أخلاق أهل البيت 90

الناس ، مراءاة لهم ، ونبذها في الخلوة والسر ، كالتظاهر بالصلاة ، والصيام ، واطالة الركوع والسجود والتأني بالقراءة والاذكار وارتياد المساجد ، وشهود الجماعة ، ونحوه من صور الرياء ، في صميم العبادة او مكملاتها ، وهنا يغدو المرائي اشد اثما من تارك العبادة ، لا ستخفافه بالله عزوجل ، وتلبيسه على الناس .
3 ـ الرياء بالافعال : كالتظاهر بالخشوع ، وتطويل اللحية ، ووسم الجبهة بأثر السجود ، وارتداء الملابس الخشنة ونحوه من مظاهر الزهد والتقشف الزائفة .
4 ـ الرياء بالاقوال ، كالتشدق بالحكمة ، والمراءة بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والتذكير بالثواب والعقاب مداجاة وخداعا .
دواعي الرياء

للرياء اسباب ودواع نجملها فيما يلي :
1 ـ حب الجاه ، وهو من اهم اسباب المراءاة ودواعيه .
2 ـ خوف النقد ، وهو دافع على المراءاة بالعبادة ، واعمال الخير ، خشية من قوارص الذم والنقد .
3 ـ الطمع ، وهو من محفزات الرياء واهدافه التي يستهدفها الطامعون ، اشباعاً لاطماعهم .
4 ـ التستر : وهو باعث على تظاهر المجرمين بمظاهر الصلاح المزيفة ، اخفاءاً لجرائمهم ، وتستراً عن الاعين .
ولا ريب ان تلك الدواعي هي من مكائد الشيطان ، واشراكه الخطيرة التي يأسر بها الناس ، اعاذنا الله منها جميعا .

حقائق

ولا بد من استعراض بعض الحقائق والكشف عنها اتماما للبحث :

أخلاق أهل البيت 91

1 ـ اختلفت اقوال المحققين ، في افضلية اخفاء الطاعة او اعلانها .
ومجمل القول في ذلك ، ان الاعمال بالنيات ، وان لكل امرىء ما نوى ، فما صفا من الرياء فسواء اعلانه او اخفاؤه ، وما شابه الرياء فسيان اظهاره او اسراره .
وقد يرجح الاسرار احيانا للذين لا يطيقون مدافعة الرياء لشدة بواعثه في الاعلان . كما يرجح اعلان الطاعة ، ان خلصت من شوائب الرياء ، وقصد به غرض صحيح كالترغيب في الخير والحث على الاقتداء .
2 ـ ومن استهدف الاخلاص في طاعته وعبادته ، ثم اطلع الناس عليها ، وسر باطلاعهم واغتبط ، فلا يقدح ذلك في اخلاصه ، ان كان سروره نابعا عن استشعاره بلطف الله تعالى ، واظهار محاسنه والستر على مساوئه تكرما منه عز وجل .
وقد سئل الامام الباقر عليه السلام عن الرجل يعمل الشيء من الخير فيراه انسان فيسره ذلك ، فقال : «لا بأس ، ما من احد الا وهو يحب ان يظهر الله له في الناس الخير ، اذا لم يكن صنع ذلك لذلك» (1) .
3 ـ وحيث كان الشيطان مجدا في اغواء الناس ، وصدهم عن مشاريع الخير والطاعة ، بصنوف الكيد والاغواء ، لزم الحذر والتوقي منه ، فهو يسول للناس ترك الطاعة ونبذ العبادة ، فان عجز عن ذلك اغراهم بالرياء ، وحببه اليهم ، فان اخفق في هذا وذاك ، القى في خلدهم انهم مراؤون واعمالهم مشوبة بالرياء ، ليسول لهم نبذها واهمالها .
فيجب والحالة هذه طرده ، وعدم الاكتراث بخدعه ووساوسه ، اذ المخلص لا تضره هذه الخواطر والاوهام .
فعن الصادق عن ابيه عليهما السلام : ان النبي قال : «اذا اتى الشيطان احدكم وهو في صلاته فقال : انك مرائي ، فليطل صلاته ما بدا له ، ما لم يفته

(1) الوافي ج 3 ص 148 عن الكافي .
أخلاق أهل البيت 92

وقت فريضة ، واذا كان على شيء من امر الاخرة فليتمكّث ما بدا له ، واذا كان على شيء من امر الدنيا فليسترح ...» (1) .

