|
مفصل ربما يشق على البعض تنفيذه ، بيد أني أعرضه مجملاً وميسراً في أمرين هامين :
1 ـ اول ما يجدر محاسبة النفس عليه أداء الفرائض التي أوجبها الله تعالى على الناس ، كالصلاة والصيام والحج والزكاة ونحوها من الفرائض ، فإن أداها المرء على الوجه المطلوب ، شكر الله تعالى على ذلك ورجى نفسه فيما أعد الله للمطيعين من كرم الثواب وجزيل الأجر .
وإن أغفلها وفرط في أدائها خوف نفسه بما توعد الله العصاة والمتمردين من عباده بالعقاب الأليم ، وجد في قضائها وتلافيها .
2 ـ محاسبة النفس على اقتراف الآثام واجتراح المنكرات ، وذلك : بزجرها زجراً قاسياً ، وتأنيبها على ما فرط من سيئاتها ، ثم الاجتهاد بملافاة ذلك بالندم عليه والتوبة الصادقة منه .
ولقد ضرب النبي (ص) أرفع مثل لمحاسبة النفس ، والتحذير من صغائر الذنوب ومحقراتها :
قال الصادق (ع) : «إن رسول الله نزل بأرض قرعاء ، فقال لأصحابه : إئتونا بحطب . فقالوا : يا رسول اله نحن بأرض قرعاء ما بها من حطب . قال : فليأت كل إنسان بما قدر عليه ، فجاؤوا به حتى رموا بين يديه بعضه على بعض ، فقال رسول الله (ص) : هكذا تجتمع الذنوب .
ثم قال : إياكم والمحقرات من الذنوب ، فإن لكل شيء طالباً ، ألا وأن طالبها يكتب :
«ما قدموا آثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين» (ياسين : 12) (1) .
وكان بعض الاولياء يحاسب نفسه بأسلوب يستثير الدهشة والإكبار .
من ذلك ما نقل عن توبة بن الصمة ، وكان محاسباً لنفسه في أكثر أوقات ليله ونهاره ، فحسب يوماً ما مضى من عمره ، فإذا هو ستون سنة ، فحسب
|
(1) الوافي ج 3 ص 168 عن الكافي .
|
أيامها فكانت إحدى وعشرين ألف يوم وخمسمائة يوم ، فقال : يا ويلتاه !! ، ألقى مالكاً بإحدى وعشرين ألف ذنب ، ثم صعق صعقة كانت فيها نفسه (1) .
وما أحلى هذا البيت :
إذا المرء أعطى نفسه كل شهوة |
|
ولم ينهها تاقت إلى كل باطل |
لو وازن الإنسان بين جميع متع الحياة ومباهجها ، وبين عمره وحياته لوجد أن العمر أغلى وأنفس منها جميعاً ، وأنه لا يعدله شيء من نفائس الحياة وأشواقها الكثر ، إذ من الممكن اكتسابها أو استرجاع ما نفر منها .
أما العمر فإنه الوقت المحدد الذي لا يستطيع الإنسان إطالة أمده ، وتمديد أجله المقدر المحتوم «ولكل أمة أجل ، فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون» (الأعراف : 34) .
كما يستحيل استرداد ما تصرم من العمر ، ولو بذل المرء في سبيل ذلك جميع مقتينات الحياة .
وحيث كان الإنسان غفولاً عن قيم العمر وجلالة قدره ، فهو يسرف عابثاً في تضييعه وإبادته ، غير آبه لما تصرم منه ، ولا مغتنم فرصته السانحة .
من أجل ذلك جاءت توجيهات آل البيت عليهم السلام موضحة نفاسة العمر ، وضرورة استغلاله وصرفه فيما يوجب سعادة الإنسان ورخائه في حياته العادلة والآجلة .
قال سيد المرسلين (ص) في وصيته لأبي ذر : «يا أبا ذر ، كن على عمرك أشح منك على درهمك ودينارك» (2) .
وقال أمير المؤمنين (ع) : «إنما الدنيا ثلاثة أيام : يوم مضى بما فيه فليس بعائد ، ويوم أنت فيه فحق عليك اغتنامه ، ويوم لا تدري أنت من أهله ،
|
(1) سفينة البحار ج 1 ص 488 .
(2) الوافي قسم المواعظ في وصية النبي (ص) لأبي ذر .
|
ولعلك راحل فيه .
أما اليوم الماضي فحكيم مؤدب ، وأما اليوم الذي أنت فيه فصديق مودع ، وأما غد فإنما في يديك منه الأمل» .
وقال (ع) : «ما من يوم يمر على ابن آدم ، إلا قال له ذلك اليوم : أنا يوم جديد ، وأنا عليك شهيد ، فقل في خيراً ، واعمل في خيراً ، أشهد لك به يوم القيامة ، فإنك لن تراني بعد هذا أبداً» (1) .
وروي أنه جاء إلى علي بن الحسين عليهما السلام يشكو إليه حاله ، فقال : «مسكين ابن آدم ، له في كل يوم ثلاث مصائب لا يعتبر بواحدة منهن ، ولو اعتبر لهانت عليه المصائب وأمر الدنيا :
فأما المصيبة الأولى : فاليوم الذي ينقص من عمره . قال : وإن ناله نقصان في ماله اغتم به ، والدهر يخلف عنه والعمر لا يرده شيء .
والثانية : أنه يستوفي رزقه ، فإن كان حلالاً حوسب عليه ، وإن كان حراماً عوقب .
قال : والثالثة أعظم من ذلك . قيل : وما هي ؟ قال : ما من يوم يمسي إلا وقد دنا من الآخرة مرحلة ، لا يدري على جنة أم على نار .
وقال : أكبر ما يكون ابن آدم اليوم الذي يولد من أمه .
«قالت الحكماء ما سبقه إلى هذا أحد» (2) .
وقال الصادق (ع) : «إصبروا على طاعة الله ، وتصبروا عن معصية الله ، فإنما الدنيا ساعة ، فما مضى فلست تجد له سروراً ولا حزناً ، وما لم يأت فلست تعرفه ، فاصبر على تلك الساعة التي انت فيها فكأنك قد أغتبطت» (3) .
وقال الباقر (ع) : «لا يغرنك الناس من نفسك ، فإن الأمر يصل إليك دونهم ، ولا تقطع نهارك بكذا وكذا ، فإن معك من يحفظ عليك عملك ،
|
(1) الوافي ج 3 ص 63 عن الفقيه .
(2) عن كتاب الاختصاص المنسوب للشيخ المفيد .
(3) الوافي ج 3 ص 63 عن الكافي .
|
فأحسن فإني لم أرشيئاً أحسن دركاً ، ولا أسرع طلباً ، من حسنة محدثة لذنب قديم» (1) .
وعن جعفر بن محمد عن آبائه عليهم السلام قال : قال رسول اله (ص) : «بادر بأربع قبل أربع ، بشبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وغناك قبل فقرك ، وحياتك قبل موتك» (2) .
وعن الباقر (ع) عن النبي (ص) قال : لا يزول قدم [قدما] عبد يوم القيامة من بين يدي الله ، حتى يسأله عن أربع خصال : عمرك فيما أفنيته ، وجسدك فيما أبليته ، ومالك من أين اكتسبته وأين وضعته ، وعن حبنا أهل البيت ؟» (3) .
وقال بعض الحكماء : إن الإنسان مسافر ، ومنازله ستة . وقد قطع منها ثلاثة وبقي ثلاثة :
فالتي قطعها : ـ
1 ـ من كتم العدم إلى صلب الأب وترائب الأم .
2 ـ رحم الأم .
3 ـ من الرحم إلى فضاء الدنيا .
وأما التي لم يقطعها : ـ
فأولها القبر ، وثانيها المحشر . وثالثها الجنة أو النار .
ونحن الآن في قطع مرحلة المنزل الثالث ، ومدة قطعها مدة عمرنا ، فأيامنا فراسخ ، وساعاتنا أميال ، وأنفاسنا خطوات .
فكم من شخص بقي له فراسخ ، وآخر بقي له أميال ، وآخر بقي له خطوات .
|
(1) الوافي ج 3 ص 62 عن الكافي .
(2) البحار م 15 ج 2 ص 165 عن كتاب كمال الدين للصدوق .
