أخلاق أهل البيت 120

« من عرضت له فاحشة ، او شهوة فاجتنبها من مخافة الله عز وجل ، حرم الله عليه النار ، وآمنه من الفزع الاكبر ، وانجز له ما وعده في كتابه ، في قوله عز وجل : «ولمن خاف مقام ربه جنتان» (الرحمن : 46)» (1)
وقال بعض الحكماء : مسكين ابن آدم ، لو خاف من النار كما يخاف من الفقر لنجا منهما جميعاً ، ولو رغب في الجنة كما رغب في الدنيا لفاز بهما جميعاً ، ولو خاف الله في الباطن كما يخاف خلقه في الظاهر لسعد في الدارين جميعاً .
ودخل حكيم على المهدي العباسي فقال له : عظني . فقال : اليس هذا المجلس قد جلس فيه ابوك وعمك قبلك ؟ قال : نعم . قال : فكانت لهم اعمال ترجو لهم النجاة بها ؟ قال : نعم . قال : فكانت لهم اعمال تخاف عليهم الهلكة منها ؟ قال : نعم . قال : فانظر ما رجوت لهم فيه فآته ، وما خفت عليهم منه فاجتنبه .
الخوف بين المد والجزر

لقد صورت الايات الكريمة ، والاخبار الشريفة ، اهمية الخوف ، واثره في تقويم الانسان وتوجيهه وجهة الخير والصلاح ، وتأهيله لشرف رضا الله تعالى وانعامه .
بيد ان الخوف كسائر السجايا الكريمة ، لا تستحق الاكبار والثناء ، الا اذا اتسمت بالقصد والاعتدال ، الذي لا افراط فيه ولا تفريط .
فالافراط في الخوف يجدب النفس ، ويدعها يباباً من نضارة الرجاء ، ورونقه البهيج ، ويدع الخائف آيساً آبقاً موغلاً في الغواية والضلال ، ومرهقاً نفسه في الطاعة والعبادة حتى يشقيها وينهكها .
والتفريط فيه باعث على الاهمال والتقصير ، والتمرد على طاعة الله تعالى واتباع دستوره .
ويتعادل الخوف والرجاء تنتعش النفس ، ويسمو الضمير ، وتتفجر

(1) البحار م 15 ص 113 عن الفقيه .
أخلاق أهل البيت 121

الطاقات الروحية ، للعمل الهادف البناء .
كما قال الصادق (ع) : «أرج الله رجاءاً لا يجرئك على معاصيه ، وخف الله خوفاً لا يؤيسك من رحمته» (1)

محاسن الخوف

قيم السجايا الكريمة بقدر ما تحقق في ذويها من مفاهيم الانسانية الفاضلة ، وقيم الخير والصلاح ، وتؤهلهم للسعادة والرخاء . وبهذا التقييم يحتل الخوف مركز الصدارة بين السجايا الاخلاقية الكريمة ، وكانت له اهمية كبرى في عالم العقيدة والايمان ، فهو الذي يلهب النفوس ، ويحفزها على طاعة الله عز وجل ، ويفطمها من عصيانه ، ومن ثم يسمو بها الى منازل المتقين الابرار .
وكلما تجاوبت مشاعر الخشية والخوف في النفس ، صقلتها وسمت بها الى اوج ملائكي رفيع ، يحيل الانسان ملاكاً في طيبته ومثاليته ، كما صوره امير المؤمنين (ع) وهو يقارن بين الملك والانسان والحيوان ، فقال : «ان الله عز وجل ركب في الملائكة عقلاً بلا شهوة ، وركب في البهائم شهوة بلا عقل ، وركب في بني آدم كليهما .
فمن غلب عقله شهوته ، فهو خير من الملائكة ، ومن غلب شهوته عقله فهو شر من البهائم» (2) .
من اجل ذلك نجد الخائف من الله تعالى يستسهل عناء طاعته ، ويستحلي مرارتها ، ويستوخم حلاوة المعاصي والاثام ، خشية من سخطه وخوفاً من عقابه .
وبهذا يسعد الانسان ، وتزدهر حياته المادية والروحية ، كما انتظم الكون ، واتسقت عناصره السماوية والارضية ، بخضوعه لله عز وجل ، وسيره على وفق نظمه وقوانيه .
« من عمل صالحا من ذكر او انثى وهو مؤمن ، فلنحيينه حياة طيبة

(1) البحار م 15 ج 2 ص 188 عن امالي الصدوق .
(2) علل الشرائع .
أخلاق أهل البيت 122

ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون» (النحل : 97) .
وما هذه المآسي والأرزاء التي تعيشها البشرية اليوم من شيوع الفوضى وانتشار الجرائم ، واستبداد الحيرة والقلق ، والخوف بالناس إلا لاعراضهم عن الله تعالى ، وتنكبهم عن دستوره وشريعته .
«ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون» (الأعراف : 96) .

