أخلاق أهل البيت 76

وما دالت الدول الكبرى ، وتلاشت الحضارات العتيدة ، الا بضياع العدل والاستهانة بمبدئه الاصيل ، وقد كان اهل البيت عليهم السلام المثل الاعلى للعدل ، وكانت اقوالهم وافعالهم دروساً خالدة تنير للانسانية مناهج العدل والحق والرشاد .
واليك نماذج من عدلهم :
قال سوادة بن قيس للنبي (ص) في ايام مرضه : يا رسول الله انك لما اقبلت من الطائف استقبلتك وانت على ناقتك العضباء ، وبيدك القضيب الممشوق ، فرفعت القضيب وانت تريد الراحلة ، فأصاب بطني ، فأمره النبي ان يقتص منه ، فقال : اكشف لي عن بطنك يا رسول الله فكشف عن بطنه ، فقال سوادة : أتأذن لي ان اضع فمي على بطنك ، فأذن له فقال : اعوذ بموضع القصاص من رسول الله من النار يوم النار ، فقال (ص) : يا سوادة بن قيس اتعفو ام تقتص ؟ فقال : بل اعفو يا رسول الله . فقال : اللهم اعف عن سوادة بن قيس كما عفا عن نبيك محمد (1) .
وقال ابو سعيد الخدري : جاء اعرابي الى النبي (ص) يتقاضاه ديناً كان عليه ، فاشتد عليه حتى قال له : احرج عليك الا قضيتي ، فانتهره اصحابه وقالوا : ويحك ، تدري من تكلم ؟ !! قال : اني اطلب حقي . فقال النبي (ص) : هلا مع صاحب الحق كنتم ، ثم ارسل الى خولة بنت قيس فقال لها : ان كان عندك تمر فأقرضينا ، حتى يأتي تمرنا فنقضيك . فقالت : نعم بأبي انت وامي يا رسول الله . قال :فاقرضته فقضى الاعرابي واطعمه . فقال : اوفيت اوفى الله لك ؟ فقال (ص) : «اولئك خيار الناس ، انه لا قدست امة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متتعتع» .
وقيل : ان الاعرابي كان كافراً ، فأسلم بمشاهدة هذا الخلق الرفيع ، وقال : يا رسول الله ما رأيت اصبر منك (2) .

(1) سفينة البحار ج 1 ص 671 .
(2) فضائل الخمسة من الصحاح الستة ج 1 ص 122 عن صحيح ابن ماجه .
أخلاق أهل البيت 77

وهكذا كان أمير المؤمنين علي (ع) :
قال الصادق (ع) لما ولي علي صعد المنبر فحمد الله ، واثنى عليه ، ثم قال : اني لا ارزؤكم من فيئكم درهماً ، ما قام لي عذق بيثرب ، فلتصدقكم انفسكم ، افتروني مانعا نفسي ومعطيكم ؟ !! قال : فقال اليه عقيل كرم الله وجهه فقال له : الله ، لتجعلني واسود بالمدينة سواء ، فقال (ع) : اجلس ، اما كان هنا احد يتكلم غيرك ، وما فضلك عليه الا بسابقة او بتقوى (1) .
وجاء في صواعق ابن حجر ص 79 قال : واخرج ابن عساكر ان عقيلا سأل علياً عليه السلام فقال : اني محتاج ، واني فقير فأعطني . قال : اصبر حتى يخرج عطاؤك مع المسلمين ، فأعطيك معهم ، فألح عليه ، فقال لرجل : خذ بيده وانطلق به الى حوانيت اهل السوق فقل له دق هذه الاقفال ، وخذ ما في هذه الحوانيت . قال : تريد ان تتخذني سارقاً ؟ قال : وانت تريد ان تتخذني سارقاً ، ان آخذ اموال المسلمين فأعطيكها دونهم ؟ قال : لآتين معاوية . قال : انت وذاك . فأتى معاوية فسأله فأعطاه مائة الف ، ثم قال : اصعد على المنبر ، فاذكر ما اولاك به علي وما اوليتك ، فصعد فحمد الله ، واثنى عليه ، ثم قال : ايها الناس اني اخبركم اني اردت علياً عليه السلام على دينه فاختار دينه ، واني اردت معاوية على دينه فاختارني على دينه (2) .
ومشى اليه عليه السلام ثلة من اصحابه عند تفرق الناس عنه ، وفرار كثير منهم الى معاوية ، طلبا لما في يديه من الدنيا ، فقالوا : يا أمير المؤمنين اعط هذه الاموال ، وفضل هؤلاء الاشراف من العرب وقريش على الموالي والعجم ، ومن تخالف عليه من الناس فراره الى معاوية ، فقال لهم امير المؤمنين (ع) : «أتأمروني ان اطلب النصر بالجور ، لا والله ما افعل ، ما طلعت شمس ، ولاح في السماء نجم ، والله ، لو كان مالهم لي لواسيت بينهم ، وكيف وانما هي اموالهم» (3) .

(1) البحار م 9 ص 539 عن الكافي .
(2) فضائل الخمسة عن الصحاح الستة ج 3 ص 15 .
(3) البحار م 9 ص 533 بتصرف .
أخلاق أهل البيت 78

وقال ابن عباس : اتيته (يعني أمير المؤمنين علياً) فوجدته يخصف نعلاً ، ثم ضمها الى صاحبتها ، وقال لي : قومها . فقلت : ليس لهما قيمة . قال : على ذلك . قلت : كسر درهم . قال : والله ، لهما احب الي من امرتكم هذه الا ان اقيم حدا (حقاً) او ادفع باطلاً (1) .
وهو القائل : «والله لئن ابيت على حسك السعدان مسهدا ، وارج في الاغلال مصفدا ، احب الي من ان القى الله ورسوله يوم القيامة ظالما لبعض العباد ، وغاصبا لشيء من الحطام ، وكيف اظلم احدا لنفس يسرع الى البلى قفولها ، ويطول في الثرى حلولها» (2) .

الظلم

الظلم لغة : وضع الشيء في غير موضعه ، فالشرك ظلم عظيم ، لجعله موضع التوحيد عند المشركين .
وعرفاً هو : بخس الحق ، والاعتداء على الغير ، قولا او عملا ، كالسباب ، والاغتياب ، ومصادرة المال ، واجترام الضرب اوالقتل ، ونحو ذلك من صور الظلامات المادية او المعنوية.
والظلم من السجايا الراسخة في اغلب النفوس ، وقد عانت منه البشرية في تاريخها المديد الوان المآسي والاهوال ، مما جهم الحياة ، ووسمها بطابع كئيب رهيب .
والظلم من السجايا الراسخة في اغلب النفوس ، وقد عانت منه البشرية في تاريخها المديد الوان المآسي والاهوال ، مما جهم الحياة ، ووسمها بطابع كئيب رهيب .
والظلم من شيم النفوس فان تجد ذا عفـــة فلعــلة لا يـظـلم

من اجل ذلك كان الظلم جماع الاثام ومنبع الشرور ، وداعية الفساد والدمار .
وقد تكاثرت الايات والاخبار بذمه والتحذير منه .
قال تعالى : «انه لا يفلح الظالمون» (3) .

(1) سفينة البحار ج 2 ص 570 بتصرف .
(2) سفينة البحار ج 2 ص 606 عن النهج .
(3) الانعام : 21 .
أخلاق أهل البيت 79

«ان الله لا يهدي القوم الظالمين» (1) .
«والله لا يحب الظالمين» (2) .
«ان الظالمين لهم عذاب اليم» (3) .
«ولقد اهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا» (4) .
وقال تعالى : «ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون ، انما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الابصار» (5) .
وقال سبحانه : «ولو ان لكل نفس ظلمت ما في الارض لافتدت به ، واسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون» (6) .
وقال أمير المؤمنين (ع) : «والله لو اعطيت الاقاليم السبعة بما تحت افلاكها ، على ان اعصي الله في نملة اسلبها جلب شعيرة ما فعلت ، وان دنياكم لاهون علي من ورقة في فم جرادة ، ما لعلي ونعيم يفنى ولذة لا تبقى» (7) . وعن ابي بصير قال : « دخل رجلان على ابي عبد الله (ع) في مداراة بينهما ومعاملة ، فلما ان سمع كلامهما قال : اما انه ما ظفر احد بخير من ظفر بالظلم ، اما ان المظلوم يأخذ من دين الظالم اكثر مما يأخذ الظالم من مال المظلوم . ثم قال : من يفعل الشر بالناس فلا ينكر الشر اذا فعل به ، اما انه انما يحصد ابن آدم ما يزرع ، وليس يحصد احد من المر حلواً ، ولا من الحلو مراً ، فاصطلح الرجلان قبل ان يقوما» (8) .
وقال (ع) : «من اكل مال اخيه ظلما ولم يرده اليه ، اكل جذوة من النار يوم القيامة» (9) .

(1) الانعام : 144 .
(2) آل عمران : 57 .
(3) ابراهيم : 22 .
(4) يونس : 13 .
(5) اابراهيم : 42 .
(6) يونس : 54 .
(7) نهج البلاغة .
(8) ، (9) الوافي ج 3 ص 162 عن الكافي .
أخلاق أهل البيت 80

وقال الصادق (ع) : «من ظلم سلط الله عليه من يظلمه ، او على عقبه ، او على عقب عقبه» .
قال (الراوي) : يظلم هو فيسلط على عقبه ؟ فقال ، ان الله تعالى يقول : «وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم فليتقوا الله ، وليقولوا قولاً سديداً» (النساء : 9) (1) .
وتعليلاً للخبر الشريف : ان مؤاخذة الابناء بجرائم الاباء انما هو في الابناء الذين ارتضوا مظالم آبائهم او اغتنموا تراثهم المغصوب ، ففي مؤاخذاتهم زجر عاطفي رهيب ، يردع الظالم عن العدوان خشية على ابنائه الاعزاء ، وبشارة للمظلوم على معالجة ظالمه بالانتقام ، مشفوعة بثواب ظلامته في الاخرة .
وعن ابي عبد الله (ع) قال : قال رسول الله (ص) : «من اصبح لايهم بظلم غفر الله له ما اجترم» (2) .
اي ما اجترم من الذنوب التي بينه وبين الله عز وجل في ذلك اليوم .
الى كثير من الروايات الشريفة التي ستراها في مطاوي هذا البحث .

انواع الظلم

يتنوع الظلم صوراً نشير اليها اشارة لامحة :
1 ـ ظلم الانسان نفسه :
وذلك باهمال توجيهها الى طاعة الله عز وجل ، وتقويمها بالخلق الكريم ، والسلوك الرضي ، مما يزجها في متاهات الغواية والضلال ، فتبوء آنذاك بالخيبة والهوان .
«ونفس وما سواها ، فألهمها فجورها وتقواها ، قد افلح من زكاها ، وقد خاب من دساها» (3) .

(1) ، (2) الوافي ج 3 ص 162 عن الكافي .
(3) الشمس : (7 ـ 10) .
أخلاق أهل البيت 81

2 ـ ظلم الانسان عائلته :
وذلك باهمال تربيتهم تربية اسلامية صادقة ، واغفال توجيههم وجهة الخير والصلاح ، وسياستهم بالقسوة والعنف ، والتقتير عليهم بضرورات الحياة ولوازم العيش الكريم ، مما يوجب تسيبهم وبلبلة حياتهم ، مادياً وادبياً .
3 ـ ظلم الانسان ذوي قرباه :
وذلك بجفائهم وخذلانهم في الشدائد والازمات ، وحرمانهم من مشاعر العطف والبر ، مما يبعث على تناكرهم وتقاطعهم .
4 ـ ظلم الانسان للمجتمع :
وذلك بالاستعلاء على افراده وبخس حقوقهم ، والاستخفاف بكراماتهم ، وعدم الاهتمام بشؤونهم ومصالحهم . ونحو ذلك من دواعي تسيب المجتمع وضعف طاقاته .
وابشع المظالم الاجتماعية ، ظلم الضعفاء ، الذين لا يستطيعون صد العدوان عنهم ، ولا يملكون الا الشكاة والضراعة الى العدل الرحيم في اساهم ، وظلاماتهم .
فعن الباقر (ع) قال : لما حضر علي بن الحسين (ع) الوفاة ، ضمني الى صدره ، ثم قال : «يا بني اوصيك بما اوصاني به ابي حين حضرته الوفاة ، وبما ذكر ان اباه اوصاه به ، قال : يا بني اياك وظلم من لا يجد عليك ناصرا الا الله تعالى» (1) .
5 ـ ظلم الحكام والمتسلطين :
وذلك باستبدادهم ، وخنقهم حرية الشعوب ، وامتهان كرامتها ، وابتزاز اموالها ، وتسخيرها لمصالحهم الخاصة .
من اجل ذلك كان ظلم الحكام اسوأ انواع الظلم واشدها نكرا ، وابلغها ضررا في كيان الامة ومقدراتها .

(1) الوافي ج 3 ص 162 عن الكافي .
أخلاق أهل البيت 82

قال الصادق (ع) : «ان الله تعالى اوحى الى نبي من الانبياء ، في مملكة جبار من الجبابرة : ان ائت هذا الجبار فقل له : اني لم استعملك على سفك الدماء ، واتخاذ الاموال ، وانما استعملتك لتكف عني اصوات المظلومين ، فاني لن ادع ظلامتهم وان كانوا كفاراً» (1) .
وعن الصادق عن آبائه عن النبي (ص) انه قال : «تكلم النار يوم القيامة ثلاثةً : اميراً ، وقارئاً ، وذا ثروة من المال .
فتقول للامير : يا من وهب الله له سلطاناً فلم يعدل ، فتزدرده كما يزدرد الطير حب السمسم .
وتقول للقاريء : يا من تزين للناس وبارز الله بالمعاصي فتزدرده .
وتقول للغني : يا من وهب الله له دنيا كثيرة واسعة فيضا ، وسأله الحقير اليسير قرضاً فأبى الا بخلاً فتزدرده» (2) .
وليس هذا الوعيد الرهيب مقصورا على الجائرين فحسب ، وانما يشمل من ضلع في ركابهم ، وارتضى اعمالهم ، واسهم في جورهم ، فانه واياهم سواسية في الاثم والعقاب ، كما صرحت بذلك الآثار :
قال الصادق (ع) : «العامل بالظلم ، والمعين له ، والراضي به ، شركاء ثلاثتهم» (2) .
لذلك كانت نصرة المظلوم ، وحمايته من عسف الجائرين ، من افضل الطاعات ، واعظم القربات الى الله عز وجل ، وكان لها وقعها الجميل ، واثارها الطيبة في حياة الانسان المادية والروحية .
قال الامام الكاظم عليه السلام لابن يقطين : «اضمن لي واحدة اضمن لك ثلاثا ، اضمن لي ان لا تلقى احدا من موالينا في دار الخلافة الا بقضاء حاجته ، اضمن لك ان لا يصيبك حد السيف ابدا ، ولا يظلك سقف سجن

(1) الوافي ج 3 ص 162 عن الكافي .
(2) البحار م 16 ص 209 عن الخصال للصدوق (ره) .
(3) الوافي ج 3 ص 163 عن الكافي .
أخلاق أهل البيت 83

ابدا ، ولا يدخل الفقر بيتك ابدا» (1) .
وقال ابو الحسن (ع) : «ان لله جل وعز مع السلطان اولياء ، يدفع بهم عن اوليائه» .
وفي خبر آخر : «اولئك عتقاء الله من النار» (2) .
وقال الصادق (ع) : «كفارة عمل السلطان قضاء حوائج الاخوان» (3) .
وعن محمد بن جمهور وغيره من اصحابنا قال : كان النجاشي ـ وهو رجل من الدهاقين ـ عاملا على الاهواز وفارس ، فقال بعض اهل عمله لابي عبد الله (ع) : ان في ديوان النجاشي علي خراجا ، وهو ممن يدين بطاعتك ، فان رأيت ان تكتب لي اليه كتابا . قال : فكتب اليه ابو عبد الله : «بسم الله الرحمن الرحيم سر اخاك يسرك الله» .
فلما ورد عليه الكتاب وهو في مجلسه ، فلما خلا ناوله الكتاب وقال : هذا كتاب ابي عبد الله (ع) ، فقبله ووضعه على عينيه ثم قال : ما حاجتك ؟ فقال : علي خراج في ديوانك . قال له : كم هو ؟ قال : هو عشرة آلاف درهم .
قال : فدعا كاتبه فأمره بأدائها عنه ، ثم اخرج مثله فأمره ان يثبتها له لقابل ، ثم قال له : هل سررتك ؟ قال : نعم . قال : فأمر له بعشرة الاف درهم اخرى فقال له : هل سررتك ؟ قال : نعم جعلت فداك . فأمر له بمركب ، ثم امر له بجارية وغلام ، وتخت ثياب ، في كل ذلك يقول : هل سررتك ؟ فكلما قال : نعم ، زاده حتى فرغ ، فقال له : احمل فرش هذا البيت الذي كنت جالسا فيه حين دفعت الي كتاب مولاي فيه ، وارفع الي جميع حوائجك . قال : ففعل ، وخرج الرجل فصار الى ابي عبد الله عليه السلام ، فحدثه بالحديث على جهته ، فجعل يستبشر بما فعله .
قال له الرجل : يا بن رسول الله قد سرك ما فعل بي ؟ قال : اي والله ، لقد سر الله ورسوله (4) .

(1) كشكول البهائي طبع ايران ص 124 .
(2) ، (3) الوافي ج 10 ص 28 عن الفقيه .
(4) الوافي ج 10 ص 28 عن الكافي .
أخلاق أهل البيت 84

وخامة الظلم

بديهي ان استبشاع الظلم واستنكاره ، فطري في البشر ، تأباه النفوس الحرة ، وتستميت في كفاحه وقمعه ، وليس شيء اضر بالمجتمع ، وادعى الى تسيبه ودماره من شيوع الظلم وانتشار بوائقه فيه .
فالاغضاء عن الظلم يشجع الطغاة على التمادي في الغي والاجرام ، ويحفز الموتورين على الثأر والانتقام ، فتشيع بذلك الفوضى ، وينتشر الفساد ، وتغدو الحياة مسرحاً للجرائم والآثام ، وفي ذلك انحلال الامم ، وفقد امنها ورخائها وانهيار مجدها وسلطانها .

علاج الظلم

من العسير جدا علاج الظلم ، واجتثاث جذوره المتغلغلة في اعماق النفس ، بيد ان من الممكن تخفيف جماحه ، وتلطيف حدته ، وذلك بالتوجيهات الاتية .
1 ـ التذكر لما اسلفناه من مزايا العدل ، وجميل آثاره في حياة الامم والافراد ، من اشاعة السلام ، ونشر الوئام والرخاء .
2 ـ الاعتبار بما عرضناه من مساويء الظلم وجرائره المادية والمعنوية .
3 ـ تقوية الوازع الديني ، وذلك بتربية الضمير والوجدان ، وتنويرهما بقيم الايمان ومفاهيمه الهادفة الموجهة .
4 ـ استقراء سير الطغاة وما عانوه من غوائل الجور وعواقبه الوخيمة .
جاء في كتاب حياة الحيوان عند ذكر الحجلان : ان بعض مقدمي الاكراد حضر على سماط بعض الامراء ، وكان على السماط حجلتان مشويتان ، فنظر الكردي اليهما وضحك ، فسأله الامير عن ذلك ، فقال : قطعت الطريق في عنفوان شبابي على تاجر فلما اردت قتله ، تضرع فما افاد تضرعه ، فلما رآني اقتله لا محالة ، التفت الى حجلتين كانتا في الجبل ، فقال : اشهدا عليه انه قاتلي ، فلما رأيت هاتين الحجلتين تذكرت حمقه ، فقال الامير : قد شهدتا ، ثم امر بضرب عنقه (1) .

(1) كشكول البهائي طبع ايران ص 21 .
أخلاق أهل البيت 85

وفي سراج الملوك لابي بكر الطرطوسي : ان عبد الملك بن مروان ارق ليلة ، فاستدعى سميرا له يحدثه ، فكان فيما حدثه ان قال : يا أمير المؤمنين ، كان بالموصل بومة ، وبالبصرة بومة ، فخطبت بومة الموصل الى بومة البصرة بنتها لابنها ، فقالت بومة البصرة : لا افعل الا ان تجعل صداقها مائة ضيعة خراب ! فقالت بومة الموصل : لا اقدر على ذلك الان ، ولكن ان دام والينا علينا ، سلمه الله تعالى سنة واحدة فعلت ذلك ، فاستيقظ عبد الملك ، وجلس للمظالم ، وانصف الناس بعضهم من بعض ، وتفقد امر الولاة (1) .


الاخلاص

الاخلاص : ضد الرياء ، وهو صفاء الاعمال من شوائب الرياء ، وجعلها خالصة لله تعالى .
وهو قوام الفضائل ، وملاك الطاعة ، وجوهر العبادة ، ومناط صحة الاعمال ، وقبولها لدى المولى عز وجل .
وقد مجدته الشريعة الاسلامية ، ونوهت عن فضله ، وشوقت اليه ، وباركت جهود المتحلين به في طائفة من الايات والاخبار :
قال تعالى : «فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه احداً» (2) .
وقال سبحانه : «فاعبد الله مخلصا له الدين ، الا لله الدين الخالص» (3) .
وقال عز وجل : «وما امروا الا ليعبدوا الله مخلصين له الدين» (4) .
وقال النبي ( ص) : «من اخلص لله اربعين يوما ، فجر الله ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه» (5) .

(1) سفينة البحار ج 1 ص 110 .
(2) الكهف : 110 .
(3) الزمر : (2 ـ 3) .
(4) البينة : 5 .
(5) البحار م 15 ص 87 عن عدة الداعي لابن فهد .
أخلاق أهل البيت 86

وقال الامام الجواد (ع) : «افضل العبادة الاخلاص» (1) .
وعن الرضا عن آبائه عليهم السلام قال : قال أمير المؤمنين (ع) : «الدنيا كلها جهل الا مواضع العلم ، والعلم كله جهل الا ما عمل به ، والعمل كله رياء الا ما كان مخلصا ، والاخلاص على خطر ، حتى ينظر العبد بما يختم له» (2) .
وقال النبي (ص) : «يا ابا ذر لا يفقه الرجل كل الفقه ، حتى يرى الناس في جنب الله امثال الاباعر ، ثم يرجع الى نفسه فيكون هو احقر حافر لها» (3) .

فضيلة الاخلاص

تتفاوت قيم الاعمال ، بتفاوت غاياتها والبواعث المحفزة عليها ، وكلما سمت الغاية ، وطهرت البواعث من شوائب الغش والتدليس والنفاق ، كان ذلك ازكى لها ، وادعى الى قبولها لدى المولى عز وجل .
وليس الباعث في عرف الشريعة الاسلامية الا (النية) المحفزة على الاعمال ، فمتى استهدفت الاخلاص لله تعالى ، وصفت من كدر الرياء نبلت وسعدت بشرف رضوان الله وقبوله ، ومتى شابها الخداع والرياء ، باءت بسخطه ورفضه .
لذلك كان الاخلاص حجرا اساسيا في كيان العقائد والشرائع ، وشرطا واقعيا لصحة الاعمال ، اذ هو نظام عقدها ، ورائدها نحو طاعة الله تعالى ورضاه .
وناهيك في فضل الاخلاص انه يحرر المرء من اغواء الشيطان واضاليله «فبعزتك لاغوينهم اجمعين ، الا عبادك منهم المخلصين» .

عوائق الاخلاص

وحيث كان الاخلاص هو المنار الساطع ، الذي ينير للناس مناهج الطاعة

(1) البحار م 15 ص 87 عن عدة الداعي لابن فهد .
(2) البحار م 15 ص 85 عن الامالي والتوحيد للصدوق .
(3) الوافي ج 14 ص 54 في وصية النبي (ص) لابي ذر .
أخلاق أهل البيت 87

الحقة ، والعبودية الصادقة ، كان الشيطان ولوعاً ذؤوباً على اغوائهم وتضليلهم بصنوف الاماني والامال الخادعة : كحب السمعة والجاه ، وكسب المحامد والامجاد ، وتحري الاطماع المادية التي تمسخ الضمائر وتمحق الاعمال ، وتذرها قفرا يباباً من مفاهيم الجمال والكمال وحلاوة العطاء .
وقد يكون ايحاء الشيطان بالرياء هامساً خفيفاً ماكراً ، فيمارس الانسان الطاعة والعبادة بدافع الاخلاص ، ولو محصها وامعن فيها وجدها مشوبة بالرياء . وهذا من اخطر المزالق ، واشدها خفاءاً وخداعاً ، ولا يتجنبها الا الاولياء الافذاذ .
كما حكي عن بعضهم انه قال : «قضيت صلاة ثلاثين سنة كنت صليتها في المسجد جماعة في الصف الاول ، ولكني تأخرت يوما لعذر ، وصليت في الصف الثاني ، فاعترتني خجلة من الناس ، حيث رأوني في الصف الثاني ، فعرفت ان نظر الناس الي في الصف الاول كان يسرني ، وكان سبب استراحة قلبي .
نعوذ بالله من سبات الغفلة ، وخدع الرياء والغرور . من اجل ذلك يحرص العارفون على كتمان طاعاتهم وعباداتهم ، خشية من تلك الشوائب الخفية .
فقد نقل : ان بعض العباد صام اربعين سنة لم يعلم به احد من الاباعد والاقارب ، كان يأخذ غذاءه فيتصدق به في الطريق ، فيظن اهله انه اكل في السوق ، ويظن اهل السوق انه اكل في البيت .

كيف نكسب الاخلاص

بواعث الاخلاص ومحفزاته عديدة تلخصها النقاط التالية :
1 ـ استجلاء فضائل الاخلاص السالفة ، وعظيم آثاره في دنيا العقيدة والايمان .
2 ـ ان اهم بواعث الرياء واهدافه استثارة اعجاب الناس ، وكسب رضاهم ، وبديهي ان رضا الناس غاية لا تدرك ، وانهم عاجزون عن اسعاد انفسهم ، فضلا عن غيرهم ، وان المسعد الحق هو الله تعالى الذي بيده ازمة

أخلاق أهل البيت 88

الامور ، وهو على كل شيء قدير ، فحري بالعاقل ان يتجه اليه ويخلص الطاعة والعبادة له .
3 ـ ان الرياء والخداع سرعان ما ينكشفان للناس ، ويسفران عن واقع الانسان ، مما يفضح المرائي ويعرضه للمقت والازدراء .
ثوب الرياء يشف عما تحته فاذا التحفت به فانك عاري

فعلى المرء ان يتسم بصدق الاخلاص ، وجمال الطوية ، ليكون مثلا رفيعا للاستقامة والصلاح .
فقد جاء في الاثار السالفة : «ان رجلا من بني اسرائيل قال : لاعبدن الله عبادة اذكر بها ، فمكث مدة مبالغا في الطاعات ، وجعل لا يمر بملأ من الناس الا قالوا : متصنع مرّاء ، فأقبل على نفسه وقال : قد اتعبت نفسك ، وضيعت عمرك في لا شيء ، فينبغي ان تعمل لله سبحانه ، واخلص عمله لله ، فجعل لا يمر بملأ من الناس الا قالوا ورع تقي» .


الرياء

وهو : طلب الجاه والرفعة في نفوس الناس ، بمراءاة اعمال الخير .
وهو من اسوأ الخصال ، وافظع الجرائم ، الموجبة لعناء المرائي وخسرانه ومقته ، وقد تعاضدت الايات والاخبار على ذمه والتخذير منه .
قال تعالى في وصف المنافقين : «يراؤن الناس ولا يذكرون الله الا قليلا» (1) .
وقال تعالى : «فمن كان يرجو لقاء ربه ، فليعمل عملاً صالحاً ، ولا يشرك بعبادة ربه احداً» (2) .
وقال سبحانه : «كالذي ينفق ماله رئاء الناس» (3) .

(1) النساء : 142 .
(2) الكهف : 110 .
(3) البقرة : 264 .
أخلاق أهل البيت 89

وقال الصادق (ع) : «كل رياء شرك ، انه من عمل للناس كان ثوابه على الناس ، ومن عمل لله كان ثوابه على الله» (1) .
وقال (ع) : «ما من عبد يسر خيراً ، الا لم تذهب الايام حتى يظهر الله له خيراً ، وما من عبد يسر شراً الا لم تذهب الايام حتى يظهر الله له شراً» (2) .
وعنه (ع) قال : قال رسول الله (ص) : «سيأتي على الناس زمان تخبث فيه سرائرهم ، وتحسن فيه علانيتهم ، طمعاً في الدنيا ، لا يريدون به ما عند ربهم ، يكون دينهم رياءاً ، لا يخالطهم خوف ، يعمهم الله بعقاب فيدعونه دعاء الغريق فلا يستجيب لهم» (3) .
وعن موسى بن جعفر عن آبائه عليهم السلام قال : قال رسول الله (ص) : «يؤمر برجال الى النار ، فيقول الله جل جلاله لمالك : قل للنار لا تحرق لهم اقداماً ، فقد كانوا يمشون الى المساجد ، ولا تحرق لهم وجهاً ، فقد كانوا يسبغون الوضوء ، ولاتحرق لهم ايدياً ، فقد كانوا يرفعونها بالدعاء ، ولا تحرق لهم السناً ، فقد كانوا يكثرون تلاوة القرآن . قال : فيقول لهم خازن النار : يا اشقياء ما كان حالكم ؟ قالوا : كنا نعمل لغير الله عز وجل فقيل لنا خذوا ثوابكم ممن عملتم له» (4) .

أقسام الرياء

ينقسم الرياء اقساماً تلخصها النقاط التالية :
1 ـ الرياء بالعقيدة : باظهار الايمان واسرار الكفر ، وهذا هو النفاق وهو اشدها نكرا وخطرا على المسلمين ، لخفاء كيده ، وتستره بظلام النفاق .
2 ـ الرياء بالعبادة مع صحة العقيدة . وذلك بممارسة العبادات امام ملأ

(1) الوافي ج 3 ص 137 عن الكافي .
(2) الوافي الجزء الثالث ص 147 عن الكافي .
(3) الوافي الجزء الثالث ص 147 عن الكافي ، ودعاء الغريق : اي كدعاء المشرف على الغرق ، فان الاخلاص والانقطاع فيه الى الله عز وجل اكثر من سائر الادعية .
(4) البحار م 15 بحث الرياء ص 53 عن علل الشرائع وثواب الاعمال .

السابق السابق الفهرس التالي التالي