أخلاق أهل البيت 194

قال : ردوه لا نجد لك شيئاً أصلح مما قال صاحبك ، إنك لن تزال تبغي سوءاً إن بقيت ، اقطعوا يديه ورجليه وهو يتكلم ، وقال : إصلبوه خنقاً في عنقه (1) .
ولنستمع إلى كلمات أصحاب الإمام الخالدة ، والمعربة عن شدة حبهم للإمام (ع) ، وثباتهم على مولاته ، وتفانيهم في سبيله :
فهذا عمرو بن الحمق يخاطب أمير المؤمنين (ع) فيقول : «والله يا أمير المؤمنين ، إني ما أجبتك ولا بايعتك على قرابة بيني وبينك ، ولا إرادة مال تؤتينه ، ولا إرادة سلطان ترفع به ذكري ، ولكني أجبتك بخصال خمس :
إنك ابن عم رسول الله ، وأول من آمن به ، وزوج سيدة نساء الأمة فاطمة بنت محمد ، ووصيه ، وأبو الذرية التي بقيت فينا من رسول الله ، وأسبق الناس إلى الإسلام ، وأعظم المهاجرين سهماً في الجهاد .
فلو أني كلفت نقل الجبال الرواسي ، ونزح البحور الطوامي ، حتى يؤتي علي في أمر أقوي به وليك ، وأهين به عدوك ، ما رأيت أني قد أديت فيه كل الذي يحق علي من حقك .
فقال علي (ع) : «اللهم نور قلبه بالتقى ، واهده إلى صراطك المستقيم ، ليت أن في جندي مائة مثلك ، فقال حجر : إذاً والله يا أمير المؤمنين صح جندك ، وقل فيهم من يغشك» (2) .
وروي أن أمير المؤمنين قال لحجر بن عدي الطائي : كيف بك إذا دعيت إلى البراءة مني ، فما عساك أن تقول ؟ فقال : والله يا أمير المؤمنين ذلك لو قطعت بالسيف إرباً إرباً ، وأضرمت لي النار وألقيت فيها لآثرت ذلك على البراءة منك . فقال : «وفقت لكل خير يا حجر ، ، جزاك الله خيراً عن أهل بيت نبيك» (3) .
وقال هاشم المرقال وكان على ميسرة أمير المؤمنين بصفين : والله ما أحب أن لي ما على الأرض مما أقلت ، وما تحت السماء مما أظلت ، وإني واليت عدواً

(1) سفينة البحار ج 1 ص 522 .
(2) البحار م 8 ص 475 .
(3) سفينة البحار ج 1 ص 226 .
أخلاق أهل البيت 195

لك أو عاديت ولياً لك .
فقال له أمير المؤمنين : «اللهم ارزقه الشهادة في سبيلك والمرافقة لنبيك» (1) .
وروي أن أسوداً دخل على علي (ع) فقال : يا أمير المؤمنين إني سرقت فطهرني .
فقال : لعلك سرقت من غير حرز ونحى رأسه عنه . فقال : يا أمير المؤمنين ، سرقت من حرز فطهرني . فقال (ع) : لعلك سرقت غير نصاب ، ونحى رأسه عنه . فقال يا أمير المؤمنين سرقت نصاباً ، فلما أقر ثلاث مرات قطعه أمير المؤمنين ، فذهب وجعل يقول في الطريق : قطعني أمير المؤمنين ، وإمام المتقين ، وقائد الغر المحجلين ، ويعسوب الدين ، وسيد الوصيين ، وجعل يمدحه ، فسمع ذلك منه الحسن والحسين وقد استقبلا فدخلا على أمير المؤمنين (ع) وقالا : رأينا أسوداً يمدحك في الطريق ، فبعث أمير المؤمنين (ع) من أعاده إلى عنده ، فقال (ع) : قطعتك وأنت تمدحني . فقال : يا أمير المؤمنين إنك طهرتني ، وإن حبك قد خالط لحمي وعظمي ، فلو قطعتني إرباً إرباً لما ذهب حبك من قلبي . فدعا له أمير المؤمنين (ع) ، ووضع المقطوع إلى موضعه فصح وصلح كما كان» (2) .
ولقد سما الحسين (ع) وأهل بيته الطاهرون وأصحابه الأكرمون إلى أوج رفيع ، تنحط دونه الهمم والآمال في الثبات على المبدأ والتمسك بالحق ، رغم حراجة الموقف ، ومعاناة أفدح الخطوب والأهوال .
وقف الحسين (ع) يوم عاشوراء ، وقد أحاط به ثلاثون ألف مقاتل ، يبغون إذلاله وقتله ، فصرخ في وجوههم صرخته المدوية ، وأعلن عن إبائه وشموخه بكلماته الخالدة المجلجلة في مسمع الدهر ، والتي لا تزال دستوراً حياً يقدسه الأباة والأحرار :

(1) سفينة البحار ج 2 ص 716 .
(2) البحار م 9 ص 557 .
أخلاق أهل البيت 196

«ألا وإن الدعي ابن الدعي ، قد ركز بين اثنتين ، بين السلة والذلة ، وهيهات منا الذلة ، يأبى ذلك لنا ورسوله والمؤمنون ، وحجور طابت وطهرت ، وأنوف حمية ، ونفوس أبية ، من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام» .
ويؤكد الحسين (ع) ثباته على المبدأ مؤثراً في سبيله القتل والفداء على الحياة الخانعة الذليلة «والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ، ولا أقر لكم إقرار العبيد» .
«إني لا أرى الموت إلا سعادة ، والحياة مع الظالمين إلا برماً» .
وهكذا اقتفى أصحاب الحسين عليهم السلام نهجه ومثاليته في الصمود والثبات على المبدأ ، ومفاداته بأعز النفوس والأرواح . خطبهم الحسين (ع) خطبة ملؤها الحب والإعجاب والإشفاق :
«إما بعد فإني لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي ، ولا أهل بيت أبر ولا أوصل ولا أفضل من أهل بيتي ، فجزاكم الله عني خيراً ، ألا وإني لأظن يوماً لنا من هؤلاء الأعداء ، ألا وإني قد أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حل ليس عليكم مني ذمام ، هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً ثم ليأخذ كل رجل منكم يد رجل من أهل بيتي ، ثم تفرقوا في سوادكم ومدائنكم حتى يفرج الله ، فإن القوم إنما يطلبوني ، ولو قد أصابوني للهوا عن طلب غيري» .
فقام إليه مسلم بن عوسجة فقال : أنحن نخلي عنك !! ولما نعذر إلى الله في أداء حقك ، أما والله حتى أطعن في صدورهم برمحي ، وأضربهم بسيفي ، ما ثبت قائمة في يدي ، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به ، لقذفتهم بالحجارة ، والله لا نخليك حتى يعلم الله أنا قد حفظنا عيبة رسول الله (ص) فيك . والله لو علمت أني أقتل ، ثم أحيى ، ، ثم أقتل ، ثم أحرق ، ثم أذرى ، ثم يفعل ذلك بي سبعين مرة ما فارقتك ، حتى ألقى حمامي دونك ، وكيف لا افعل ذلك وإنما هي قتلة واحدة ، ثم هي الكرامة العظمى التي لا انقضاء لها أبداً .
وقام إليه زهير بن القين فقال : والله لوددت أني قتلت ، ثم انشرت ، ثم

أخلاق أهل البيت 197

قتلت ، حتى أقتل هكذا ألف مرة ، وأن الله جل وعز يدفع بذلك القتل عن نفسك ونفوس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك .
وتكلم جماعة أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضاً ، فقالوا : والله لا نفارقك ، ولكن أنفسنا لك الفداء ، نفيك بنحورنا وجباهنا وأيدينا ، فإذا نحن قتلنا ، كنا وفينا وقضينا ما علينا (1) .
وهكذا طفق اصحاب الحسين (ع) يعربون عن ثباتهم وتفانيهم في ولائه ونصرته والذب عنه ، باروع مفاهيم البطولة والفداء .
وما أحوج المسلمين اليوم أن يستلهموا جهاد أولئك العظماء الأفذاذ ، ويقتفوا آثارهم ، في التمسك بالدين ، والثبات على المبدأ ، والتفاني في نصرة الحق ، ليستردوا مجدهم الضائع ، وعزهم السليب ، وينقذوا أنفسهم من هوان الهزائم الفاضحة والنكسات المتتالية ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

(1) عن نفس المهموم للمرحوم الحجة الشيخ عباس القمي ص 121 بتصرف بسيط .
أخلاق اهل البيت 198




أخلاق أهل البيت 199

القسم الثاني
في الحقوق والواجبات


أخلاق أهل البيت 200

بسم الله الرحمن الرحيم

قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) :
«الحق أوسع الأشياء في التواصف ، وأضيقها في التناصف ، لا يجري لأحد إلا جرى عليه ، ولا يجري عليه إلا جرى له ، ولو كان لأحد أن يجري له ولا يجري عليه لكان ذلك خالصاُ لله سبحانه دون خلقه ، لقدرته على عباده ، ولعدله في كل ما جرت عليه صروف قضائه . ولكن جعل حقه على العباد أن يطيعوه ، وجعل جزاءهم عليها مضاعفة الثواب تفضلاً منه ،وتوسعا بما هو من المزيد اهله . ثم جعل سبحانه من حقوقه حقوقا افترضها لبعض الناس على بعض ، فجعلها تتكافأ في وجوهها ، ويوجب بعضها بعضاً ، ولا يستوجب بعضها إلا ببعض» .

أخلاق أهل البيت 201

بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيد


الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين .
وبعد :
فإن الإنسان مدني بالطبع ، لا يستغني عن أبناء جنسه ، ولا يستطيع اعتزالهم والتخلف عن مسايرة ركبهم ، فإنه متى انفرد عنهم احس بالوحشة والغربة ، واستشعر الوهن والخذلان ، إزاء طوارئ الأقدار وملمات الحياة ، وعجز عن تحقيق ما يصبو إليه من أماني وآمال ، لا يتسنى له تحقيقها إلا بالتضامن والتآزر الاجتماعيين .
فهو فرع من دوحة أسرية وشجت على الآباء ، وتفرعت عن الأبناء ، فالأعمام والأخوال ، وامتدت أغصانها حتى انتظمت سائر الأقرباء والأرحام .
وهو عنصر من عناصر المجتمع ، ولبنة في كيانه ، تتجاذبه أواصر شتى وصلات مختلفة : من العقيدة ، والصداقة ، الثقافة ، والمهنة ، وغيرها من الصلات الكثر .
وهذا الترابط الاجتماعي ، أو المجتمع المترابط ، لا بد له من دستور ينظم حياته ، ويوثق أواصره ، ويحقق العدل الاجتماعي في ظلاله ، بما يرسمه من حقوق

أخلاق أهل البيت 202

وواجبات ، فردية واجتماعية ، تضمن صالح المجتمع ، وتصون حقوقه وحرماته المقدسة .
وبذلك يغدو المجتمع زاهراً ، سعيداً بالوئام والسلام ، والخير والجمال . وبإغفال ذلك يغدو المجتمع بائساَ شقياً ، تسوده الفوضى ، ويشيع فيه التسيب ، وتنخر في كيانه عوامل التخلف والانهيار .
وقد حوت الشريعة الإسلامية ـ فيما حوته من ضروب المعجزات الإصلاحية ـ انها بدستور اخلاقي هادف بناء ، ينظم حياة الفرد وحياة المجتمع أفضل وأكمل تنظيم ، بما يرسم له من حقوق وآداب اجتماعية في مختلف الحقول والمجالات ، ما يحقق للمسلمين مفاهيم السلام والرخاء ، ويكفل إسعادهم أدبياً ومادياً .
من أجل ذلك كان لزاماً على المسلم أن يستلهم ذلك الدستور ، ويعرف ماله وعليه من الواجبات والحقوق ، ويعني بتطبيقه والسير على هداه ، ليكون مثلاُ رفيعاً في جمال السيرة وحسن السلوك ، ورعاية حقوق من ينتسب إليهم ، ويرتبط بهم من صنوف الروابط والصلات الاجتماعية ، وليحقق بذلك ما يهفو إليه من توقير وحب وثناء .
وهذا ما حداني إلى وضع هذا الكتاب ، الذي خططته ورسمت مفاهيمه على ضوء القرآن الكريم ، وأخلاق أهل البيت عليهم السلام ووصاياهم الحكيمة الجليلة ، وعرضت فيه طائفة من أهم الحقوق ، وأبلغها أثراً في حياة الفرد والمجتمع ، مبتدئاً فيه بحقوق الله على العباد ، فحقوق رسوله الأعظم (ص) ، فحقوق الأئمة المعصومين من آله عليهم السلام . ثم استعرضت الحقوق واحداً إثر آخر ، متدرجاً من حقوق العلماء إلى حقوق الأساتذة والطلاب ، فالوالدين والأولاد ، والزوجية والرحمية ، إلى الحقوق الاجتماعية الأخرى التي يجدها المطالع في حقول الكتاب .
وأملي أن يجد فيه المؤمنون رائد خير ، وداعية صلاح ، ومنار هداية . وأن يحظى بشرف قبول الله تعالى ، وجميل رضوانه ، وواسع لطفه ورحمته إنه قريب مجيب

أخلاق أهل البيت 203

الحقوق الإلهية

تتفاوت الحقوق بتفاوت أربابها ، وقيم عطفهم وفضلهم على المحسنين إليهم .
فللصديق حق معلوم ، ولكنه دون حق الشقيق البار العطوف ، الذي جمع بين آصرة القربى وجمال اللطف والحنان .
وحق الشقيق دون حق الوالدين ، لجلالة فضلهما على الولد وتفوقه على كل فضل .
وبهذا التقييم ندرك عظمة الحقوق الإلهية ، وتفوقها على سائر الحقوق ، فهو المنعم الأعظم الذي خلق الإنسان ، وحباه من صنوف النعم والمواهب ما يعجز عن وصفه وتعداده ، «ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض ، وأسبغ عليكم نعمة ظاهرةً وباطنه» (لقمان : 20) .
«وأن تعدوا نعمة الله لا تحصوها» (ابراهيم : 34) .
فكيف يستطيع الإنسان حد تلك الحقوق وعرضها ، والاضطلاع بواجب شكرها ، إلا بعون الله تعالى وتوفيقه .
فلا مناص من الإشارة إلى بعضها والتلويح عن واجباتها ، وهي بعد إحراز الإيمان بالله ، والاعتقاد بوحدانيته ، واتصافه بجميع صفات الكمال وتنزيهه عما لا يليق بجلال ألوهيته .

1 ـ العبادة

قال علي بن الحسين (ع) : «فأما حق الله الأكبر فإنك تعبده ، لا تشرك به شيئاً ، فإذا فعلت ذلك بإخلاص ، جعل لك على نفسه أن يكفيك أمر الدنيا والآخرة ، ويحفظ لك ما تحب منها» (1) .
والعبادة لغةً ، هي غاية التذلل والخضوع ، لذلك لا يستحقها إلا المنعم

(1) رسالة الحقوق للإمام علي بن الحسين (ع) .
أخلاق أهل البيت 204

الأعظم الذي له غاية الافضال والانعام ، وهو الله عزوجل .
واصطلاحاً هي : المواظبة على فعل المأمور به .
وناهيك في عظمة العبادة وجليل آثارها وخصائصها في حياة البشر : إن الله عزوجل جعلها الغاية الكبرى من خلقهم وإيجادهم ، حيث قال : «وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ، ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون ، إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين» (الذاريات : 56 ـ 58) .
وبديهي أن الله تعالى غني عن العاملين ، لا تنفعه طاعة المطيعين وعبادتهم ، ولا تضره معصية العصاة وتمردهم ، وإنما فرض عبادته على الناس لينتفعوا بخصائصها وآثارها العظيمة ، الموجبة لتكاملهم وإسعادهم .
فمن خصائص العبادة : أنها من أقوى الأسباب والبواعث على تركيز العقيدة ورسوخ الإيمان في المؤمن ، لتذكيرها بالله عزوجل ورجاء ثوابه ، والخوف من عقابه ، وتذكيرها بالرسول الأعظم ، فلا ينساه ولا ينحرف عنه .
فإذا ما أغفل المؤمن عبادة ربه نساه ، وتلاشت فينفسه قيم الإيمان ومفاهيمه ، وغدا عرضة للإغواء والضلال . فالعقيدة هي الدوحة الباسقة التي يستظل المسلمون في ظلالها الوارفة الندية ، والعبادة هي الي تصونها وتمدها بعوامل النمو والازدهار .
والعبادة بعد هذا من أكبر العوامل على التعديل والموازنة ، بين القوى المادية والروحية ، التي تتجاذب الإنسان وتصطرع في نفسه ، ولا تتسنى له السعادة الهناء إلا بتعادلها . ذلك ، أن طغيان القوى المادية واستفحالها يسترق الإنسان بزخارفها وسلطانها الخادع ، وتجعله ميالاً إلى الأثرة والأنانية ، واقتراف الشرور والآثام ، في تحقيق أطماعه المادية .
فلا مناص ـ والحالة هذه ـ من تخفيف جماح المادة والحد من ضراوتها ، وذلك عن طريق تعزيز الجانب الروحي في الإنسان ، وإمداده بطاقة روحية ، تعصمه من الشرور وتوجهه وجهة الخير والصلاح . وهذا ما تحققه العبادة

أخلاق أهل البيت 205

بإشعاعاتها الروحية ، وتذكيرها المتواصل بالله تعالى ، والدأب على طاعته وطلب رضاه .
والعبادة الروحية بعد هذا وذاك : اختيار للمؤمن واستجلاء لأبعاد إيمانه . فالإيمان سر قلبي مكنون ، لا يتبين إلا بما يتعاطاه المؤمن من ضروب الشعائر والعبادات ، الكاشفة عن مبلغ إيمانه وطاعته لله تعالى .
وحيث كانت العبادة تتطلب عناءاً وجهداً ، كان اداؤها والحفاظ عليها دليلاً على قوة الإيمان ورسوخه ، وإغفالها دليلاً على ضعفه وتسيبه .
فالصلاة . . . كبيرة إلا على الخاشعين . والصيام . . كف النفس عن لذائذ الطعام والشراب والجنس . والحج . . يتطلب البذل والمعاناة في أداء مناسكه . والزكاة . . منح المال الذي تعتز به النفس وتحرص عليه . والجهاد : هو الإقدام على التضحية والفداء في سبيل الواجب ، وكلها أمور شاقة على النفس .
من أجل ذلك كان أداء العبادة والقيام بها برهاناً ساطعاً على إيمان صاحبها وطاعته لله عزوجل .

2 ـ الطاعة :

وهي الخضوع لله عزوجل وامتثال جميع أوامره ونواهيه .
ولا ريب انها من أشرف المزايا ، وأجل الخلال الباعثة على سعادة المطيع وفوزه بشرف الدنيا والآخرة ، كما نوهت بها الآيات الكريمة والأخبار الشريفة :
قال تعالى : «ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً» (الأحزاب : 71) .
وقال سبحانه «ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ، ومن يتول يعذبه عذاباًَ أليماً» (الفتح : 17) .
وقال الإمام الحسن الزكي (ع) : «وإذا أردت عزاً بلا عشيرة ، وهيبة بلا سلطان ، فاخرج من ذل معصية الله إلى عز طاعة الله عزوجل» .
وقال الصادق (ع) : «اصبروا على طاعة الله ، وتصبروا عن معصية الله ، فإنما الدنيا ساعة ، فما مضى فلست تجد له سروراً ولا حزناً ، وما لم يأت فلست

أخلاق أهل البيت 206

تعرفه ، فاصبر على تلك الساعة التي أنت فيها فكأنك قد اغتبطت» (1) .

3 ـ الشكر :


وهو : عرفان نعمة المنعم ، وشكره عليها ، واستعمالها في مرضاته .
والشكر خلة مثالية يقدسها العقل والشرع ، ويحتمها الضمير والوجدان ، إزاء المحسنين من الناس . فكيف بالمنعم الأعظم الذي لا تحصى نعماؤه ، ولا تعد آلاؤه ؟
من أجل ذلك حثت الشريعة على التحلي به ، في نصوص عديدة من الآيات والروايات .
قال تعالى : «وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ، ولئن كفرتم إن عذابي لشديد» (ابراهيم : 7) .
وقال الصادق (ع) : «من أعطي الشكر أعطي الزيادة ، يقول الله عزوجل «لئن شكرتم لأزيدنكم» (2) .
وقال رسول الله (ص) : «الطاعم الشاكر ، له من الأجر كأجر الصائم المحتسب . والمعافى الشاكر ، له من الأجر المبتلى الصابر . والمعطي الشاكر ، له من الأجر كأجر المحروم القانع» (3) .

4 ـ التوكل :


وهو : الاعتماد على الله عزوجل في جميع الأمور ، وتفويضها إليه ، والإعراض عما سواه .
والتوكل ، هو من أجل خصائص المؤمنين ومزاياهم المشرفة ، الموجبة لعزتهم وسمو كرامتهم وارتياح ضمائرهم ، بترفعهم عن الاتكال والاستعانة

(1) الوافي ، ج 2 ص 63 ، عن الكافي .
(2) الوافي ، ج 2 ص 67 ، عن الكافي .
(3) الوافي ج 3 ص 67 عن الكافي .
أخلاق أهل البيت 207

بالمخلوقين ، ولجوئهم وتوكلهم على الخلاق العظيم القدير في كسب المنافع ودرء المضار .
لذلك تواترت الآيات والآثار في تمجيد هذا الخالق ، والتشويق إليه .
قال تعالى : «إن ينصركم الله فلا غالب لكم ، وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده ، وعلى الله فليتوكل المؤمنون» (آل عمران : 16) .
وقال تعالى : «ومن يتوكل على الله فهو حسبه» (الطلاق : 3) .
وقال الصادق (ع) : «إن الغنى والعز يجولان ، فإذا ظفرا بموضع التوكل أوطنا» (1) .
وقال أمير المؤمنين (ع) في وصيته للحسن (ع) : «والجيء نفسك في الأمور كلها إلى إلهك ، فإنك تلجئها إلى كهف حريز ، ومانع عزيز» (2) .


حقوق النبي (ص)

كان نبينا الأعظم محمد (ص) ، المثل الأعلى في سائر نواحي الكمال ، اصطفاه الله من الخلق واختاره من العباد ، وحباه بأرفع الخصائص والمواهب التي حبا بها الإنبياء عليهم السلام ، وجمع فيه ما تفرق فيهم من صنوف العظمات والأمجاد ما جعله سيدهم وخاتمهم .
وناهيك في عظمته أنه استطاع بجهوده الجبارة ومبادئه الخالدة ، أن يحقق في أقل من ربع قرن من الانتصارات الروحية والمكاسب الدينية ، ما لم يستطيع تحقيقه سائر الأنبياء والشرائع في أكثر من قرون .
جاء بأكمل الشرائع الإلهية ، وأشدها ملائمة لأطوار الحياة ، وأكثرها تكفلاً بإسعاد الإنسان مادياً وروحياً ، ديناً ودنياً ، فأخرج الناس من ظلمة الكفر إلى نور الإسلام ، ومن شقاء الجاهلية إلى السعادة الأبدية . وجعل أمته أكمل الأمم ديناً ،

(1) الوافي ج 3 ص 56 عن الكافي .
(2) نهج البلاغة (ومن شاء التوسع في الأبحاث الثلاثة ، الطاعة والشكر والتوكل ، فليرجع إلى القسم الأول من هذا الكتاب) .
أخلاق أهل البيت 208

وأوفرهم علماً ، وأسماهم أدباً وأخلاقاً ، وأرفعهم حضارة ومجداً .
وقد عانى في سبيل ذلك من ضروب الشدائد والأهوال ، ما لم يعانه أي نبي .
من أجل ذلك ، فإن القلم عاجز عن تعداد أياديه ، وحصر حقوقه على المسلمين ، سيما في هذه الرسالة الوجيزة ، فلا بد من الإشارة إليها والتلويح عنها .
وهي ، بعد الإيمان بنبوته ، وتصديقه فيما جاء به من عند الله عزوجل ، والاعتقاد بأنه سيد الرسل ، وخاتم الأنبياء :

1 ـ طاعته :

وطاعة النبي فرض محتم على الناس ، كطاعة الله تعالى ، إذ هو سفيره إلى العباد ، وأمينه على الوحي ، ومنار هدايته الوضاء .
وواقع الطلعة هو : اتباع شرعته ، وتطبيق مبادئه الخالدة ، التي ما سعد المسلمون ونالوا آمالهم وأمانيهم ، إلا بالتمسك بها والحفاظ عليها . وما تخلفوا واستكانوا إلا بإغفالها والانحراف عنها .
انظر كيف يحرض القرآن الكريم على طاعة النبي (ص) ، ويحذر مغبة عصيانه ومخالفته ، حيث قال :
«وما آتاكم الرسول فخذوه ، وما نهاكم عنه فانتهوا ، واتقوا الله إن الله شديد العقاب» (الحشر : 7) .
وقال تعالى : «وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً ، أن يكون لهم الخيرة من أمرهم . ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً» (الأحزاب : 36) .
وقال سبحانه : «ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ، وذلك الفوز العظيم . ومن يعص الله ورسوله ، ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها ، وله عذاب مهين» (النساء : 13 ـ 14) .

أخلاق أهل البيت 209

وقال عزوجل : «إن الذين يحادون الله ورسوله ، أولئك في الأذلين . كتب الله لأغلبن انا ورسلي ، إن الله قوي عزيز» (المجادلة : 20 ـ 21) .

2 ـ محبته :

تختلف دواعي الحب والإعجاب باختلاف نزعات المحبين وميولهم ، فمن الناس من يحب الجمال ويقدسه ، ومنهم من يحب البطولة والأبطال ويمجدهم ، ومنهم من يحب الأريحية ويشيد بأربابها .
وقد اجتمع في النبي الأعظم (ص) كل ما يفرض المحبة ويدعو إلى الأعجاب ، حيث كان نموذجاً فذاً ، ونمطاً فريداً بين الناس . لخص الله فيه آيات الجمال والكمال ، وأودع فيه أسرار الجاذبية ، فلا يملك المرء أزاءه إلا الحب والإجلال ، وهذا ما تشهد به شخصيته المثالية ، وتأريخه المجيد .
قال أمير المؤمنين (ع) وهو يصف شمائل رسول الله (ص) :
«كان نبي الله أبيض اللون ، مشرباً حمرة ، أدعج العين ، سبط الشعر ، كث اللحية ، ذا وفرة ، دقيق المسربة ، كأنما عنقه إبريق فضة يجري في تراقيه الذهب ، له شعر من لبته إلى سرته كقضيب خيط ، وليس في بطنه ولا صدره شعر غيره ، شثن الكفين والقدمين ، إذا مشى كأنه ينقلع من صخر ، إذا أقبل كأنما ينحدر من صبب ، واذا التفت التفت جميعا باجمعه ، ليس بالقصير ولا بالطويل ، كأنما عرقه في وجهه اللؤلؤ ، عرقه أطيب من المسك» (1) .
وقال (ع) وهو يصف أخلاق الرسول (ص) :
«كان أجود الناس كفاً ، وأجرأ الناس صدراً ، وأصدق الناس لهجة ، وأوفاهم ذمة ، وألينهم عريكة ، وأكرمهم عشرة ، من رآه بديهة هابه ، ومن خالطه فعرفه أحبه ، لم أر مثله قبله ولا بعده» (2) .
ولأجل تلك الشمائل والمآثر ، أحبه الناس على اختلاف ميولهم في الحب :

(1) البحار م 6 في أوصاف خلقه وشمائله .
(2) سفينة البحار م 2 ص 414 .
أخلاق أهل البيت 210