كيف نستشعر الخوف

يجدر بمن ضعف فيه شعور الخوف إتباع النصائح التالية :
1 ـ تركيز العقيدة ، وتقوية الإيمان بالله تعالى ، ومفاهيم المعاد والثواب والعقاب ، والجنة والنار ، إذ الخوف من ثمرات الإيمان وانعكاساته على النفس «إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً ، وعلى ربهم يتوكلون» (الأنفال : 2) .
2 ـ استماع المواعظ البليغة ، والحكم الناجعة ، الموجبة للخوف والرهبة .
3 ـ دراسة حالات الخائفين وضراعتهم وتبتلهم إلى الله عزوجل ، خوفاً من سطوته ، وخشية من عقابه .
وإليك أروع صورة للضراعة والخوف وهي مناجاة الإمام زين العابدين (ع) في بعض أدعيته :
«ومالي لا أبكي !! ولا أدري إلى ما يكون مصيري ، وأرى نفسي تخادعني ، وأيامي تخاتلني ، وقد خفقت عند رأسي أجنحة الموت ، فمالي لا أبكي ، أبكي لخروج نفسي ، أبكي لظلمة قبري ، أبكي لضيق لحدي ، أبكي لسؤال منكر ونكير إياي ، أبكي لخروجي من قبري عرياناً ذليلاً حاملاً ثقلي على ظهري ، انظر مرة عن يميني ، واخرى عن شمالي ، اذ الخلائق في شأن غير شأني « لكل امريء منهم يومئذ شأن يغنيه ، وجوه يومئذ مسفرة ، ضاحكة مستبشرة ، ووجوه يومئذ عليها غبرة ، ترهقها قترة» (عبس : 37 ـ41) » .

أخلاق أهل البيت 123

طرف من قصص الخائفين

عن الباقر (ع) قال : «خرجت امرأة بغي على شباب من بني إسرائيل فأفتنتهم ، فقال بعضهم : لو كان العابد فلان رآها أفتنته ! ، وسمعت مقالتهم ، فقالت : والله لا أنصرف إلى منزلي ، حتى أفتنه . فمضت نحوه بالليل فدقت عليه ، فقالت : آوي عندك ؟ فأبى عليها فقالت : إن بعض شباب بني إسرائيل راودوني عن نفسي ، فإن أدخلتني وإلا لحقوني ، وفضحوني ، فلما سمع مقالتها فتح لها ، فلما دخلت عليه رمت بثيابها ، فلما رأى جمالها وهيئتها وقعت في نفسه ، فضرب يده عليها ، ثم رجعت إليه نفسه ، وقد كان يوقد تحت قدر له ، فأقبل حتى وضع يده على النار فقالت : أي شيء تصنع ؟ فقال : أحرقها لأنها عملت العمل ، فخرجت حتى أتت جماعة بني إسرائيل فقالت : الحقوا فلاناً فقد وضع يده على النار ، فأقبلوا فلحقوه وقد احترقت يده» (1) .
وعن الصادق (ع) : «إن عابداً كان في بني إسرائيل ، فأضافته إمرأة من بني إسرائيل ، فهم بها ، فأقبل كلما هم بها قرب إصبعاً من أصابعه إلى النار ، فلم يزل ذلك دأبه حتى أصبح ، قال لها : أخرجني لبئس الضيف كنت لي» (2) .


الرجاء من الله تعالى

وهو : انتظار محبوب تمهدت أسباب حصوله ، كمن زرع بذراً في أرض طيبة ، ورعاه بالسقي والمداراة ، فرجا منه النتاج والنفع .
فإن لم تتمهد الأسباب ، كان الرجاء حمقاً وغروراً ، كمن زرع أرضاً سبخة وأهمل رعايتها ، وهو يرجو نتاجها .
والرجاء : هو الجناح الثاني من الخوف ، اللذان يطير بهما المؤمن إلى آفاق طاعة الله ، والفوز بشرف رضاه ، وكرم نعمائه ، إذ هو باعث على الطاعة رغبةً كما يبعث الخوف عليها رهبة وفزعاً .
ولئن تساند الخوف والرجاء ، على تهذيب المؤمن ، وتوجيهه وجهة الخير

(1) ، (2) عن البحار م 5 عن قصص الأنبياء للقطب الراوندي .
أخلاق أهل البيت 124

والصلاح ، بيد أن الرجاء أعذب مورداً ، وأحلى مذاقاً من الخوف ، لصدوره عن الثقة بالله ، والاطمئنان بسعة رحمته ، وكرم عفوه ، وجزيل ألطافه .
وبديهي أن المطيع رغبة ورجاءاً ، أفضل منه رهبة وخوفاً ، لذلك كانت تباشير الرجاء وافرة ، وبواعثة جمة وآياته مشرقة ، وإليك طرفاً منها :
1 ـ النهي عن اليأس والقنوط :
قال تعالى : «قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ، إن الله يغفر الذنوب جميعاً ، إنه هو الغفور الرحيم» «الزمر : 53» .
وقال تعالى : «ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله ، إلا القوم الكافرون» «يوسف : 87» .
وقال أمير المؤمنين (ع) لرجل أخرجه الخوف إلى القنوط لكثرة ذنوبه : «أيا هذا ، يأسك من رحمة الله أعظم من ذنوبك» (1) .
وقال النبي (ص) : «يبعث الله المقنطين يوم القيامة ، مغلبةً وجوههم ، يعني غلبة السواد على البياض ، فيقال لهم : هؤلاء المقنطون من رحمة الله تعالى» (2) .
2 ـ سعة رحمة الله وعظيم عفوه :
قال تعالى : «فقل ربكم ذو رحمة واسعة» (الأنعام : 147) .
وقال تعالى : «وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم» (الرعد : 6) .
وقال تعالى : «إن الله لا يغفر أن يشرك به ، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء» (النساء : 48) .
وقال تعالى : «وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم ، كتب ربكم على نفسه الرحمة انه من علم منكم سوءاً بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم» (الزمر : 53) .

(1) جامع السعادات ج 1 ص 246 .
(2) سفينة البحار ج 2 ص 451 عن نوادر الراوندي .
أخلاق أهل البيت 125

وجاء في حديث عن النبي (ص) : «لو لا أنكم تذنبون فتستغفرون الله تعالى ، لأتى الله تعالى بخلق يذنبون ويستغفرون ، فيغفر لهم ، إن المؤمن مفتن تواب ، أما سمعت قول الله تعالى : «إن الله يحب التوابين» (البقرة : 222) الخبر» (1) .
توضيح : المفتن التواب : هو من يقترف الذنوب ويسارع إلى التوبة منها .
وقال الصادق (ع) : «إذا كان يوم القيامة ، نشر الله تبارك وتعالى رحمته حتى يطمع إبليس في رحمته» (2) .
وعن سليمان بن خالد قال : «قرأت على أبي عبد الله (ع) هذه الآية : «إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً ، فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات» (الفرقان : 70) .
فقال : هذه فيكم ، إنه يؤتي بالمؤمن المذنب يوم القيامة ، حتى يوقف بين يدي الله عزوجل ، فيكون هو الذي يلي حسابه ، فيوقفه على سيئاته شيئاً فشيئاً ، فيقول : عملت كذا في يوم كذا في ساعة كذا ، فيقول أعرف يا ربي ، حتى يوقفه على سيئاته كلها ، كل ذلك يقول : أعرف . فيقول سترتها عليك في الدنيا ، وأغفرها لك اليوم ، أبدلوها لعبدي حسنات .
قال : فترفع صحيفته للناس فيقولون : سبحان الله ! أما كانت لهذا العبد سيئة واحدة ، وهو قول الله عزوجل : «اولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات» (الفرقان : 70) (3) .
3 ـ حسن الظن بالله الكريم ، وهو أقوى دواعي الرجاء .
قال الرضا (ع) : «أحسن الظن بالله ، فإن الله تعالى يقول : أنا عند ظن عبدي بي ، إن خيراً فخيراً ، وإن شراً فشراً» (4) .