مساويء الرياء

الرياء من السجايا الذميمة ، والخلال المقيتة ، الدالة على ضعة النفس ، وسقم الضمير ، وغباء الوعي ، اذ هو الوسيلة الخادعة المدجلة التي يتخذها المتلونون ، والمنحرفون ذريعة لاهدافهم ومآربهم دونما خجل واستحياء من هوانها ومناقضتها لصميم الدين والكرامة والاباء .
وحسب المرائي ذماً انه اقترف جرمين عظيمين :
تحدى الله عز وجل ، واستخف بجلاله ، بايثار عباده عليه في الزلفى والتقرب ، ومخادعة الناس والتلبس عليهم بالنفاق والرياء .
ومثل المرائي في صفاقته وغبائه ، كمن وقف ازاء ملك عظيم مظهرا له الولاء والاخلاص ، وهو رغم موقفه ذلك يخاتل الملك بمغازلة جواريه او استهواء غلمانه .
اليس هذا حريا بعقاب الملك ونكاله الفادحين على تلصصه واستهتاره .
ولا ريب ان المرائي اشد جرماً وجناية من ذلك ، لاستخفافه بالله عز وجل ، ومخادعة عبيده ، والمرائي بعد هذا حليف الهم والعناء ، يستهوي قلوب الناس ، ويتملق رضاهم ، ورضاهم غاية لا تنال ، فيعود بعد طول المعاناة خائباً ، شقياً ، سليب الكرامة والدين .
ومن الثابت ان سوء السريرة سرعان ما ينعكس على المرء ، ويكشف واقعه ، ويبوء بالفضيحة والخسران .
ومهما تكن عند امرىء من خليقة وان خالها تخفى على الناس تُعلم

وقد اعرب النبي (ص) عن ذلك قائلاً : «من اسر سريرة رداه الله رداءها ، ان خيرا فخير وان شرا فشر» (2) .

(1) البحار م 15 ص 53 عن قرب الاسناد .
(2) الوافي ج 3 ص 147 من خبر عن الكافي .
أخلاق أهل البيت 93

علاج الرياء

وبعد ان عرفنا طرفا من مساويء الرياء ، يجدر بنا ان نعرض اهم النصائح الاخلاقية في علاجه وملافاته ، وقد شرحت في بحث الاخلاص طرفا من مساويء الرياء ومحاسن الاخلاص فراجعه هناك .


وذلك برعاية النصائح المجملة التالية :
1 ـ محاكمة الشيطان ، واحباط مكائده ونزعاته المرائية ، بأسلوب منطقي يقنع النفس ، ويرضي الوجدان .
2 ـ زجر الشيطان وطرد هواجسه في المراءاة طردا حاسما ، والاعتماد على ما انطوى عليه المؤمن من حب الاخلاص ، ومقت الرياء .
3 ـ تجنب مجالات الرياء ومظاهره ، وذلك باخفاء الطاعات والعبادات وسترها عن ملأ الناس ، ريثما يثق الانسان بنفسه ، ويحرز فيها الاخلاص .
ومن طرائف الرياء والمرائين ما قيل :
ان اعرابياً دخل المسجد ، فرأى رجلا يصلي بخشوع وخضوع ، فأعجبه ذلك ، فقال له : نعم ما تصلي .
قال : وانا صائم ، فان صلاة الصائم ، تضعف صلاة المفطر .
فقال له الاعرابي : تفضل واحفظ ناقتي هذه ، فان لي حاجة حتى اقضيها . فخرج لحاجته ، فركب المصلي ناقته وخرج ، فلما قضى الاعرابي حاجته ، رجع فلم يجد الرجل ولا الناقة ، وطلبه فلم يقدر عليه ، فخرج وهو يقول :
صلى فأعجبني وصام فرامني منح القلوص عن المصلي الصائم

وصلى اعرابي فخفف صلاته ، فقام اليه علي (ع) بالدرة وقال : اعدها ، فلما فرغ قال : اهذه خير ام الاولى ؟ قال : بل الاولى قال : ولم ؟ قال : لان الاولى لله وهذه للدرة .

أخلاق أهل البيت 94

العجب

وهو استعظام الانسان نفسه ، لاتصافه بخلة كريمة ، ومزية مشرفة ، كالعلم والمال والجاه والعمل الصالح .
ويتميز العجب عن التكبر ، بأنه استعظام النفس مجردا عن التعالي على الغير ، والتكبر هما معا .
والعجب من الصفات المقيتة ، والخلال المنفرة ، الدالة على ضعة النفس ، وضيق الافق ، وصفاقة الاخلاق ، وقد نهت الشريعة عنه ، وحذرت منه . قال تعالى : «فلا تزكوا انفسكم هو اعلم بمن اتقى» (1) .
وقال الصادق (ع) : «من دخله العجب هلك» (2) .
وعنه (ع) : «قال ابليس لعنه الله لجنوده : اذا استمكنت من ابن آدم في ثلاث لم ابال ما عمل ، فانه غير مقبول منه ، اذا استكثر عمله ، ونسي ذنبه ، ودخله العجب» (3) .
وقال الباقر (ع) : «ثلاث هن قاصمات الظهر : رجل استكثر عمله ، ونسي ذنوبه ، واعجب برأيه» (4) .
وقال الصادق (ع) : «اتى عالم عابدا فقال له : كيف صلاتك ؟ فقال : مثلي يسأل عن صلاته ؟ وانا اعبد الله تعالى منذ كذا وكذا ، قال : فكيف بكاؤك ؟ قال : ابكي حتى تجري دموعي . فقال له العالم : فان ضحكك وانت خائف خير (افضل خ ل) من بكائك وانت مدل ، ان المدل لا يصعد من عمله شيء» (5) .
وعن احدهما عليهما السلام ، قال : «دخل رجلان المسجد احدهما عابد والاخر فاسق ، فخرجا من المسجد والفاسق صديق ، والعابد فاسق ، وذلك
(1) النجم : 32 .
(2) الوافي ج 3 ص 151 عن الكافي .
(3) (4) البحار م 15 ج 3 موضوع العجب بالاعمال عن الخصال للصدوق .
(5) الوافي ج 3 ص 151 عن الكافي .
أخلاق أهل البيت 95

انه يدخل العابد المسجد مدلا بعبادته ، يدل بها ، فتكون فكرته في ذلك ، وتكون فكرة الفاسق في الندم على فسقه ، ويستغفر الله تعالى لما ذكر من الذنوب» (1) .
وعن ابي عبد الله عن آبائه عليهم السلام قال : «قال رسول الله (ص) : لولا ان الذنب خير للمؤمن من العجب ، ما خلى الله بين عبده المؤمن وبين ذنب ابداً» (2) .
والجدير بالذكر : ان العجب الذميم هو استكثار العمل الصالح ، والادلال به ، اما السرور به مع التواضع لله تعالى ، والشكر له على توفيقه لطاعته ، فذلك ممدوح ولا ضير فيه .

مساويء العجب

للعجب اضرار ومساويء :
1 ـ انه سبب الانانية والتكبر ، فمن اعجب بنفسه ازدهاه العجب ، وتعالى على الناس ، وتجبر عليهم ، وذلك يسبب مقت الناس وهوانهم له .
2 ـ انه يعمي صاحبه عن نقائصه ومساوئه ، فلا يهتم بتجميل نفسه ، وملاقاة نقائصه ، مما يجعله في غمرة الجهل والتخلف .
3 ـ انه باعث على استكثار الطاعة ، والادلال بها ، وتناسي الذنوب والاثام ، وفي ذلك اضرار بليغة ، فتناسي الذنوب يعيق عن التوبة والانابة الى الله عز وجل منها ، ويعرض ذويها لسخطه وعقابه ، واستكثار الطاعة والعبادة يكدرها بالعجب والتعامي عن آفاتها ، فلا تنال شرف الرضا والقبول من المولى عز وجل .

علاج العجب

وحيث كان العجب والتكبر صنوان من اصل واحد ، وان اختلفا في الاتجاه ، فالعجب كما اسلفنا استعظام النفس مجردا عن التعالي ، والتكبر هما

(1) الوافي ج 3 ص 151 عن الكافي .
(2) البحار م 15 ج 3 بحث العجب عن امالي ابي علي بن الشيخ الطوسي .
أخلاق أهل البيت 96

معا ، فعلاجهما واحد ، وقد اوضحناه في بحث التكبر .
وجدير بالمعجب بنفسه ، ان يدرك ان جميع ما يبعثه على الزهو والاعجاب من صنوف الفضائل والمزايا ، انما هي نعم الهية يسديها المولى الى من شاء من عباده ، فهي احرى بالحمد ، واجدر بالشكر من العجب والخيلاء .
وهي الى ذلك عرضة لصروف الاقدار ، وعوادي الدهر ، فما للانسان والعجب !!
ومن طريف ما نقل عن بعض الصلحاء في ملاقاة خواطر العجب :
قيل : ان بعضهم خرج في جنح الظلام متجهاً الى بعض المشاهد المشرفة ، لاداء مراسم العبادة والزيارة ، فبينا هو في طريقه اذ فاجأه العجب بخروجه سحراً ، ومجافاته لذة الدفء وحلاوة الكرى من اجل العبادة .
فلاح له آنذاك ، بائع شلغم فانبرى نحوه ، فسأله كم تربح في كسبك وعناء خروجك في هذا الوقت ؟ فأجابه : درهمين او ثلاث ، فرجع الى نفسه مخاطباً لها علام العجب ؟ وقيمة اسحاري لا تزيد عن درهمين او ثلاث .
ونقل عن آخر : انه عمل في ليلة القدر اعمالا جمة من الصلوات والدعوات والاوراد ، استثارت عجبه ، فراح يعالجه بحكمة وسداد : فقال لبعض المتعبدين : كم تتقاضى على القيام بأعمال هذه الليلة ، وهي كيت وكيت . فقال : نصف دينار ، فرجع الى نفسه مؤنباً لها وموحياً اليها ، علام العجب وقيمة اعمالي كلها نصف دينار ؟


اليقين

وهو : الاعتقاد باصول الدين وضروراته ، اعتقاداً ثابتاً ، مطابقاً للواقع ، لا تزعزعه الشبه ، فان لم يطابق الواقع فهو جهل مركب .
واليقين هو غرة الفضائل النفسية ، واعز المواهب الالهية ، ورمز الوعي والكمال ، وسبيل السعادة في الدارين . وقد اولته الشريعة اهتماماً بالغاً ومجدت ذويه تمجيداً عاطراً ، واليك طرفاً منه :

أخلاق أهل البيت 97

قال الصادق (ع) : «ان الايمان افضل من الاسلام ، وان اليقين افضل من الايمان ، وما من شيء اعز من اليقين» (1) .
وقال (ع) : «ان العمل الدائم القليل على اليقين ، افضل عند الله من العمل الكثير على غير يقين» (2) .
وقال الصادق (ع) : «من صحة يقين المرء المسلم ، ان لا يرضي الناس بسخط الله ، ولا يلومهم على ما لم يأته الله ، فان الرزق لا يسوقه حرص حريص ، ولا يرده كراهية كاره ، ولو ان احدكم فر من رزقه كما يفر من الموت ، لادركه رزقه كما يدركه الموت» .
ثم قال : «ان الله بعدله وقسطه جعل الروح والراحة في اليقين والرضا ، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط» (3) .
وعنه (ع) قال : كان امير المؤمنين (ع) يقول : «لا يجد عبد طعم الايمان ، حتى يعلم ان ما اصابه ، لم يكن ليخطئه ، وان ما أخطأه لم يكن ليصيبه ، وان الضار النافع هو الله تعالى» (4) .
وسئل الامام الرضا (ع) عن رجل يقول بالحق ويسرف على نفسه ، يشرف الخمر ويأتي الكبائر ، وعن رجل دونه في اليقين وهو لا يأتي ما يأتيه ، فقال (ع) : احسنهما يقيناً كالنائم على المحجة ، اذا انتبه ركبها ، والادون الذي يدخله الشك كالنائم على غير طريق ، لا يدري اذا انتبه ايهما المحجة» (5) .
وقال الصادق (ع) : ان رسول الله (ص) صلى بالناس الصبح ، فنظر الى شاب في المسجد وهو يخفق ويهوي برأسه ، مصفراً لونه ، قد نحف جسمه ، وغارت عيناه في رأسه ، فقال له رسول الله : كيف اصبحت يا فلان ؟ قال :

(1) البحار م 15 ج 2 ص 57 عن الكافي .
(2) البحار م 15 ج 2 ص 60 عن الكافي .
(3) الوافي ج 3 ص 54 عن الكافي .
(4) الوافي ج 3 ص 54 عن الكافي .
(5) سفينة البحار ج 2 ص 734 عن فقه الرضا .
أخلاق أهل البيت 98

اصبحت يا رسول الله موقناً ، فعجب رسول الله من قوله ، وقال له : ان لكل يقين حقيقة ، فما حقيقة يقينك ؟
فقال : ان يقيني يا رسول الله هو الذي احزنني ، واسهر ليلي ، واظمأ هواجري ، فعزفت نفسي عن الدنيا وما فيها ، حتى كأني انظر الى عرش ربي ، وقد نصب للحساب ، وحشر الخلائق لذلك ، وانا فيهم ، وكأني انظر الى اهل الجنة يتنعمون في الجنة ويتعارفون ، على الارائك متكئون ، وكأني انظر الى اهل النار وهو فيها معذبون ، مصطفون ، وكأني الان اسمع زفير النار يدور في مسامعي .
فقال رسول الله (ص) لاصحابه : هذا عبد نور الله قلبه بالايمان ، ثم قال له : الزم ما انت عليه ، فقال الشاب : ادع الله لي يا رسول الله ان ارزق الشهادة معك ، فدعا له رسول الله فلم يلبث ان خرج في بعض غزوات النبي فاستشهد بعد تسعة نفر وكان هو العاشر» (1) .

خصائص الموقنين

متى ازدهرت النفس باليقين ، واستنارت بشعاعه الوهاج ، عكست على ذويها الوانا من الجمال والكمال النفسيين ، وتسامت بهم الى اوج روحي رفيع ، يتألقون في آفاقه تألق الكواكب النيرة ، ويتميزون عن الناس تميز الجواهر الفريدة من الحصا .
فمن ابرز خصائصهم ومزاياهم ، انك تجدهم دائبين في التحلي بمكارم الاخلاق ، ومحاسن الافعال ، وتجنب رذائلها ومساوئها ، لا تخدعهم زخارف الحياة ، ولا تلهيهم عن تصعيد كفاءاتهم ومؤهلاتهم الروحية لنيل الدرجات الرفيعة ، والسعادة المأمولة في الحياة الاخروية ، فهم متفانون في طاعة الله عز وجل ، ابتغاء رضوانه ، وحسن مثوبته ، متوكلون عليه ، في سراء الحياة وضرائها ، لا يرجون ولا يخشون احداً سواه ، ليقينهم بحسن تدبيره وحكمة افعاله .

(1) الوافي ج 3 ص 33 عن الكافي .
أخلاق أهل البيت 99

لذلك تستجاب دعواتهم ، وتظهر الكرامات على ايديهم ، وينالون شرف الحظوة والرعاية من الله عز وجل .

درجات الايمان

ويحسن بي وانا اتحدث عن اليقين ان اعرض طرفاً من مفاهيم الايمان ودرجاته ، وانواعه اتماما للبحث وتنويراً للمؤمنين .
يتفاضل الناس في درجات الايمان تفاضلا كبيرا ، فمنهم المجلي السباق في حلبة الايمان ، ومنهم الواهن المتخلف ، ومنهم بين هذا وذاك كما صورته الرواية الكريمة :
قال الصادق (ع) : «ان الايمان عشر درجات ، بمنزلة السلم ، يصعد منه مرقاة بعد مرقاة ، فلا يقولن صاحب الاثنين لصاحب الواحد لست على شيء ، حتى ينتهي الى العاشرة ، فلا تسقط من هو دونك ، فيسقطك من هو فوقك ، واذا رأيت من هو اسفل منك بدرجة فارفعه اليك برفق ، ولا تحملن عليه ما لا يطيق فتكسره ، فان من كسر مؤمناً فعليه جبره» (1) .

أنواع الايمان

ينقسم الايمان الى ثلاثة انواع : فطري ، ومستودع ، وكسبي .
1 ـ فالفطري : هو ما كان هبة الاهية ، قد فطر عليه الانسان ، كما في الانبياء والاوصياء عليهم السلام ، فانهم المثل الاعلى في قوة الايمان ، وسمو اليقين ، لا تخالجهم الشكوك ، ولا تعروهم الوساوس .
2 ـ المستودع وهو : ما كان صورياً طافياً على اللسان ، سرعان ما تزعزعه الشبه والوساوس ، كما قال الصادق (ع) : «ان العبد يصبح مؤمناً ، ويمسي كافراً ، ويصبح كافراً ، ويمسي مؤمناً ، وقوم يعارون الايمان ثم يلبسونه ، ويسمون المعارين» (2) .

(1) الوافي ج 3 ص 30 عن الكافي .
(2) الوافي ج 3 ص 50 عن الكافي .
أخلاق أهل البيت 100

وقال (ع) : «ان الله تعالى جبل النبيين على نبوتهم ، فلا يرتدون ابدا ، وجبل الاوصياء على وصاياهم فلا يرتدون ابدا ، وجبل بعض المؤمنين على الايمان فلا يرتدون ابدا ، ومنهم من اعير الايمان عارية ، فاذا هو دعا والح في الدعاء مات على الايمان» (1) .
وهكذا تعقب الامام الصادق (ع) على حديثيه السالفين بحديث ثالث بجعله مقياسا للتمييز بين الايمان الثابت من المستودع ، فيقول : ان الحسرة والندامة والويل كله لمن لم ينتفع بما ابصره ولم يدر ما الامر الذي هوعليه مقيم ، انفع له ام ضر ، قلت (الراوي) فبم يعرف الناجي من هؤلاء جعلت فداك ؟
قال : «من كان فعله لقوله موافقا ، فأثبت له الشهادة بالنجاة ، ومن لم يكن فعله لقوله موافقاً ، فانما ذلك مستودع» (2) .
3 ـ الكسبي : هو الايمان الفطري الطفيف الذي نماه صاحبه واستزاد رصيده حتى تكامل وسمى الى مستوى رفيع ، وله درجات ومراتب .
واليك بعض الوصايا والنصائح الباعثة على صيانة الجزء الفطري من الايمان ، وتوفير الكسبي منه :
1 ـ مصاحبة المؤمنين الاخيار ، ومجانبة الشقاة والعصاة ، فان الصاحب متأثر بصاحبه ومكتسب من سلوكه واخلاقه ، كما قال الرسول الاعظم (ص) : «المرء على دين خليله ، فلينظر احدكم من يخالل» .
2 ـ ترك النظر والاستماع الى كتب الضلال ، واقلوال المضللين ، المولعين بتسميم افكار الناس وحرفهم عن العقيدة والشريعة الاسلاميتين ، وافساد قيم الايمان ومفاهيمه في نفوسهم .
3 ـ ممارسة النظر والتفكر في مخلوقات الله عز وجل ، وما اتصفت به من جميل الصنع ، ودقة النظام ، وحكمة التدبير ، الباهرة المدهشة «وفي الارض

(1) الوافي ج 3 ص 50 عن الكافي .
(2) الوافي ج 3 ص 50 عن الكافي .
أخلاق أهل البيت 101

آيات للموقنين ، وفي انفسكم افلا تبصرون» (1) .
4 ـ ومن موجبات الايمان وتوفير رصيده ، جهاد النفس ، وترويضها على طاعة الله تعالى ، وتجنب معاصيه ، لتعمر النفس بمفاهيم الايمان ، وتشرق بنوره الوضاء فهي كالماء الزلال ، لا يزال شفافاً رقراقاً ، ما لم تكدره الشوائب فيغدو آنذاك آسناً قاتماً لا صفاء فيه ولا جمال . ولولا صدأ الذنوب ، واوضار الاثامالتي تنتاب القلوب و النفوس ، فتجهم جمالها وتخبيء انوارها ، لاستنار الاكثرون بالايمان ، وتألقت نفوسهم بشعاعه الوهاج . «ونفس وما سواها ، فألهما فجورها وتقواها ، قد افلح من زكاها ، وقد خاب من دساها» (2) .
وقال الصادق (ع) : «اذا اذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء ، فان تاب انمحت ، وان زاد زادت ، حتى تغلب على قلبه فلا يفلح بعدها ابداً» (3) .


الصبر

وهو : احتمال المكاره من غير جزع ، او بتعريف آخر هو : قسر النفس على مقتضيات الشرع والعقل اوامراً ونواهياً ، وهو دليل رجاحة العقل ، وسعة الافق ، وسمو الخلق ، وعظمة البطولة والجلد ، كما هو معراج طاعة الله تعالى ورضوانه ، وسبب الظفر والنجاح ، والدرع الواقي من شماتة الاعداء والحساد .
وناهيك في شرف الصبر ، وجلالة الصابرين ، ان الله عز وجل ، اشاد بهما ، وباركهما في نيف وسبعين موطناً من كتابه الكريم :
بشر الصابرين بالرضا والحب ، فقال تعالى : «والله يحب الصابرين» (4) .
ووعدهم بالتأييد : «واصبر ان الله يحب الصابرين» (5) .

(1) الذاريات (20 ـ 21) .
(2) الشمس (7 ـ 10) .
(3) الوافي ج 3 ص 167 عن الكافي .
(4) آل عمران : 146 .
(5) الانفال : 46 .
أخلاق أهل البيت 102

ومنحهم الثواب الجميل : « انما يوفى الصابرون اجرهم بغير حساب » (1) .
واغدق عليهم الوان العناية واللطف : « ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ، ونقص من الاموال والانفس والثمرات ، وبشر الصابرين ، الذين اذا اصابتهم مصيبة قالوا : انا لله وانا اليه راجعون ، اولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة ، واولئك هم المهتدون» (2) .
وهكذا تواترت اخبار اهل البيت عليهم السلام في تمجيد الصبر والصابرين :
قال الصادق : «الصبر من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد ، فاذا ذهب الرأس ذهب الجسد ، وكذلك اذا ذهب الصبر ذهب الايمان» (3) .
وقال الباقر (ع) : «الجنة محفوفة بالمكاره والصبر ، فمن صبر على المكاره في الدنيا دخل الجنة ، وجهنم محفوفة باللذات والشهوات ، فمن اعطى نفسه لذتها وشهوتها دخل النار» (4) .
وقال (ع) : «لما حضرت ابي الوفاة ضمني الى صدره وقال : يا بني ، اصبر على الحق وان كان مراً ، توف اجرك بغير حساب» (5) .
وقال الصادق (ع) : «من ابتلي من المؤمنين ببلاء فصبر عليه كان له اجر الف شهيد» (6) .
ورب قائل يقول : كيف يعطى الصابر اجر الف شهيد ، والشهداء هم ابطال الصبر على الجهاد والفداء ؟
فالمراد : ان الصابر يستحق اجر اولئك الشهداء ، وان كانت مكافأتهم

(1) الزمر : 10 .
(2) البقرة : (155 ـ 157) .
(3) الوافي : ( ج 3 ص 65 عن الكافي) .
(4) الوافي ج 3 ص 65 عن الكافي .
(5) الوافي ج 3 ص 65 عن الكافي .
(6) الوافي ج 3 ص 66 عن الكافي .
أخلاق أهل البيت 103

وثوابهم على الله تعالى اضعافاً مضاعفة عنه .
وقال أمير المؤمنين عليه السلام : «من لم ينجه الصبر ، اهلكه الجزع» (1) .

