أخلاق أهل البيت 179

مفصل ربما يشق على البعض تنفيذه ، بيد أني أعرضه مجملاً وميسراً في أمرين هامين :
1 ـ اول ما يجدر محاسبة النفس عليه أداء الفرائض التي أوجبها الله تعالى على الناس ، كالصلاة والصيام والحج والزكاة ونحوها من الفرائض ، فإن أداها المرء على الوجه المطلوب ، شكر الله تعالى على ذلك ورجى نفسه فيما أعد الله للمطيعين من كرم الثواب وجزيل الأجر .
وإن أغفلها وفرط في أدائها خوف نفسه بما توعد الله العصاة والمتمردين من عباده بالعقاب الأليم ، وجد في قضائها وتلافيها .
2 ـ محاسبة النفس على اقتراف الآثام واجتراح المنكرات ، وذلك : بزجرها زجراً قاسياً ، وتأنيبها على ما فرط من سيئاتها ، ثم الاجتهاد بملافاة ذلك بالندم عليه والتوبة الصادقة منه .
ولقد ضرب النبي (ص) أرفع مثل لمحاسبة النفس ، والتحذير من صغائر الذنوب ومحقراتها :
قال الصادق (ع) : «إن رسول الله نزل بأرض قرعاء ، فقال لأصحابه : إئتونا بحطب . فقالوا : يا رسول اله نحن بأرض قرعاء ما بها من حطب . قال : فليأت كل إنسان بما قدر عليه ، فجاؤوا به حتى رموا بين يديه بعضه على بعض ، فقال رسول الله (ص) : هكذا تجتمع الذنوب .
ثم قال : إياكم والمحقرات من الذنوب ، فإن لكل شيء طالباً ، ألا وأن طالبها يكتب :
«ما قدموا آثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين» (ياسين : 12) (1) .
وكان بعض الاولياء يحاسب نفسه بأسلوب يستثير الدهشة والإكبار .
من ذلك ما نقل عن توبة بن الصمة ، وكان محاسباً لنفسه في أكثر أوقات ليله ونهاره ، فحسب يوماً ما مضى من عمره ، فإذا هو ستون سنة ، فحسب

(1) الوافي ج 3 ص 168 عن الكافي .
أخلاق أهل البيت 180

أيامها فكانت إحدى وعشرين ألف يوم وخمسمائة يوم ، فقال : يا ويلتاه !! ، ألقى مالكاً بإحدى وعشرين ألف ذنب ، ثم صعق صعقة كانت فيها نفسه (1) .
وما أحلى هذا البيت :
إذا المرء أعطى نفسه كل شهوة ولم ينهها تاقت إلى كل باطل

اغتنام فرصة العمر

لو وازن الإنسان بين جميع متع الحياة ومباهجها ، وبين عمره وحياته لوجد أن العمر أغلى وأنفس منها جميعاً ، وأنه لا يعدله شيء من نفائس الحياة وأشواقها الكثر ، إذ من الممكن اكتسابها أو استرجاع ما نفر منها .
أما العمر فإنه الوقت المحدد الذي لا يستطيع الإنسان إطالة أمده ، وتمديد أجله المقدر المحتوم «ولكل أمة أجل ، فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون» (الأعراف : 34) .
كما يستحيل استرداد ما تصرم من العمر ، ولو بذل المرء في سبيل ذلك جميع مقتينات الحياة .
وحيث كان الإنسان غفولاً عن قيم العمر وجلالة قدره ، فهو يسرف عابثاً في تضييعه وإبادته ، غير آبه لما تصرم منه ، ولا مغتنم فرصته السانحة .
من أجل ذلك جاءت توجيهات آل البيت عليهم السلام موضحة نفاسة العمر ، وضرورة استغلاله وصرفه فيما يوجب سعادة الإنسان ورخائه في حياته العادلة والآجلة .
قال سيد المرسلين (ص) في وصيته لأبي ذر : «يا أبا ذر ، كن على عمرك أشح منك على درهمك ودينارك» (2) .
وقال أمير المؤمنين (ع) : «إنما الدنيا ثلاثة أيام : يوم مضى بما فيه فليس بعائد ، ويوم أنت فيه فحق عليك اغتنامه ، ويوم لا تدري أنت من أهله ،