(1) الوافي ج 3 ص 51 عن الكافي .
(2) البحار مجلد 3 ص 274 عن أمالي الشيخ الصدوق .
(3) البحار مجلد 3 ص 274 عن محاسن البرقي .
(4) الوافي ج 3 ص 59 عن الكافي .
أخلاق أهل البيت 126

وقال الصادق (ع) : «آخر عبد يؤمر به إلى النار ، يلتفت ، فيقول الله عزوجل : اعجلوه (1) ، فإذا أتى به قال له : يا عبدي لم التفت ؟ فيقول : يا رب ما كان ظني بك هذا ، فيقول الله عزوجل : عبدي وما كان ظنك بي ؟ فيقول : يا رب كان ظني بك ظان تغفر لي خطيئتي وتسكنني جنتك . فيقول الله : ملائكتي وعزتي وجلالي وآلائي وبلائي وارتفاع مكاني ما ظن بي هذا ساعة من حياته خيراً قط ، ولو ظن بي ساعة من حياته خيراً ما روعته بالنار ، أجيزوا له كذبه وأدخلوه الجنة .
ثم قال أبو عبد الله (ع) : ما ظن عبد بالله خيراً ، إلا كان الله عند ظنه به ، ولا ظن به سوءاً إلا كان الله عند ظنه به ، وذلك قوله عزوجل : «وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين» (فصلت : 23) » (2) .
4 ـ شفاعة النبي والأئمة الطاهرين عليهم السلام لشيعتهم ومحبيهم :
عن الرضا عن آبائه عن أميرالمؤمنين (ع) قال : قال رسول الله (ص) : «إذا كان يم القيامة ولينا حساب شيعتنا ، فمن كانت مظلمته فيما بينه وبين الله عزوجل ، حكمنا فيها فأجابنا ، ومن كانت مظلمته فيما بينه وبين الناس استوهبناها فوهبت لنا ، ومن كانت مظلمته فيما بينه وبيننا كنا أحق من عفا وصفح» (3) .
وأخرج الثعلبي في تفسيره الكبير بالإسناد إلى جرير بن عبد الله البجلي قال : قال رسول الله (ص) : «ألا ومن مات على حب آل محمد مات شهيداً ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مغفوراً له ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات تائباً ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمناً مستكمل الإيمان ، ألا ومن مات على حب آل محمد بشره ملك الموت بالجنة ثم منكر ونكير ، ألا ومن مات على حب آل محمد يزف إلى الجنة كما تزف العروس إلى بيت زوجها ، ألا ومن مات على حب آل محمد فتح له في قبره بابان إلى الجنة ، ألا ومن مات

(1) أعجلوه : أي ردوه مستعجلاً .
(2) البحار م 3 ص 274 عن ثواب الأعمال للصدوق .
(3) البحار م 3 ص 301 عن عيون أخبار الرضا عليه السلام .
أخلاق أهل البيت 127

على حب آل محمد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات على السنة والجماعة .
ألا ومن مات على بغض آل محمد ، جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه : آيس من رحمة الله ... » .
وقد أرسله الزمخشري في تفسير آية المودة من كشافه إرسال المسلمات ، رواه المؤلفون في المناقب والفضائل مرسلاً مرة ومسنداً تارات (1) .
وأورد ابن حجر في صواعقه ص 103 حديثاً هذا لفظه :
«إن النبي (ص) خرج على أصحابه ذات يوم ، ووجهه مشرق كدائرة القمر ، فسأله عبد الرحمن بن عوف عن ذلك ، فقال (ص) : بشارة أتتني من ربي في أخي وابن عمي وابنتي ، بأن الله زوج علياً من فاطمة ، وأمر رضوان خازن الجنان فهز شجرة طوبى ، فحملت رقاقاً (يعني صكاكاً) بعدد محبي اهل بيتي ، وانشأ تحتها ملائكة من نور ، دفع الى كل ملك صكا ، فإذا استوت القيامة بأهلها ، نادت الملائكة في الخلائق ، فلا يبقى محب لأهل البيت ، إلا دفعت إليه صكاً فيه فكاكه من النار ، فصار أخي وابن عمي وابنتي فكاك رقاب رجال ونساء من أمتي من النار» (2) .
وجاء في الصواعق ص 96 لابن حجر : «أنه قال : لما أنزل الله تعالى «إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية ، جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ، رضي الله عنهم ورضوا عنه ، ذلك لمن خشي ربه» (البينة 7 ـ 8) قال رسول الله (ص) لعلي : هم أنت وشيعتك ، تأتي أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين ، ويأتي عدوك غضابى مقمحين» (3) .
5 ـ النوائب والأمراض كفارة لآثام المؤمن :

(1) الفصول المهمة للمرحوم آية الله السيد عبد الحسين شرف الدين .
(2) الفصول المهمة للإمام شرف الدين ص 44 .
(3) الفصول المهمة للإمام شرف الدين ص 39 .
أخلاق أهل البيت 128

قال الصادق (ع) : «يا مفضل إياك والذنوب ،وحذرها شيعتنا ، فوالله ما هي إلى أحد أسرع منها إليكم ، إن أحدكم لتصيبه المعرة من السلطان ، وما ذاك إلا بذنوبه ، وإنه ليصيبه السقم ، وما ذاك إلا بذنوبه ، وإنه ليحبس عنه الرزق وما هو إلا بذنوبه ، وإنه ليشدد عليه عند الموت ، وما هو إلا بذنوبه ، حتى يقول من حضر : لقد غم بالموت . فلما رأى ما قد دخلني ، قال : أتدري لم ذاك يا مفضل ؟ قال : قلت لا أدري جعلت فداك . قال : ذاك والله أنكم لا تؤاخذون بها في الآخرة وعدلت لكم في الدنيا» (1) .
وعن أبي عبد الله (ع) قال : قال رسول الله (ص) : «قال الله تعالى : وعزني وجلالي لا أخرج عبداً من الدنيا وأنا أريد أن أرحمه ، حتى أستوفي منه كل خطيئة عملها ، إما بسقم في جسده ، وإما بضيق في رزقه ، وإما بخوف في دنياه ، فإن بقيت عليه بقية ، شددت عليه عند الموت . . . » (2) .
وعن أبي جعفر (ع) قال : قال رسول الله (ص) : «ما يزال الغم والهم بالمؤمن حتى ما يدع له ذنباً» (3) .
وقال الصادق (ع) : «إن المؤمن ليهول عليه في نومه فيغفر له ذنوبه ، وإنه ليمتهن في بدنه فيغفر له ذنوبه» (4) .

واقع الرجاء

ومما يجدر ذكره : أن الرجاء كما أسلفنا لا يجدي ولا يثمر ، إلا بعد توفر الأسباب الباعثة على نجحه ، وتحقيق أهدافه ، وإلا كان هوساً وغروراً .
فمن الحمق أن يتنكب المرء مناهج الطاعة ، ويتعسف طرق الغواية والضلال ، ثم يمني نفسه بالرجاء ، فذلك غرور باطل وخداع مغرر .
ألا ترى عظماء الخلق وصفوتهم من الأنبياء والأوصياء والأولياء كيف تفانوا في طاعة الله عزوجل ، وانهمكوا في عبادته ، وهم أقرب الناس إلى كرم الله

(1) البحار م 3 ص 35 عن علل الشرائع للصدوق (ره) .
(2) ، (3) ، ( 4) الوافي ج 3 ص 172 عن الكافي .
أخلاق أهل البيت 129

وأرجاهم لرحمته .
إذاً فلا قيمة للرجاء ، إلا بعد توفر وسائل الطاعة ، والعمل لله تعالى ، كما قال الإمام الصادق (ع) : «لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يكون خائفاً راجياً ، ولا يكون خائفاً راجياً حتى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو» (1) .
وقيل له (ع) : إن قوماً من مواليك يلمون بالمعاصي ، ويقولون نرجو . فقال : «كذبوا ليسوا لنا بموال ، أولئك قوم ترجحت بهم الأماني ، من رجا شيئاً عمل له ، ومن خاف شيئاً هرب منه» (2) .

الحكمة في الترجي والتخويف

يختلف الناس في طباعهم وسلوكهم اختلافاً كبيراً ، فمن الحكمة في إرشادهم وتوجيههم ، رعاية ما هو الأجدر بإصلاحهم من الترجي والتخويف فمنهم من يصلحه الرجاء ، وهم :
1 ـ العصاة النادمون على ما فرطوا في الآثام ، فحاولوا التوبة إلى الله ، بيد أنهم قنطوا من عفو الله وغفرانه ، لفداحة جرائمهم ، وكثرة سيئاتهم ، فيعالج والحالة هذه قنوطهم بالرجاء بعظيم لطف الله ، وسعة رحمته وغفرانه .
2 ـ وهكذا يداوي بالرجاء من أنهك نفسه بالعبادة وأضر بها .
أما الذين يصلحهم الخوف :
فهم المردة العصاة ، المغنسمون في الآثام ، والمغترون بالرجاء ، فعلاجهم بالتخويف والزجر العنيف ، بما يتهددهم من العقاب الأليم ، والعذاب المهين .
وما أحلى قول الشاعر :
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس

الغرور

وهو : انخداع الإنسان بخدعة شيطانية ورأي خاطيء ، كمن ينفق المال

(1) الوافي ج 3 ص 58 عن الكافي .
(2) الوافي ج 3 ص 57 عن الكافي .
أخلاق أهل البيت 130

المغضوب في وجوه البر والإحسان ، معتقداً بنفسه الصلاح ، ومؤملاً للأجر والثواب ، وهو مغرور مخدوع بذلك .
وهكذا ينخدع الكثيرون بالغرور ، وتلتبس به أعمالهم ، فيقتعدون صحتها ونجحها ، ولو محصوها قليلاً ، لأدركوا ما تتسم به من غرور وبطلان .
لذلك كان الغرور من أخطر أشراك الشيطان ، وأمضى أسلحته ، وأخوف مكائده .
وللغرور صور وألوان مختلفة باختلاف نزعات المغرورين وبواعث غرورهم ، فمنهم المغتر بزخارف الدنيا ومباهجها الفاتنة ، ومنهم المغتر بالعلم أو الزعامة ، أو المال ، أو العبادة ، ونحو ذلك من صور الغرور وألوانه .
وسأعرض في البحث التالي أهم صور الغرور وأبرز أنواعه ، معقباً على كل نوع منها بنصائح علاجية ، تجلو غبش الغرور وتخفف من حدته .
الغرور

(أ) الاغترار بالدنيا


وأكثر من يتصف بهذا الغرور هم : ضعفاء الإيمان ، والمخدعون بمباهج الدنيا ومفاتنها ، فيتناسون فناءها وزوالها ، وما يعقبها من حياة أبدية خالدة ، فيتذرعون إلى تبرير اغترارهم بالدنيا ، وتهالكهم عليها ، بزعمين فاسدين ، وقياسين باطلين :
الأول : إن الدنيا نقد ، والآخرة نسيئة ، والنقد خير من النسيئة .
الثاني : أن لذائذ الأولى ومتعها يقينية ، ولذائذ الثانية ـ عندهم ـ مشكوكة ، والمتيقن خير من المشكوك .
وقد أخطأوا وضلوا ضلالاً مبيناً ، إذ فاتهم في زعمهم الأول أن النقد خير من النسيئ إن تعادلا في ميزان النفع ، وإلا فإن رجحت النسيئة كانت أفضل وأنفع من النقد ، كمن يتاجر بمبلغ عاجل من المال ، ليربح أضعافه في الآجل ، أو يحتمي عن شهوات ولذائذ عاجلة توخياً للصحة في الآجل المديد .

