أخلاق أهل البيت 256

الثقة ، الأمانة ، التعاطف ، التآزر . وهذه هي عناصر الحياة الزوجية الناجحة ، ومقوماتها الأصيلة .
وأما الحقوق الخاصة فسنعرضها في مطاوي هذا البحث :
حقوق الزوج :


للزوج حقوق على زوجه بحكم رعايته لها وقوامته عليها ، وهي :

1 ـ الطاعة :


وهي أول متطلبات الزوج وحقوقه المفروضة على زوجه . فهي مسؤولة عن طاعته وتلبية رغباته المشروعة ، ومفاداة كل ما يسيئه ويغيظه ، كالخروج من الدار بغير رضاه ، والتبذير في ماله ، وإهمال وظائفها المنزلية ، ونحو ذلك مما يعرض الحياة الزوجية لأخطار التباغظ والفرقة .
فعن أبي جعفر (ع) قال : جاءت امرأة إلى النبي (ص) فقالت : يا رسول الله ، ما حق الزوج على المرأة ؟ فقال لها : أن تطيعيه ولا تعصيه ، ولا تتصدق من بيته إلا بإذنه ، ولا تصوم طوعاً إلا بإذنه ، ولا تمنعه نفسها وإن كانت على ظهر قتب ، ولا تخرج من بيتها إلا بإذنه ، وإن خرجت بغير إذنه لعنتها ملائكة السماء وملائكة الأرض ، وملائكة الغضب وملائكة الرحمة حتى ترجع إلى بيتها .
فقالت : يا رسول الله من أعظم الناس حقاً على الرجل ؟
قال : والده .
قالت : فمن أعظم الناس حقاً على المرأة ؟
قال : زوجها . . . . » (1)
.
وعن أبي عبد الله (ع) قال : إن رجلاً من الانصار على عهد رسول الله (ص) ، خرج في بعض حوائجه . فعهد إلى امرأته عهداً أن لا تخرج من بيتها حتى يقدم .

>(1) الوافي ج 12 ص 114 ، عن الكافي والفقيه .
أخلاق أهل البيت 257

قال : وان أباها مرض ، فبعثت المرأة إلى رسول الله (ص) فقالت : إن زوجي خرج وعهد إلي أن لا أخرج من بيتي حتى يقدم ، وأن أبي قد مرض ، فتأمرني أن أعوده ؟
فقال رسول الله (ص) : لا ، اجلسي في بيتك وأطيعي زوجك .
قال : فثقل ، فأرسلت إليه ثانياً بذلك ، فقالت : فتأمرني أن أعوده ؟
فقال : اجلسي في بيتك وأطيعي زوجك .
قال : فمات أبوها ، فبعثت إليه إن أبي قد مات ، فتأمرني أن أصلي عليه ؟
فقال : لا ، إجلسي في بيتك وأطيعي زوجك .
قال : فدفن الرجل ، فبعث إليها رسول الله (ص) : إن الله تعالى قد غفر لك ولأبيك بطاعتك لزوجك (1) .
وقال أبو عبد الله (ع) : أيما امرأة باتت وزوجها عليها ساخط في حق ، لم تقبل منها صلاة حتى يرضى عنها (2) .

2 ـ المداراة :


وعلى الزوجة أن تحيط زوجها بحسن العشرة ، وجميل الرعاية ، ولطف المداراة ، وذلك بتفقد شؤونه ، وتوفير وسائل راحته النفسية والجسمية ، وحسن التدبير المنزلي ، ورعاية عياله ، ليستشعر منها العطف والولاء ، وتغدو الزوجة بذلك حظية عند زوجها ، أثيرة لديه ، يبادلها الحب والإخلاص . وتكون إلى ذلك قدوة حسنة لأبنائها ، يستلهمون منها كريم الأخلاق وحسن الأدب .
ومن أهم صور المداراة أن تتفادى المرأة جهدها ، عن إرهاق زوجها بالتكاليف الباهضة ، والمآرب التي تنوء بها إمكاناته الاقتصادية . فذلك مما يسبب إرباكه واغتمامه ، ومن ثم يستثير سخطه ونفاره من زوجته .