(3) البحار م 7 ص 389 عن مجالس الشيخ المفيد .
|
وما أروع قول الشاعر :
دقات قلب المرء قائلة له |
|
إن الحياة دقاق وثواني |
لقد عرفت في البحث السالف نفاسة الوقت ، وجلالة العمر ، وأنه اعز ذخائر الحياة وأنفسها .
وحيث كان الوقت كذلك ، وجب على العاقل أن يستغله فيما يليق به ، ويكافئه عزة ونفاسةً ، من الأعمال الصالحة ، والغايات السامية ، الموجبة لسعادته ورخائه المادي والروحي ، الدنيوي والأخروي ، كما قال سيد المرسلين (ص) : «ليس ينبغي للعاقل أن يكون شاخصاً إلا في ثلاث : مرمة لمعاش ، أو تزود لمعاد ، أو لذة في غير محرم» (1) .
فهذه هي الاهداف السامية ، والغايات الكريمة التي يجدر صرف العمر النفيس في طلبها وتحقيقها .
وحيث كان الانسان مدفوعا لغرائزه واهوائه الى كسب المعاش ، ونيل المتع واللذائذ المادية ، والتهالك عليها ، مما يصرفه ويلهيه عن الاعمال الصالحة ، والتأهب للحياة الاخرة ، وتوفير موجبات السعادة والهناءفيها .لذلك جائت الايات والاخبار مشوقة الى الاهتمام بالاخرة ، والتزود لها من العمل الصالح .
قال تعالى : «فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ، من يعمل مثقال ذرة شراً يره» (الزلزلة : 7 ـ 8) .
وقال تعالى : «من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى ، وهو مؤمن ، فلتحيينه حياة طيبة ، ولتجزينهم اجرهم باحسن ما كانوا يعملون » (النحل : 97 ) .
وقال تعالى : « ومن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى ، وهو مؤمن ، فأولئك يدخلون الجنة ، يرزقون فيها بغير حساب» (غافر : 40) .
وقال تعالى : «من عمل صالحاً فلنفسه ، ومن أساء فعليها ، ثم إلى ربكم
|
(1) الوافي قسم المواعظ في وصية النبي (ص) لعلي (ع) .
|
ترجعون» (الجاثية : 15) .
وقال رسول الله (ص) : «يا أبا ذر ، إنك في ممر الليل والنهار ، في آجال منقوصة ، وأعمال محفوظة ، والموت يأتي بغتة ، ومن يزرع خيراً يوشك أن يحصد خيراً ، ومن يزرع شراً يوشك أن يحصد ندامة ، ولكل زارع مثل ما زرع» (1) .
وقال قيس بن عاصم : وفدت مع جماعة من بني تميم إلى النبي (ص) ، فقلت . يا نبي الله عظنا موعظة ننتفع بها ، فإنا قوم نعمر في البربة .
فقال رسول الله (ص) : «يا قيس إن مع العز ذلاً ، وإن مع الحياة موتاً ، وإن مع الدنيا آخرة ، وإن لكل شيء حسيباً ، وعلى كل شيء رقيباً ، وإن لكل حسنة ثواباً ، ولكل سيئة عقاباً ،ولكل أجل كتاباً . وإنه لا بد لك يا قيس من قرين يدفن معك وهو حي ، وتدفن معه وأنت ميت ، فإن كان كريماً أكرمك ، وإن كان لئيماً أسلمك ، ثم لا يحشر إلا معك ، ولا تبعث إلا معه ، ولا تسأل إلا عنه ، فلا تجعله إلا صالحاً ، فإنه إن صلح أنست به ، وإن فسد لم تستوحش إلا منه ، وهو فعلك» (2) .
وقال أمير المؤمنين (ع) : «إن العبد إذا كان في آخر يوم من أيام الدنيا ، وأول يوم من أيام الآخرة ، مثل له ، ماله ، وولده ، وعمله ، فيلتفت إلى ماله ، فيقول : والله إني كنت عليك حريصاً شحيحاً فمالي عندك ؟ فيقول : خذ مني كفنك .
قال : فيلتفت إلى ولده فيقول : والله إني كنت لكم محباً ، وإني كنت عليكم محامياً ، فمالي عندكم . فيقولون : نؤديك إلى حفرتك فنواريك فيها .
