أخلاق أهل البيت 164

وقال قيصر : أنا على رد ما لم أقل أقدر مني على رد ما قلت .
وقال ملك الصين : ما لم أتكلم بكلمة ملكتها ، فإذا تكلمت بها ملكتني .
وقال ملك الهند : العجب ممن يتكلم بكلمة إن رفعت ضرت ، وإن لم ترفع لم تنفع (1) .
وليس شيء أدل على غباء الإنسان ، وحماقته ، من الثرثرة ، وفضول القول ، وبذاءة اللسان .
فقد مر أمير المؤمنين برجل يتكلم بفضول الكلام ، فوقف عليه وقال : «يا هذا إنك تملي على حافظيك كتاباً إلى ربك ، فتكلم بما يعنيك ودع ما لا يعنيك» (2) .
وقال (ع) : «من كثر كلامه كثر خطأه ، ومن كثر خطأه قل حياؤه ، ومن قل حياؤه قل ورعه ، ومن قل ورعه مات قلبه ، ومن مات قلبه دخل النار» (3) .
وعن سليمان بن مهران قال : «دخلت على الصادق (ع) وعنده نفر من الشيعة ، فسمعته وهو يقول : معاشر الشيعة كونوا لنا زيناً ، ولا تكونوا علينا شيناً ، قولوا للناس حسناً ، واحفظوا ألسنتكم ، وكفوها عن الفضول وقبيح القول» (4) .
وتوقياً من بوادر اللسان ومآسيه الخطيرة ، فقد حثت النصوص على الصمت ، وعفة اللسان ، ليأمن المرء كبوته وعثراته المدمرة .
قال الصادق (ع) : «الصمت كنز وافر ، وزين الحليم ، وستر الجاهل» (5) .
وعن أبي جعفر (ع) قال : «كان أبوذر يقول : يا مبتغي العلم إن هذا

(1) مجاني الأدب .
(2) الوافي ج 3 ص 85 عن الفقيه .
(3) البحار م 15 ج 2 ص 187 عن النهج .
(4) البحار م 15 ج 2 ص 192 أمالي الصدوق .
(5) الوافي ج 3 ص 85 عن الفقيه .
أخلاق أهل البيت 165

اللسان مفاح خير ، ومفتاح شر ، فاختم على لسانك ، كما تختم على ذهبك وورقك» (1) .
ونقل أنه اجتمع قس بن ساعدة وأكثم بن صيفي ، فقال أحدهما لصاحبه : كم وجدت في ابن ادم من العيوب ؟ فقال : هي اكثر من ان تحصر ، وقد وجدت خصلة إن استعمالها الإنسان سترت العيوب كلها ، قال : ما هي ؟ قال : حفظ اللسان .
غوائل الذنوب

إن بين الأمراض الصحية التي يعانيها الإنسان ، وبين الذنوب التي يقترفها شبه قوي في نشأتهما ، وسوء مغبتهما عليه .
فكما تنشأ أغلب الأمراض عن مخالفة الدساتير الصحية التي وضعها الأطباء ، وقاية وعلاجاً للأبدان ، كذلك تنشأ الذنوب عن مخالفة القوانين الإلهية ، والنظم السماوية ، التي شرعها الله تعالى لإصلاح البشر وإسعادهم .
وكما يختص كل مرض بأضرار خاصة ، وآثار سيئة ، تنعكس على المريض في صور من الاختلاطات والمضاعفات المرضية ، كذلك الذنوب فإن لكل نوع منها مغبة سيئة ، وضرراً فادحاً ، وآثاراً خطيرة ، تسبب للإنسان ألوان المآسي والشقاء .
ولئن اشتركت الأمراض والذنوب في الإساءة والأذى ، فإن الذنوب أشد نكايةً ، واسوأ أثراً من الأمراض ، لسهولة معالجة الأجسام ، وصعوبة مباشرة النفوس .
لذلك كانت الذنوب سموماً مهلكة ، وجراثيم فاتكة ، تعيث في الإنسان فساداً ، وتعرضه لصنوف الأخطار والمهالك .
أنظر كيف يعرض القرآن الكريم صوراً رهيبة عن غوائل الذنوب ، وأخطارها الماحقة في سلسلة من آياته الكريمة :

(1) الوافي ج 3 ص 85 عن الكافي .
أخلاق أهل البيت 166

قال تعالى : «وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً‌» (الإسراء : 16) .
وقال تعالى : «ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم ، وأرسلنا السماء عليهم مدراراً ، وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم ، فأهلكناهم وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين» (الأنعام : 6) .
وقال تعالى : «ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا ، لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ، ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون» (الأعراف : 96) .
وقال تعالى : «ذلك بأن الله لم يكن مغيراً نعمة أنعمها على قوم ، حتى يغيروا ما بأنفسهم ، وإن الله سميع عليم» (الأنفال : 53) .
وقال تعالى : «وما أصابكم من مصيبة ، فبما كسبت أيديكم ، ويعفو عن كثير» (الشورى : 30) .
وقال تعالى : «ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ، ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون» (الروم : 41) .
وهكذا جاءت أحاديث أهل البيت عليهم السلام محذرةً غوائل الذنوب ، ومآسيها العامة ، وأوضحت أن ما يعانيه الفرد والمجتمع ، من ضروب الأزمات ، والمحن ، كشيوع المظالم ، وانتشار الأمراض ، وشح الأرزاق ، كل ذلك ناشئ عن مقارفة الذنوب والآثام ، وإليك طرفاً منها :
عن الصادق عن آبائه عليهم السلام قال : قال رسول الله (ص) : عجبت لمن يحتمي من الطعام مخافة الداء ، كيف لا يحتمي من الذنوب مخافة النار ؟!!» (1) .
وعن الرضا عن آبائه عليهم السلام قال : «قال رسول الله (ص) : يقول الله تبارك وتعالى : يابن آدم ما تنصفني ، أتجب إليك بالنعم ، وتتمقت إلي المعاصي ، خيري عليك منزل ، وشرك إلي صاعد ، ولا يزال ملك كريم يأتيني عنك في كل يوم وليلة بعمل قبيح ، يابن آدم لو سمعت وصفك من غيرك ،

(1)البحار م 15 ج 3 ص 155 عن أمالي الصدوق .
أخلاق أهل البيت 167

وأنت لا تعلم من الموصوف ، لسارعت إلى مقته» (1) .
وقال الصادق (ع) : «إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء ، فإن تاب انمحت ، وإن زاد زادت ، حتى تغلت على قلبه فلا يفلح بعدها أبداً» (2) .
وقال الباقر (ع) : «إن العبد يسأل الله الحاجة ، فيكون من شأنه قضاؤها إلى أجل قريب أو إلى وقت بطيئ ، فيذنب العبد ذنباً ، فيقول الله تبارك وتعالى للملك : لا تقضي حاجته ، واحرمه إياها ، فإنه تعرض لسخطي ، واستوجب الحرمان مني» (3) .
وقال الصادق (ع) : «كان أبي (ع) يقول : إن الله قضى قضاءاً حتماً ألا ينعم على العبد بنعمة فيسلبها إياه ، حتى يحدث العبد ذنباً يستحق بذلك النقمة» (4) .
وقال الرضا (ع) : «كلما أحدث العباد من الذنوب ما لم يكونوا يعلمون ، أحدث الله لهم من البلاء ما لم يكونوا يعرفون» (5) .
وقال رسول الله (ص) : «إذا غضب الله عزوجل على أمة ، ولم ينزل بها العذاب ، غلت أسعارها ، وقصرت أعمارها ، ولم يربح تجارها ، ولم تزك ثمارها ، ولم تغزر أنهارها ، وحبس عنها أمطارها ، وسلط عليها شرارها» (6) .
وقال الباقر (ع) : «وجدنا في كتاب رسول الله (ص) : إذا ظهر الزنا من بعدي كثر موت الفجأة ، وإذ طفف المكيال والميزان ، أخذهم الله تعالى بالسنين والنقص ، وإذا منعوا الزكاة ، منعت الأرض بركتها من الزرع والثمار والمعادن كلها ، وإذا جاروا في الأحكام ، تعاونوا على الظلم والعدوان ، وإذا نقضوا العهد سلط الله عليهم عدوهم ، وإذا قطعوا الأرحام جعلت الأموال في أيدي الأشرار ، وإذا لم يأمروا بالمعروف ، ولم ينهوا عن المنكر ، ولم يتبعوا الأخيار من أهل بيتي ،

(1) البحار م 15 ج 3 ص 156 عن عيون أخبار الرضا للصدوق .
(2) ، (3) الوافي ج 3 ص 167 عن الكافي .
(4) الوافي ج 3 ص 167 عن الكافي .
(5) الوافي ج 3 ص 168 عن الكافي .
(6) الوافي ج 3 ص 173 عن التهذيب والفقيه .
أخلاق أهل البيت 168

سلط الله عليهم شرارهم ، فيدعو أخيارهم فلا يستجاب لهم» (1) .
وعن المفضل قال : قال الصادق (ع) : «يا مفضل إياك والذنوب ، وحذرها شيعتنا ، فوالله ما هي إلى أحد أسرع منها إليكم ، إن أحدكم لتصيبه المعرة من السلطان ، وما ذاك إلا بذنوبه ، وإنه ليصيبه السقم وما ذاك إلا بذنوبه ، وإنه ليحبس عنه الرزق وما هو إلا بذنوبه ، وإنه ليشدد عليه عند الموت وما هو إلا بذنوبه ، حتى يقول من حضر : لقد غم بالموت .
فلما رآى ما قد دخلني ، قال : أتدري لم ذاك يا مفضل ؟ قلت : لا أدري جعلت فداك . قال : ذاك والله أنكم لا تؤاخذون بها في الآخرة ، وعجلت لكم في الدنيا» (2) .
وقال أمير المؤمنين (ع) : «توقوا الذنوب ، فما من بلية ، ولا نقص رزق ، إلا بذنب ، حتى الخدش ، والكبوة ، والمصيبة ، قال الله عزوجل : «وما أصابكم من مصيبة ، فبما كسبت أيديكم ، ويعفو عن كثير» (3) .
وربما لبس الشيطان عن بعض الأغراء ، بأن الذنوب لو كانت ماحقة مدمرة ، لأشقت المنهمكين عليها ، السادرين في اقترافها ، وهم رغم ذلك في أرغد عيش وأسعد حياة .
وخفي عليهم أن الله عزوجل لا يعجزه الدرك ، ولا يخاف الفوت ، وإنما يمهل العصاة ، ويؤخر عقابهم ، رعاية لمصالحهم ، عسى أن يثوبوا إلى الطاعة والرشد ، أو يمهلهم إشفاقاً على الأبرياء والضعفاء ممن تضرهم معالجة المذنبين وهم براء من الذنوب .
أو يصاير المجرمين استدراجاً لهم ، ليزدادوا طغياناً وإثماً ، فيأخذهم بالعقاب الصارم ، والعذاب الأليم ، كما صرحت بذلك الآيات والروايات .
قال الله تعالى : «ولا يحبسن الذين كفروا إنما نملي لهم خير لأنفسهم ، إنما

(1) الوافي ج 3 ص 173 عن الكافي .
(2) البحار عن علل الشرائع .
(3) البحار عن الخصال .
أخلاق أهل البيت 169

نملي لهم ليزدادوا إثماً ، ولهم عذاب مهين» (آل عمران : 178) .
وقال سبحانه : «ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ، ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى» (فاطر : 45) .
وقال الصادق (ع) : «إذا أراد الله بعبد خيراً ، فأذنب ذنباً ، أتبعه بنقمة : ويذكره الاستغفار ، وإذا أراد بعبد شراً ، فاذنب ذنباً ، أتبعه بنعمة ، لينسيه الإستغفار ، ويتمادى بها ، وهو قول الله تعالى : «سنستدرجهم من حيث لا يعلمون» (القلم : 44) بالنعم عند المعاصي» (1) .
وقال الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام : «إن لله عزوجل في كل يوم وليلة منادياً ينادي : مهلاً مهلاً ، عباد الله عن معاصي الله ،فلولا بهائم رتع ، وصبية رضع ، وشيوخ ركع ، لصب عليكم العذاب صباً ، ترضون به رضاً» (2) .
وقد يختلج في الذهن أن الأنبياء والأوصياء معصومون من اقتراف الذنوب والآثام ، فكيف يؤاخذون بها ، ويعانون صنوف المحن والأرزاء ؟ .
وتوجيه ذلك : أن الذنوب تختلف ، وتتفاوت باختلاف الأشخاص ، ومبلغ إيمانهم ، وأبعاد طاعتهم وعبوديتهم لله عزوجل .
قرب متعة بريئة ، يتعاطاها فردان : يحسبها الأول طيبة مباحة ، ويحسبها الثاني جريرة وذنباً ، حيث ألهته عما يتعشقه من ذكر الله عزوجل وعبادته .
وحيث كان الأنبياء عليهم السلام هم المثل الأعلى في الإيمان بالله ، والتفاني في طاعته ، والتوله بعبادته ، اعتبر ترك الأولى منهم ذنباً وتقصيراً ، كما قال : «حسنات الأبرار سيئات المقربين» .
هذا إلى أن معاناة المحن لا تنجم عن اقتراف الآثام والذنوب فحسب ، فقد تكون كذلك .
وقد تكون المحن والأرزاء وسيلة لاستجلاء صبر الممتحن ، وجلده على

(1) الوافي ج 3 ص 173 عن الكافي .
(2) الوافي ج 3 ص 168 عن الكافي .
أخلاق أهل البيت 170

طاعة الله ، ونافذ قدره ومشيئته ، وقد تكون وسيلة لمضاعفة أجر المبتلى ، وجزيل ثوابه ، بصبره على تلك المعاناة ، وتفويض أمره إلى الله عزوجل .

التوبة

لقد عرفت في البحث السابق غوائل الذنوب ، وأضرارها المادية والروحية ، والتشابه بينها وبين الأمراض الجسمية في فداحتها ، وسوء آثارها على الإنسان .
فكما تجدر المسارعة إلى علاج الجسم من جراثيم الأمراض قبل استفحالها ، وضعف الجسم عن مكافحتها ، كذلك تجب المبادرة إلى تصفية النفس ، وتطهيرها من أوضار الذنوب ، ودنس الآثام ، قبل تفاقم غوائلها ، وعسر تداركها .
وكما تعالج الأمراض الصحية بتجرع العقاقير الكريهة ، والاحتماء عن المطاعم الشهية الضارة ، كذلك تعالج الذنوب بمعاناة التوبة والإنابة ، والإقلاع عن الشهوات العارمة ، والأهواء الجامحة ، ليأمن التائب أخطارها ومآسيها الدنيوية والأخروية .

حقيقة التوبة

لا تتحقق التوبة الصادقة النصوح إلا بعد تبلورها ، واجتيازها أطواراً ثلاثة :
فالطور الأول ، هو : طور يقظة الضمير ، وشعور المذنب بالأسى والندم على معصية الله تعالى ، وتعرضه لسخطه وعقابه ، فإذا امتلأت نفس المذنب بهذا الشعور الواعي انتقل إلى :
الطور الثاني ، وهو : طور الإنابة إلى الله عزوجل ، والعزم الصادق على طاعته ، ونبذ عصيانه ، فإذا ما أنس بذلك تحول إلى :
الطور الثالث ، وهو : طور تصفية النفس من رواسب الذنوب ، وتلافي سيئاتها بالأعمال الصالحة الباعثة على توفير رصيد الحسنات ، وتلاشي السيئات ، وبذلك تتحقق التوبة الصادقة النصوح .

أخلاق أهل البيت 171

وليست التوبة هزل عابث ، ولقلقة يتشدق بها اللسان ، وإنما هي : الإنابة الصادقة إلى الله تعالى ، ومجافاة عصيانه بعزم وتصميم قويين ، والمستغفر بلسانه وهو سادر في المعاصي مستهتر كذاب ، كما قال الإمام الرضا (ع) :
«المستغفر من ذنب ويفعله كالمستهزئ بربه» .

فضائل التوبة

للتوبة فضائل جمة ، ومآثر جليلة ، صورها القرآن الكريم ، وأعربت عنها آثار أهل البيت عليهم السلام .
وناهيك في فضلها أنها بلسم الذنوب ، وسفينة النجاة ، وصمام الأمن من سخط الله تعالى وعقابه .
وقد أبت العناية الإلهية أن تهمل العصاة يتهبطون في دياجير الذنوب ، ومجاهل العصيان ، دون أن يسعهم بعطفه السامي ، وعفوه الكريم ، فشوقهم إلى الأنابة ، ومهد لهم التوبة ، فقال سبحانه :
«وإذا جاءك الذني يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم ، كتب ربكم على نفسه الرحمة ، أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة ، ثم تاب من بعده وأصلح ، فإنه غفور رحيم» (الأنعام : 54) .
وقال تعالى : «قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ، إن الله يغفر الذنوب جميعاً ، إنه هو الغفور الرحيم» (الزمر : 53) .
وقال تعالى حاكياً : «فقلت : استغفروا ربكم إنه كان غفاراً ، يرسل السماء عليكم مدراراً ، ويمددكم بأموال وبنين ، ويجعل لكم جنات ، ويجعل لكم أنهاراً» (نوح : 10 ـ 12) .
وقال تعالى : «إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين» (البقرة : 222) .
وقال الصادق (ع) : «غذا تاب العبد توبة نصوحاً ، أحبه الله تعالى فستر عليه في الدنيا والآخرة . قال الراوي : وكيف يستر الله عليه ؟ قال : ينسي ملكيه ما كتبا عليه من الذنوب ، ثم يوحي الله إلى جوارحه اكتمي عليه ذنوبه ، ويوحي

أخلاق أهل البيت 172

إلى بقاع الأرض اكتمي عليه ما كان عليك من الذنوب ، فيلقى الله تعالى حين يلقاه ، وليس شيء يشهد عليه بشيء من الذنوب» (1) .
وعن الرضا عن آبائه عليهم السلام قال : قال رسول الله (ص) : «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» .
وقال (ص) في حديث آخر : «ليس شيء أحب إلى الله من مؤمن تائب ، أو مؤمنة تائبة» (2) .
وعن أبي عبد الله أو عن أبي جعفر عليهما السلام قال : «إن آدم قال : يا رب سلطت علي الشيطان وأجريته مجرى الدم مني فاجعل لي شيئاً .
فقال : يا آدم جعلت لك أن من هم من ذريتك بسيئة لم يكتب عليه شيء ، فإن عملها كتبت عليه سيئة ، ومن هم منهم بحسنة فإن لم يعملها كتبت له حسنة ، فإن هو عملها كتبت له عشراً .
قال : يا رب زدني . قال : جعلت لك أن من عمل منهم سيئة ثم استغفرني غفرت له .
قال : يا رب زدني . قال : جعلت لهم التوبة حتى يبلغ النفس هذه . قال : يا رب حسبي» (3) .
وقال الصادق (ع) : «العبد المؤمن إذا أذنب ذنباً أجله الله سبع ساعات ، فإن استغفر الله لم يكتب عليه ، وإن مضت الساعات ولم يستغفر كتبت عليه سيئة ، وإن المؤمن ليذكر ذنبه بعد عشرين سنة حتى يستغفر ربه فيغفر له ، وإن الكافر لينساه من ساعته» (4) .
وقال (ع) : «ما من مؤمن يقارف في يومه وليلته أربعين كبيرة فيقول وهو نادم : «أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم بديع السماوات والأرض ذو

(1) الوافي ج 3 ص 183 عن الكافي .
(2) البحار م 3 ص 98 عن عيون أخبار الرضا (ع) .
(3) الوافي ج 3 ص 184 عن الكافي .
(4) البحار م 3 ص 103 عن الكافي .
أخلاق أهل البيت 173

الجلال والإكرام وأسأله أن يصلي على محمد وآل محمد وأن يتوب علي» إلا غفرها الله له ، ولا خير فيمن يقارف في يومه أكثر من أربعين كبيرة» (1) .

وجوب التوبة وفوريتها

لا ريب في وجوب التوبة ، لدلالة العقل والنقل على وجوبها :
أما العقل : فمن بديهياته ضرورة التوقي والتحرز عن موجبات الأضرار والأخطار الموجبة لشقاء الإنسان وهلاكه . لذلك وجب التحصن بالتوبة ، والتحرز بها من غوائل الذنوب وآثارها السيئة ، في عاجل الحياة وآجلها .
وأما النقل : فقد فرضتها أوامر القرآن والسنة فرضاً محتماً ، وشوقت إليها بألوان التشويق والتيسير .
فعن أبي عبد الله (ع) قال : «قال رسول الله (ص) : من تاب قبل موته بسنة قبل الله توبته ، ثم قال : إن السنة لكثير ، من تاب قبل موته بشهر قبل الله توبته . ثم قال : إن الشهر لكثير ، من تاب قبل موته بجمعة قبل الله توبته . ثم قال : إن الجمعة لكثير ، من تاب قبل موته بيوم قبل الله توبته . ثم قال : إن يوماً لكثير ، من تاب قبل أن يعاين قبل الله توبته» (2) .
وعن الصادق عن آبائه عليهم السلام قال : قال رسول الله (ص) : «إن لله عزوجل فضولاً من رزقه ينحله من يشاء من خلقه ، والله باسط يديه عند كل فجر لمذنب الليل هل يتوب فيغفر له ، ويبسط يديه عند مغيب الشمس لمذنب النهار هل يتوب فيغفر له» (3) .

تجديد التوبة

من الناس من يهتدي بعد ضلال ، ويستقيم بعد انحراف ، فيتدارك آثامه بالتوبة والإنابة ، ملبياً داعي الإيمان ، ونداء الضمير الحر .

(1) الوافي ج 3 ص 182 عن الكافي .
(2) الوافي ج 3 ص 184 عن الكافي .
(3) البحار م 3 ص 100 عن ثواب الأعمال للصدوق (ره) .
أخلاق أهل البيت 174

بيد أن الإنسان كثيراً ما تخدعه مباهج الحياة ، وتسرقه بأهوائها ومغرياتها ، فيقارف المعاصي من جديد ، منجرفاً بتيارها العرم ، وهكذا يعيش صراعاً عنيفاً بين العقل والشهوات ، ينتصر عليها تارة ، وتنتصر عليه أخرى ، وهكذا دواليك .
وهذا ما يعيق الكثيرين عن تجديد التوبة ، ومواصلة الإنابة خشية النكول عنها ، فيظلون سادرين في المعاصي والآثام .
فعلى هؤلاء أن يعلموا أن الإنسان عرضة لأغواء الشيطان ، وتسويلاته الآثمة ، ولا ينجو منها إلا المعصومون من الأنبياء والأوصياء عليهم السلام ، وإن الأجدر بهم إذا ما استزلهم بخدعه ومغرياته ، أن يجددوا عهد التوبة والإنابة بنية صادقة ، وتصميم جازم ، فإن زاغوا وانحرفوا فلا يقنطهم ذلك عن تجديدها كذلك ، مستشعرين قول الله عز وجل :
« قل يا عبادي الذين اسرفوا على انفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ، ان الله يغفر الذنوب جميعاً ، إنه هو الغفور الرحيم» (الزمر : 53) .
وهكذا شجعت أحاديث أهل البيت عليهم السلام على تجديد التوبة ، ومواصلة الإنابة ، إنقاذاً لصرعي الآثام من الانغماس فيها ، والانجراف بها . وتشويقاً لهم على استئناف حياة نزيهة مستقيمة .
فعن محمد بن مسلم قال : قال الباقر (ع) : «يا محمد بن مسلم ذنوب المؤمن إذا تاب عنها مغفورة له ، فليعمل المؤمن لما يستأنف بعد التوبة والمغفرة ، أما والله إنها ليست إلا لأهل الإيمان .
قلت : فإن عاد بعد التوبة والاستغفار في الذنوب ، وعاد في التوبة . فقال : يا محمد بن مسلم أترى العبد المؤمن يندم على ذنبه ويستغفر الله تعالى منه ويتوب ثم لا يقبل الله توبته !! قلت : فإنه فعل ذلك مراراً ، يذنب ثم يتوب ويستغفر . فقال : كلما عاد المؤمن بالاستغفار والتوبة ، عاد الله عليه بالمغفرة وإن الله غفور رحيم ، يقبل التوبة ، ويعفو عن السيئات ، فإياك أن تقنط المؤمنين من رحمة الله تعالى» (1) .

(1) الوافي ج 3 ص 183 عن الكافي .
أخلاق أهل البيت 175

وعن أبي بصير قال : «قلت لأبي عبد الله (ع) : «يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً» (التحريم : 8) ؟ قال : هو الذنب الذي لا يعود إليه أبداً . قلت : وأينا لم يعد . فقال : يا أبا محمد ، إن الله يحب من عباده المفتن التواب» (1) .
المراد بالمفتن التواب : هو من كان كثير الذنب كثير التوبة .
ولا بدع أن يحب الله تعالى المفتن التواب ، فإن الإصرار على مقارفة الذنوب ، وعدم ملافاتها بالتوبة ، دليل صارخ على موت الضمير وتلاشي الإيمان ، والاستهتار بطاعة الله عزوجل ، وذلك من دواعي سخطه وعقابه .

منهاج التوبة

ولا بد للتائب أن يعرف أساليب التوبة ، وكيفية التخلص من تبعات الذنوب ، ومسؤولياتها الخطيرة ، ليكفر عن كل جريرة بما يلائمها من الطاعة والإنابة .
فللذنوب صور وجوانب مختلفة :
منها ما يكون بين العبد وخالقه العظيم ، وهي قسمان : ترك الواجبات ، وفعل المحرمات .
فترك الواجبات : كترك الصلاة والصيام والحج والزكاة ونحوها من الواجبات . وطريق التوبة منها بالاجتهاد في قضائها وتلافيها جهد المستطاع .
وأما فعل المحرمات : كالزنا وشرب الخمر والقمار وأمثالها من المحرمات ، وسبيل التوبة منها بالندم على اقترافها ، والعزم الصادق على تركها .
ومن الذنوب : ما تكون جرائرها بين المرء والناس ، وهي أشدها تبعة ومسؤولية ، وأعسرها تلافياً ، كغصب الأموال ، وقتل النفوس البريئة المحرمة ، وهتك المؤمنين بالسب والضرب والنم والاغتياب .
والتوبة منها بإرضاء الخصوم ، وأداء الظلامات إلى أهلها ، ما استطاع إلى

(1) الوافي ج 3 ص 183 عن الكافي .
أخلاق أهل البيت 176

ذلك سبيلا ، فإن عجز عن ذلك فعليه بالاستغفار ، وتوفير رصيد حسناته ، والتضرع إلى الله عزوجل أن يرضيهم عنه يوم الحساب .

قبول التوبة

لا ريب أن التوبة الصادقة الجامعة الشرائط مقبولة بالإجماع ، لدلالة القرآن والسنة عليها :
قال تعالى : «وهو الذي يقبل التوبة عن عباده» (الشورى : 25) .
وقال تعالى : «غافر الذنب ، وقابل التوب» (غافر : 3) .
وقد عرضنا في فضائل التوبة طرفاً من الآيات والأخبار الناطقة بقبول التوبة ، وفوز التائبين بشرف رضوان الله تعالى ، وكريم عفوه ، وجزيل آلائه .
وأصدق شاهد على ذلك ما جاء في معرض حديث للنبي (ص) حيث قال : «لو لا أنكم تذنبون فتستغفرون الله لخلق الله خلقاً حتى يذنبوا ثم يستغفروا الله فيغفر لهم ، إن المؤمن مفتن تواب ، أما سمعت قول الله «إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين» » (البقرة : 222) (1) .

أشواق التوبة

تتخلص النصائح الباعثة على التوبة والمشوقة إليها فيما يلي :
1 ـ أن يتذكر المذنب ما صورته الآيات الكريمة ، والأحاديث الشريفة ، من غوائل الذنوب ، ومآسيها المادية والروحية ، في عاجل الحياة وآجلها ، وما توعد الله عليها من صنوف التأديب وألوان العقاب .
2 ـ أن يستعرض فضائل التوبة ومآثر التائبين ، وما حباهم الله به من كريم العفو ، وجزيل الأجر ، وسمو العناية واللطف ، وقد مر ذلك في بداية هذا البحث .
وكفى بهاتين النصيحتين تشويقاً إلى التوبة ، وتحريضاً عليها ، ولا يرغب عنها إلا أحمق بليد ، أو ضعيف الإيمان والبصيرة .

(1) البحار م 3 ص 103 عن الكافي .
أخلاق أهل البيت 177

محاسبة النفس ومراقبتها

المحاسبة هي : محاسبة النفس كل يوم عما عملته من الطاعات والمبرات ، أو اقترفته من المعاصي والآثام ، فإن رجحت كفة الطاعات على المعاصي ، والحسنات على السيئات ، فعلى المحاسب أن يشكر الله تعالى على ما وقفه إليه وشرفه به من جميل طاعته وشرف رضاه .
وإن رجحن المعاصي ، فعليه أن يؤدب نفسه بالتأنيب والتقريع على شذوذها وانحرافها عن طاعة الله تعالى .
وأما المراقبة : فهي ضبط النفس وصيانتها عن الإخلال بالواجبات ومقارفة المحرمات .
وجدير بالعاقل المستنير بالإيمان واليقين ، أن يروض نفسه على المحاسبة والمراقبة فإنها (أمارة بالسوء) : متى أهملت زاغت عن الحق ، وانجرفت في الآثام والشهوات ، وأودت بصاحبها في مهاوي الشقاء والهلاك ، ومتى أخذت بالتوجيه والتهذيب ، أشرقت بالفضائل ، وازدهرت بالمكارم ، وسمت بصاحبها نحو السعادة والهناء ، «ونفس وما سواها ، فألهمها فجورها وتقواها ، قد أفلح من زكاها ، وقد خاب من دساها» (الشمس : 7 ـ 10) .
هذا إلى أن للمحاسبة والمراقبة أهمية كبرى في تأهب المؤمن ، واستعداده لمواجهة حساب الآخرة ، وأهواله الرهيبة ، ومن ثم اهتمامه بالتزود من أعمال البر والخير الباعثة على نجاته وسعادة مآبه .
لذلك طفقت النصوص تشوق ، وتحرض على المحاسبة والمراقبة بأساليبها الحكيمة البليغة :
قال الإمام الصادق (ع) : «إذا أراد أحدكم أن لا يسأل ربه شيئاً إلا أعطاه ، فلييأس من الناس كلهم ، ولا يكون له رجاء إلا من عند الله تعالى ، فإذا علم الله تعالى ذلك من قلبه لم يسأل شيئاً إلا أعطاه ، فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا عليها ، فإن للقيامة خمسين موقفاً كل موقف مقام ألف سنة ، ثم تلا

أخلاق أهل البيت 178

«في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة» (المعارج : 4) (1) .
وقال الإمام موسى بن جعفر (ع) : «ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم ، فإن عمل حسنة استزاد الله تعالى ، وإن عمل سيئة استغفر الله تعالى منها وتاب إليه» (2) .
وعن أبي عبد الله (ع) قال : «إن رجلاً أتى النبي (ص) فقال له : يا رسول الله أوصني .
فقال له رسول الله (ص) : فهل أنت مستوص إن أنا أوصيتك ؟ حتى قال له ذلك ثلاثاً ، وفي كل يقول له الرجل : نعم يا رسول الله .
فقال له رسول لله (ص) : فإني أوصيك ، إذا أنت هممت بأمر فتدبر عاقبته ، فإن يك رشداً فأمضه ، وإن يك غياً فانته عنه» (3) .
وقال الصادق (ع) لرجل : «إنك قد جعلت طبيب نفسك ، وبين لك الداء ، وعرفت آية الصحة ، ودللت على الدواء ، فانظر كيف قياسك على نفسك» (4) .
وعن موسى بن جعفر (ع) عن آبائه عليهم السلام قال : «قال أمير المؤمنين (ع) : إن رسول الله (ص) بعث سرية ، فلما رجعوا قال : مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر ، وبقي عليهم الجهاد الأكبر .
قيل : يا رسول الله ، وما الجهاد الأكبر ؟ قال : جهاد النفس . ثم قال : أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه» (5) .

دستور المحاسبة

لقد ذكر المعنيون بدراسة الأخلاق دستور المحاسبة والمراقبة بأسلوب

(1) الوافي الجزء الثالث ص 62 عن الكافي .
(2) الوافي ج 3 ص 62 عن الكافي .
(3) ، (4) الوافي ج 3 ص 62 عن الكافي .
(5) البحار م 15 ج 2 ص 40 عن معاني الأخبار وأمالي الصدوق .

السابق السابق الفهرس التالي التالي