أحبه الأبطال لبطولته الفذة التي لا يحاربه فيها بطل مغوار ، وأحبه الكرام إذ كان المثل الأعلى في الأريحية والسخاء ، وأحبه العباد لتولهه في العبادة وفنائه في ذات الله ، وأحبه أصحابه المخلصون لمثاليته الفذة في الخلق والخلق .
قال أمير المؤمنين (ع) : «جاء رجل من الأنصار إلى النبي (ص) ، فقال : يا رسول الله ما أستطيع فراقك ، وإني لأدخل منزلي فأذكرك ، فأترك ضيعتي وأقبل حتى أنظر إليك حباً لك ، فذكرت اذا كان يوم القيامة ، وأدخلت الجنة ، فرفعت في أعلى عليين ، فكيف لي بك يا نبي الله ؟ ، فنزل : «ومن يطع الله والرسول ، فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وحسن أولئك رفيقا» (النساء : 69) فدعا النبي (ص) الرجل فقرأها عليه وبشره بذلك» (1) .
وقال أنس : جاء رجل من أهل البادية ، وكان يعجبنا أن يأتي الرجل من أهل البادية يسأل النبي (ص) ، فقال : يا رسول الله متى قيام الساعة ؟
فحضرت الصلاة ، فلما قضى صلاته ، قال : أين السائل عن الساعة ؟
قال : أنا يا رسول الله . قال : فما أعدتت لها ؟
قال : والله ما أعددت لها من كثير عمل صلاة ولا صوم ، إلا أني أحب الله ورسوله .
فقال له النبي (ص) : المرء مع من أحب .
قال أنس : فما رأيت المسلمين فرحوا بعد الإسلام بشيء أشد من فرحهم بهذا (2) .
وعن أبي عبد الله (ع) ، قال : كان رجل يبيع الزيت ، وكان يحب رسول الله (ص) حباً شديداً ، كان إذا أراد أن يذهب في حاجة لم يمض حتى ينظر إلى رسول الله (ص) ، قد عرف ذلك منه ، فإذا جاء تطاول له حتى ينظر إليه . حتى

(1) البحار م 6 في باب وجوب طاعته وحبه .
(2) البحار م 6 ، باب وجوب طاعته وحبه ، عن علل الشرائع .
أخلاق أهل البيت 211

إذا كان ذات يوم ، دخل فتطاول له رسول الله (ص) حتى نظر إليه ثم مضى في حاجته ، فلم يكن بأسرع من أن رجع ، فلما رآه رسول الله (ص) قد فعل ذلك ، أشار إليه بيده ، فقال : مالك فعلت اليوم شيئاً لم تكن تفعله قبل ؟
فقال : يا رسول الله ، والذي بعثك بالحق نبياً ، لغشي قلبي شيء من ذكرك حتى ما استطعت أم أمضي في حاجتي ، ولذا رجعت إليك . فدعا له وقال له خيراً .
ثم مكث رسول الله (ص) أياماً لا يراه ، فلما سأل عنه ن فقيل له : يا رسول الله ما رأيناه منذ أيام . فانتعل رسول الله (ص) وانتعل معه أصحابه ، فانطلق حتى أتى سوق الزيت ، فإذا دكان الرجل ليس فيه أحد ، فسأل عنه جيرته ، فقالوا : يا رسول الله ، مات . . ولقد كان عندنا أميناً صدوقاً ، إلا أنه قد كان فيه خصلة ، قال : وما هي ؟ قالوا : كان يزهق (يعنون ، يتبع النساء) . فقال رسول الله (ص) : لقد كان يحبني حباً ، لو كان بخاساً لغفر الله له (1) .

3 ـ الصلاة عليه :

قال تعالى : «إن الله وملائكته يصلون على النبي ، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما» (الأحزاب : 56) .
درج الناس على إجلال العظماء وتوقيرهم بما يستحقونه من صور الإجلال والتوقير ، تكريماً لهم وتقديراً لجهودهم ومساعيهم في سبيل أممهم .
ومن هنا كان السلام الجمهوري والتحية العسكرية فرضاً على الجنود ، تبجيلاً لقادتهم وإظهاراً لإخلاصهم لهم .
فلا غرابة أن يكون من حقوق النبي (ص) على أمته ـ وهو سيد الخلق وأشرفهم جميعاً ـ تعظيمه والصلاة عليه ، عند ذكر اسمه المبارك أو سماعه ،

(1) الوافي ج 3 ، ص 143 ـ 144 . الزهق : غشيان المحارم : والبخس : النقص في المكيال والميزان .

السابق السابق الفهرس التالي التالي