أخلاق أهل البيت 131

هذا الى الفارق الكبير ، والبون الساشع ، بين لذائذ الدنيا والاخرة ، فلذائذ الاولى فانية ، منغصة بالاكدار والهموم ، والثانية خالدة هادئة .
وهكذا أخطأوا بزعمهم الثاني في شكهم وارتيابهم في الحياة الأخروية ، فقد أثبتها الأنبياء والأوصياء عليهم السلام والعلماء ، وكثير من الأمم البدائية الأولى ، وأيقنوا بها يقيناً لا يخالجه الشك ، فارتياب المغرورين بالآخرة والحالة هذه ، هوس يستنكره الدين والعقل .
ألا ترى كيف يؤمن المريض بنجع الدواء الذي أجمع عليه الأطباء ، وإن كذبهم فصبي غر أو مغفل بليد .
وبعد أن عرفت فساد ذينك الزعمين وبطلانهما ، فاعلم أنه لم يصور واقع الدنيا ، ويعرض خدعها وأمانيها المغررة كما صورها القرآن الكريم ، وعرفها أهل البيت عليهم السلام ، فإذا هي برق خلاب وسراب خادع .
أنظر كيف يصور القرآن واقع الدنيا وغرورها ، فيقول تعالى :
«إنما الحيلة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم ، وتكاثر في الأموال والأولاد ، كمثل غيث أعجب الكفار نباته ، ثم يهيج فتراه مصفراً ، ثم يكون حطاماً ، وفي الآخرة عذاب شديد» (الحديد : 20) .
وقال تعالى : «إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء ، فاختلط به نبات الأرض ، مما يأكل الناس والأنعام ، حتى إذا أخذت الأرض زخرفها ، وازينت ، وظن أهلها أنهم قادرون عليها ، أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً ، فجعلناها حصيداً ، كأن لم تغن بالأمس ، كذلك نفضل الآيات لقوم يتفكرون» (يونس : 24) .
وقال عزوجل : «فأما من طغى ، وآثر الحياة الدنيا ، فإن الجحيم هي المأوى ، وأما من خاف مقام ربه ، ونهى النفس عن الهوى ، فإن الجنة هي المأوى» (النازعات : 37 ـ 41) .
وقال الصادق (ع) : «ما ذئبان ضاريان في غنم قد فارقها رعاؤها ، احدهما

أخلاق أهل البيت 132

في أولها ، والآخر في آخرها ، بأفسد فيها ، من حب الدنيا والشرف في دين المسلم» (1) .
وقال الباقر (ع) : «مثل الحريص على الدنيا ، مثل دودة القز كلما ازدادت من القز على نفسها لفاً ، كان أبعد لها من الخروج ، حتى تموت غماً» (2) .
وقال الصادق (ع) : «من أصبح وأمسى ، والدنيا أكبر همه ، جعل الله تعالى الفقر بين عينيه ، وشتت أمره ، ولم ينل من الدنيا إلا ما قسم له ، ومن أصبح وأمسى والآخرة أكبر همه ، جعل الله تعالى الغنى في قلبه ، وجمع له أمره» (3) .
وقال أميرالمؤمنين (ع) : «إنما الدنيا فناء وعناء وغير وعبر :
فمن فنائها : أنك ترى الدهر موتراً قوسه ، مفوقاً نبله ، لا تخطئ سهامه ، ولا يشفى جراحه ، يرمي الصحيح بالسقم ، والحي بالموت .
ومن عنائها : ان المرء يجمع ما لا يأكل ، ويبني ما لا يسكن ، ثم يخرج إلى الله لا مالاً حمل ولا بناءاً نقل .
ومن غيرها أنك ترى المغبوط مرحوماً ، والمرحوم مغبوطا ، ليس بينهم الا نعيم زل وبؤس نزل .
ومن عبرها ان المرء يشرف على امله فيتخطفه أجله ، فلا أمل مدروك ، ولا مؤمل متروك» (4) .
وقال الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام : «يا هشام ، إن العقلاء زهدوا في الدنيا ، ورغبوا في الآخرة ، لأنهم علموا أن الدنيا طالبة ومطلوبة ، والآخرة طالبة ومطلوبة : فمن طلب الآخرة طلبته الدنيا ، حتى يستوفي منها رزقه ، ومن طلب الدنيا طلبته الآخرة ، فيأتيه الموت ، فيفسد عليه دنياه وآخرته» (5) .

(1) ، (2) الوافي ج 3 ص 152 عن الكافي .
(3) الوافي ج 3 ص 154 عن الكافي .
(4) سفينة البحار ج 1 ص 467 .
(5) تحف العقول في وصيته لهشام بن الحكم .
أخلاق أهل البيت 133

القانون الخالد

تواطأ الناس بأسرهم ، على ذم الدنيا وشكايتها ، لمعاناة آلامها ، ففرحها مكدر بالحزن ، وراحتها منغصة بالعناء ، لا تصفو لأحد ، ولا يهنأ بها إنسان . وبالرغم من تواطئهم على ذلك تباينوا في سلوكهم وموقفهم من الحياة :
فمنهم من تعشقها ، وهام بحبها ، وتكالب على حطامها ، ما صيرهم في حالة مزرية ، من التنافس والتناحر .
ومنهم من زهد فيها ، وانزوى هارباً من مباهجها ومتعها إلى الأديرة والصوامع ، ما جعلهم فلولاً مبعثرةً على هامش الحياة .
وجاء الإسلام ، والناس بين هذين الاتجاهين المتعاكسين ، فاستطاع بحكمته البالغة ، وإصلاحه الشامل ، أن يشرع نظاماً خالداً ، يؤلف بين الدين والدنيا ، ويجمع بين مآرب الحياة وأشواق الروح ، بأسلوب يلائم فطرة الإنسان ، ويضمن له السعادة والرخاء .
فتراة تارة يحذر عشاق الحياة من خدعها وغرورها ، ليحررهم من أسرها واسترقاقها ، كما صورته الآثار السالفة .
وأخرى يستدرج المتزمتين الهاربين من زخارف الحياة إلى لذائذها البريئة وأشواقها المرفرفة ، لئلا ينقطعوا عن ركب الحياة ، ويصبحوا عرضة للفاقة والهوان .
قال الصادق (ع) : «ليس منا من ترك دنياه لاخرته ، ولا اخرته لدنياه » (1) .
وقال العالم (ع) :« اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً» (2) .
وبهذا النظام الفذ ازدهرت حضارة الإسلام ، وتوغل المسلمون في مدارج الكمال ، ومعارج الرقي المادي والروحي .

(1) ، (2) الوافي ج 10 ص 9 عن الفقيه .
أخلاق أهل البيت 134

وعلى ضوء هذا القانون الخالد نستجلي الحقائق التالية :
1 ـ التمتع بملاذ الحياة ، وطيباتها المحللة ، مستحسن لا ضير فيه ، ما لم يكن مشتملاً على حرام أو تبذير ، كما قال سبحانه : «قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده ، والطيبات من الرزق ، قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة» (الأعراف : 32) .
وقال أمير المؤمنين (ع) : «إعلموا عباد الله أن المتقين ذهبوا بعاجل الدنيا وآجل الآخرة ، فشاركوا أهل الدنيا في دنياهم ، ولم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم ، سكنوا الدنيا بأفضل ما سكنت ، وأكلوها بأفضل ما أكلت ، فحظوا من الدنيا بما حظى به المترفون ، وأخذوا منها ما أخذه الجبابرة المتكبرون ، ثم انقلبوا عنها بالزاد المبلغ والمتجر الرابح» (1) .
2 ـ إن التوفر على مقتنيات الحياة ونفائسها ورغائبها ، هو كالأول مستحسن محمود ، إلا ما كان مختلساً من حرام ، أو صارفاً عن ذكر الله تعالى وطاعته .
أما اكتسابها إستعفافاً عن الناس ، أو تذرعاً بها إلى مرضاة الله عزوجل كصلة الأرحام ، وإعانة البؤساء ، وإنشاء المشاريع الخيرية كالمساجد والمدارس والمستشفيات ، فإنه من أفضل الطاعات وأعظم القربات ، كما صرح بذلك أهل البيت عليهم السلام :
قال الصادق (ع) : «لا خير فيمن لا يجمع المال من حلال ، يكف به وجهه ، ويقضي به دينه ، ويصل به رحمه» (2) .
وقال رجل لأبي عبد الله (ع) : «والله إنا لنطلب الدنيا ونحب أن نؤتاها .
فقال : تحب أن تصنع بها ماذا ؟ قال : أعود بها على نفسي وعيالي ، وأصل بها ، وأتصدق بها ، وأحج ، وأعتمر . فقال أبو عبد الله : ليس هذا طلب الدنيا ، هذا طلب الآخرة» (3) .

(1) نهج البلاغة .
(2) ، (3) الوافي ج 10 ص 9 عن الكافي .

السابق السابق الفهرس التالي التالي