قال : فيلتفت إلى عمله فيقول : والله إني كنت فيك لزاهداً ، وإنك كنت علي لثقيلاً ، فمالي عندك ؟ فيقول : أنا قرينك في قبرك ، ويوم نشرك ، حتى أعرض أنا وأنت على ربك» (3) .
|
(1) الوافي في موعظة رسول الله (ص) لأبي ذر .
(2) البحار م 15 ج 2 ص 163 عن معاني الأخبار والخصال وآمالي الصدوق .
(3) الوافي ج 13 ص 92 عن الفقيه .
|
قال : «فإن كان لله ولياً ، أتاه أطيب الناس ريحاً ، وأحسنهم منظراً وأحسنهم رياشاً ، فقال : أبشر بروح وريحان ، وجنة نعيم ، ومقدمك خير مقدم ، فيقول له : من أنت ؟ فيقول : أنا عملك الصالح ، ارتحل من الدنيا إلى الجنة . . . » (1) .
وقال الصادق (ع) : «إذا وضع الميت في قبره ، مثل له شخص ، فقال له : يا هذا ، كنا ثلاثة : كان رزقك فانقطع بانقطاع أجلك ، وكان أهلك فخلوك وانصرفوا عنك ، وكنت عملك فبقيت معك أما إني كنت أهون الثلاثة عليك» (2) .
وعن الصادق عن آبائه عليهم السلام قال : «قال رسول الله (ص) : من أحسن فيما بقي من عمره ، لم يؤاخذ بما مضى من ذنبه ، ومن أساء فيما بقي من عمره أخذ بالأول والآخر» .
وقد أحسن الشاعر بقوله :
والناس همـهم الحيــاة ولا أرى |
|
طـول الحيـاة يزيد غير خيـال |
ولإ إذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد |
|
ذخـراً يـدوم كصالح الأعمـال |
طاعة الله وتقواه
|
|
|
الإنسان عنصر أصيل من عناصر هذا الكون ، ونمط مثالي رفيع بين أنماطه الكثر ، بل هو أجلها قدراً ، وأرفعها شأناً ، وذلك بما حباه الله عزوجل ، وشرفه بصنوف الخصائص والهبات التي ميزته على سائر الخلق «ولقد كرمنا بني آدم ، وحملناهم في البر والبحر ، ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً» (الإسراء : 70) .
وكان من أبرز مظاهر العناية الإلهية بالإنسان ، ودلائل تكريمه له : أن استخلفه في الأرض ، واصطفى من عيون نوعه وخاصتهم رسلاً وأنبياء بعثهم إلى العباد بالشرائع والمبادئ الموجبة لتنظيم حياتهم ، وإسعادهم في عاجل الدنيا وآجل الآخرة .
|
(1) الوافي ج 13 ص 92 عن الكافي .
(2) الوافي ج 13 ص 94 عن الكافي .
|
ولكن أغلب البشر ، واأسفاه ! تسبعدهم الأهواء والشهوات ، وتطغى عليهم نوازع التنكر والتمرد على النظم الإلهية ، وتشريعها الهادف البناء ، فيتيهون في مجاهل العصيان ، يتعسفون طرق الغواية والضلال ، ومن ثم يعانون ضروب الحيرة والقلق والشقاء ، ولو أنهم استجابوا لطاعة الله تعالى ، وساروا على هدي نظمه ودساتيره ، لسعدوا وفازوا فوزاً عظيماً ، «ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا ، لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ، ولكن كذبوا فأخذناهم بما كاوا يكسبون» .
أرأيت كيف انتظم الكون ، واتسقت عناصره ، واستتب نظامه ملايين الأجيال والأحقاب ؟! بخضوعه لله عزوجل ، وسيره على مقتضيات دساتيره وقوانينه ؟!
أرأيت كيف ازدهرت حياة الأحياء ، واستقامت بجريها على وفق مشيئة الله تعالى ، وحكمة نظامه وتدبيره ؟!!
أرأيت كيف يطبق الناس وصايا وتعاليم مخترعي الأجهزة الميكانيكية ليضمنوا صيانتها واستغلالها على أفضل وجه ؟!
أرأيت كيف يخضع الناس لنسائح الأطباء ، ويعانون مشقة العلاج ومرارة الحمية ، توخياً للبرء والشفاء ؟!.
فلم لا يطيع الإنسان خالقه العظيم ، ومدبره الحكيم ، الخبير بدخائله وأسراره ، ومنافعه ومضاره ؟!.
إنه يستحيل على الإنسان أن ينال ما يصبوا إليه من سعادة وسلام ، وطمأنينة ورخاء ، إلا بطاعة الله تعالى ، وانتهاج شريعته وقوانينه .
انظر كيف يشوق الله عزوجل ، عباده إلى طاعته ، وتقواه ، ويحذرهم مغبة التمرد والعصيان ، وهو الغني المطلق عنهم .
قال تعالى : «ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً» (الأحزاب : 61) .
وقال سبحانه : «ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها
الأنهار ، ومن يتول يعذبه عذاباً أليماً» (الفتح : 17) .
وأما التقوى ، فقد علق الله خير الدنيا والآخرة ، وأناط بها أعز الأماني والآمال ، وإليك بعضها :
1 ـ المحبة من الله تعالى ، فقال سبحانه : «إن الله يحب المتقين» (التوبة : 4) .
2 ـ النجاة من الشدائد وتهيئة أسباب الارتزاق ، فقال : «ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ، ويرزقه من حيث لا يحتسب» (الطلاق : 2 ـ 3) .
3 ـ النصر والتأييد ، قال تعالى : «إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون» (النحل : 128) .
4 ـ صلاح الاعمال وقبولها ، فقال تعالى : «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ، وقولوا قولاً سديداً ، يصلح لكم أعمالكم» (الأحزاب : 70 ـ 71) .
وقال : «إنما يتقبل الله من المتقين» .
5 ـ البشارة عند الموت ، قال تعالى : «الذين آمنوا وكانوا يتقون ، لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة» (يونس : 63 ـ 64) .
6 ـ النجاة من النار ، قال تعالى : «ثم ننجي الذين اتقوا»(مريم : 72) .
7 ـ الخلود في الجنة ، قال تعالى : «أعدت للمتقين» (آل عمران : 133) .
فتجلى من هذا العرض ، أن التقوى هي الكنز العظيم ، الحاوي لصنوف الأماني والآمال المادية والروحية ، الدينية والدنيوية .
والطاعة : هي الخضوع لله عزوجل ، وامتثال أوامره ونواهيه .
والتقوى : من الوقاية ، وهي صيانة النفس عما يضرها في الآخرة ، وقصرها على ما ينفعها فيها .
وهكذا تواترت أحاديث أهل البيت عليهم السلام حاثة ومرغبةً على طاعة
الله تعالى وتقواه ، ومحذرة من عصيانه ومخالفته .
قال الإمام الحسن الزكي (ع) في موعظته الشهيرة لجنادة : «إعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً ، وإذا أردت عزاً بلا عشيرة ، وهيبة بلا سلطان ، فأخرج من ذل معصية الله إلى عز طاعة الله عزوجل» .
وقال الصادق (ع) : «إصبروا على طاعة الله ، وتصبروا عن معصية الله ، فإنما الدنيا ساعة ، فما مضى فلست تجد له سروراً ولا حزناً ، وما لم يأت فلست تعرفه ، فاصبر على تلك الساعة التي أنت فيها ، فكأنك قد اغتبطت» (1) .
وقال (ع) : «إذا كان يوم القيامة يقوم عنق من الناس ، فيأتون باب الجنة فيضربونه ، فيقال لهم : من أنتم ؟ فيقولون : نحن أهل الصبر . فيقال لهم : على ما صبرتم ؟ فيقولون : كنا نصبر على طاعة الله ونصبر عن معاصي الله . فيقول الله عزوجل : صدقوا ، أدخلوهم الجنة ، وهو قول الله عزوجل : «إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب». (الزمر : 10) (2) .
وقال الباقر (ع) : «إذا أردت ان تعلم أن فيك خيراً ، فانظر إلى قلبك ، فإن كان يحب أهل طاعة الله عزوجل ويبغض أهل معصيته ففيك خير ، والله يحبك .
وإن كان يبغض أهل طاعة الله ، ويحب أهل معصيته فليس فيك خير ، والله يبغضك ، والمرء مع من أحب» (3) .
