : قم يا بني ، فانصر ابن بنت رسول الله .
فقال : أفعل يا أماه ولا أقصر .
فبرز وهو يقول رجزه المشهور ، ثم حمل فلم يزل يقاتل ، حتى قتل منهم جماعة ، فرجع إلى أمه وامرأته ، فوقف عليهما فقال : يا أماه أرضيت ؟
فقالت : ما رضيت أو تقتل بين يدي الحسين (ع) .
فقالت امرأته : بالله ، لا تفجعني في نفسك .
فقالت أمه : يا بني ، لا تقبل قولها وارجع فقاتل بين يدي ابن بنت رسول الله ، فيكون غداً في القيامة شفيعاً لك بين يدي الله .
فرجع ولم يزل يقاتل حتى قتل تسعة عشر فارساً واثني عشر راجلاً ، ثم قطعت يداه . وأخذت أمه عموداً وأقبلت نحوه وهي تقول : فداك أبي وأمي ، قاتل دون الطيبين ـ حرم رسول الله (ص) ـ . فأقبل كي يردها إلى النساء ، فأخذت بجانب ثوبه «لن أعود أو أموت معك» .
فقال الحسين (ع) : «جزيتم من أهل بيت خيراً ، ارجعي إلى النساء ،

(1) هاتان القصتان (الثانية والثالثة) عن قصص العرب ج 2 ، وقد نقلتا بتصرف واختصار .
أخلاق أهل البيت 283

رحمك الله ، فانصرفت . وجعل يقاتل حتى قتل رضوان الله عليه (1) .
هذه لمحة خاطفة عن عرض تاريخي طويل زاخر بأمجاد المرأة المسلمة ، ومواقفها البطولية الخالدة ، اقتصرنا عليها خشية الإطالة .
وأين من هذه العقائل المصونات ، نساء المسلمين اليوم ، اللاتي يتشدقن الكثيرات منهن بالتبرج ، ونبذ التقاليد الإسلامية ، ومحاكاة المرأة الغربية ، في تبرجها وخلاعتها . فخسرن بذلك أضخم رصيد ديني وأخلاقي تملكه المرأة المسلمة وتعتز به ، وغدون عاطلات من محاسن الإسلام ، وفضائله المثالية .

المساواة بين الرجل والمرأة

لقد غزت الشرق فيما غزاه من صنوف البدع والضلالات ، فكرة المساواة التامة بين الرجل والمرأة ، ومشاطرتها له في مختلف نشاطاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية .
وانخدع أغرار المسلمين بهذه الفكرة ، وراحوا ينادون بها ويدعون إليها ، جهلاً منهم بزيفها ومخالفتها مباديء الفطرة والوجدان ، للفوارق العديدة بين الجنسين ، واختلاف مؤهلاتهما في مجالات الحياة .
ومتى ثبتت المفارقات بين الرجل والمرأة ، تجلى خطأ هذه الفكرة ، واستبان ما فيها من تفريط وتضييع لخصائص كل منهما وكفاءته .
فالرجل غالباً : هو أضخم هيكلاً من المرأة ، وأصلب عوداً ، وأقوى جلداً على معاناة الشدائد والأهوال ، كما هو أوسع أفقاً ، وأبعد نظراً ، وأوفر خبرة في تجارب الحياة .
والمرأة غالبا : هي اجمل صورة من الرجل ، واضعف جسما وطاقة ، وارق عاطفة ، وارهف حسا ، تيسيرا لمل اعدت له من وظائف الامومة ورسالتها الانسانية في الحياة .
ويزداد التغاير والتباين بين الجنسين فيما ينتاب الأناث خاصة ، من أعراض

(1) نفس المهموم للشيخ عباس القمي (ره) بتصرف وتلخيص .
أخلاق أهل البيت 284

الحيض والحمل والإرضاع ، مما يؤثر تأثيراً بالغاً في حياة المرأة وحالتها الصحية .
فهي تعاني أعراضاً مرضية خلال عاداتها الشهرية ، تخرجها عن طورها المألوف .
قال الطبيب (جب هارد) : «قل من النساء من لا تعتل بعلة في المحاض ، ووجدنا أكثرهن يشكين الصداع والنصب والوجع تحت السرة ، وقلة الشهوة للطعام ، ويصبحن شرسات الطباع ، مائلات إلى البكاء . فنظراً لهذه العوارض كلها يصح القول ، أن المرأة في محاضها تكون في الحق مريضة ، وينتابها هذا المرض مرة في كل شهر ، وهذه التغيرات في جسم المرأة تؤثر لا محالة في قواها الذهنية وفي أفعال أعضائها» .
وهكذا أعرب الباحثون عن امتناع المساواة بين الجنسين .
قال الباحث الطبيعي الروسي (انطون نميلاف) في كتابه الذي أثبت فيه عدم المساواة الفطرية بينهما ، بتجارب العلوم الطبيعية ومشاهداته : «ينبغي أن لا نخدع أنفسنا بزعم أن إقامة المساواة بين الرجل والمرأة في الحياة العملية أمر هين ميسور . الحق أنه لم يجتهد أحد في الدنيا لتحقيق هذه المساواة بين الصنفين مثل ما اجتهدنا في روسيا السوفيتية ، ولم يوضع في العالم من القوانين السمحة البريئة من التعصب في هذا الباب مثل ما وضع عندنا ، ولكن الحق أن منزلة المرأة قلما تبدلت في الأسرة ، ولا في الأسرة فحسب بل قلما تبدلت في المجتمع أيضاً» .
ويقول في مكان آخر : «لا يزال تصور عدم مساواة الرجل والمرأة ذلك التصور العميق راسخاً لا في قلوب الطبقات ذات المستوى الذهني البسيط ، بل في قلوب الطبقات السوفيتية العليا أيضاً» (1) .
وقال الدكتور (الكسيس كاريل) الحائز على جائزة نوبل : «يجب أن يبذل المربون اهتماماً شديداً للخصائص العضوية والعقلية في الذكر والأنثى ، كذا لوظائفهما الطبيعية ، فهناك اختلافات لا تنقض بين الجنسين ولذلك فلا مناص من

(1) الحجاب ، للمودودي ص 256 .
أخلاق أهل البيت 285

أن نحسب حساب هذه الاختلافات في إنشاء عالم متمدن» (1) .
ولا يعتبر تفوق الرجل على المرأة في المجالات العملية والنظرية مقياساً عاماً شاملاً لجميع الرجال ، فقد تبذ المرأة الرجل وتفوقه في ذلك ، ولكن هذا لا ينفي تخلفها عن أغلب الرجال .
وعزا بعضهم تخلف المرأة عن الرجل إلى التقاليد الاجتماعية ، والنظم التربوية التي تكتنف حياتها .
وفاتهم أن تلك التقاليد والنظم قد تلاشت في أغلب الدول المتحللة ، وانعدمت فيها الفوارق بين الجنسين ، وغدت المرأة تتمتع بجميع فرص التكافؤ التي يتمتع بها الرجل . وبالرغم من ذلك فإنها تعتبر في المرتبة الثانية منه .
ومن هنا ندرك امتناع المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة ، ونعتبرها ضرباً من الحماقة والسخف .
فهل يسع دعاة المساواة أن يطوروا واقع الرجل ويجعلوه مشاركاً للمرأة في مؤهلاتها الخاصة ، ووظائفها النسوية التي يعجز عنها هو ، كذلك لا يسعهم أن يسترجلوا المرأة ويمنحوها خصائص الرجل ووظائفه التي تعجز عنها هي :
إن الحكمة الإلهية قد كيفت كلاً من الجنسين وأعدته إعداداً خاصاً ، ويؤهله لأداء وظائفه ومهماته في الحياة ، فلا مناص من تنويع الأعمال بينهما حسب كفاءتهما ومؤهلاتهما . . . وكل ميسر لما خلق له .
فوظيفة الرجل هي : ممارسة الأعمال الشاقة ، والشؤون الخارجية عن المنزل ، والكدح في توفير وسائل العيش لأسرته ، والدأب على حمايتها وإسعادها مادياً وأدبياً ، مما تنوء به المرأة ولا تستطيع اتقانه وإجادته .
ووظيفة المرأة هي : أن تكون ربة بيت وراعية منزل ، وأما مثالية تنشيء الأكفاء من الرجال ، وهي وحدها التي تستطيع أن تجعل البيت فردوساً للرجل ،

(1) الإنسان ذلك المجهول ص 117 .
أخلاق أهل البيت 286

يستشعر فيه الراحة من متاعب الحياة ، وينعم الأطفال فيه بدفء الحنان ودواعي النمو والازدهار .
فإقحام المرأة في ميادين الرجل ، ومنافستها له في أعماله . . . تضييع لكفاءتها ومؤهلاتها ، ثم هو تجميد للرجل عن ممارسة نشاطاته الحيوية التي يجيدها ولا تجيدها المرأة ، وتعطيل له عن إنشاء أسرة وتكوين بيت .
وقد أحدثت منافسة المرأة للرجل في وظائفه ونشاطاته الخاصة في الجاهلية الحديثة . . . شروراً أخلاقية واجتماعية ونفسية خطيرة ، وكانت مضارها أكثر من نفعها أضعافاً مضاعفة .
وأصبحت المرأة هناك تعاني مرارة الكفاح ومهانة الابتذال في سبيل العيش ، كي لا تمسها الفاقة لنكول الرجل عن إعالتها ، مما عاقها عن أداء وظائفها الخاصة من تدبير المنزل ورعاية الأسرة وتربية الأبناء تربية صالحة .
وبتقاعس المرأة عن أداء واجبها الأصيل ، وانخراطها في المجتمع الخليط ، أصيبت الأسرة هناك بالتبعثر والتسيب والشقاء ، وشاع فيها التفسخ والتهتك والانهيار الخلقي ، كما شهد بذلك الباحث الطبيعي الروسي (انطون نميلاف) في كتابه الآنف الذكر :
«الحق أن جميع العمال قد بدت فيهم أعراض الفوضى الجنسية ، وهذه حالة جد خطرة ، تهدد النظام الاشتراكي بالدمار ، فيجب أن نحارب بكل ما أمكن من الطرق ، لأن المحاربة في هذه الجبهة ذات مشاكل وصعوبات . ولي أن أدلكم على آلاف من الأحداث ، يعلم منها أن الإباحية الجنسية قد سرت عدواها لا في الجهال الأغرار فحسب ، بل في الأفراد المثقفين من طبقة العمال» (1) .
وحسبنا هذه الشهادة عظة وعبرة على بطلان المساواة بين الجنسين ، وأضرار اختلاطهما في الوظائف والأعمال ، فهل من متعظ ؟!
فإقحام المرأة في ميدان أعمال الرجال خطأ فاضح ، وجناية كبرى على المرأة

(1) الحجاب ، للمودودي ص 257 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي