أخلاق أهل البيت 105

وعن الرضا عن ابيه عن آبائه عليهم السلام قال : «ان سليمان بن داود قال ذات يوم لاصحابه : ان الله تبارك وتعالى قد وهب لي ملكا لا ينبغي لاحد من بعدي : سخر لي الريح ، والانس ، والجن ، والطير ، والوحش وعلمني منطق الطير ، وآتاني من كل شيء ، ومع جميع ما اتيت من الملك ما تم لي سرور يوم الى الليل ، وقد احببت ان ادخل قصري في غد ، فأصعد اعلاه ، وانظر الى ممالكي ، فلا تأذنوا لاحد علي لئلا يرد علي ما ينغص علي يومي . قالوا : فلما كان من الغد اخذ عصاه بيده ، وصعد الى اعلى موضع من قصره ، ووقف متكئا على عصاه ينظر الى ممالكه مسرورا بما اوتي ، فرحاً بما اعطي ، اذ نظر الى شاب حسن الوجه واللباس قد خرج عليه من بعض زوايا قصره ، فلما بصر به سليمان (ع) قال له : من ادخلك الى هذا القصر ، وقد اردت ان اخلو فيه اليوم ، فبأذن من دخلت ؟
فقال الشاب : ادخلني هذا القصر ربه ، وباذنه دخلت .
فقال : ربه احق به مني ، فمن انت ؟
قال : انا ملك الموت ، قال : وفيما جئت ؟
قال : جئت لاقبض روحك .
قال : امض لما امرت به ، فهذا يوم سروري ، وابى الله ان يكون لي سرور دون لقائه . فقبض ملك الموت روحه وهو متكىء على عصاه ...» (1) .
الصبر على طاعة الله والتصبر عن عصيانه :

من الواضح ان النفوس مجبولة على الجموح والشرود من النظم الالزامية والضوابط المحددة لحريتها وانطلاقها في مسارح الاهواء والشهوات ، وان كانت باعثة عى اصلاحها واسعادها .
فهي لا تنصاع لتلك النظم ، والضوابط ، الا بالاغراء ، والتشويق ، او الانذار والترهيب . وحيث كانت ممارسة طاعة الله عز وجل ، ومجافاة عصيانه ،

(1) سفينة البحار ج 1 ص 614 عن عيون اخبار الرضا .
أخلاق أهل البيت 106

شاقين على النفس كان الصبر على الطاعة ، والتصبر عن المعصية من اعظم الواجبات ، واجل القربات .
وجاءت الايات الكريمة واحاديث اهل البيت عليهم السلام مشوقة الى الاولى ومحذرة من الثانية بأساليبها الحكيمة البليغة :
قال الصادق (ع) : «اصبروا على طاعة الله ، وتصبروا عن معصيته ، فانما الدنيا ساعة ، فما مضى فلست تجد له سروراً ولا حزناً ، وما لم يأت فلست تعرفه ، فاصبر على تلك الساعة ، فكأنك قد اغتبطت» (1) .
وقال (ع) : «اذا كان يوم القيامة ، يقوم عنق من الناس ، فيأتون باب الجنة فيضربونه ، فيقال لهم : من انتم ؟ فيقولون : نحن اهل الصبر . فيقال لهم : على ما صبرتم ؟ فيقولون : كنا نصبر على طاعة الله ، ونصبر عن معاصي الله ، فيقول الله تعالى : صدقوا ادخلوهم الجنة ، وهو قوله تعالى : «انما يوفى الصابرون اجرهم بغير حساب» (الزمر : 10) (2) .
وقال (ع) : «الصبر صبران : فالصبر عند المصيبة ، حسن جميل ، وافضل من ذلك الصبر عما حرم الله عز وجل ليكون لك حاجزاً» (3) .

الصبر على النعم

وهو : ضبط النفس عن مسولات البطر والطغيان ، وذلك من سمات عظمة النفس ، ورجاحة العقل ، وبعد النظر .
فليس الصبر على مآسي الحياة وارزائها باولى من الصبر على مسراتها واشواقها ، ومفاتنها ، كالجاه العريض ، والثراء الضخم ، والسلطة النافذة ، ونحو ذلك . حيث ان اغفال الصبر في الضراء يقضي الى الجزع المدمر ، كما يؤدي اهماله في السراء الى البطر والطغيان : «ان الانسان ليطغى ، ان رآه استغنى» .

(1) الوافي ج 3 ص 63 عن الكافي .
(2) الوافي ج 3 ص 65 عن الكافي .
(3) الوافي ج 3 ص 65 عن الكافي .
أخلاق أهل البيت 107

(العلق : 6 ـ 7) وكلاهما ذميم مقيت .
والمراد بالصبر على النعم هو : رعاية حقوقها ، واستغلالها في مجالات العطف والاحسان المادية ، او المعنوية : كرعاية البؤساء ، واغاثة المضطهدين ، والاهتمام بحوائج المؤمنين ، والتوقي في مزالق البطر والتجبر .
وللصبر انواع عديدة اخرى :
فالصبر في الحرب : شجاعة ، وضده الجبن .
والصبر عن الانتقام : حلم ، وضده الغضب .
والصبر عن زخارف الحياة : زهد ، وضده الحرص .
والصبر على كتمان الاسرار : كتمان ، وضده الاذاعة والنشر .
والصبر على شهوتي البطن والفرج : عفة ، وضده الشره .
فاتضح بهذا ان الصبر نظام الفضائل ، وقطبها الثابت ، واساسها المكين .

الصبر على النعم

نستنتج من العرض السالف ان الصبر عماد الفضائل ، وقطب المكارم ، ورأس المفاخر .
فهو عصمة الواجد الحزين ، يخفف وجده ، ويلطف عناءه ، ويمده بالسكينة والاطمئنان .
وهو ظمان من الجزع المدمر ، والهلع الفاضح ، ولولاه لانهار المصاب ، وغدا فريسة العلل والامراض ، وعرضة لشماتة الاعداء والحساد .
وهو بعد هذا وذاك الامل المرجى فيما اعد الله للصابرين ، من عظيم المكافآت ، وجزيل الاجر والثواب .

كيف تكسب الصبر
واليك بعض النصائح الباعثة على كسب الصبر والتحلي به :
1 ـ التأمل في مآثر الصبر ، وما يفيىء على الصابرين من جميل الخصائص ، وجليل العوائد والمنافع في الحياة الدنيا ، وجزيل المثوبة والاجر في الاخرة .

أخلاق أهل البيت 108

2 ـ التفكر في مساوىء الجزع ، وسوء آثاره في حياة الانسان ، وانه لا يشفي غليلاً ، ولا يرد قضاءً ، ولا يبدل واقعاً ، ولا ينتج الا بالشقاء والعناء . يقول (دليل كارنيجي) «لقد قرأت خلال الاعوام الثمانية الماضية كل كتاب ، وكل مجلة ، وكل مقالة عالجت موضوع القلق ، فهل تريد ان تعرف احكم نصيحة ، واجداها خرجت بها من قراءتي الطويلة ؟ انها : «ارض بما ليس منه بد» .
3 ـ تفهم واقع الحياة ، وانها مطبوعة على المتاعب والهموم :
طبعت على كدر وانت تريدها صفــواً من الاقــدار والاكــدار

فليست الحياة دار هناء وارتياح ، وانما هي : دار اختيار وامتحان للمؤمن ، فكما يرهق طلاب العلم بالامتحانات استجلاءً لرصيدهم العلمي ، كذلك يمتحن المؤمن اختباراً لابعاد ايمانه ومبلغ يقينه .
قال تعالى : «احسب الناس ان يتركوا ان يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ، ولقد فتنا الذين من قبلهم ، فليعلمن الله الذين صدقوا ، وليعلمن الكاذبين» (العنكبوت : 2 ـ 3) .
4 ـ الاعتبار والتأسي بما عاناه العظماء ، والاولياء ، من صنوف المآسي والارزاء ، وتجلدهم فيها وصبرهم عليها ، في ذات الله ، وذلك من محفزات الجلد والصمود .
5 ـ التسلية والترفيه بما يخفف آلام النفس ، وينهنه عن الوجد : كتغير المناخ ، وارتياد المناظر الجميلة ، والتسلي بالقصص الممتعة ، والاحاديث الشهية النافعة .


الشكر

وهو عرفان النعمة من المنعم ، وحمده عليها ، واستعمالها في مرضاته ، وهو من خلال الكمال ، وسمات الطيبة والنبل ، وموجبات ازدياد النعم واستدامتها .
والشكر واجب مقدس للمنعم المخلوق ، فكيف بالمنعم الخالق ، الذي لا

أخلاق أهل البيت 109

تحصى نعماؤه ولاتعد آلاؤه .
والشكر لا يجدي المولى عز وجل ، لا ستغنائه المطلق عن الخلق ، وانما يعود عليهم بالنفع ، لاعرابه عن تقديرهم للنعم الالهية ، واستعمالها في طاعته ورضاه ، وفي ذلك سعادتهم وازدهار حياتهم .
لذلك دعت الشريعة الى التخلق بالشكر والتحلي به كتابا وسنة .
قال تعالى : «واشكروا لي ولا تكفرون» (البقرة : 152) .
وقال عز وجل : «كلوا من رزق ربكم واشكروا له» (سبأ : 15) .
وقال تعالى : «واذ تأذن ربكم لئن شكرتم لازيدنكم ، ولئن كفرتم ان عذابي لشديد» (ابراهيم : 7) .
وقال تعالى : «وقليل من عبادي الشكور» (سبأ : 13) .
وعن ابي عبد الله (ع) قال : قال رسول الله (ص) :
«الطاعم الشاكر له من الاجر ، كأجر الصائم المحتسب ، والمعافى الشاكر له من الاجر كأجر المبتلى الصابر ، والمعطى الشاكر له من الاجر كأجر المحروم القانع» (1) .
وقال الصادق (ع) : «من اعطي الشكر اعطي الزيادة ، يقول الله عز وجل : «لئن شكرتم لازيدنكم» (ابراهيم : 7) (2).
وقال (ع) : «شكر كل نعمة وان عظمت ان تحمد الله عز وجل عليها » (3) .
وقال (ع) : «ما انعم الله على عبد بنعمة بالغة ما بلغت فحمد الله عليها ، الا كان حمد الله افضل من تلك النعمة واوزن» (4) .
وقال الباقر (ع) : «تقول ثلاث مرات اذا نظرت الى المبتلى من غير ان تسمعه : الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به ، ولو شاء فعل . قال : من قال ذلك

(1) ، (2) ، (3) الوافي ج 3 ص 67 عن الكافي .
(4) الوافي ج 3 ص 69 عن الكافي .
أخلاق أهل البيت 110

لم يصبه ذلك البلاء ابداً» (1) .
وقال الصادق (ع) : «ان الرجل منكم ليشرب الشربة من الماء ، فيوجب الله له بها الجنة ، ثم قال : انه ليأخذ الاناء ، فيضعه على فيه ، فيسمي ثم يشرب ، فينحيه وهو يشتهيه ، فيحمد الله ، ثم يعود فيشرب ، ثم ينحيه ، فيحمد الله ، ثم يعود فيشرب ، ثم ينحيه فيحمد الله فيوجب الله عز وجل له بها الجنة» (2) .

أقسام الشكر

ينقسم الشكر الى ثلاثة اقسام : شكر القلب . وشكر اللسان . وشكر الجوارح . ذلك انه متى امتلأت نفس الانسان وعياً وادراكا بعظم نعم الله تعالى ، وجزيل آلائه عليه ، فاضت على اللسان بالحمد والشكر للمنعم الوهاب .
ومتى تجاوبت النفس واللسان في مشاعر الغبطة والشكر ، سرى ايحاؤها الى الجوارح ، فغدت تعرب عن شكرها للمولى عز وجل بانقيادها واستجابتها لطاعته .
من اجل ذلك اختلفت صور الشكر ، وتنوعت اساليبه :
أ ـ فشكر القلب هو : تصور النعمة ، وانها من الله تعالى .
ب ـ وشكر اللسان : حمد المنعم والثناء عليه .
جـ ـ وشكر الجوارح : اعمالها في طاعة الله ، والتحرج بها عن معاصيه : كاستعمال العين في مجالات التبصر والاعتبار ، وغضها عن المحارم ، واستعمال اللسان في حسن المقال ، وتعففه عن الفحش ، والبذاء ، واستعمال اليد في المآرب المباحة ، وكفها عن الاذى والشرور . وهكذا يجدر الشكر على كل نعمة من نعم الله تعالى ، بما يلائمها من صور الشكر ومظاهره :

(1) البحار م 15 ج 2 ص 135 عن ثواب الاعمال للصدوق .
(2) البحار م 15 ج 2 ص 131 عن الكافي .
أخلاق أهل البيت 111

فشكر المال : انفاقه في سبل طاعة الله ومرضاته .
وشكر العلم : نشره واذاعة مفاهيمه النافعة .
وشكر الجاه : مناصرة الضعفاء والمضطهدين ، وانقاذهم من ظلاماتهم . ومهما بالغ المرء في الشكر ، فانه لن يستطيع ان يوفي النعم شكرها الحق ، اذ الشكر نفسه من مظاهر نعم الله وتوفيقه ، لذلك يعجز الانسان عن اداء واقع شكرها : كما قال الصادق (ع) : «اوحى الله عز وجل الى موسى (ع) : يا موسى اشكرني حق شكري . فقال : يا رب وكيف اشكرك حق شكرك ، وليس من شكر اشكرك به ، الا وانت انعمت به علي . قال : يا موسى الان شكرتني حين علمت ان ذلك مني» (1) .

فضيلة الشكر

من خصائص النفوس الكريمة تقدير النعم والالطاف ، وشكر مسديها وكلما تعاظمت النعم ، كانت احق بالتقدير ، واجدر بالشكر الجزيل ، حتى تتسامى الى النعم الالهية التي يقصر الانسان عن تقييمها وشكرها .
فكل نظرة يسرحها الطرف ، او كلمة ينطق بها الفم ، او عضو تحركه الارادة ، او نفس يردده المرء ، كلها منح ربانية عظيمة ، لا يثمنها الا العاطلون منها .
ولئن وجب الشكر للمخلوق فكيف بالمنعم الخالق ، الذي لا تحصى نعماؤه ولا تقدر آلاؤه .
والشكر بعد هذا من موجبات الزلفى والرضا من المولى عز وجل ، ومضاعفة نعمه وآلائه على الشكور .
اما كفران النعم ، فانه من سمات النفوس اللئيمة الوضيعة ، ودلائل الجهل بقيم النعم واقدارها ، وضرورة شكرها .
انظر كيف يخبر القرآن الكريم : ان كفران النعم هو سبب دمار الامم

(1) الوافي ج 3 ص 68 عن الكافي .
أخلاق أهل البيت 112

ومحق خيراتها : «وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان ، فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون» (النحل : 112) .
وسئل الصادق (ع) عن قول الله عز وجل : «قالوا ربنا باعد بين اسفارنا وظلموا انفسهم» الاية (سبأ : 19) فقال : هؤلاء قوم كانت لهم قرى متصلة ، ينظر بعضهم الى بعض ، وانهار جارية ، واموال ظاهرة ، فكفروا نعم الله عز وجل ، وغيروا ما بأنفسهم من عافية الله ، فغير الله ما بهم من نعمة ، وان الله لا يغير ما بقوم ، حتى يغيروا ما بأنفسهم ، فأرسل الله عليهم سيل العرم ففرق قراهم ، وخرب ديارهم ، وذهب بأموالهم ، وابدلهم مكان جناتهم جنتين ذواتي اكل خمط واثل وشيء من سدر قليل ، ذلك جزيناهم بما كانوا وهل نجازي الا الكفور» (1).
. وقال الصادق (ع) في حديث له :
«ان قوماً افرغت عليهم النعمة وهم (اهل الثرثار) فعمدوا الى مخ الحنطة فجعلوا خبز هجاء فجعلوا ينجون به صبيانهم ، حتى اجتمع من ذلك جبل ، فمر رجل على امرأة وهي تفعل ذلك بصبي لها ، فقال : ويحكم اتقوا الله لا تغيروا ما بكم من نعمة ، فقالت : كأنك تخوفنا بالجوع ، اما ما دام ثرثارنا يجري فانا لا نخاف الجوع .
قال : فأسف الله عز وجل ، وضعف لهم الثرثار ، وحبس عنهم قطر السماء ونبت الارض ، قال فاحتاجوا الى ما في ايديهم فأكلوه ، ثم احتاجوا الى ذلك الجبل فانه كان ليقسم بينهم بالميزان» (2) .
وعن الرضا عن آبائه عليهم السلام قال قال النبي (ص) : «اسرع الذنوب عقوبة كفران النعم» (3) .

(1) الوافي ج 3 ص 167 عن الكافي .
(2) البحار عن محاسن البرقي .
(3) البحار عن امالي ابن الشيخ الطوسي .
أخلاق أهل البيت 113

كيف نتحلى بالشكر

اليك بعض النصائح لاكتساب فضيلة الشكر والتحلي به :
1ـ التفكر فيما اغدقه الله على عباده من صنوف النعم ، والوان الرعاية واللطف .
2 ـ ترك التطلع الى المترفين والمنعمين في وسائل العيش ، وزخارف الحياة ، والنظر الى البؤساء والمعوزين ، ومن هو دون الناظر في مستوى الحياة والمعاش ، كما قال امير المؤمنين (ع) : «واكثر ان تنظر الى من فضلت عليه في الرزق ، فان ذلك من ابواب الشكر» (1) .
3 ـ تذكر الانسان الامراض ، والشدائد التي انجاه الله منها بلطفه ، فأبدله بالسقم صحة ، وبالشدة رخاءاً وامناً .
4 ـ التأمل في محاسن الشكر ، وجميل آثاره في استجلاب ود المنعم ، وازدياد نعمه ، وآلائه ، وفي مساوىء كفران النعم واقتضائه مقت المنعم وزوال نعمه .


التوكل

هو : الاعتماد على الله تعالى في جميع الامور ، وتفويضها اليه ، والاعراض عما سواه . وباعثه قوة القلب واليقين ، وعدمه من ضعفهما او ضعف القلب ، وتأثره بالمخاوف والاوهام .
والتوكل هو : من دلائل الايمان ، وسمات المؤمنين ومزاياهم الرفيعة ، الباعثة على عزة نفوسهم ، وترفعهم عن استعطاف المخلوقين ، والتوكل على الخالق في كسب المنافع ودرء المضار .
وقد تواترت الايات والاثار في مدحه والتشويق اليه :
قال تعالى : «ومن يتوكل على الله فهو حسبه» (الطلاق : 3) .

(1) نهج البلاغة .
أخلاق أهل البيت 114

وقال : «ان الله يحب المتوكلين» (آل عمران : 159) .
وقال : «قال لن يصيبنا الا ما كتب الله ، هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون» (التوبة : 51) .
وقال تعالى : «ان ينصركم الله فلا غالب لكم ، وان يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده ، وعلى الله فليتوكل المؤمنون» (آل عمران : 160) .
وقال الصادق (ع) : « ان الغنى والعز يجولان ، فاذ ظفرا بموضع التوكل اوطنا» (1) .
وقال (ع) : «اوحى الله الى داود (ع) : ما اعتصم بي عبد من عبادي دون احد من خلقي ،عرفت ذلك من نيته ، ثم تكيده السماوات والارض ، ومن فيهن ، الا جعلت له المخرج من بينهن .
وما اعتصم عبد من عبادي بأحد من خلقي ، عرفت ذلك من نيته ، الا قطعت اسباب السماوات من يديه ، واسخت الارض من تحته ، ولم ابال بأي واد هلك» (2) .
وقال (ع) : «من اعطي ثلاثا ، لم يمنع ثلاثا :
من اعطي الدعاء اعطي الاجابة .
ومن اعطي الشكر اعطي الزيادة .
ومن اعطي التوكل اعطي الكفاية .
ثم قال : اتلوت كتاب الله تعالى ؟ : «ومن يتوكل على الله فهو حسبه» (الطلاق : 3) .
وقال : «لئن شكرتم لازيدنكم» (ابراهيم : 1) . وقال : «ادعوني استجب لكم» (غافر : 60) » (3) .
وقال امير المؤمنين في وصيته للحسن (ع) :
«والجىء نفسك في الامور كلها ، الى الهك ، فانك تجلئها الى كهف

(1) الوافي ج 3 ص 56 عن الكافي .
(2) ، (3) الوافي ج 3 ص 56 عن الكافي .
أخلاق أهل البيت 115

حريز ، ومانع عزيز» (1) .
وعن ابي عبد الله (ع) قال : قال امير المؤمنين (ع) .
«كان فيما وعظ به لقمان ابنه ، ان قال له : يا بني ليعتبر من قصر يقينه وضعفت نيته في طلب الرزق ، ان الله تبارك وتعالى خلقه في ثلاثة احوال ، ضمن امره ، واتاه رزقه ، ولم يكن له في واحدة منها كسب ولا حيلة ، ان الله تبارك وتعالى سيرزقه في الحال الرابعة :
اما اول ذلك فانه كان في رحم امه ، يرزقه هناك في قرار مكين ، حيث لا يؤذيه حر ولا برد .
ثم اخرجه من ذلك ، واجرى له رزقا من لبن امه ، يكفيه به ، ويربيه وينعشه ، من غير حول به ولا قوة .
ثم فطم من ذلك ، فأجرى له رزقاً من كسب ابويه ، برأفة ورحمة له من قلوبهما ، لا يملكان غير ذلك ، حتى انهما يؤثرانه على انفسهما ، في احوال كثيرة ، حتى اذا كبر وعقل ، واكتسب لنفسه ، ضاق به امره ، وظن الظنون بربه ، وجحد الحقوق في ماله ، وقتر على نفسه وعياله ، مخافة رزقه ، وسوء ظن ويقين بالخلف من الله تبارك وتعالى في العاجل والاجل ، فبئس العبد هذا يا بني» (2) .


ليس معنى التوكل اغفال الاسباب والوسائل الباعثة على تحقيق المنافع ، ودرء المضار ، وان يقف المرء ازاء الاحداث والازمات مكتوف اليدين ، سليب الارادة والعزم . وانما التوكل هو : الثقة بالله عز وجل ، والركون اليه ، والتوكل عليه دون غيره من سائر الخلق والاسباب ، باعتبار انه تعالى هو مصدر الخير ، ومسبب الاسباب ، وانه وحده المصرف لامور العباد ، والقادر على انجاح غاياتهم ومأربهم .

(1) نهج البلاغة .
(2) البحار م 15 ج 2 ص 155 عن خصال الصدوق (ره) .
أخلاق أهل البيت 116

ولا ينافي ذلك تذرع الانسان بالاسباب الطبيعية ، والوسائل الظاهرية لتحقيق اهدافه ومصالحه كالتزود للسفر ، والتسلح لمقاومة الاعداء والتداوي من المرض ، والتحرز من الاخطار والمضار ، فهذه كلها اسباب ضرورية لحماية الانسان ، وانجاز مقاصده ، وقد ابى الله عز وجل ان تجري الامور الا باسبابها .
بيد انه يجب ان تكون الثقة به تعالى ، والتوكل عليه ، في انجاح الغايات والمآرب دون الاسباب ، وآية ذلك ان اعرابيا اهمل عقل بعيره متوكلا على الله في حفظه ، فقال النبي (ص) ، له : « اعقل وتوكل » .

درجات التوكل

يتفاوت الناس في مدارج التوكل تفاوتاً كبيراً ، كتفاوتهم في درجات ايمانهم : فمنهم السباقون والمجلون في مجالات التوكل ، المنقطعون الى الله تعالى ، والمعرضون عمن سواه ، وهم الانبياء والاوصياء عليهم السلام ، ومن دار في فلكهم من الاولياء .
ومن اروع صور التوكل واسماه ، ما روي عن ابراهيم عليه السلام : « انه لما القي في النار ، تلقاه جبرئيل في الهواء ، فقال : هل لك من حاجة ؟ فقال : اما اليك فلا ، حسبي الله ونعم الوكيل . فاستقبله ميكائيل فقال : ان اردت ان اخمد النار فان خزائن الامطار والمياه بيدي ، فقال : لا اريد . واتاه ملك الريح فقال : لو شئت طيرت النار . فقال : لا اريد ، فقال جبرائيل : فأسال الله . فقال : حسبي من سؤالي علمه بحالي » (1) .
ومن الناس من هو عديم التوكل ، عاطل منه ، لضعف احساسه الروحي ، وهزال ايمانه . ومنهم بين هذا وذاك على تفاوت في مراقي التوكل .

محاسن التوكل

الانسان في هذا الحياة عرضة للنوائب ، وهدف للمشاكل والازمات ، لا

(1) سفينة البحار ج 2 ص 683 عن بيان التنزيل لابن شهر اشوب بتلخيص .
أخلاق أهل البيت 117

ينفك عن جلادها ومقارعتها ، ينتصر عليها تارة وتصرعه اخرى ، وكثيرا ماترديه لقا ، مهيض الجناح ، كسير القلب .
فهو منها في قلق مضني ، وفزع رهيب ، يخشى الاخفاق ، ويخاف الفقر ، ويرهب المرض ، ويعاني الوان المخاوف المهددة لامنه ورخائه .
ولئن استطاعت الحضارة الحديثة ان تخفف اعباء الحياة ، بتيسيراتها الحضارية ، وتوفير وسائل التسلية والترفية ، فقد عجزت عن تزويد النفوس بالطمأنينة والاستقرار ، واشعارها بالسكينة والسلام الروحيين ، فلا يزال القلق والخوف مخيماَ على النفوس ، آخذا بخناقها ، مما ضاعف الامراض النفسية ، واحداث الجنون والانتحار في ارقى الممالك المتحضرة .
ولكن الشريعة الاسلامية استطاعت بمبادئها السامية ، ودستورها الخلقي الرفيع ـ ان تخفف قلق النفوس ومخاوفها ، وتمدها بطاقات روحية ضخمة ، من الجلد والثبات ، والثقة والاطمئنان ، بالتوكل على الله ، والاعتماد عليه ، والاعتزاز بحسن تدبيره ، وجميل صنعه ، وجزيل آلائه ، وانه له الخلق والامر وهو على كل شيء قدير . وبهذا ترتاح النفوس ، وتستبدل بالخوف أمناً ، وبالقلق دعةً ورخاءً .
والتوكل بعد هذا من اهم عوامل عزة النفس ، وسمو الكرامة ، وراحة الضمير ، وذلك بترفع المتوكلين عن الاستعانة بالمخلوق ، واللجوء الى الخالق ، في جلب المنافع ، ودرء المضار .
ولعل اجدر الناس بالتوكل ارباب الاقدار والمسؤوليات الكبيرة ، كالمصلحين ليستمدوا منه العزم والتصميم على مجابهة عنت الناس وارهاقهم ، والمضي قدما في تحقيق اهدافهم الاصلاحية ، متخطين ما يعترضهم من اشواك وعوائق .

كيف تكسب التوكل

1 ـ استعراض الايات والاخبار الناطقة بفضله وجميل اثره في كسب الطمأنينة والرخاء .

أخلاق أهل البيت 118

ومن طريف ما نظم في التوكل قول الحسين (ع) :
اذا ما عضك الدهر فلا تجنح الى خلـق ولا تسأل سوى الله تعالى قاسم الرزق
فلو عشت وطوفت من الغرب الى الشرق لما صادفت من يقدر ان يسعد او يشقي

ومما نسب لامير المؤمنين عليه السلام :
رضيــت بمــا قســـم اللــه لـــي وفوضـــت امــــري الــى خالقـــي
كمــا احسـن اللــه فيمـــا مضـــى كــــذلك يحســــن فيمــــا بقـــي

وقال بعض الاعلام :
كـــن عــن همومــــك معرضـــاً وكــل الامــــور الــــى القضـــا
فــــلرب امــــــر مسخــــــط لـــك فـــي عواقبـــــه رضـــا
ولربمـــا اتســــع المضـــــــيق وربمــــا ضـــــاق الفضــــــا
اللــــه عـــــودك الجمـــــــيل فقــــس علـى مــا قـــد مضـــى
* * *

2 ـ تقوية الايمان بالله عز وجل ، والثقة بحسن صنعه ، وحكمة تدبيره ، وجزيل حنانه ولطفه ، وانه هو مصدر الخير ، ومسبب الاسباب ، وهو على كل شيء قدير .
3 ـ التنبه الى جميل صنع الله تعالى ، وسمو عنايته بالانسان ، في جميع اطواره وشؤونه ، من لدن كان جنيناً حتى آخر الحياة ، وان من توكل عليه كفاه ، ومن استنجده انجده واغاثه .
4 ـ الاعتبار بتطور ظروف الحياة ، وتداول الايام بين الناس ، فكم فقير صار غنياً ، وغني صار فقيراً ، وامير غدا صعلوكاً ، وصعلوك غدا أميراً متسلطاً .
وهكذا يجدر التنبه الى عظمة القدرة الالهية في ارزاق عبيده ، ودفع الاسواء عنهم ، ونحو ذلك من صور العبر والعظات الدالة على قدرة الله عز وجل ، وانه وحده هو الجدير بالثقة ، والتوكل والاعتماد ، دون سواه .

أخلاق أهل البيت 119

وآية حصول التوكل للمرء هي : الرضا بقضاء الله تعالى وقدره في المسرات والمكاره ، دون تضجر واعتراض ، وتلك منزلة سامية لا ينالها الا الافذاذ المقربون .


الخوف من الله تعالى

وهو : تألم النفس خشية من عقاب الله ، من جراء عصيانه ومخالفته .
وهو من خصائص الاولياء ، وسمات المتقين ، والباعث المحفز على الاستقامة والصلاح . والوازع القوي عن الشرور والاثام .
لذلك اولته الشريعة عناية فائقة ، واثنت على ذويه ثناءاً عاطراً مشرفاً .
قال تعالى : انما يخشى الله من عباده العلماء» (فاطر : 28).
وقال : « ان الذين يخشون ربهم بالغيب ، لهم مغفرة واجر كبير » ( الملك : 12 ) .
وقال : « وأما من خاف مقام ربه ، ونهى النفس عن الهوى ، فان الجنة هي المأوى » ( النازعات : 40 ـ 41 ) .
وقال الصادق (ع) : « خف الله كأنك تراه ، وان كنت لا تراه فانه يراك ، وان كنت ترى انه لا يراك فقد كفرت ، وان كنت تعلم انه يراك ثم برزت له بالمعصية ، فقد جعلته من اهون الناظرين اليك » (1) .
وقال (ع) : « المؤمن بين مخافتين : ذنب قد مضى لا يدري ما صنع الله فيه ، وعمر قد بقي لا يدري ما يكتسب فيه من المهالك ، فهو لا يصبح الا خائفاً ، ولا يصلحه الا الخوف » (2) .
وقال (ع) : «لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يكون خائفاً راجياً ، ولا يكون خائفاً راجياً حتى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو» (3) .
وفي مناهي النبي (ص) :

(1) الوافي ج 3 ص 57 عن الكافي .
(2) ، (3) الوافي ج 3 ص 57 عن الكافي .

السابق السابق الفهرس التالي التالي