>(1) الوافي ج 12 ص 115 ، عن الكافي .
(2) الوافي ج 12 ص 114 ، عن الكافي والفقيه .
أخلاق أهل البيت 258

فعن أبي إبراهيم (ع) قال : «جهاد المرأة حسن التبعل» (1) .
ولا ريب أن حسن تبعل الزوجة وكرم أخلاقها ، يشد أزر الزوج ، ويرفع معنوياته ، ويمده بطاقات جسمية ونفسية ضخمة ، تضاعف من قدرته على مواصلة الكفاح والجهاد في سبيل العيش ، ويزيده قوة وصلابة على معاناة الشدائد والأزمات ، كما أن شراستها وتمردها يوهن كيانه ، ويضعف طاقته ، ويهرمه قبل أوان الهرم ، وفي التاريخ دلائل وشواهد على ذلك .
منها : قصة الأخوة الثلاثة من بني غنام ، حينما جاءهم نفر يحكمونهم في مشكلة أعياهم حلها ، فانتهوا إلى واحد منهم ، فرأوا شيخاً كبيراً ، فقال لهم : ادخلوا إلى أخي «فلان» فهو أكبر مني ، فأسألوه .
فدخلوا عليه ، فخرج شيخ كهل ، فقال سلوا أخي الأكبر مني .
فدخلوا على الثالث ، فإذا هو في المنظر أصغر . فسألوه أولاً عن حالهم ، ثم اوضح مبيناً لهم ، فقال :
أما أخي الذي رأيتموه أولاً ، هو الأصغر ، فإن له امرأة سوء تسوؤه وقد صبر عليها مخافة أن يبتلى ببلاء لا صبر له عليه ، فهرمته .
وأما أخي الثاني فإن عنده زوجة تسوؤه وتسره ، فهو متماسك الشباب .
وأما أنا ، فزوجتي تسرني ، ولا تسوؤني ، لم يلزمني منها مكروه قط منذ صحبتني . فشبابي معها متماسك (2) .
وهذه وصية بليغة لأعرابية حكيمة ، توصي بها ابنتها ليلة البناء بها : «أي بنية ، إنك فارقت بيتك الذي منه خرجت ، وعشك الذي فيه درجت ، إلى وكر لم تعرفيه ، وقرين لم تألفيه . فكوني له أمةً يكن لك عبداً ، واحفظي له خصالاً عشراً :
أما الأولى والثانية : فاصحبيه بالقناعة ، وعاشريه بحسن السمع والطاعة .

>(1) الوافي ج 12 ص 114 ، عن الكافي .
(2) عن سفينة البحار ج 10 ص 133 بتصرف واختصار .
أخلاق أهل البيت 259

وأما الثالثة والرابعة : فالتفقد لموضع عينه وأنفه ، فلا تقع عينه منك على قبيح ، ولا يشم منك إلا أطيب ريح .
وأما الخامسة والسادسة : فالتفقد لوقت منامه وطعامه ، فإن تواتر الجوع ملهبة ، وتنغيص النوم مغضبة .
وأما السابعة والثامنة : فالاحتراس بماله ، والارعاء على حشمه وعياله . وملاك الأمر في المال حسن التقدير ، وفي العيال حسن التدبير .
وأما التاسعة والعاشرة : فلا تعصين له أمراً ، ولا تفشين له سراً . فإنك إن خالفتيه أغرت صدره ، وإن أفشيت سره لم تأمني غدره .
ثم إياك والفرح بين يديه إذا كان مهتماً ، والكآبة بين يديه إذا كان فرحاً ، فإن الخصلة الأولى من التقصير ، والثانية من التكدير .
وكوني أشد الناس له إعظاماً يكن أشدهم لك إكراماً ، واعلمي أنك لا تصلين إلى ما تحبين حتى تؤثري رضاه على رضاك ، وهواه على هواك ، فيما أحببت وكرهت . والله يخير لك» (1) .

3 ـ الصيانة :


وأهم واجبات الزوجة ، صيانة شرف زوجها وسمعته ، فتتفادى جهدها عما يسيئهما ويخدشهما ، كالخلاعة والميوعة ، وإفشاء أسرار الزوج ، وكشف ما يحرص على إخفائه من صور الفاقة والعوز ، فذلك مما يضعف ثقة الزوج بها ويهددها بالنفرة والفرقة .

حقوق الزوجة

وهكذا أولت الشريعة الإسلامية الزوجة عناية كبرى ومنحتها حقوقها المادية والأدبية ، إزاء حقوق الزوج عليها . مشرعة ذلك على أساس الحكمة والعدل ، ورعاية مصلحة الزوجين ، وخيرهما معاً ، وهي أمور :

>(1) مختارت المنفلوطي ص 240 .
أخلاق أهل البيت 260

1 ـ النفقة :


وهي حق محتم على الزوج ، يجب أداؤه إليها ، وتوفير حاجاتها المعاشية ، من الملبس والمطعم والمسكن ، ونحو ذلك من مستلزمات الحياة حسب شأنها وعادتها .
والنفقة حق معلوم للزوجة ، تتقاضاه من زوجها ، وان كانت ثرية موسرة ، لا يسقط إلا بنشوزها وتمردها على الزوج . وليس له قسرها على الخدمات المنزلية ، أو إرضاع طفله ، إلا أن تتطوع بذلك عن رغبة وإيثار .

التوسعة على العيال


وقد يسترق البخل بعض النفوس فتنزع إلى الشح والتقتير على العيال ، متغاضية عن أشواقهم ومآربهم . ومن هنا جاءت أحاديث أهل البيت عليهم السلام محذرة من ذلك الإمساك ، ومرغبة في البر بهم ، والتوسعة عليهم .
قال رسول الله (ص) : «خيركم خيركم لنسائه ، وأنا خيركم لنسائي» (1) .
وقال (ص) : «عيال الرجل إسراؤه ، وأحب العباد إلى الله تعالى أحسنهم صنيعاً إلى أسرائه» (2) .
وقال أبو الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام : «عيال الرجل اسراؤه ، فمن أنعم الله عليه نعمة فليوسع على أسرائه ، فإن لم يفعل أوشك أن تزول تلك النعمة» (3) .
وهكذا أثبتت أحاديثهم عليهم السلام وباركت جهود الكادحين ، في طلب الرزق الحلال ، لتموين أزواجهم وعوائلهم ، وتوفير وسائل العيش لهم .
فعن أبي عبد الله (ع) قال : «الكاد على عياله كالمجاهد في سبيل الله» (4) .

>(1) الوافي ج 12 ص 117 ، عن الفقيه .
(2) الوافي ج 12 ص 117 ، عن الفقيه .
(3) الوافي ج 12 ص 117 ، عن الفقيه .
(4) الوافي ج 10 ص 18 ، عن الكافي والفقيه .
أخلاق أهل البيت 261

وعن أبي جعفر (ع) قال : «من طلب الرزق في الدنيا ، استعفافاً عن الناس ، وسعياً على أهله ، وتعطفاً على جاره ، لقي الله عزوجل يوم القيامة ووجهه مثل القمر ليلة البدر» (1) .

2 ـ حسن العشرة :


والزوجة أنيسة الرجل ، وشريكة حياته ، تشاطره السراء والضراء ، وتواسيه في الأفراح والأحزان . وتنفرد بجهود شاقة مضنية من تدبير المنزل ، ورعاية الأسرة ، ووظائف الأمومة . فعلى الرجل أن يحسن عشرتها ، ويسوسها بالرفق والمداراة ، تلطيفاً لمشاعرها ، ومكافأة لها على جهودها . وذلك مما يسليها ، ويخفف متاعبها ، ويضاعف حبها وإخلاصها لزوجها .
وقد يستبد الصلف والغرور ببعض الأزواج ، فيحسبون أن قوة الشخصية وسمات الرجولة لا تبرز فيهم الا بالتحكم بالزوجة ، والتجهم لها ، والتطاول عليها بالإهانة والتحقير . وتلك خلال مقيتة ، تنم عن شخصية هزيلة معقدة ، تعكر صفو الحياة الزوجية ، وتنغص العناء العائلي .
والمراة بحكم عواطفها ووظائفها ، مرهفة الاحساس ، سريعة التاثر ، قد تسيء الى زوجها بكلمات نابية ، او تقريع جارح ، صادرين عن ثورة نفسية ، وهياج عاطفي . فعلى الرجل ان يضبط اعصابه ، ويقابل اساءتها بحسن التسامح والاغضاء ، لتسير سفينة الاسرة آمنة مطمئنة ، في محيط الحياة ، لا تزعزعها عواصف النفرة والخلاف .
فعن أبي عبد الله (ع) قال : قال رسول الله (ص) : «إنما مثل المرأة مثل الضلع المعوج ، إن تركته انتفعت به ، وإن أقمته كسرته» (2) .
فإذا تمادت المرأة في عصيان زوجها وتمردها عليه ، فعليه أن يتدرج في علاجها وتأديبها ، بالنصح والإرشاد ، فإن لم يجدها ذلك أعرض عنها ، واعتزل

>(1) الوافي ج 10 ص 18 ، عن الكافي والتهذيب .
(2) الوافي ج 12 ص 120 ، عن الكافي .
أخلاق أهل البيت 262

مضاجعتها ، فإن لم يجدها ذلك ضربها ضربا تأديبياً ، مبرءاً من القسوة ، والتشفي الحاقد «واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن ، واهجروهن في المضاجع ، واضربوهن . فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا» .

3 ـ الحماية :


والزوج بحكم قوامته على الزوجة ، ورعايته لها ، مسؤول عن حمايتها وصيانتها عما يسيئها ويضرها أدبياً ومادياً ، وعليه أن يكون غيوراً عليها ، صائناً لها مما يشوه سمعتها ، ويثلب كرامتها من التخلع والاختلاط المريب ، ومعاشرة المريبات من النساء .
وما أسوأ أولئك الذين يزجون أزواجهم في الندوات الخليطة ، والحفلات الداعرة ، يخالطن ويراقصن من شئن من الرجال ، متعامين عن أضرار ذلك الاختلاط ، وأخطاره الدينية والأخلاقية والاجتماعية ، التي تهدد كيان الأسرة ، وتنذرها بالتبعثر والانحلال .
وعلى المرء أن يحمي زوجه وأسرته من دسائس الغزو الفكري ، ودعاياته المضللة ، التي انخدع بها أغرار المسلمين ، نساءاً ورجالاً ، وتلقفوها تلقف الببغاء ، دونما وعي وتمحيص في واقعها وأهدافها . وذلك بتعليمهم أصول الدين الإسلامي ومفاهيمه حسب مستواهم الثقافي والفكري ، تحصيناً لهم من تلك الدسائس والشرور .
«يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً ، وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ، ويفعلون ما يؤمرون‌» (التحريم : 6) .


الحقوق المزيفة

وتمخض العصر الحديث عن ضلالات ومباديء غزت الشرق الإسلامي ، وسممت أفكاره ومشاعره . وكان ذلك بتخطيط وكيد من أعداء الإسلام ، لإطفاء نوره الوهاج . واستجاب الأغرار والبلهاء لتلك المفاهيم الوافدة ، المناقضة لدينهم وشريعتهم ، وطفقوا يحاكونها ، وينادون بها كأنها من صميم مبادئهم . وانطمست

أخلاق أهل البيت 263

تلك الصورة الإسلامية التي كانت بالأمس القريب تشع بالجمال والنور والمثالية ، وخلفتها صور مسيخة شوهاء يستبشعها الضمير المسلم ، ويستنكرها واقع الإسلام ، وغدا يستشعر الغربة والوحشة في ربوعه وبين اتباعه ومعتنقيه . وراحت المفاهيم الجاهلية الأولى تحتل مواقعها من مشاعر المسلمين وضمائرهم ، لتحيلها قفراً يباباً من قيم الإسلام ومثله الرفيعة .
وانطلقت حناجر ، وصرت أقلام أجيرة ، تطالب بالمزيد من تلك الأعراف الجاهلية ، لتشيع مفاهيمها الدارسة من جديد ، في المحيط الإسلامي ، وعلى حساب المرأة المسلمة ، والتغاير على حقوقها وتحريرها ومساواتها بالرجل ، ونحو ذلك من صور الدعايات المدجلة .

1 ـ السفور :


لقد عز على دعاة التحرر أن يروا المرأة المسلمة محصنة بالصون والحجاب ، عصية الطلب ، بعيدة المنال . فأغروها بالسفور والتبرج ، ليستزلوها من علياء برجها وخدرها . واستجابت المرأة لتلك الدعوة الماكرة وراحت تنظي حجابها وتبرز جمالها ومفاتنها ، تستهوي العيون والقلوب ، دونما تحرج أو استحياء .
وما خدعت المرأة المسلمة وغرر بها في تاريخها المديد بمثل ذلك الخداع والتلبيس ، متجاهلة عما يترصدها من جراء ذلك من الأخطار والمزالق .
ليس الحجاب كما يصوره المتحللون تخلفاً ورجعية ، وإنما هو حشمة وحصانة ، تصون المرأة من التبذل والاسفاف ، ويقيها تلصص الغواة والداعرين ، وتجنبها مزالق الفتن والشرور .
وحسب المسلمين أن يعتبروا بما أصاب الأمم الغربية من ويلات السفور والتبرج ، واختلاط الجنسين ، ما جعلها في وضع سيء وحالة مزرية ، من التسيب الخلقي . وغدت تعاني ألوان المآسي الأخلاقية والصحية والاجتماعية .

الأضرار الخلقية


لقد أحدث التبرج والاختلاط في الأوساط الغربية مضاعفات أخلاقية

أخلاق أهل البيت 264

خطيرة ، تثير الفزع والتقزز . فأصبحوا لا يستنكرون الرذائل الجنسية ، ولا يستحيون من آثامها ومعائبها . وراح الوباء الخلقي يجتاحهم ويفتك بهم فتكاً ذريعاً ، حتى انطلقت صيحات الغيارى منهم معلنة بالتذمر والاستنكار ، ومنذرة بالخطر الرهيب .
فقد صور (بول بيودر) انهيار الأخلاق في بلاده حيث قال : «لم يعد الآن من الغريب الشاذ وجود العلاقات الجنسية بين الأقارب في النسب ، كالأب والبنت ، والأخ والأخت في بعض الاقاليم الفرنسية ، وفي النواحي المزدحمة في المدن» .
وجاء في تقرير (اللجنة الأربعة عشرية) المعنية بالفحص عن مكامن الفجور : «ان كل ما يوجد في البلاد الأمريكية من المراقص والنوادي الليلية ، ومجالي الزينة ، وأماكن التدريم ، وحجرات التدليك ، ومراكز تمويج الشعر ، قد أصبح جلها مواطن للفجور ودوراً للبغاء ، بل هي أقبح منها وأشنع ، لما يرتكب فيها من الرذائل التي لا تصلح للذكر» .
ومما يخمنه القاضي (لندسي) الأمريكي : «أن خمساً وأربعين في المائة من فتيات المدارس يدنسن أعراضهن قبل خروجهن منها ، وترتفع هذه النسبة كثيرا في مراحل التعليم التالية» .
وقال (جورج رائيلي اسكات) في كتابه (تاريخ الفحشاء) وهو يشير إلى حالة بلاده في الغالب «وقد بلغ عدد هؤلاء العاهرات غير المحترفات في هذه الأيام مبلغاً لم يعهد قط فيما قبل ، فأولئك يوجدن في كل طبقة من طبقات المجتمع من الدنيا والعليا . . . وقد أصبح تعاطي الفجور وعدم التصون بل اتخاذ الأطوار السوقية ، معدوداً عند فتاة العصر ، من أساليب العيش المستجدة» .
وقد سرت عدوى هذا التفسخ الخلقي إلى الصبية والصبايا من أولئك الأقوام ، لتأثرهم بالمحيط الفاسد والمثيرات الجنسية .
يقول الدكتور (راديت هوكو) في كتابه (القوانين الجنسية) : «انه ليس من الغريب الشاذ حتى في الطبقات المثقفة المترفة ، أن بنات سبع أو ثماني سنين

أخلاق أهل البيت 265

منهم ، يخادن لداتهن من الصبية ، وربما تلوثن معهم بالفاحشة» .
وقد جاء في تقرير طبيب من مدينة (بالتيمور) : «أنه قد رفع إلى المحاكم في تلك المدينة أكثر من ألف مرافعة في مدة سنة واحدة ، كلها في ارتكاب الفاحشة مع صبايا دون الثانية عشرة من العمر» .
ولم تقف الفوضى الخلقية عند هذا الدرك السافل ، فقد تفاقمت حتى أصبحت العلاقات الجنسية الطبيعية . . . لا تشبع نهمهم الجنسي ، فراحوا يتمرغون في مقاذر الشذوذ الجنسي وانحرافاته النكراء . وعاد من المألوف لديهم أن يتزوج الفتى فتىً مثله ، بتشجيع من القانون ، ومرأى ومسمع من الناس ، وهم يباركون هذا العرس !!
ويقول الدكتور (هوكر) : «انه لا تزال تحدث في مثل هذه المدارس والكليات ودور التربية للممرضات ، والمدارس الدينية ، من تسافح الولدين من الجنس الواحد فيما بينهما ، وقد تلاشى أو كاد . . ميلهم الطبيعي إلى الجنس المخالف» .
والآن فلنسائل الببغاوات من دعاة التحرر والتبرج ، أهذا الذي ينشدوه لأنفسهم وأمتهم الإسلامية . . . أم إنهم لا يفقهون ما ينادون به ويدعون إليه ؟
إن كل داعية إلى التبرج والاختلاط هو بلا ريب ، معول هدام ، في كيان المجتمع الإسلامي ، ورائد شر ودعارة لأمته وبلاده .
«إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ، لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة ، والله يعلم وأنتم لا تعلمون» (النور : 19) .

الأضرار الصحية


وكان من الطبيعي لأمة شاع فيها الفساد ، وتلاشت فيها قيم الدين والأخلاق ، أن تعاني نتائج شذوذها وتفسخها ، فتنهار صحتها كما انهارت أخلاقها من قبل .
وهذا ما حدث فعلاً في الأوساط الغربية ، حيث استهدفتها الأمراض

أخلاق أهل البيت 266

الزهرية ، وكبدتها خسائر فادحة في الأرواح والأموال . وجاءت تقارير أطباء الغرب معلنة أبعاد تلك الأمراض ومآسيها الخطيرة في أرقى تلك الأمم وأكثرها تشدقاً بالحضارة والمدنية .
قال الدكتور الفرنسي (ليريد) : «انه يموت في فرنسا ثلاثون ألف نسمة بالزهري وما يتبعها من الأمراض الكثيرة ، في كل سنة . وهذا المرض هو أفتك الأمراض بالأمة الفرنسية بعد حمى الدق» .
وجاء في دائرة المعارف البريطانية ج 23 ص 45 : «انه يعالج في المستشفيات الرسمية هناك (أي القطر الأمريكي) مائتا ألف مريض بالزهري ومائة وستون ألف مصاب بالسيلان البني في كل سنة بالمعدل . وقد اختص بهذه الأمراض الجنسية وحدها ستمائة وخمسون مستشفى ، على أنه يفوق هذه المستشفيات الرسمية نتاج الأطباء غير الرسميين الذين يراجعهم 61 % من مرضى الزهري و 89 % من مرضى السيلان» .
وجاء في كتاب القوانين الجنسية :
انه «يموت في أمريكا ما بين ثلاثين وأربعين ألف طفل بمرض الزهري الموروث وحده ، في كل سنة . وان الوفيات التي تقع بسبب جميع الأمراض ـ عدا السل ـ يربو عليها جملة عدد الوفيات الواقعة من مرض الزهري وحده» .
وكل هذه الخسائر والمآسي تدفعها الأمم الغربية الداعرة . . ضريبة من صحتها وحياتها جزاءاً وفاقاً ، على تفسخها وتمرغها في مقاذر الجنس ومباءته .

الأضرار الاجتماعية


وكان حتماً مقضياً على تلك الأمم المتحللة أن تعاني ـ إلى جانب خسائرها الأخلاقية والصحية ـ عللاً اجتماعية خطيرة .
فقد جنت على حياتها الأسرية والاجتماعية ، بإغفالها مباديء العفة والوفاء ، واستهتارها بشرائط الزوجية الصالحة . وطفق الزوجان منهم يهيمان في متاهات الغواية والفساد ، تنطلق الزوجة خليعة متجملة بأبهى مظاهر الجمال ،

أخلاق أهل البيت 267

وبواعث الفتنة والإغراء ، وينطلق الزوج هائماً في مراتع التبذل والإسفاف . وسرعان ما ينزلق هذا أو تلك في مهاوي الرذيلة ، حينما تستهوي بهما شخصية جذابة أروع جمالاً وأشد إغراءاً من شريك حياته ، فيزور عنه طالباً صيداً جديداً ، ومتعة جديدة ، بين فتيان الهوى وفتياته السائحات . فتزعزع بذلك كيان الأسرة ، وانفرط عقدها ، ووهت العلائق الزوجية ، وغدت تنفصم لأتفه الأسباب . كما شهدت بذلك تقارير الخبراء .
وقد كتب القاضي (لندسي) في بلدة (دنور) سنة 1922 :
«اعقب كل زواج تفريق بين الزوجين ، وبإزاء كل زواجين عرضت على المحكمة قضية الطلاق . وهذه الحال لا تقتصر على بلدة دنور ، بل الحق أن جميع البلدان الأمريكية على وجه التقريب تماثلها في ذلك قليلاً أو كثيراً» .
ويمضي في كتابته فيقول : «إن حوادث الطلاق والتفريق بين الزوجين لا تزال تكثر وتزداد ، وان اطردت الحال على هذا ـ كما هو المرجو ـ فلا بد أن تكون قضايا الطلاق المرفوعة إلى المحاكم في معظم نواحي القطر على قدر ما يمنح فيها من الامتيازات للزواج» .
وهكذا توالت على الأمم الغربية أعراض الشذوذ واختلاطاته المقيتة فقد زهد الكثيرون منهم في الحياة الزوجية ، وآثروا العزوبة إشباعاً لهوسهم الجنسي وتحرراً من قيود الزواج وتكاليفه .
فقد جاء في مقال نشرته جريدة (بدترويت) :
«إن ما قد نشأ بيننا اليوم من قلة الزواج ، وكثرة الطلاق ، وتفاحش العلاقات غير المشروعة بين الرجال والنساء ، يدل كله على أننا راجعون القهقرى إلى البهيمية . فالرغبة الطبيعية في النسل إلى التلاشي ، والجيل المولود ملقى حبله على غاربه ، والشعور بكون تعمير الأسرة والبيت لازماً لبقاء المدنية ، والحكم المستقل يكاد ينتفي من النفوس ، وبخلاف ذلك أصبح الناس ينشأ فيهم الاغفال عن مآل المدينة والحكومة وعدم النصح لهما» .
ولو تحرينا مرد تلك المآسي التي اجتاحت الغرب لرأيناه ماثلاً في التبرج

أخلاق أهل البيت 268

والخلاعة والاختلاط ، وشيوع المثيرات الجنسية ، كالأفلام الداعرة والقصص الخلاعية والاغاني المخنثة ، التي مسخت القيم الأخلاقية وأشاعت الاسفاف والتهتك في المجتمع الغربي ، كما شهد بذلك القوم أنفسهم .
وقد كتب (أميل بوريسي) في تقريره الذي قدمه إلى الجلسة العامة الثانية لرابطة منع الفواحش :
«هذه الفوتوغرافات الداعرة المتهتكة تصيب أحاسيس الناس بأشد ما يمكن من الهيجان والاختلال ، وتحث مشتريها البؤساء على المعاصي والإجرام التي تقشعر من تصورها الجلود . وإن أثرها السيء المهلك في الفتية والفتيات لما يعجز عنه البيان . فكثير من المدارس والكليات قد خربت حالتها الخلقية والصحية لتأثير هذه الصور المهيجة ، ولا يمكن ان يكون للفتيات على الأخص شيء أضر وأفتك من هذه» (1) .
* * *

ونستنتج من هذا العرض السالف : أن الشريعة الإسلامية ، إنما أمرت المرأة المسلمة بالحجاب ، ونهتها عن التبرج والاختلاط المريب ، حرصاً على كرامتها وصيانتها من دوافع الإساءة والتغرير ، ووقاية للمجتمع الإسلامي من المآسي والارزاء التي حاقت بالأمم الغربية ، ومسخت أخلاقها وضمائرها وأوردتها موارد الشقاء والهلاك .
انظر كيف أهاب الإسلام بالمرأة المسلمة أن تتحصن بالحجاب ، وتتوفى به مزالق الفتن والشرور : «يا أيها النبي قل لازواجك وبناتك ، ونساء المؤمنين ، يدنين عليهن من جلابيهن ، ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين» (الأحزاب : 59) .
هذه هي إحدى الآيات الكريمة الناطقة بوجوب الحجاب ، والمحرضة عليه ، بأسلوب جاد صريح ، حيث خاطب الله عزوجل رسوله الأعظم : «يا أيها النبي قل لأزواجك ، وبناتك ، ونساء المؤمنين . . . يدنين عليهن من

(1) اقتبسنا تلك الأقوال المترجمة عن كتاب الحجاب ، للأستاذ المودودي .
أخلاق أهل البيت 269