وقال (ع) : ما عرف الله من عصاه ، وأنشد :
تعصي الإله وأنت تظهر حبه |
|
هذا لعمرك في الفعال بديع |
لو كان حبك صادقاً لأطعـته |
|
إن المحب لمن أحب مطيع |
وعن الحسن بن موسى الوشا البغدادي قال : كنت بخراسان مع علي بن
|
(1) الوافي ج 3 ص 63 عن الكافي .
(2) البحار م 5 ج 2 ص 49 عن الكافي .
(3) البحار م 15 ج 1 ص 283 عن علل الشرائع والمحاسن للبرقي والكافي .
|
موسى الرضا (ع) في مجلسه ، وزيد بن موسى حاضر ، وقد أقبل على جماعة في المجلس يفتخر عليهم ويقول نحن ونحن ، وأبو الحسن مقبل على قوم يحدثهم ، فسمع مقالة زيد ، فالتفت إليه . فقال : يا زيد ، أغرك قول بقالي الكوفة إن فاطمة أحصنت فرجها ، فحرم الله ذريتها على النار ، والله ما ذلك إلا للحسن والحسين ، وولد بطنها خاصة ، فأما ان يكون موسى بن جعفر يطيع الله ، ويصوم نهاره ، ويقوم ليله ، وتعصيه أنت ، ثم تجيئان يوم القيامة سواء ، لأنت أعز على الله منه ! إن علي بن الحسين كان يقول : «لمحسننا كفلان من الأجر ، ولمسيئنا ضعفان من العذاب» .
قال الحسن بن الوشا : ثم التفت إلي وقال : يا حسن ، طيف تقرأون هذه الآية ؟ «وقال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح» (هود : 46) .
فقلت : من الناس من يقرأ (عمل غير صالح) ومنهم من يقرأ (عمل غير صالح) نفاه عن أبيه .
فقال (ع) : «كلا لقد كان ابنه ، ولكن لما عصى الله عزوجل ، نفاه الله عن أبيه ، كذا من كان منا ولم يطع الله فليس منا ، وأنت إذا أطعت الله فأنت منا أهل البيت» (1) .
وعن أبي جعفر (ع) قال : قام رسول الله (ص) على الصفا ، فقال : «يا بني هاشم ، يا بني عبد المطلب ، إني رسول الله إليكم ، وإني شفيق عليكم ، وإن لي عملي ، ولكل رجل منكم عمله ، لا تقولوا إن محمداً منا وسندخل مدخله ، فلا والله ما أوليائي منكم ولا من غيركم ، يا بني عبد المطلب إلا المتقون إلا فلا أعرفكم يوم القيامة تأتون تحملون الدنيا على ظهوركم ، ويأتي الناس يحملون الآخرة ، ألا إني قد أعذرت إليكم فيما بيني وبينكم ، وفيما بيني وبين الله تعالى فيكم» (2) .
وعن جابر قال : قال الباقر (ع) : «يا جابر أيكتفي من انتحل التشيع ، أن
|
(1) البحار عن معاني الأخبار وعيون أخبار الرضا (ع) .
(2) الوافي ج 3 ص 60 عن الكافي .
|
يقول بحبنا أهل البيت ؟! فوالله ما شيعتنا إلا من اتقى الله وأطاعه ـ إلى أن قال : فاتقوا الله واعملوا لما عند الله ، ليس بين الله وبين أحد قرابة ، أحب العباد إلى الله تعالى وأكرمهم عليه أتقاهم ، واعملهم بطاعته .
يا جابر ، والله ما يتقرب إلى الله إلا بالطاعة ، ما معنى براءة من النار ، ولا على الله لأحد من حجة ، من كان لله مطيعاً فهو لنا ولي ، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدو ، وما تنال ولايتنا إلا بالعمل والورع» (1) .
وعن المفضل بن عمر قال : كنت عند أبي عبد الله (ع) فذكرنا الأعمال ، فقلت أنا : ما أضعف عملي . فقال : «مه ؟! إستغفر الله . ثم قال : إن قليل العمل مع التقوى خير من كثير بلا تقوى . قلت : كيف يكون كثير بلا تقوى ؟ قال : نعم ، مثل الرجل يطعم طعامه ، ويرفق جيرانه ، ويوطيء رحله ، فإذا ارتفع له الباب من الحرام دخل فيه ، فهذا العمل بلا تقوى . ويكون الآخر ليس عنده شيء ، فإذا ارتفع له الباب من الحرام لم يدخل فيه» (2) .
قال الشاعر :
ليس من يقطع طريقاً بطلاً |
|
إنمـا من يتق الله البطـــل |
فاتق الله فتقوى اللــه ما |
|
جاورت قلب امريء إلا وصل |
الثبات على المبدأ
|
|
|
للنظم والمباديء أهمية كبرى ، وأثر بالغ في حياة الأمم والشعوب ، فهي مصدر الإشعاع والتوجيه في الأمة ، ومظهر رقيها أو تخلفها ، وكلما سمت مباديء الأمة ، ونظمها الإصلاحية ، كان ذلك برهاناً على تحضيرها وازدهارها .
وكلما هزلت وسخفت المباديء ، كان دليلاً على جهل ذويها وتخلفهم .
وخير المباديء وأشرفها هو : ما ينظم حياة الإنسان فرداً ومجتمعاً ، ويصون حريته وكرامته ، ويحقق أمنه ورخاءه ، ويوفر له وسائل السعادة والسلام في مجالي الدين والدنيا .
|
(1) الوافي ج 3 ص 60 عن الكافي .
(2) الوافي ج 3 ص 61 عن الكافي .
|
وبديهي أن المباديء مهما سمت ، وزخرت بجلائل المزايا والخلال ، فإنها لا تحقق أماني الأمة وآمالها ، ولا تفيء عليها بالخير المأمول ، إلا إذا أعتنقتها وحرصت على حمايتها وتنفيذها في مختلف مجالات الحياة ، وإلا كانت عديمة الجدوى والنفع .
لذلك كان الثبات على المبدأ الحق من أقدس واجبات الأمة وفروضها الحتمية ، فهو الذي يرفع معنوياتها ، ويعزز قيمتها ، ويحقق أهدافها وأمانيها .
ولم تعرف البشرية في تاريخها المديد ، أكمل وأفضل من المباديء الإسلامية الحائزة على جميع الخصائص والفضائل التي أهلتها للخلود ، وبوأتها قمة الشرائع والمباديء .
فهي المباديء الوحيدة التي تلائم الفطر السليمة ، وتؤلف بين القيم المادية والروحية ، وتكفل لمعتنقيها سعادة الدين والدنيا .
ناهيك في جلالتها أنها استطاعت أن تحقق في أقل من ربع قرن من فتوحات الإيمان ، ومعاجز الإصلاح ، ما عجزت عن تحقيقه سائر الشرائع والمباديء .
وأنشأت من الأمة العربية المتخلفة في جاهليتها خير أمة أخرجت للناس ، حضارة ومجداً وعلماً وأخلاقاً .
وما ساد المسلمون الأولون وانفردوا بحضارتهم وزعامتهم العلمية ، إلا بثباتهم على مبادئهم الخالدة ، وتفانيهم في حمايتها ونصرتها .
وما فجع المسلمون اليوم ، وانتابتهم النكسات المتتالية ، إلا بإغفال مبادئهم ، وانحرافهم عنها .
انظر كيف يمجد القرآن الكريم المسلمين الثابتين على مبادئهم الرفيعة ، المستمسكين بقيم الإيمان ومثله العليا : «إن الذين قالوا : ربنا الله ، ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون ، نحن أوليائكم في الحياة الدنيا والآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون ، نزلاً من غفور رحيم» (فصلت : 31 ـ 32) .
ولقد كان الرسول الأعظم وأهل بيته الطاهرون ، المثل الأعلى في الثبات على المبدأ وحمايته والتضحية في سبيله ، بأعز النفوس والأرواح .
كان (ص) كلما اكفهرت في وجهه أعاصير المحن ، وتألبت عليه قوى الكفر والطغيان ازداد صموداً ومضياً على نشر رسالته ، ضارباً في سبيل الله أرفع الأمثال «لو وضعت الشمس في يميني ، والقمر في يساري ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله ، أو أهلك في طلبه» .
وبهذا الصمود والشموخ انهارت قوى الشرك ، واستسلمت صاغرة للنبي (ص) .
وكان أمير المؤمنين (ع) على سر رسول الله (ص) ، ومثاليته في الثبات على المبدأ والاعتصام به ، عرضت عليه الخلافة مشروطةً بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الشيخين ، فأبى معتداً بمبدئه السامي ، ورأيه الأصيل قائلاً : «بل على كتاب الله ، وسنة رسوله ، واجتهاد رأي» .
وألح عليه نفر من خاصته ومواليه أن يستميل من أغوتهم زخارف الأطماع فسئموا عدل الإمام ومساواته ، واستهواهم إغراء معاوية ونواله الرخيص «يا أمير المؤمنين ، إعط هذه الأموال ، وفضل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي والعجم ، ومن تخاف عليه من الناس فراره إلى معاوية» .
فقال (ع) لهم وهو يعرب عن ثباته ، وتمسكه بدستور الإسلام ، وترفعه عن الوسائل الاستغلالية الآثمة : «أتأمروني أن أطلب النصر بالجور ؟! لا والله ما أفعل ما طلعت شمس ولاح في السماء نجم ، والله لو كان ما لهم لي لواسيت بينهم ، وكيف وإنما هي أموالهم» .
وهكذا سرت مثالية الإمام (ع) إلى الصفوة المختارة من أصحابه وحواريه ، فكانوا نماذج فذة ، وأنماطاً فريدة في الثبات على المبدأ والتمسك بالحق ، والذود عنه ، رغم معاناتها ضروب الإرهاب والتنكيل .
وقد ازدانت أسفار السير بطرائف أمجادهم ، وطيب ذكراهم ، مما خلدت مآثرهم عبر القرون والأجيال ، وإليك طرفاً منها :
قال الحجاج بن يوسف الثقفي ذات يوم : أحب أن أصيب رجلاً من أصحاب أبي تراب فأتقرب إلى الله بدمه . فقيل له : ما نعلم أحداً كان أطول صحبة لأبي تراب من قنبر مولاه . فبعث في طلبه فأتي به ، فقال له : أنت قنبر ؟ قال : نعم . قال : أبو همدان . قال :نعم . قال : مولى علي بن أبي طالب . قال : الله مولاي وأمير المؤمنين علي ولي نعمتي .
قال : إبرأ من دينه ، قال : فإذا برئت من دينه تدلني على دين غيره أفضل منه . فقال : إني قاتلك ، فاختر أي قتلة أحب إليك . قال : صيرت ذلك إليك . قال : ولم ؟ قال : لأنك لا تقتلني قتلة إلا قتلتك مثلها ، وقد أخبرني أمير المؤمنين أن منيتي تكون ذبحاً ، ظلماً بغير حق . قال : فأمر به فذبح (1) .
وروي أن معاوية أرسل إلى أبي الأسود الدؤلي هدية منها حلواء . يريد بذلك استمالته وصرفه عن حب علي بن أبي طالب ، فدخلت ابنة صغيرة له فأخذت لقمة من تلك الحلواء وجعلتها في فمها ، فقال لها أبو الأسود : يا بنيتي ألقيه فإنه سم ، هذه حلواء أرسلها إلينا معاوية ليخدعنا عن أمير المؤمنين (ع) ، ويردنا عن محبة اهل البيت . فقالت الصبية : قبحه الله ، يخدعنا عن السيد المطهر بالشهد المزعفر ! تباً لمرسله وآكله ، فعالجت نفسها حتى قاءت ما أكلها ، ثم قالت :
أبالشهد المزعفر يابن هند |
|
نبيع عليك أحساباً (اسلاماً ـ خ ل) ودينا |
معاذ الله كيف يكون هـذا |
|
ومولانا أمير المؤمنينا (2) |
وكان رشيد الهجري من خواص أصحاب أمير المؤمنين ، أتي به إلى زياد لعنه الله .
فقال زياد : ما قال لك خليلك أنا فاعلون بك ؟ قال : تقطعون يدي ورجلي وتصلبونني .
فقال زياد : أما والله لأكذبن حديثه ، خلوا سبيله . فلما أراد أن يخرج
|
(1) البحار م 9 ص 630 .
(2) سفينة البحار ج 1 ص 669 .
|
| |