أقسام الصبر

ينقسم الصبر باعتبار ظروفه ومقتضياته اقساما اهمها :
(1) الصبر على المكاره والنوائب ، وهو اعظم اقسامه ، واجل مصاديقه الدالة على سمو النفس ، وتفتح الوعي ، ورباطة الجأش ، ومضاء العزيمة .
فالانسان عرضة للمآسي والارزاء ، تنتابه قسراً واعتباطاً ، وهو لا يملك ازائها حولاً ولا قوة ، وخير ما يفعله الممتحن هو التذرع بالصبر ، فانه بلسم القلوب الجريحة ، وعزاء النفوس المعذبة .
ولولاه لانهار الانسان ، وغدا صريع الاحزان والآلام ، من اجل ذلك حرضت الايات والاخبار على التحلي بالصبر والاعتصام به :
قال تعالى : «وبشر الصابرين الذين اذا اصابتهم مصيبة قالوا : انا لله وانا اليه راجعون ، اولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة واولئك هم المهتدون» (2) .
وقال أمير المؤمنين (ع) : «ان صبرت جرى عليك القدر وانت مأجور ، وان جزعت جرى عليك القدر ، وانت مأزور» (3) .
مما يجدر ذكره ان الصبر الجميل المحمود هو الصبر على النوائب التي لا يستطيع الانسان دفعها والتخلص منها ، كفقد عزيز ، او اغتصاب مال ، او اضطهاد عدو .
اما الاستسلام للنوائب ، والصبر عليها مع القدرة على درئها وملافاتها فذلك حمق يستنكره الاسلام ، كالصبر على المرض وهو قادر على علاجه ، وعلى

(1) نهج البلاغة .
(2) البقرة ( 155 ـ 157 ) .
(3) نهج البلاغة .
أخلاق أهل البيت 104

الفقر وهو يستطيع اكتساب الرزق ، وعلى هضم الحقوق وهو قادر على استردادها وصيانتها .
ومن الواضح ان ما يجرد المرء من فضيلة الصبر ، ويخرجه عن التجلد ، هو الجزع المفرط المؤدي الى شق الجيوب ، ولطم الخدود ، والاسراف في الشكوى والتذمر .
اما الآلام النفسية ، والتنفيس عنها بالبكاء ، او الشكاية من متاعب المرض وعنائه فانها من ضرورات العواطف الحية ، والمشاعر النبيلة ، كما قال (ص) عند وفاة ابنه ابراهيم :
(تدمع العين ، ويحزن القلب ، ولا نقول ما يسخط الرب) .
وقد حكت لنا الاثار طرفاً رائعاً ممتعاً من قصص الصابرين على النوائب ، مما يبعث على الاعجاب والاكبار ، وحسن التأسي بأولئك الافذاذ .
حكي ان كسرى سخط على بزرجمهر : فحبسه في بيت مظلم ، وامر ان يصفد بالحديد ، فبقي اياما على تلك الحال ، فأرسل اليه من يسأله عن حاله ، فاذا هو منشرح الصدر ، مطمئن النفس ، فقالوا له : انت في هذه الحالة من الضيق ونراك ناعم البال . فقال : اصطنعت ستة اخلاط وعجنتها واستعملتها ، فهي التي ابقتني على ما ترون . قالوا : صف لنا هذه لعلنا ننتفع بها عند البلوى ، فقال : نعم .
اما الخلط الاول : فالثقة بالله عز وجل .
واما الثاني : فكل مقدر كائن .
واما الثالث : فالصبر خير ما استعمله الممتحن .
واما الرابع : فاذا لم اصبر فماذا اصنع ، ولا اعين على نفسي بالجزع .
واما الخامس : فقد يكون غيري اشد مما انا فيه .
واما السادس : فمن ساعة الى ساعة فرج .
فبلغ ما قاله كسرى فأطلقه واعزه» (1) .

(1) سفينة البحار ج 2 ص 7 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي