أخلاق أهل البيت 135

3 ـ إن حب البقاء في الدنيا ليس مذموماً ، وإنما يختلف بالغايات والأهداف ، فمن أحبه لغاية سامية ، كالتزود من الطاعة ، واستكثار الحسنات ، فهو مستحسن . ومن أحبه لغاية دنيئة ، كممارسة الآثام ، واقتراف الشهوات ، فذلك ذميم مقيت ، كم قال زين العابدين (ع) : «عمرني ما كان عمري بذلة في طاعتك ، فإذا كان عمري مرتعاً للشيطان فاقبضني إليك» .
ونستخلص مما أسفلناه أن الدنيا المذمومة هي التي تخدع الإنسان ، وتصرفه عن طاعة الله تعالى ، والتأهب للحياة الأخروية .
ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا وأقبح الكفر والإفلاس في الرجل

مساوئ الاغترار بالدنيا

1 ـ من أبرز مساوئ الغرور انه حجاباً حاجزاً بين العقل وواقع الإنسان ، فلا يتبين آنذاك نقائصه ومساويه ، من جشع ، وحرص ، وتكالب على الحياة ، مما يسبب نقصه وذمه .
2 ـ إن الغرور يشقي أربابه ، ويدفعهم إلى معاناة الحياة ، ومصارعتها ، دون اقتناع بالكفاف ، أو نظر لزوالها المحتوم ، مما يظنيهم ويشقيهم ، كما صوره الخبر الآنف الذكر : «مثل الحريص على الدنيا مثل دودة القز ، كما ازدادت على نفسها لفاً ، كان أبعد لها من الخروج حتى تموت غماً» .
3 ـ والغرور بعد هذا وذاك ، من أقوى الصوارف والملهيات عن التأهب للآخرة والتزود من الأعمال الصالحة ، الموجبة للسعادة الأخروية ، ونعيمها الخالد .
قال تعالى : «فأما من طغى ، وآثر الحياة الدنيا ، فإن الجحيم هي المأوى ، وأما من خاف مقام ربه ، ونهى النفس عن الهوى ، فإن الجنة هي المأوى» (النازعات : 37 ـ 41) .

علاج هذا الغرور

وهو كما يلي مجملاً :

أخلاق أهل البيت 136

1 ـ استعراض الآيات والنصوص الواردة في ذم الغرور بالدنيا وأخطاره الرهيبة .
2 ـ إجماع الأنبياء والأوصياء والحكماء على فناء الدنيا ، وخلود الآخرة ، فجدير بالعاقل أن يؤثر الخالد على الفاني ، ويتأهب للسعادة الأبدية والنعيم الدائم ، «بل تؤثرون الحياة الدنيا ، والآخرة خير وأبقى ، إن هذا لفي الصحف الأولى ، صحف إبراهيم وموسى» (الأعلى : 16 ـ 19) .
3 ـ الإفادة من المواعظ البليغة ، والحكم الموجهة ، والقصص الهادفة المعبرة عن ندم الطغاة والجبارين ، على اغترارهم في الدنيا ، وصرف أعمارهم باللهو والفسوق .
ومن أبلغ العظات وأقواها أثراً في النفس كلمة أمير المؤمنين لابنه الحسن (ع) : «أحيي قلبك بالموعظة ، وأمته بالزهادة ، وقوة باليقين ، ونوره بالحكمة ، وذلله بذكر الموت ، وقرره بالفناء ، وبصره فجائع الدنيا ، وحذره صولة الدهر ، وفحش تقلب الليالي والأيام ، واعرض عليه أخبار الماضين ، وذكره بما أصاب من كان قبلك من الأولين ، وسر في ديارهم وآثارهم ، فانظر فيما فعلوا ، وعما انتقلوا ، وأين حلوا ونزلوا ، فإنك تجدهم قد انتقلوا عن الأحبة ، وحلوا ديار الغربة ، وكأنك عن قليل قد صرت كأحدهم ، فأصلح مثواك ، ولا تبع آخرتك بدنياك» (1) .
ومن روائع الحكم التشبيه التالي :
«فقد شبه الحكماء الإنسان وإنهماكه في الدنيا ، واغتراره بها ، وغفلته عما وراءها ، كشخص مدلىً في بئر ، ووسطه مشدود بحبل ، وفي أسفل ذلك البئر ثعبان عظيم ، متوجه إليه ، منتظر لسقوطه ، فاتح فاه لالتقامه ، وفي أعلى ذلك البئر جرذان أبيض وأسود ، لا يزالان يقرضان ذلك الحبل ، شيئاً فشيئاً ، ولا يفتران عن قرضه آناً ما ، وذلك الشخص مع رؤيته ذلك الثعبان ، ومشاهدته لانقراض الحبل آناً فآناً ، قد أقبل على قليل عسل ، قد لطخ به جدار ذلك البئر

(1) نهج البلاغة في وصيته (ع) لابنه الحسن .
أخلاق أهل البيت 137

وامتزج بترابه ، واجتمع عليه زنابير كثيرة ، وهو مشغول بلطعه ، منهمك فيه ، متلذذ بما أصاب منه ، مخاصم لتلك الزنابير التي عليه ، قد صرف جميع باله إلى ذلك ، فهو غير ملتفت إلى ما فوقه وما تحته .
فالبئر هو الدنيا ، والحبل هو العمر ، والثعبان الفاتح فاه هو الموت ، والجرذان هما الليل والنهار القارضان للأعمار ، والعسل المختلط بالتراب هو لذات الدنيا الممزوجة بالكدر والآثام ، والزنابير هم أبناء الدنيا المتزاحمون عليها» ز
ومن العبر البالغة في تصرم الحياة وإن طالت : ما روى أن نوحاً (ع) عاش ألفين وخمسمائة عام ، ثم إن ملك الموت جاءه وهو في الشمس ، فقال : السلام عليك . فرد عليه نوح (ع) وقال هل : ما حاجتك يا ملك الموت ؟ قال : جئت لأقبض روحك . فقال له : تدعني أتحول من الشمس إلى الظل . فقال له : نعم . فتحول نوح (ع) ثم قال : يا ملك الموت فكأن ما مر بي في الدنيا مثل تحولي من الشمس إلى الظل !! فامض لما أمرت به . فقبض روحه (ع) .
ومن عبر الطغاة والجبارين ما قاله المنصور لما حضرته الوفاة «بعنا الآخرة بنومة» .
وردد هارون الرشيد وهو ينتقي أكفانه عند الموت : «ما أغنى عني ماليه ، هلك عني سلطانيه» (الحاقة : 28 ـ 29) .
وقيل لعبد الملك بن مروان في مرضه : كيف تجدك يا أبا مروان ؟ قال : أجدني كما قال الله تعالى : «ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم» (الأنعام : 94) .
ورآى زيتون الحكيم رجلاً على شاطئ البحر مهموماً محزوناً ، يتلهف على الدنيا ، فقال له : يا فتى ما تلهفك على الدنيا ؟! لو كنت في غاية الغنى ، وأنت راكب لجة البحر ، وقد انكسرت بك السفينة ، وأشرفت على الغرق ، أما كانت غاية مطلوبك النجاة ، وإن يفوتك كل ما يبدك . قال : نعم .
قال : ولو كنت ملكاً على الدنيا ، وأحاط بك من يريد قتلك ، أما كان مرادك النجاة من يده ، ولو ذهب جميع ما تملك . قال : نعم .

أخلاق أهل البيت 138

قال : فأنت ذلك الغني الآن ، وأنت ذلك الملك ، فتسلى الرجل بكلامه .
وقال بعض العارفين لرجل من الأغنياء : كيف طلبك للدنيا ؟ فقال : شديد . قال : فهل أدركت منها ما تريد ؟ قال : لا . قال : هذه التي صرفت عمرك في طلبها لم تحصل منها على ما تريد فكيف التي لم تطلبها !!
ولا ريب أن تلك العظات لا تنجع إلا في القلوب السليمة ، والعقول الواعية ، أما الذين إسترقتهم الحياة ، وطبعت على قلوبهم ، فلا يجديهم أبلغ المواعظ ، كما قال بعض العارفين : إذا أشرب القلب حب الدنيا لم نجع فيه كثرة المواعظ ، كما أن الجسد إذا استحكم فيه الداء ، لم ينجع فيه كثرة الدواء

(ب) غرور العلم


ومن صور الغرور ومفاتنه ، الاغترار بالعلم ، واتساع المعارف ، مما يثير في بعض الفضلاء الزهو والتيه ، والتنافس البشع على الجاه ، والتهالك على الأطماع ، ونحوها من الخلال المقيتة ، التي لا تليق بالجهال فضلاً عن العلماء .
وربما أفرط بعضهم في الزهو والغرور ، فجن بجنون العظمة ، والتطاول على الناس بالكبر والإزدراء .
وفات المغترين بالعلم أن العلم ليس غاية في نفسه ، وإنما هو وسيلة لتهذيب الإنسان وتكامله ، وإسعاده في الحياتين الدنيوية والأخروية ، فإذا لم يحقق العلم تلك الغايات السامية ، كان جهداً ضائعاً ، وعناءاً مرهقاً ، وغروراً خادعاً : «مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً» (الجمعة : 5) .
وقد أحسن الشاعر حيث يقول :
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولوعظموه في النفوس لعظما
ولكن أهانـوه فهـان وجهمـوا محياه بالأطماع حتى تجهـما

فالعلم كالغيث ينهل على الأرض الطيبة ، فيحيلها جناناً ورافة ، تزخر الخير والجمال ، وينهل على الأرض السبخة فلا يجديها نفعاً :

أخلاق أهل البيت 139

وهكذا يفيئ العلم على الكرام طيبة وبهاءاً ، وعلى اللئام خبثاً ولؤماً .
وكيف يغتر العالم بعلمه ، ولم يكن الوحيد في مضماره ، فقد عرف الناس قديما وحديثا علماء أفذاذاً جلوا في ميادين العلم ، وحلقوا في آفاقه ، وكانت لهم مآثرهم العلمية الخالدة .
وعلام الاغترار بالعلم ، ومسؤولية العالم خطيرة ، ومؤاخذته أشد من الجاهل ، والحجة عليه الزم ، فإن لم يهتد بنور العلم ، ويعمل بمقتضاه ، كان العلم وبالاً عليه ، وغدا قدوة سيئة للناس .
انظر كيف يصور أهل البيت عليهم السلام جرائر العلماء المنحرفين ، وأخطارهم :
فعن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السلام قال : قال رسول الله (ص) : «صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت أمتي ، وإذا فسدا فسدت أمتي . قيل : يا رسول الله ومن هما ؟ قال : الفقهاء والأمراء» (1) .
وقال الصادق (ع) : «يغفر للجاهل سبعون ذنباً ، قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد» (2) .
وقال النبي (ص) : «يطلع قوم من أهل الجنة إل قوم من أهل النار ، فيقولون : ما أدخلكم النار وقد دخلنا الجنة لفضل تأدببكم وتعليمكم ؟ فيقولون : إنا كنا نأمر بالخير ولا نفعله» (3) .
فجدير بالعلماء والفضلاء أن يكونوا قدوة حسنة للناس ، ونموذجاً للخلق الرفيع ، وان يتفادوا ما وسعهم مزالق الغرور ، وخلاله المقيتة ، وأن يستشعروا الآية الكريمة :
«تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين» (القصص : 83) .

(1) البحار م 1 ص 83 عن خصال الشيخ الصدوق .
(2) الوافي مجلد العقل والعلم ص 52 عن الكافي .
(3) الوافي في وصيته (ص) لأبي ذر .
أخلاق أهل البيت 140

(ج) غرور الجاه


ويعتبر الجاه والسلطة من أقوى دواعي الغرور ، وأشد بواعثه ، فترى المتسلطين يتيهون على الناس زهواً وغروراً ، ويستذلون كراماتهم صلفاً وكبراً .
وقد عاش الناس هذه المأساة في غالب العصور ، وعانوا غرور المتسلطين وتحديهم ، بأسى ولوعة بالغين .
وفات هؤلاء المغرورين بمفاتن السلطة والزعامة ، إن الإسراف في الغرور والأنانية أمر يستنكره الإسلام ويتوعد عليه بصنوف الإنذار والوعيد ،في عاجل الحياة وآجلها ، كما يعرضهم لمقت الناس وغضبهم ولعنهم ، ويخسرون بذلك أغلى وأخلد مآثر الحياة : حب الناس وعطفهم ، وكان عليهم أن يستغلوا جاههم ، ونفوذهم في استقطاب الناس ، وتوفير رصيدهم الشعبي ، وكسب عواطف الجماهير وودهم .
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإحسان إنساناً

وأقوى عامل على تخفيف حدة هذا الغرور ، وقمع نزواته العارمة ، هو التأمل والتفكر فيما ينتاب هؤلاء المغرورين من صروف الدهر ، وسطوة الأقدار ، وتنكر الزمان . فصاحب السلطان كراكب الأسد ، لا يدري أمد غضبه وافتراسه .
وقد زخر التاريخ بصنوف العبر والعظات الدالة على ذلك :
منها : ما ذكره عبد الله بن عبد الرحمن صاحب الصلاة بالكوفة ، قال : دخلت إلى أمي في يوم أضحى ، فرأيت عندها عجوزاً في أطمار رثة ، وذلك في سنة 190 ، فإذا لها لسان وبيان ، فقلت لأمي : من هذه ؟ قالت : خالتك عباية أم جعفر بن يحيى البركمي . فسلمت عليها ، وتحفيت بها ، وقلت : أصارك الدهر إلى ما أرى ؟!
فقالت : نعم يا بني ، إنا كنا في عوارى ارتجعها الدهر منا . فقلت : فحدثني ببعض شأنك .
فقالت : خذه جملة ، لقد مضى علي أضحى ، وعلى رأسي أربعمائة وصيفة ،

أخلاق أهل البيت 141

وأنا أزعم أن ابني عاق ، وقد جئتك اليوم أطلب جلدتي شاة ، اجعل إحداهما شعاراً ، والأخرى دثاراً .
قال فرققت لها ، ووهبت لها دراهم ، فكادت تموت فرحاً (1) .
ودخل بعض الوعاظ على الرشيد ، فقال : عظني ، فقال له : أتراك لو منعت شربة من ماء عن عطشك ، بم كنت تشتريها ؟ قال : بنص ملكي .
اتراها لو عند خروجها بم كنت تشتريها ؟ قال : بالنصف الباقي .
قال : فلا يغرنك ملك قيمته شربة ماء (2) .
فجدير بالعاقل أن يدرك أن جميع ما يزهو به ، ويدفعه على الغرور من مال ، أو علم ، أو جاه ، ونفوذ ، إنما هي نعم وألطاف إلهية أسداها المنعم الأعظم ، فهي أحرى بالحمد ، وأجدر بالشكر ، منها بالغرور والخيلاء .

الجاه بين المدح والذم

ليس طلب الجاه مذموماً على الإطلاق ، وإنما هو مختلف باختلاف الغايات والأهداف ، فمن طلبه لغاية مشروعة ، وهدف سام نبيل ، كنصرة المظلوم ، وعون الضعيف ، ودفع المظالم عن نفسه أو غيره ، فهو الجاه المحبب المحمود .
ومن توخاه للتسلط على الناس ، والتعالي عليهم ، والتحكم بهم ، فذلك هو الجاه الرخيص الذميم .
وقد تلتبس الغايات أحياناً في بعض صور الجاه ، كالتصدي لإمامة الجماعة ، وممارسة توجيه الناس وإرشادهم ، وتنسم المراكز الروحية الهامة .
فتتميز الغايات آنذاك بما يتصف به ذووها من حسن الإخلاص ، وسمو الغاية ، وحب الخير للناس ، أو يتسمون بالأنانية ، والانتهازية ، وهذا من صور الغرور الخادعة ، أعاذنا الله منها جميعاً .

(1) سفينة البحار م 2 ص 609 .
(2) لآلي التركاني .
أخلاق أهل البيت 142

(د) غرور المال


وهكذا يستثير المال كوامن الغرور ، ويعكس على أربابه صوراً مقيتة من التلبيس والخداع .
فهو يفتن الأثرياء من عشاق الجاه ، ويحفزهم على السخاء والأريحية ، بأموال مشوبة بالحرام ، ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً ، وهم مخدوعون مغرورون .
وقد يتعطف بعضهم على البؤساء والمعوزين جهراً ويشح عليهم سراً ، كسباً للسمعة والإطراء ، وهو مغرور مفتون .
ومنهم من يمتنع عن أداء الحقوق الإلهية المحتمة عليه بخلاً وشحاً ، مكتفياً بأداء العبادات التي لا تتطلب البذل والإنفاق ، كالصلاة والصيام ، زاعماً براءة ذمته بذلك ، وهو مفتون مغرور ، إذ يجب أداء الفرائض الإلهية مادية وعبادية ، ولكل فرض أهميته في عالم العقيدة والشريعة .
من أجل ذلك كان المال من أخطر بواعث الغرور ومفاتنه .
فعن الصادق (ع) قال : «يقول ابليس : ما أعياني في ابن آدم فلن يعيني منه واحدة من ثلاثة : أخذ مال من غير حله ، أو منعه من حقه ، أو وضعه في غير وجهه» (1) .
وعن أمير المؤمنين (ع) قال : «قال رسول الله (ص) : «إن الدينار والدرهم أهلكا من كان قبلكم ، وهما مهلكاكم» (2) .

المال بين المدح والذم

للمال محاسنه ومساوئه ، ومضاره ومنافعه ، فهو يسعد ويشقي أربابه تبعاً لوسائل كسبه وغايات إنفاقه .
فمن محاسنه : أنه الوسيلة الفعالة لتحقيق وسائل العيش ، ونيل مآرب

(1) عن خصال الصدوق (ره) .
(2) الوافي ج 3 ص 152 عن الكافي .
أخلاق أهل البيت 143

الحياة ، وأشواقها المادية ، والسبب القوي في عزة ملاكه واستغنائهم عن لئام الناس ، والذريعة الهامة في كسب المحامد والأمجاد ، كما قال الشريف الرضي رحمه الله :
أشـــتر العــــز بما بيـــع فمـــا العـــــز بغالـــــي
بالقصــــــار الصفـــر إن شـــئت أو السـمر الطـــــوال
لـيس بالمغبــون عقــــــلاً مـن شـــرى عـــزاً بمــــال
إنمـــا يدخـــــر المـــال لحاجـــــــات الرجــــــال
والفتــى من جعـــل الأمــوال أثمـــــــان المـعالــــــي

كما أن المال من وسائل التزود للآخرة ، وكسب السعادة الأبدية فيها .
ومن مساوئ المال : أنه باعث على التورط في الشبهات ، واقتراف المحارم والآثام ، كاكتسابه بوسائل غير مشروعة ، أو منع الحقوق الإلهية المفروضة عليه ، أو إنفاقه في مجالات الغواية والمنكرات ، كما أوضحت غوائله النصوص السالفة .
وهو إلى ذلك من أقوى الصوارف والملهيات عن ذكر الله عزوجل ، والتأهب للحياة الأخروية الخالدة .
«يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ، ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون» (المنافقون : 9) .
فليس المال مذموماً إطلاقاً ، وإنما يختلف باختلاف وسائله وغاياته ، فإن صحت ونبلت كان مدعاة للحمد والثناء ، وإن هبطت وأسفت كان مدعاة للذم والاستنكار .
ولما كانت النفوس مشغوفة بالمال ، مولعة بجمعه واكتنازه ، فحري بالمؤمن الواعي المستنير ، أن لا ينخدع ببريقه ، ويغتر بمفاتنه ، وأن يتعظ بحرمان المغرورين به ، والحريصين عليه ، من كسب المثوبة في الآخرة ، وإفلاسهم مما زاد عن حاجاتهم وكفافهم في الدنيا ، فإنهم خزان أمناء ، يكدحون ويشقون في ادخاره ، ثم يخلفونه طعمة سائغة للوارثين ، فيكون عليهم الوزر ولأبنائهم المهنى والاغتباط .

أخلاق أهل البيت 144

(هـ) غرور النسب :


وقد يغتر بعضهم برفعة أنسابهم ، وانحدارهم من سلالة أهل البيت (ع) ، فيحسبون أنهم ناجون بزلفاهم ، وإن انحرفوا عن نهجهم ، وتعسفوا طرق الغواية والضلال .
وهو غرور خادع حيث أن الله تعالى يكرم المطيع ولو كان عبداً حبشياً ، ويهين العاصي ولو كان سيداً قرشياً .
وما نال أهل البيت عليهم السلام تلك المآثر الخالدة ونالوا شرف العزة والكرامة عند الله عزوجل إلا باجتهادهم في طاعة الله ، وتفانيهم في مرضاته .
فاغترار الأبناء بشرف آبائهم وعراقتهم ، وهم منحرفون عن سيرتهم ، من أحلام اليقظة ومفاتن الغرور .
أرأيت جاهلاً غدا عالماً بفضيلة آبائه ؟ أو جباناً صار بطلاً بشجاعة أجداده ؟ أو لئيماً عاد سخياً معطاءاً بجود أسلافه ؟ كلا ، ما كان الله تعالى ليساوي بين المطيع والعاصي ، وبين المجاهد والوادع .
أنظر كيف يقص القرآن الكريم ضراعة نوح (ع) إلى ربه في استشفاع وليده الحبيب ونجاته من غمرات الطوفان الماحق ، فلم يجده ذلك لكفر ابنه وغوايته : «ونادى نوح به ، فقال : رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين . قال : يا نوح إنه ليس من أهلك ، إنه عمل غير صالح ، فلا تسألن ما ليس لك به علم ، إني أعظك أن تكون من الجاهلين» (هود : 45 ـ 46) .
واستمع إلى سيد المرسلين (ص) كيف يملي على أسرته الكريمة درساً خالداً في الحث على طاعة الله تعالى وتقواه ، وعدم الاغترار بشرف الأنساب والأحساب ، كما جاء عن أبي جعفر (ع) أنه قال : «قام رسول الله (ص) على الصفا ، فقال : يا بني هاشم يا بني عبد المطلب ، إني رسول الله إليكم ، وإني شفيق عليكم ، وإن لي عملي ، ولكل رجل منكم عمله ، لا تقولوا إن محمداً منا ، وسندخل مدخله ، فلا والله ما أوليائي منكم ، ولا من غيركم يا بني عبد المطلب

أخلاق أهل البيت 145

إلا المتقون ، ألا فلا أعرفكم يوم القيامة تأتون تحملون الدنيا على ظهوركم ، ويأتي الناس يحملون الآخرة ، ألا إني قد أعذرت إليكم ، فيما بيني وبينكم ، وفيما بيني وبين الله تعالى فيكم» (1) .
فجدير بالعاقل أن يتوقى فتنة الغرور بشرف الأنساب ، وأن يسعى جاهداً في تهذيب نفسه وتوجيهها وجهة الخير والصلاح ، متمثلاً قول الشاعر :
إن الفتى من يقول ها أنذا ليس الفتى من يقول كان أبي

الحسد

وهو : تمني زوال نعمة المحسود ، وانتقالها للحاسد ، فإن لم يتمن زوالها بل تمنى نظيرها ، فهو غبطة ، وهي ليست ذميمة .
والحسد من أبشع الرذائل وألأم الصفات ، وأسوأ الانحرافات الخلقية أثراً وشراً ، فالحسود لا ينفك عن الهم والعناء ، ساخطاً على قضاء الله سبحانه في رعاية عبيده ، وآلائه عليهم ، حانقاً على المحسود ، جاهداً في كيده ، فلا يستطيع ذلك ، فيعود وبال حسده عليه ، ويرتد كيده في نحره .
ناهيك في ذم الحسد والحساد ، وخطرها البالغ ، إن الله تعالى أمر بالاستعاذة من الحاسد ، بعد الاستعاذة من شر ما خلق قائلاً : «ومن شر حاسد إذا حسد» (الفلق : 5) .
لذلك تكاثرت النصوص في ذمه والتحذير منه :
قال رسول الله (ص) : «الحسد يأكل الحسنات ، كما تأكل النار الحطب» (2) .
وقال أمير المؤمنين (ع) : «ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من الحاسد ، نفس دائم ، وقلب هائم ، وحزن لازم» (3) .

(1) الوافي ج 3 ص 60 عن الكافي .
(2) البحار م 15 ج 3 عن المجازات النبوية ، وجاء في الكافي عن الصادق (ع) «يأكل الإيمان» بدل الحسنات .
(3) البحار م 15 ج 3 ص 131 عن كنز الكراجكي .
أخلاق أهل البيت 146

وقال الحسن بن علي (ع) : «هلاك الناس في ثلاث : الكبر ، والحرص ، والحسد .
فالكبر : هلاك الدين وبه لعن إبليس .
والحرص : عدو النفس ، وبه أخرج آدم من الجنة .
والحسد : رائد السوء ، ومنه قتل قابيل هابيل» (1) .
وقال رسول الله (ص) ذات يوم لأصحابه : «ألا إنه قد دب إليكم داء الأمم من قبلكم وهو الحسد ، ليس بحالق الشعر ، لكنه حالق الدين ، وينجي منه أن يكف الإنسان يده ، ويخزن لسانه ، ولا يكون ذا غمز على أخيه المؤمن» (2) .

بواعث الحسد

للحسد أسباب وبواعث نجملها في النقاط التالية :
1 ـ خبث النفس :
فهناك شذاذ طبعوا على الخبث واللؤم ، فنراهم يحزنون بمباهج الناس وسعادتهم ، ويسرون بشقائهم ومآسيهم ، ومن ثم يحسدونهم على ما آتاهم الله من فضله ، وإن لم يكن بينهم ترة أو عداء ، وذلك لخبثهم ولؤم طباعهم .
2 ـ العداء :
وهو أقوى بواعث الحسد ، وأشدها صرامة على مكايدة الحسود واستلاب نعمته .
3 ـ التنافس :
بين أرباب المصالح والغايات المشتركة : كتحاسد أرباب المهن المتحدة وتحاسد الأبناء في الحظوة لدى آبائهم ، وتحاسد بطانة الزعماء والأمراء في الزلفى لديهم .

(1) عن كشف الغمة .
(2) البحار م 15 ج 3 ص 131 عن مجالس الشيخ المفيد وأمالي ابن الشيخ الطوسي .
أخلاق أهل البيت 147

وهكذا تكثر بواعث الحسد بين فئات تجمعهم وحدة الأهداف والروابط ، فلا تجد تحاسداً بين متباينين هدفاً واتجاهاً ، فالتاجر يحسد نظيره التاجر دون المهندس والزارع .
4 ـ الأنانية :
وقد يستحوذ الحسد على ذويه بدافع الأثرة والأنانية ، رغبة في التفوق على الأقران ، وحباً بالتفرد والظهور .
5 ـ الازدراء :
وقد ينجم الحسد عن ازدراء الحاسد للمحسود ، مستكثراً نعم الله عليه ، حاسداً له على ذلك .
وربما اجتمعت بواعث الحسد في شخص ، فيغدو آنذاك بركاناً ينفجر حسداً وبغياً ، يتحدى محسوده تحدياً سافراً مليئاً بالحنق واللؤم ، لا يستطيع كتمان ذلك ، مما يجعله شريراً مجرماً خطيراً .

مساوئ الحسد

يختص الحسد بين الأمراض الخلقية بأنه أشدها ضرراً ، وأسوأها مغبةً في دين الحاسد ودنياه .
1 ـ فمن أضراره العاجلة في دنيا الحاسد ، أنه يكدر عليه صفو الحياة ويجعله قرين الهم والعناء ، لتبرمه بنعم الله على عباده ، وهي عظيمة وفيرة وذلك ما يشفيه ، ويقتاضاه عللاً صحية ونفسية ماحقة .
كما يفجعه في أنفس ذخائر الحياة : في كرامته ، وسمعته ، فتراه ذميماً محقراً ، منبوذاً تمقته النفوس ، وتنبذه الطباع .
ويفجعه كذلك في أخلاقه ، فتراه لا يتحرج عن الوقيعة بمحسوده ، بصنوف التهم والأكاذيب المحرمة في شرعة الأخلاق ، ولا يألو جهداً في إثارة الفتن المفرقة بينه وبين أودائه ، وذوي قرباه ، نكاية به وإذلالاً له .
وأكثر الناس استهدافاً للحسد ، ومعاناة لشروره وأخطاره ، اللامعون

أخلاق أهل البيت 148

المتفوقون من أرباب العلم والفضال ، لما ينفسه الحساد عليهم من سمو المنزلة ، وجلالة القدر ، فيسعون جاهدين في ازدرائهم واستنقاصهم ، وشن الحملات الظالمة عليهم .
وهذا هو سر ظلامة الفضلاء ، وحرمانهم من عواطف التقدير والإعزاز ، وربما طاشت سهام الحسد ، فأخلفت ظن الحاسد ، وعادت عليه باللوعة والأسى ، وعلى المحسود بالتنويه والإكبار كما قال أبو تمام :
وإذا أراد الله نشـر فضيلــة طويت أتاح لها لسـان حسـود
لولا اشتعال النار فيما جاروت ما كان يعرف طيب عرف العود
لولا التخوف للعواقب لم يزل للحاسـد النعمى على المحسـود

ويقول الآخر :
إصـبر على حسد الحسـود فـإن صــبرك قاتــــله
فالنـار تأكـل بعضـــها إن لم تجـــد ما تأكـــله

2 ـ وأما أضرار الحسد الآجلة :
فقد عرفت ما يتذرع به الحاسد من صنوف الدس والتخريب في الوقيعة بالمحسود ، وهدر كرامته . وهذا ما يعرض الحاسد لسخط الله تعالى وعقابه ، ويأكل حسناته كما تأكل النار الحطب .
هذا إلى تنمر الحاسد ، وسخطه على مشيئة الله سبحانه ، في إغداق نعمه على عباده ، وتلك جرأة صارخة تبوئه السخط والهوان .

علاج الحسد

وإليك بعض النصائح العلاجية للحسد :
1 ـ ترك تطلع المرء إلى من فوقه سعادة ورخاءً وجاهاً ، والنظر إلى من دونه في ذلك ، ليستشعر عناية الله تعالى به ، وآلائه عليه ، فتخف بذلك نوازع الحسد وميوله الجامحة .
2 ـ تذكر مساوئ الحسد ، وغوائله الدينية والدنيوية ، وما يعانيه الحساد

أخلاق أهل البيت 149

من صنوف المكاره والأزمات .
3 ـ مراقبة الله تعالى ، والإيمان بحكمة تدبيره لعباده ، والاستسلام لقضائه ، متوقياً بوادره الحسد ، ومقتضياته الأثيمة من ثلب المحسود والإساءة إليه ، كما قال (ص) : «وينجي منه أن يكف الإنسان يده ، ويخزن لسانه ، ولا يكون ذا غمز على أخيه المؤمن» .
ولو لم يكن في نبذ الحسد إلا استهجانه ، والترفع عن الاتصاف بمثالبه المقيتة ، لوجب نبذه ومجافاته .
وجدير بالآباء أن لا يميزوا بين أبنائهم في شمول العناية والبر ، فيبذروا في نفوسهم سموم الحسد ، ودوافعه الأثيمة .


الغيبة

وهي : ذكرالمؤمن المعين بما يكره ، سواءً أكان ذلك في خلقه ، أو خلقه ، أو مختصاته .
وليست الغيبة محصورة باللسان ، بل تشمل كل ما يشعر باستنقاص الغير ، قولاً أو عملاً ، كتابة أو تصريحاً .
وقد عرفها الرسول الأعظم (ص) قائلاً : هل تدرون ما الغيبة ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : «ذكرك أخاك بما يكره» .
قيل له : أرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال : «ان كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه فقد بهته» .
وهي من أخس السجايا ، وألأم الصفات ، وأخطر الجرائم والآثام ، وكفاها ذماً أن الله تعالى شبه المغتاب بآكل لحم الميتة ، فقال : «ولا يغتب بعضكم بعضاً ، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه» (الحجرات : 12) .
وقال سبحانه ناهياً عنها : «لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم ، وكان الله سميعاً عليماً» (النساء : 148) .

السابق السابق الفهرس التالي التالي