(1) سفينة البحار ج 1 ص 488 .
(2) الوافي قسم المواعظ في وصية النبي (ص) لأبي ذر .
أخلاق أهل البيت 181

ولعلك راحل فيه .
أما اليوم الماضي فحكيم مؤدب ، وأما اليوم الذي أنت فيه فصديق مودع ، وأما غد فإنما في يديك منه الأمل» .
وقال (ع) : «ما من يوم يمر على ابن آدم ، إلا قال له ذلك اليوم : أنا يوم جديد ، وأنا عليك شهيد ، فقل في خيراً ، واعمل في خيراً ، أشهد لك به يوم القيامة ، فإنك لن تراني بعد هذا أبداً» (1) .
وروي أنه جاء إلى علي بن الحسين عليهما السلام يشكو إليه حاله ، فقال : «مسكين ابن آدم ، له في كل يوم ثلاث مصائب لا يعتبر بواحدة منهن ، ولو اعتبر لهانت عليه المصائب وأمر الدنيا :
فأما المصيبة الأولى : فاليوم الذي ينقص من عمره . قال : وإن ناله نقصان في ماله اغتم به ، والدهر يخلف عنه والعمر لا يرده شيء .
والثانية : أنه يستوفي رزقه ، فإن كان حلالاً حوسب عليه ، وإن كان حراماً عوقب .
قال : والثالثة أعظم من ذلك . قيل : وما هي ؟ قال : ما من يوم يمسي إلا وقد دنا من الآخرة مرحلة ، لا يدري على جنة أم على نار .
وقال : أكبر ما يكون ابن آدم اليوم الذي يولد من أمه .
«قالت الحكماء ما سبقه إلى هذا أحد» (2) .
وقال الصادق (ع) : «إصبروا على طاعة الله ، وتصبروا عن معصية الله ، فإنما الدنيا ساعة ، فما مضى فلست تجد له سروراً ولا حزناً ، وما لم يأت فلست تعرفه ، فاصبر على تلك الساعة التي انت فيها فكأنك قد أغتبطت» (3) .
وقال الباقر (ع) : «لا يغرنك الناس من نفسك ، فإن الأمر يصل إليك دونهم ، ولا تقطع نهارك بكذا وكذا ، فإن معك من يحفظ عليك عملك ،

(1) الوافي ج 3 ص 63 عن الفقيه .
(2) عن كتاب الاختصاص المنسوب للشيخ المفيد .
(3) الوافي ج 3 ص 63 عن الكافي .
أخلاق أهل البيت 182

فأحسن فإني لم أرشيئاً أحسن دركاً ، ولا أسرع طلباً ، من حسنة محدثة لذنب قديم» (1) .
وعن جعفر بن محمد عن آبائه عليهم السلام قال : قال رسول اله (ص) : «بادر بأربع قبل أربع ، بشبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وغناك قبل فقرك ، وحياتك قبل موتك» (2) .
وعن الباقر (ع) عن النبي (ص) قال : لا يزول قدم [قدما] عبد يوم القيامة من بين يدي الله ، حتى يسأله عن أربع خصال : عمرك فيما أفنيته ، وجسدك فيما أبليته ، ومالك من أين اكتسبته وأين وضعته ، وعن حبنا أهل البيت ؟» (3) .
وقال بعض الحكماء : إن الإنسان مسافر ، ومنازله ستة . وقد قطع منها ثلاثة وبقي ثلاثة :
فالتي قطعها : ـ
1 ـ من كتم العدم إلى صلب الأب وترائب الأم .
2 ـ رحم الأم .
3 ـ من الرحم إلى فضاء الدنيا .
وأما التي لم يقطعها : ـ
فأولها القبر ، وثانيها المحشر . وثالثها الجنة أو النار .
ونحن الآن في قطع مرحلة المنزل الثالث ، ومدة قطعها مدة عمرنا ، فأيامنا فراسخ ، وساعاتنا أميال ، وأنفاسنا خطوات .
فكم من شخص بقي له فراسخ ، وآخر بقي له أميال ، وآخر بقي له خطوات .