جلابيبهن» وذلك بإسدال الجلباب ـ وهو ما تستتر به المرأة من ملحفة أو ملاءة ـ على وجوههن وأبدانهن .
ثم بين سبحانه علة الحجاب وجدواه : «ذلك أنى أن يعرفن ، فلا يؤذين» حيث أن الحجاب يستر محاسن المرأة ومفاتنها ، ويحيطها بهالة من الحصانة والمنعة ، تقيها تلصص الغواة والداعرين وتحرشاتهم الإجرامية العابثة لصون النساء وكرامتهن .
ويمضي القرآن الكريم في تركيز مبدأ الحجاب والحث عليه في آيات متتالية ، وأساليب بلاغية فذة :
«يا نساء النبي لستن كأحد من النساء ، ان اتقيتن ، فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض ، وقلن قولاً معروفاً . وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى» (الأحزاب : 32 ـ 33) .
وهنا يخاطب الله عزوجل ، زوجات النبي (ص) : «يا نساء النبي لستن كأحد من النساء» في الشرف والفضل ، فأنتن أرفع شأناً وأسمى منزلة منهن ، لشرف انتمائكن لرسول الله (ص) «ان اتقيتن» معصية الله تعالى ورسوله ، وفي هذا الشرط إشعار لهن أن انتسابهن إلى الرسول (ص) فحسب لا يوجب تفوقهن على غيرهن من النساء ، إلا بتحليهن بتقوى الله عزوجل ، الذي هو مفتاح الفضائل ، وقوام حياة الإيمان .
«فلا تخضعن بالقول ، فيطمع الذي في قلبه مرض» فلا تخاطبن الأجانب بأسلوب لين رقيق يستثير نوازع القلوب المريضة بالدنس والفجور .
«وقلن قولاً معروفاً» مستقيماً مشعراً بالحشمة والترفع والوقار . ثم أمرهن بالاستقرار في بيوتهن ، ونهاهن عن التبرج وإظهار المحاسن والزينة للأجانب ، كما كن يظهرنها النساء الجاهليات «وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى» . وفي ذلك ضمان لعفاف المرأة وكرامتها ، وصيانتها من مزالق الخطيئة ، وخوالج الشك والارتياب .
وهكذا يواصل القرآن الكريم غرس الفضيلة والعفة في نفوس المؤمنين

أخلاق أهل البيت 270

بمثله العليا ، وآدابه الرفيعة :
«قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ، ويحفظوا فروجهم ، ذلك أزكى لهم ، إن الله خبير بما يصنعون . وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ، ويحفظن فروجهن ، ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ، وليضربن بخمرهن على جيوبهن ، ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن ، او آبائهن ، او آباء بعولتهن أو ابنائهن ، أو أخوانهن ، أو بني أخوانهن ، أو بني اخواتهن ، او نسائهن ، أو ما ملكت أيمانهن ، أو التابعين غير أولي الأربة من الرجال ، أو الطفل الذي لم يظهروا على عورات النساء . ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن» (النور : 30 ـ 31) .
أمر الله تعالى في هذه الآية الكريمة النبي (ص) أن يصدع بآداب القرآن ووحي السماء ، ويوجه المؤمنين على ضوئهما توجيهاً هادفاً بناءاً .
«قل» يا محمد «للمؤمنين يغضوا من أبصارهم» بأن ينقصوا من نظراتهم وتطلعاتهم نحو النساء الأجنبيات ، لما في ذلك من ضروب الأخطار والأضرار . فكم نظرة طامحة إلى الجمال أورثت حسرة طويلة ، واسترقت صاحبها بأسر الحب وعناء الهيام .
وأنت إذا أرسلت طرفك رائداً لقلبـك يوماً اتعبتك المناظــر
رأيت الذي لا كله أنت قـادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر

وقد تزج النظرة الآثمة في مهاوي الرذيلة والفساد :
نظـرة فابتسـامة فسـلام فكـلام فموعـد فلقـاء

ثم أمر المؤمنين بحفظ الفروج بعد أمرهم بغض الأبصار «ويحفظوا فروجهم» عن الآثام الجنسية أو يستروها عن الناظر المحترم ، وقد أوصد الله تعالى بهذين الأمرين ـ غض الأبصار وحفظ الفروج ـ اخطر منافذ الشرور الخلقية وبوائقها العارمة ، وحصن المؤمنين بالعفة والنزاهة «ذلك أزكى لهم» أطهر لنفوسهم وأخلاقهم ، وأنفع لدينهم ودنياهم .
ثم عمد إلى توعية الضمائر ، وتصعيد قيمها الأخلاقية بالإيحاء النفسي بهيمنة الله سبحانه عليهم ورقابته لهم «إن الله خبير بما يصنعون» بأبصارهم

السابق السابق الفهرس التالي التالي