(1) الوافي ج 3 ص 62 عن الكافي .
(2) البحار م 15 ج 2 ص 165 عن كتاب كمال الدين للصدوق .
(3) البحار م 7 ص 389 عن مجالس الشيخ المفيد .
أخلاق أهل البيت 183

وما أروع قول الشاعر :
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقاق وثواني

العمل الصالح

لقد عرفت في البحث السالف نفاسة الوقت ، وجلالة العمر ، وأنه اعز ذخائر الحياة وأنفسها .
وحيث كان الوقت كذلك ، وجب على العاقل أن يستغله فيما يليق به ، ويكافئه عزة ونفاسةً ، من الأعمال الصالحة ، والغايات السامية ، الموجبة لسعادته ورخائه المادي والروحي ، الدنيوي والأخروي ، كما قال سيد المرسلين (ص) : «ليس ينبغي للعاقل أن يكون شاخصاً إلا في ثلاث : مرمة لمعاش ، أو تزود لمعاد ، أو لذة في غير محرم» (1) .
فهذه هي الاهداف السامية ، والغايات الكريمة التي يجدر صرف العمر النفيس في طلبها وتحقيقها .
وحيث كان الانسان مدفوعا لغرائزه واهوائه الى كسب المعاش ، ونيل المتع واللذائذ المادية ، والتهالك عليها ، مما يصرفه ويلهيه عن الاعمال الصالحة ، والتأهب للحياة الاخرة ، وتوفير موجبات السعادة والهناءفيها .لذلك جائت الايات والاخبار مشوقة الى الاهتمام بالاخرة ، والتزود لها من العمل الصالح .
قال تعالى : «فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ، من يعمل مثقال ذرة شراً يره» (الزلزلة : 7 ـ 8) .
وقال تعالى : «من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى ، وهو مؤمن ، فلتحيينه حياة طيبة ، ولتجزينهم اجرهم باحسن ما كانوا يعملون » (النحل : 97 ) .
وقال تعالى : « ومن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى ، وهو مؤمن ، فأولئك يدخلون الجنة ، يرزقون فيها بغير حساب» (غافر : 40) .
وقال تعالى : «من عمل صالحاً فلنفسه ، ومن أساء فعليها ، ثم إلى ربكم

(1) الوافي قسم المواعظ في وصية النبي (ص) لعلي (ع) .
أخلاق أهل البيت 184

ترجعون» (الجاثية : 15) .
وقال رسول الله (ص) : «يا أبا ذر ، إنك في ممر الليل والنهار ، في آجال منقوصة ، وأعمال محفوظة ، والموت يأتي بغتة ، ومن يزرع خيراً يوشك أن يحصد خيراً ، ومن يزرع شراً يوشك أن يحصد ندامة ، ولكل زارع مثل ما زرع» (1) .
وقال قيس بن عاصم : وفدت مع جماعة من بني تميم إلى النبي (ص) ، فقلت . يا نبي الله عظنا موعظة ننتفع بها ، فإنا قوم نعمر في البربة .
فقال رسول الله (ص) : «يا قيس إن مع العز ذلاً ، وإن مع الحياة موتاً ، وإن مع الدنيا آخرة ، وإن لكل شيء حسيباً ، وعلى كل شيء رقيباً ، وإن لكل حسنة ثواباً ، ولكل سيئة عقاباً ،ولكل أجل كتاباً . وإنه لا بد لك يا قيس من قرين يدفن معك وهو حي ، وتدفن معه وأنت ميت ، فإن كان كريماً أكرمك ، وإن كان لئيماً أسلمك ، ثم لا يحشر إلا معك ، ولا تبعث إلا معه ، ولا تسأل إلا عنه ، فلا تجعله إلا صالحاً ، فإنه إن صلح أنست به ، وإن فسد لم تستوحش إلا منه ، وهو فعلك» (2) .
وقال أمير المؤمنين (ع) : «إن العبد إذا كان في آخر يوم من أيام الدنيا ، وأول يوم من أيام الآخرة ، مثل له ، ماله ، وولده ، وعمله ، فيلتفت إلى ماله ، فيقول : والله إني كنت عليك حريصاً شحيحاً فمالي عندك ؟ فيقول : خذ مني كفنك .
قال : فيلتفت إلى ولده فيقول : والله إني كنت لكم محباً ، وإني كنت عليكم محامياً ، فمالي عندكم . فيقولون : نؤديك إلى حفرتك فنواريك فيها .
قال : فيلتفت إلى عمله فيقول : والله إني كنت فيك لزاهداً ، وإنك كنت علي لثقيلاً ، فمالي عندك ؟ فيقول : أنا قرينك في قبرك ، ويوم نشرك ، حتى أعرض أنا وأنت على ربك» (3) .

(1) الوافي في موعظة رسول الله (ص) لأبي ذر .
(2) البحار م 15 ج 2 ص 163 عن معاني الأخبار والخصال وآمالي الصدوق .
(3) الوافي ج 13 ص 92 عن الفقيه .
أخلاق أهل البيت 185

قال : «فإن كان لله ولياً ، أتاه أطيب الناس ريحاً ، وأحسنهم منظراً وأحسنهم رياشاً ، فقال : أبشر بروح وريحان ، وجنة نعيم ، ومقدمك خير مقدم ، فيقول له : من أنت ؟ فيقول : أنا عملك الصالح ، ارتحل من الدنيا إلى الجنة . . . » (1) .
وقال الصادق (ع) : «إذا وضع الميت في قبره ، مثل له شخص ، فقال له : يا هذا ، كنا ثلاثة : كان رزقك فانقطع بانقطاع أجلك ، وكان أهلك فخلوك وانصرفوا عنك ، وكنت عملك فبقيت معك أما إني كنت أهون الثلاثة عليك» (2) .
وعن الصادق عن آبائه عليهم السلام قال : «قال رسول الله (ص) : من أحسن فيما بقي من عمره ، لم يؤاخذ بما مضى من ذنبه ، ومن أساء فيما بقي من عمره أخذ بالأول والآخر» .
وقد أحسن الشاعر بقوله :
والناس همـهم الحيــاة ولا أرى طـول الحيـاة يزيد غير خيـال
ولإ إذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ذخـراً يـدوم كصالح الأعمـال

طاعة الله وتقواه

الإنسان عنصر أصيل من عناصر هذا الكون ، ونمط مثالي رفيع بين أنماطه الكثر ، بل هو أجلها قدراً ، وأرفعها شأناً ، وذلك بما حباه الله عزوجل ، وشرفه بصنوف الخصائص والهبات التي ميزته على سائر الخلق «ولقد كرمنا بني آدم ، وحملناهم في البر والبحر ، ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً» (الإسراء : 70) .
وكان من أبرز مظاهر العناية الإلهية بالإنسان ، ودلائل تكريمه له : أن استخلفه في الأرض ، واصطفى من عيون نوعه وخاصتهم رسلاً وأنبياء بعثهم إلى العباد بالشرائع والمبادئ الموجبة لتنظيم حياتهم ، وإسعادهم في عاجل الدنيا وآجل الآخرة .

(1) الوافي ج 13 ص 92 عن الكافي .
(2) الوافي ج 13 ص 94 عن الكافي .
أخلاق أهل البيت 186

ولكن أغلب البشر ، واأسفاه ! تسبعدهم الأهواء والشهوات ، وتطغى عليهم نوازع التنكر والتمرد على النظم الإلهية ، وتشريعها الهادف البناء ، فيتيهون في مجاهل العصيان ، يتعسفون طرق الغواية والضلال ، ومن ثم يعانون ضروب الحيرة والقلق والشقاء ، ولو أنهم استجابوا لطاعة الله تعالى ، وساروا على هدي نظمه ودساتيره ، لسعدوا وفازوا فوزاً عظيماً ، «ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا ، لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ، ولكن كذبوا فأخذناهم بما كاوا يكسبون» .
أرأيت كيف انتظم الكون ، واتسقت عناصره ، واستتب نظامه ملايين الأجيال والأحقاب ؟! بخضوعه لله عزوجل ، وسيره على مقتضيات دساتيره وقوانينه ؟!
أرأيت كيف ازدهرت حياة الأحياء ، واستقامت بجريها على وفق مشيئة الله تعالى ، وحكمة نظامه وتدبيره ؟!!
أرأيت كيف يطبق الناس وصايا وتعاليم مخترعي الأجهزة الميكانيكية ليضمنوا صيانتها واستغلالها على أفضل وجه ؟!
أرأيت كيف يخضع الناس لنسائح الأطباء ، ويعانون مشقة العلاج ومرارة الحمية ، توخياً للبرء والشفاء ؟!.
فلم لا يطيع الإنسان خالقه العظيم ، ومدبره الحكيم ، الخبير بدخائله وأسراره ، ومنافعه ومضاره ؟!.
إنه يستحيل على الإنسان أن ينال ما يصبوا إليه من سعادة وسلام ، وطمأنينة ورخاء ، إلا بطاعة الله تعالى ، وانتهاج شريعته وقوانينه .
انظر كيف يشوق الله عزوجل ، عباده إلى طاعته ، وتقواه ، ويحذرهم مغبة التمرد والعصيان ، وهو الغني المطلق عنهم .
قال تعالى : «ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً» (الأحزاب : 61) .
وقال سبحانه : «ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها

أخلاق أهل البيت 187

الأنهار ، ومن يتول يعذبه عذاباً أليماً» (الفتح : 17) .
وأما التقوى ، فقد علق الله خير الدنيا والآخرة ، وأناط بها أعز الأماني والآمال ، وإليك بعضها :
1 ـ المحبة من الله تعالى ، فقال سبحانه : «إن الله يحب المتقين» (التوبة : 4) .
2 ـ النجاة من الشدائد وتهيئة أسباب الارتزاق ، فقال : «ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ، ويرزقه من حيث لا يحتسب» (الطلاق : 2 ـ 3) .
3 ـ النصر والتأييد ، قال تعالى : «إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون» (النحل : 128) .
4 ـ صلاح الاعمال وقبولها ، فقال تعالى : «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ، وقولوا قولاً سديداً ، يصلح لكم أعمالكم» (الأحزاب : 70 ـ 71) .
وقال : «إنما يتقبل الله من المتقين» .
5 ـ البشارة عند الموت ، قال تعالى : «الذين آمنوا وكانوا يتقون ، لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة» (يونس : 63 ـ 64) .
6 ـ النجاة من النار ، قال تعالى : «ثم ننجي الذين اتقوا»(مريم : 72) .
7 ـ الخلود في الجنة ، قال تعالى : «أعدت للمتقين» (آل عمران : 133) .
فتجلى من هذا العرض ، أن التقوى هي الكنز العظيم ، الحاوي لصنوف الأماني والآمال المادية والروحية ، الدينية والدنيوية .

حقيقة الطاعة والتقوى

والطاعة : هي الخضوع لله عزوجل ، وامتثال أوامره ونواهيه .
والتقوى : من الوقاية ، وهي صيانة النفس عما يضرها في الآخرة ، وقصرها على ما ينفعها فيها .
وهكذا تواترت أحاديث أهل البيت عليهم السلام حاثة ومرغبةً على طاعة

أخلاق أهل البيت 188

الله تعالى وتقواه ، ومحذرة من عصيانه ومخالفته .
قال الإمام الحسن الزكي (ع) في موعظته الشهيرة لجنادة : «إعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً ، وإذا أردت عزاً بلا عشيرة ، وهيبة بلا سلطان ، فأخرج من ذل معصية الله إلى عز طاعة الله عزوجل» .
وقال الصادق (ع) : «إصبروا على طاعة الله ، وتصبروا عن معصية الله ، فإنما الدنيا ساعة ، فما مضى فلست تجد له سروراً ولا حزناً ، وما لم يأت فلست تعرفه ، فاصبر على تلك الساعة التي أنت فيها ، فكأنك قد اغتبطت» (1) .
وقال (ع) : «إذا كان يوم القيامة يقوم عنق من الناس ، فيأتون باب الجنة فيضربونه ، فيقال لهم : من أنتم ؟ فيقولون : نحن أهل الصبر . فيقال لهم : على ما صبرتم ؟ فيقولون : كنا نصبر على طاعة الله ونصبر عن معاصي الله . فيقول الله عزوجل : صدقوا ، أدخلوهم الجنة ، وهو قول الله عزوجل : «إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب». (الزمر : 10) (2) .
وقال الباقر (ع) : «إذا أردت ان تعلم أن فيك خيراً ، فانظر إلى قلبك ، فإن كان يحب أهل طاعة الله عزوجل ويبغض أهل معصيته ففيك خير ، والله يحبك .
وإن كان يبغض أهل طاعة الله ، ويحب أهل معصيته فليس فيك خير ، والله يبغضك ، والمرء مع من أحب» (3) .
وقال (ع) : ما عرف الله من عصاه ، وأنشد :
تعصي الإله وأنت تظهر حبه هذا لعمرك في الفعال بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعـته إن المحب لمن أحب مطيع

وعن الحسن بن موسى الوشا البغدادي قال : كنت بخراسان مع علي بن

(1) الوافي ج 3 ص 63 عن الكافي .
(2) البحار م 5 ج 2 ص 49 عن الكافي .
(3) البحار م 15 ج 1 ص 283 عن علل الشرائع والمحاسن للبرقي والكافي .
أخلاق أهل البيت 189

موسى الرضا (ع) في مجلسه ، وزيد بن موسى حاضر ، وقد أقبل على جماعة في المجلس يفتخر عليهم ويقول نحن ونحن ، وأبو الحسن مقبل على قوم يحدثهم ، فسمع مقالة زيد ، فالتفت إليه . فقال : يا زيد ، أغرك قول بقالي الكوفة إن فاطمة أحصنت فرجها ، فحرم الله ذريتها على النار ، والله ما ذلك إلا للحسن والحسين ، وولد بطنها خاصة ، فأما ان يكون موسى بن جعفر يطيع الله ، ويصوم نهاره ، ويقوم ليله ، وتعصيه أنت ، ثم تجيئان يوم القيامة سواء ، لأنت أعز على الله منه ! إن علي بن الحسين كان يقول : «لمحسننا كفلان من الأجر ، ولمسيئنا ضعفان من العذاب» .
قال الحسن بن الوشا : ثم التفت إلي وقال : يا حسن ، طيف تقرأون هذه الآية ؟ «وقال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح» (هود : 46) .
فقلت : من الناس من يقرأ (عمل غير صالح) ومنهم من يقرأ (عمل غير صالح) نفاه عن أبيه .
فقال (ع) : «كلا لقد كان ابنه ، ولكن لما عصى الله عزوجل ، نفاه الله عن أبيه ، كذا من كان منا ولم يطع الله فليس منا ، وأنت إذا أطعت الله فأنت منا أهل البيت» (1) .
وعن أبي جعفر (ع) قال : قام رسول الله (ص) على الصفا ، فقال : «يا بني هاشم ، يا بني عبد المطلب ، إني رسول الله إليكم ، وإني شفيق عليكم ، وإن لي عملي ، ولكل رجل منكم عمله ، لا تقولوا إن محمداً منا وسندخل مدخله ، فلا والله ما أوليائي منكم ولا من غيركم ، يا بني عبد المطلب إلا المتقون إلا فلا أعرفكم يوم القيامة تأتون تحملون الدنيا على ظهوركم ، ويأتي الناس يحملون الآخرة ، ألا إني قد أعذرت إليكم فيما بيني وبينكم ، وفيما بيني وبين الله تعالى فيكم» (2) .
وعن جابر قال : قال الباقر (ع) : «يا جابر أيكتفي من انتحل التشيع ، أن

(1) البحار عن معاني الأخبار وعيون أخبار الرضا (ع) .
(2) الوافي ج 3 ص 60 عن الكافي .
أخلاق أهل البيت 190

يقول بحبنا أهل البيت ؟! فوالله ما شيعتنا إلا من اتقى الله وأطاعه ـ إلى أن قال : فاتقوا الله واعملوا لما عند الله ، ليس بين الله وبين أحد قرابة ، أحب العباد إلى الله تعالى وأكرمهم عليه أتقاهم ، واعملهم بطاعته .
يا جابر ، والله ما يتقرب إلى الله إلا بالطاعة ، ما معنى براءة من النار ، ولا على الله لأحد من حجة ، من كان لله مطيعاً فهو لنا ولي ، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدو ، وما تنال ولايتنا إلا بالعمل والورع» (1) .
وعن المفضل بن عمر قال : كنت عند أبي عبد الله (ع) فذكرنا الأعمال ، فقلت أنا : ما أضعف عملي . فقال : «مه ؟! إستغفر الله . ثم قال : إن قليل العمل مع التقوى خير من كثير بلا تقوى . قلت : كيف يكون كثير بلا تقوى ؟ قال : نعم ، مثل الرجل يطعم طعامه ، ويرفق جيرانه ، ويوطيء رحله ، فإذا ارتفع له الباب من الحرام دخل فيه ، فهذا العمل بلا تقوى . ويكون الآخر ليس عنده شيء ، فإذا ارتفع له الباب من الحرام لم يدخل فيه» (2) .
قال الشاعر :
ليس من يقطع طريقاً بطلاً إنمـا من يتق الله البطـــل
فاتق الله فتقوى اللــه ما جاورت قلب امريء إلا وصل

الثبات على المبدأ

للنظم والمباديء أهمية كبرى ، وأثر بالغ في حياة الأمم والشعوب ، فهي مصدر الإشعاع والتوجيه في الأمة ، ومظهر رقيها أو تخلفها ، وكلما سمت مباديء الأمة ، ونظمها الإصلاحية ، كان ذلك برهاناً على تحضيرها وازدهارها .
وكلما هزلت وسخفت المباديء ، كان دليلاً على جهل ذويها وتخلفهم .
وخير المباديء وأشرفها هو : ما ينظم حياة الإنسان فرداً ومجتمعاً ، ويصون حريته وكرامته ، ويحقق أمنه ورخاءه ، ويوفر له وسائل السعادة والسلام في مجالي الدين والدنيا .

(1) الوافي ج 3 ص 60 عن الكافي .
(2) الوافي ج 3 ص 61 عن الكافي .
أخلاق أهل البيت 191

وبديهي أن المباديء مهما سمت ، وزخرت بجلائل المزايا والخلال ، فإنها لا تحقق أماني الأمة وآمالها ، ولا تفيء عليها بالخير المأمول ، إلا إذا أعتنقتها وحرصت على حمايتها وتنفيذها في مختلف مجالات الحياة ، وإلا كانت عديمة الجدوى والنفع .
لذلك كان الثبات على المبدأ الحق من أقدس واجبات الأمة وفروضها الحتمية ، فهو الذي يرفع معنوياتها ، ويعزز قيمتها ، ويحقق أهدافها وأمانيها .
ولم تعرف البشرية في تاريخها المديد ، أكمل وأفضل من المباديء الإسلامية الحائزة على جميع الخصائص والفضائل التي أهلتها للخلود ، وبوأتها قمة الشرائع والمباديء .
فهي المباديء الوحيدة التي تلائم الفطر السليمة ، وتؤلف بين القيم المادية والروحية ، وتكفل لمعتنقيها سعادة الدين والدنيا .
ناهيك في جلالتها أنها استطاعت أن تحقق في أقل من ربع قرن من فتوحات الإيمان ، ومعاجز الإصلاح ، ما عجزت عن تحقيقه سائر الشرائع والمباديء .
وأنشأت من الأمة العربية المتخلفة في جاهليتها خير أمة أخرجت للناس ، حضارة ومجداً وعلماً وأخلاقاً .
وما ساد المسلمون الأولون وانفردوا بحضارتهم وزعامتهم العلمية ، إلا بثباتهم على مبادئهم الخالدة ، وتفانيهم في حمايتها ونصرتها .
وما فجع المسلمون اليوم ، وانتابتهم النكسات المتتالية ، إلا بإغفال مبادئهم ، وانحرافهم عنها .
انظر كيف يمجد القرآن الكريم المسلمين الثابتين على مبادئهم الرفيعة ، المستمسكين بقيم الإيمان ومثله العليا : «إن الذين قالوا : ربنا الله ، ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون ، نحن أوليائكم في الحياة الدنيا والآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون ، نزلاً من غفور رحيم» (فصلت : 31 ـ 32) .

أخلاق أهل البيت 192

ولقد كان الرسول الأعظم وأهل بيته الطاهرون ، المثل الأعلى في الثبات على المبدأ وحمايته والتضحية في سبيله ، بأعز النفوس والأرواح .
كان (ص) كلما اكفهرت في وجهه أعاصير المحن ، وتألبت عليه قوى الكفر والطغيان ازداد صموداً ومضياً على نشر رسالته ، ضارباً في سبيل الله أرفع الأمثال «لو وضعت الشمس في يميني ، والقمر في يساري ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله ، أو أهلك في طلبه» .
وبهذا الصمود والشموخ انهارت قوى الشرك ، واستسلمت صاغرة للنبي (ص) .
وكان أمير المؤمنين (ع) على سر رسول الله (ص) ، ومثاليته في الثبات على المبدأ والاعتصام به ، عرضت عليه الخلافة مشروطةً بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الشيخين ، فأبى معتداً بمبدئه السامي ، ورأيه الأصيل قائلاً : «بل على كتاب الله ، وسنة رسوله ، واجتهاد رأي» .
وألح عليه نفر من خاصته ومواليه أن يستميل من أغوتهم زخارف الأطماع فسئموا عدل الإمام ومساواته ، واستهواهم إغراء معاوية ونواله الرخيص «يا أمير المؤمنين ، إعط هذه الأموال ، وفضل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي والعجم ، ومن تخاف عليه من الناس فراره إلى معاوية» .
فقال (ع) لهم وهو يعرب عن ثباته ، وتمسكه بدستور الإسلام ، وترفعه عن الوسائل الاستغلالية الآثمة : «أتأمروني أن أطلب النصر بالجور ؟! لا والله ما أفعل ما طلعت شمس ولاح في السماء نجم ، والله لو كان ما لهم لي لواسيت بينهم ، وكيف وإنما هي أموالهم» .
وهكذا سرت مثالية الإمام (ع) إلى الصفوة المختارة من أصحابه وحواريه ، فكانوا نماذج فذة ، وأنماطاً فريدة في الثبات على المبدأ والتمسك بالحق ، والذود عنه ، رغم معاناتها ضروب الإرهاب والتنكيل .
وقد ازدانت أسفار السير بطرائف أمجادهم ، وطيب ذكراهم ، مما خلدت مآثرهم عبر القرون والأجيال ، وإليك طرفاً منها :

أخلاق أهل البيت 193

قال الحجاج بن يوسف الثقفي ذات يوم : أحب أن أصيب رجلاً من أصحاب أبي تراب فأتقرب إلى الله بدمه . فقيل له : ما نعلم أحداً كان أطول صحبة لأبي تراب من قنبر مولاه . فبعث في طلبه فأتي به ، فقال له : أنت قنبر ؟ قال : نعم . قال : أبو همدان . قال :نعم . قال : مولى علي بن أبي طالب . قال : الله مولاي وأمير المؤمنين علي ولي نعمتي .
قال : إبرأ من دينه ، قال : فإذا برئت من دينه تدلني على دين غيره أفضل منه . فقال : إني قاتلك ، فاختر أي قتلة أحب إليك . قال : صيرت ذلك إليك . قال : ولم ؟ قال : لأنك لا تقتلني قتلة إلا قتلتك مثلها ، وقد أخبرني أمير المؤمنين أن منيتي تكون ذبحاً ، ظلماً بغير حق . قال : فأمر به فذبح (1) .
وروي أن معاوية أرسل إلى أبي الأسود الدؤلي هدية منها حلواء . يريد بذلك استمالته وصرفه عن حب علي بن أبي طالب ، فدخلت ابنة صغيرة له فأخذت لقمة من تلك الحلواء وجعلتها في فمها ، فقال لها أبو الأسود : يا بنيتي ألقيه فإنه سم ، هذه حلواء أرسلها إلينا معاوية ليخدعنا عن أمير المؤمنين (ع) ، ويردنا عن محبة اهل البيت . فقالت الصبية : قبحه الله ، يخدعنا عن السيد المطهر بالشهد المزعفر ! تباً لمرسله وآكله ، فعالجت نفسها حتى قاءت ما أكلها ، ثم قالت :
أبالشهد المزعفر يابن هند نبيع عليك أحساباً (اسلاماً ـ خ ل) ودينا
معاذ الله كيف يكون هـذا ومولانا أمير المؤمنينا (2)

وكان رشيد الهجري من خواص أصحاب أمير المؤمنين ، أتي به إلى زياد لعنه الله .
فقال زياد : ما قال لك خليلك أنا فاعلون بك ؟ قال : تقطعون يدي ورجلي وتصلبونني .
فقال زياد : أما والله لأكذبن حديثه ، خلوا سبيله . فلما أراد أن يخرج

(1) البحار م 9 ص 630 .
(2) سفينة البحار ج 1 ص 669 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي