أخلاق أهل البيت 62

حاجته من الطعام ، متوقيا الجشع المقيت ، والامتلاء المرهق .
وخبر مقياس لذلك هو ما حدده أمير المؤمنين ، وهو يحدث ابنه الحسن (ع) : «يا بني الا اعلمك اربع كلمات تستغني بها عن الطب ؟ فقال : بلى يا أمير المؤمنين . قال : لا تجلس على الطعام الا وانت جائع ، ولا تقم عن الطعام الا وانت تشتهيه ، وجود المضغ ، واذا نمت فأعرض نفسك على الخلاء ، فاذا استعملت هذا استغنيت عن الطب» .
وقال : ان في القرآن لاية تجمع الطب كله : « كلوا واشربوا و لا تسرفوا » (الاعراف : 31 ) (1) .
والاعتدال التقريبي في الجنس هو تلبية نداء الغريزة ، كلما اقتضتها الرغبة الصادقة ، والحاجة المحفزة عليه .
محاسن العفة

لا ريب ان العفة ، هي من انبل السجايا ، وارفع الفضائل ، المعربة عن سمو الايمان ، وشرف النفس ، والباعثة على سعادة المجتمع والفرد .
وهي الخلة المشرفة التي تزين الانسان ، وتسمو به عن مزريات الشره والجشع ، وتصونه عن التملق للئام ، استدراراً لعطفهم ونوالهم ، وتحفزه على كسب وسائل العيش ورغائب الحياة ، بطرقها المشروعة ، واساليبها العفيفة .


الشره

وهو : الافراط في شهوات المأكل والجنس ، ضد (العفة) .
وهو : من النزعات الخسيسة ، الدالة على ضعف النفس ، وجشع الطبع ، واستعباد الغرائز ، وقد نددت به الشريعة الاسلامية وحذرت منه اشد التحذير .
قال الصادق (ع) : «كل داء من التخمة ، ما خلا الحمى فانها ترد وروداً» (2) .

(1) سفينة البحار م 2 ص 79 من دعوات الراوندي .

(2) الوافي ج 11 ص 67 عن الكافي .
أخلاق أهل البيت 63

وقال (ع) : «ان البطن اذا شبع طغى» (1) .
وقال (ع) : «ان الله يبغض كثرة الاكل» (2) .
وقال ابو الحسن (ع) : «لو ان الناس قصدوا في المطعم ، لاستقامت ابدانهم» (3) .
وعن الصادق عن ابيه قال : قال امير المؤمنين (ع) : «من اراد البقاء ولا بقاء ، فليخفف الرداء ، وليباكر الغذاء ، وليقل مجامعة النساء» (4) .
من اراد البقاء اي طول العمر ، فليخفف الرداء اي يخفف ظهره من ثقل الدين .
واكل أمير المؤمنين (ع) من تمر دقل ، ثم شرب عليه الماء ، وضرب يده على بطنه وقال : من ادخله بطنه النار فأبعده الله . ثم تمثل :
وانك مهما تعط بطنك سؤله وفرجك نالا منتهى الذم اجمعا (5)
مساوىء الشره

الشره مفتاح الشهوات ، ومصدر المهالك ، وحسب الشره ذماً ، ان تسترقه الشهوات العارمة ، وتعرضه لصنوف المساوىء ، المعنوية والمادية .
ولعل اقوى العوامل في تخلف الامم ، استبداد الشره بهم ، وافتتانهم بزخارف الحياة ، ومفاتن الترف والبذخ ، مما يفضي بهم الى الضعف والانحلال .
ولشره الاكل آثاراً سيئة ومساوىء عديدة :
فقد اثبت الطب «ان الكثير من الامراض والكثير من الخطوط والتجعدات التي تشوه القسمات الحلوة في النساء والرجال ، والكثير من الشحم المتراكم ، والعيون الغائرة ، والقوى المنهكة ، والنفوس المريضة كلها تعزى الى التخمة

(1) الوافي ج 11 ص 67 عن الفقيه .
(2) الوافي ج 11 ص 67 عن الكافي .
(3) البحار م 14 ص 876 عن المحاسن للبرقي (ره) .
(4) البحار م 14 ص 545 عن طب الائمة .
(5) سفينة البحار م 1 ص 27 .
أخلاق أهل البيت 64

المتواصلة ، والطعام الدسم المترف» .
واثبت كذلك ان الشره يرهق المعدة ويسبب الوان المآسي الصحية كتصلب الشرايين ، والذبحة الصدرية ، وارتفاع ضغط الدم ، والبول السكري .
وهكذا يفعل الشره الجنسي في اضعاف الصحة العامة ، وتلاشي الطاقة العصبية ، واضمحلال الحيوية والنشاط مما يعرض المسرفين للمخاطر .

علاج الشره
اما شره الاكل فعلاجه :
1 ـ ان يتذكر الشره ما اسلفناه من محاسن العفة ، وفضائلها .
2 ـ ان يتدبر مساوىء الشره ، وغوائله الماحقة .
3 ـ ان يروض نفسه على الاعتدال في الطعام ، ومجانبة الشره جاهداً في ذلك ، حتى يزيل الجشع . فان دستور الصحة الوقائي والعلاجي هو الاعتدال في الاكل وعدم الاسراف فيه ، كما لخصته الاية الكريمة «كلوا واشربوا ولا تسرفوا» (الاعراف : 31) .
وقد اوضحنا واقع الاعتدال في بحث (العفة) .
واما الشره الجنسي فعلاجه :
1 ـ ان يتذكر المرء اخطار الاسراف الجنسي ، ومفاسده المادية والمعنوية .
2 ـ ان يكافح مثيرات الغريزة ، كالنظر الى الجمال النسوي ، واختلاط الجنسين ، وسروح الفكر في التخيل . واحلام اليقظة ، ونحوها من المثيرات .
3 ـ ان يمارس ضبط الغريزة وكفها عن الافراط الجنسي ، وتحري الاعتدال فيها ، وقد مر بيانه في بحث العفة .


الامانة والخيانة

الامانة هي : اداء ما ائتمن عليه الانسان من الحقوق ، وهي ضد (الخيانة) .

أخلاق أهل البيت 65

وهي من انبل الخصال ، واشرف الفضائل ، واعز المآثر ، بها يحرز المرء الثقة والاعجاب ، وينال النجاح والفوز .
وكفاها شرفاً ان الله تعالى مدح المتحلين بها ، فقال : «والذين هم لاماناتهم وعهدهم راعون» (المؤمنون : 8 . المعارج : 32) .
وضدها الخيانة ، وهي : غمط الحقوق واغتصابها ، وهي من ارذل الصفات ، وابشع المذام ، وادعاها الى سقوط الكرامة ، والفشل والاخفاق .
لذلك جاءت الايات والاخبار حاثة على التحلي بالامانة ، والتحلي من الخيانة ، واليك طرفا منها :
«ان الله يأمركم ان تؤدوا الامانات الى اهلها ، واذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل ، ان الله نعما يعظكم به» (النساء : 58) .
وقال تعالى : «ياايها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول ، وتخونوا اماناتكم وانتم تعلمون» (الانفال : 27) .
قال الصادق : «لا تغتروا بصلاتهم ولا بصيامهم ، فان الرجل ربما لهج بالصلاة والصوم ، حتى لو تركه استوحش ، ولكن اختبروهم عند صدق الحديث ، واداء الامانة» (1) .
وعنه (ع) قال : «قال رسول الله (ص) : «ليس منا من اخلف الامانة» .
وقال : قال رسول الله (ص) : «اداء الامانة يجلب الرزق ، والخيانة تجلب الفقر» (2) .
وقال الصادق (ع) : «اتقوا الله ، وعليكم بأداء الامانة الى من ائتمنكم ، فلو ان قاتل علي بن ابي طالب ائتمني على امانة لاديتها اليه» (3) .
وقال رسول الله (ص) : «لاتزال امتي بخير ، ما لم يتخاونوا ، وادوا الامانة ، وآتوا الزكاة ، فاذا لم يفعلوا ذلك ، ابتلوا بالقحط والسنين» (4) .

(1) الوافي ج 3 ص 82 عن الكافي .
(2) الوافي ج 10 ص 112 عن الكافي .
(3) الوافي ج 10 ص 112 عن الكافي والتهذيب .
(4) عن ثواب الاعمال للصدوق (ره) .
أخلاق أهل البيت 66

محاسن الامانة ومساوىء الخيانة

تلعب الامانة دورا خطيرا ، في حياة الامم والافراد ، فهي نظام اعمالهم ، وقوام شؤونهم ، وعنوان نبلهم واستقامتهم ، وسبيل رقيهم المادي والادبي .
وبديهي ان من تحلى بالامانة ، كان مثار التقدير والاعجاب ، وحاز ثقة الناس واعتزازهم وائتمانهم ، وشاركهم في اموالهم ومغانمهم .
ويصدق ذلك على الامم عامة ، فان حياتها لا تسمو ولا تزدهر ، الا في محيط تسوده الثقة والامانة .
وبها ملك العرب ازمة الاقتصاد ، ومقاليد الصناعة والتجارة ، وجنى الارباح الوفيرة ، ولكن المسلمين واأسفاه ! تجاهلوها ، وهي عنوان مبادئهم ، ورمز كرامتهم ، فباؤوا بالخيبة والاخفاق .
من اجل ذلك كانت الخيانة من اهم اسباب سقوط الفرد واخفاقه في مجالات الحياة ، كما هي العامل الخطير في اضعاف ثقة الناس بعضهم ببعض ، وشيوع التناكر والتخاوف بينهم ، مما تسبب تسيب المجتمع ، وفصم روابطه ، وافساد مصالحه ، وبعثرة طاقاته .

صور الخيانة

وللخيانة صور تخلتف بشاعتها وجرائمها باختلاف آثارها ، فأسوأها نكراً هي الخيانة العلمية التي يقترفها الخائنون المتلاعبون بحقائق العلم المقدسة ، ويشوهونها بالدس والتحريف .
ومن صورها افشاء اسرار المسلمين ، التي يحرصون على كتمانها ، فاشاعتها والحالة هذه جريمة نكراء ، تعرضهم للاخطار والمآسي .
ومن صورها البشعة : خيانة الودائع والامانات ، التي اؤتمن عليها المرء ، فمصادرتها جريمة مضاعفة من الخيانة والسرقة والاغتصاب .
وللخيانة بعد هذا صورا عديدة كريهة ، تثير الفزع والتقزز ، وتضر بالناس فرداً ومجتمعاً ، مادياً وادبياً ، كالخدع والغش والتطفيف بالوزن او الكيل ، ونحوها من مفاهيم التدليس والتلبيس .

أخلاق أهل البيت 67

التآخي

التآخي الروحي

كان العصر الجاهلي مسرحاً للمآسي والارزاء ، في مختلف مجالاته ونواحيه الفكرية والمادية .
وكان من ابشع مآسيه ، ذلك التسبب الخلقي ، والفوضى المدمرة ، مما صيرهم يمارسون طباع الضواري ، وشريعة الغاب والتناكر والتناحر ، والفتك والسلب ، والتشدق بالثأر والانتقام .
فلما اشرق فجر الاسلام ، واطل بأنواره على البشرية ، استطاع بمبادئه الخالدة ، ودستوره الفذ ان يطب تلك المآسي ، ويحسم تلك الارزاء ، فانشأ من ذلك القطيع الجاهلي : «خير امة اخرجت للناس» (1) عقيدة وشريعة ، وعلماً واخلاقاً . فأحل الايمان محل الكفر ، والنظام محل الفوضى ، والعلم محل الجهل ، والسلام محل الحرب ، والرحمة محل الانتقام .
فتلاشت تلك المفاهيم الجاهلية ، وخلفتها المبادىء الاسلامية الجديدة ، وراح النبي (ص) بيني وينشأ امة مثالية تبذ الامم نظاماً ، واخلاقاً وكمالاً .
وكلما سار المسلمون اشواطاً تحت راية القرآن ، وقيادة الرسول الاعظم (ص) ، توغلوا في معارج الكمال ، وحلقوا في آفاق المكارم ، حتى حققوا مبدأ المؤاخاة بأسلوب لم تحققه الشرائع والمبادىء الاخرى ، واصبحت اواصر العقيدة اقوى من اواصر النسب ، ووشائح الايمان تسموعلى وشائج القومية والقبلية ، وغدا المسلمون امة واحدة ، مرصوصة الصف ، شامخة الصرح ، خفاقة اللواء ، لا تفرقهم النعرات والفوارق .
«يا ايها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثى ، وجعلناكم شعوباً وقبائل ، لتعارفوا ، ان اكرمكم عند الله اتقاكم» (2) .

(1) آل عمران : 110 .
(2) الحجرات : 13 .
أخلاق أهل البيت 68

وطفق القرآن الكريم يغرس في نفوس المسلمين مفاهيم التآخي الروحي ، مركزاً على ذلك بآياته العديدة واساليبه الحكيمة الفذة .
فمرة شرع التآخي ليكون قانوناً للمسلمين «انما المؤمنون اخوة ، فأصلحوا بين اخويكم ، واتقوا الله لعلكم ترحمون» (1) .
واخرى يؤكد عليه محذرا من عوامل الفرقة ، ومذكرا نعمة التآلف والتآخي الاسلامي ، بعد طول التناكر والتناحر الجاهليين ، «واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ، واذكروا نعمة الله عليكم اذ كنتم اعداءاً ، فألف بين قلوبكم ، فأصبحتم بنعمته اخواناً» (2) .

نماذج من التآخي
وهكذا جهد الاسلام في تعزيز التآخي الروحي وحماه من نوازع الفرقة والانقسام بما شرعه من دستور الروابط الاجتماعية في نظامه الخالد .
واليك نموذجاً من ذلك :
1 ـ تسامى بشعور المسلمين وعواطفهم ، ان تسترقها النعرات العصبية ، ونزعاتها المفرقة ، ووجهها نحو الهدف الاسمى من طاعة الله تعالى ورضاه : فالحب والبغض ، والعطاء والمنع ، والنصر والخذلان ، كل ذلك يجب ان يكون لله عز وجل ، وبذلك تتوثق عرى المؤاخاة ، وتتلاشى النزعات المفرقة ، ويغدو المسلمون كالبنيان المرصوص ، يشد بعضه بعضا .
واليك قبساً من آثار اهل البيت عليهم السلام في هذا المقام :
عن الباقر (ع) : قال رسول الله (ص) : «ود المؤمن للمؤمن في الله ، من اعظم شعب الايمان ، الا ومن احب في الله ، وابغض في الله ، واعطى في الله ، ومنع في الله ، فهو من اصفياء الله» (3) .
وقال الصادق (ع) : «ان المتحابين في الله يوم القيامة ، على منابر من نور ، قد اضاء نور وجوههم ، ونور اجسادهم ، ونور منابرهم ، كل شيء حتى يعرفوا

(1) الحجرات : 10 .
(2) آل عمران : 103 .
(3) الوافي ج 3 ص 89 عن الكافي .
أخلاق أهل البيت 69

به ، فيقال هؤلاء المتحابون في الله» (1) .
وقال علي بن الحسين (ع) : «اذا جمع الله عز وجل الاولين والاخرين ، قام مناد ينادي بصوت يسمع الناس ، فيقول : اين المحتابون في الله ؟ قال : فيقوم عنق من الناس ، فيقال لهم : اذهبوا الى الجنة بغير حساب .
قال : فتلقاهم الملائكة فيقولون : الى اين ؟ فيقولون : الى الجنة بغير حساب .
قال : فيقولون : فأي ضرب انتم من الناس ؟ فيقولون : نحن المتحابون في الله .
فيقولون : فاي شيء كانت اعمالكم ؟ قالوا : كنا نحب في الله ، ونبغض في الله .
قال : فيقولون : نعم اجر العاملين» (2) .
وقال الصادق (ع) : «كل من لم يحب على الدين ، ولم يبغض على الدين فلا دين له» (3) .
وعن جابر الجعفي عن ابي جعفر عليه السلام قال : «اذا اردت ان تعلم ان فيك خيراً ، فانظر الى قلبك ، فان كان يحب اهل طاعة الله ، ويبغض اهل معصيته ، ففيك خير ، والله يحبك ، وان كان يبغض اهل طاعة الله ويحب اهل معصيته ، فليس فيك خير ، والله يبغضك ، والمرء مع من احب» (4) .
2 ـ رغب المسلمين فيما يؤلفهم ، ويحقق لهم العزة والرخاء ، كالتواصي بالحق ، والتعاون على البر ، والتناصر على العدل ، والتكافل في مجالات الحياة الاقتصادية ، فهم في عرف الشريعة اسرة واحدة ، يسعدها ويشقيها ما يسعد افرادها ويشقيهم .
دستورها «محمد رسول الله والذين معه اشداء على الكفار رحماء بينهم» (5) .

(1) الوافي ج 3 ص 89 عن الكافي .
(2) البحار م 15 ج 1 ص 283 عن الكافي .
(3) ، (4) الوافي ج 3 ص 90 عن الكافي .
(5) الفتح : 29 .
أخلاق أهل البيت 70

وشعارها قول الرسول الاعظم (ص) : «من اصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم» (1) .
3 ـ حذر المسلمين مما يبعث على الفرقة والعداء ، والفحش والبذاء والاغتياب ، والنميمة والخيانة والغش ، ونحوها من مثيرات الفتن والضغائن ، ومبدأهم في ذلك قول النبي (ص) :
«المؤمن من امنه الناس على اموالهم ودمائهم ، والمسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه ، والمهاجر من هجر السيئات» (2) .
4 ـ اتاح الفرص لانماء العلاقات الودية بين المسلمين ، كالحث على التزاور ، وارتياد المحافل الدنيية ، وشهود المجتمعات الاسلامية ، كصلاة الجماعة ومناسك الحج ، ونحو ذلك .


العصبية

هي : مناصرة المرء قومه ، او اسرته ، او وطنه ، فيما يخالف الشرع ، وينافي الحق والعدل .
وهي : من اخطر النزعات وافتكها في تسيب المسلمين ، وتفريق شملهم ، واضعاف طاقاتهم ، الروحية والمادية ، وقد حاربها الاسلام ، وحذر المسلمين من شرورها .
فعن ابي عبد الله (ع) قال : «قال رسول الله (ص) : من كان في قلبه حبة من خردل من عصبية ، بعثه الله تعالى يوم القيامة مع اعراب الجاهلية» (3) .
وقال الصادق (ع) : «من تعصب عصبه الله بعصابة من نار» (4) .
وقال النبي (ص) : «ان الله تبارك وتعالى قد اذهب بالاسلام نخوة الجاهلية ، وتفاخرها بآبائها ، الا ان الناس من آدم ، وآدم من تراب ، واكرمهم

(1) الوافي ج 3 ص 99 عن الكافي .
(2) الوافي ج 14 ص 48 عن الفقيه .
(3) ، (4) الوافي ج 3 ص 149 عن الكافي .
أخلاق أهل البيت 71

عند الله اتقاهم» (1) .
وقال الباقر (ع) : جلس جماعة من اصحاب رسول الله (ص) ينتسبون ويفتخرون ، وفيهم سلمان . فقال عمر : ما نسبك انت ياسلمان وما اصلك ؟ فقال : انا سلمان بن عبد الله ، كنت ضالاً فهداني الله بمحمد ، وكنت عائلاً فأغناني الله بمحمد ، وكنت مملوكاً فأعتقني الله بمحمد ، فهذا حسبي ونسبي يا عمر .
ثم خرج رسول الله (ص) ، فذكر له سلمان ما قال عمر وما اجابه ، فقال رسول الله : «يا معشر قريش ان حسب المرء دينه ، ومروءته خلقه ، واصله عقله ، قال الله تعالى : «يا ايها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثى ، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ، ان اكرمكم عند الله اتقاكم» .
ثم اقبل على سلمان فقال له : «انه ليس لاحد من هؤلاء عليك فضل الا بتقوى الله عز وجل ، فمن كنت اتقى منه فأنت افضل منه» (2) .
وعن الصادق عن ابيه عند جده عليهم السلام قال : «وقع بين سلمان الفارسي رضي الله عنه ، وبين رجل كلام وخصومة ، فقال له الرجل : من انت يا سلمان ؟ فقال سلمان : اما اولي واولك فنطفة قذرة ، واما آخري وآخرك فجيفة منتنة ، فاذا كان يوم القيامة ، ووضعت الموازين ، فمن ثقل ميزانه فهو الكريم ، ومن خف ميزانه فهو اللئيم» (3) .
واصدق شاهد على واقعية الاسلام ، واستنكاره النعرات العصبية المفرقة ، وجعله الايمان والتقى مقياساً للتفاضل ، ان ابا لهب ـ وهو من صميم العرب ، وعم النبي ـ صرح القرآن بثلبه وعذابه «تبت يدا ابي لهب وتب ، ما اغنى عنه ماله وما كسب ، سيصلى ناراً ذات لهب» وذلك بكفره ومحاربته لله ورسوله .
وكان سلمان فارسياً ، بعيدا عن الاحساب العربية ، وقد منحه الرسول

(1) الوافي ج 14 ص 48 عن الفقيه .
(2) البحار م 15 ج 2 ص 95 امالي ابي علي الشيخ الطوسي .
(3) سفينة البحار ج 2 ص 348 عن امالي الصدوق (ره) .
أخلاق أهل البيت 72

الاعظم (ص) وساما خالدا في الشرف والعزة ، فقال : «سلمان منا اهل البيت» . وما ذلك الا لسمو ايمانه ، وعظم اخلاصه ، وتفانيه في الله ورسوله .

حقيقة العصبية

لا ريب ان العصبية الذميمة التي نهى الاسلام عنها هي : التناصر على الباطل ، والتعاون على الظلم ، والتفاخر بالقيم الجاهلية .
اما التعصب للحق ، والدفاع عنه ، والتناصر على تحقيق المصالح الاسلامية العامة ، كالدفاع عن الدين ، وحماية الوطن الاسلامي الكبير ، وصيانة كرامات المسلمين وانفسهم واموالهم ، فهو التعصب المحمود الباعث على توحيد الاهداف والجهود ، وتحقيق العزة والمنعة للمسلمين ، وقد قال الامام زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام : «ان العصبية التي يأثم عليها صاحبها ، ان يرى الرجل شرار قومه خيرا من خيار قوم آخرين ، وليس من العصبية ان يحب الرجل قومه ، ولكن من العصبية ان يعين قومه على الظلم» (1) .

غوائل العصبية

من استقرأ التاريخ الاسلامي ، وتتبع العلل والاسباب ، في هبوط المسلمين ، علم ان النزعات العصبية ، هي المعول الهدام ، والسبب الاول في تناكر المسلمين ، وتمزيق شملهم ، وتفتيت طاقاتهم ، مما ادى بهم الى هذا المصير القاتم .
فقد ذل المسلمون وهانوا ، حينما تفشت فيهم النعرات المفرقة ، فانفصمت بينهم عرى التحابب ، ووهت فيهم اواصر الاخاء ، فأصبحوا مثالا للتخلف والتبعثر والهوان ، بعد ان كانوا رمزا للتفرق والتماسك والفخار ، كأنهم لم يسمعوا كلام الله تعالى حيث قال :
«واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ، واذكروا نعمة الله عليكم اذ كنتم اعداءاً فألف بين قلوبكم ، فأصبحتم بنعمته اخوانا ، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها» (2) .

(1) الوافي ج 3 ص 149 عن الكافي .
(2) آل عمران : 103 .
أخلاق أهل البيت 73

العدل

العدل ضد الظلم ، وهو مناعة نفسية ، تردع صاحبها عن الظلم ، وتحفزه على العدل ، واداء الحقوق والواجبات .
وهو سيد الفضائل ، ورمز المفاخر ، وقوام المجتمع المتحضر ، وسبيل السعادة والسلام .
وقد مجده الاسلام ، وعنى بتركيزه والتشويق اليه في القرآن والسنة :
قال تعالى : «ان الله يأمر بالعدل والاحسان» (1) .
وقال سبحانه : «واذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى» (2) .
وقال عز وجل : «ان الله يأمركم ان تؤدوا الامانات الى اهلها ، واذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل» (3) .
وقال الصادق (ع) : «العدل احلى من الشهد ، والين من الزبد ، واطيب ريحاًَ من المسك» (4) .
وقال الراوي لعلي بن الحسين (ع) : اخبرني بجميع شرائع الدين ؟ قال : «قول الحق ، والحكم بالعدل ، والوفاء بالعهد» (5) .
وقال الرضا (ع) : «استعمال العدل والاحسان مؤذن بدوام النعمة» (6) .

أنواع العدل

للعدل صور مشرقة بالجمال والجلال ، واليك اهمها :
1 ـ عدل الانسان مع الله عز وجل ، وهو ازهى صور العدل ، واسمى

(1) النحل : 90 .
(2) الانعام : 152 .
(3) النساء : 58 .
(4) الوافي ج 3 ص 89 عن الكافي ، وهو من قبيل تشبيه المعقول بالمحسوس .
(5) البحار م 16 كتاب العشرة ص 125 عن خصال الصدوق (ره) .
(6) البحار م 16 كتاب العشرة ص 125 عن عيون اخبار الرضا .
أخلاق أهل البيت 74

مفاهيمه ، وعنوان مصاديقه ، وكيف يستطيع الانسان ان يؤدي واجب العدل للمنعم الاعظم ، الذي لا تحصى نعماؤه ، ولا تعد آلاؤه ؟ !
واذا كان عدل المكافأة يقدر بمعيار النعم ، وشرف المنعم ، فمن المستحيل تحقيق العدل نحو واجب الوجود ، والغني المطلق عن سائر الخلق ، الا بما يستطيعه قصور الانسان ، وتوفيق المولى عز وجل له .
وجماع العدل مع الله تعالى يتلخص في الايمان به ، وتوحيده ، والاخلاص له ، وتصديق سفرائه وحججه على العباد ، والاستجابة لمقتضيات ذلك من التوله بحبه والتشرف بعبادته ، والدأب على طاعته ، ومجافاة عصيانه .
2 ـ عدل الانسان مع المجتمع :
وذلك برعاية حقوق افراده ، وكف الاذى والاساءة عنهم ، وسياستهم بكرم الاخلاق ، وحسن المداراة وحب الخير لهم ، والعطف على بؤسائهم ومعوزيهم ، ونحو ذلك من محققات العدل الاجتماعي .
وقد لخص الله تعالى واقع العدل العام في آية من كتابه المجيد : «ان الله يأمر بالعدل والاحسان ، وايتاء ذي القربى ، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ، يعظكم لعلكم تذكرون» (1) .
وقد رسم امير المؤمنين عليه السلام منهاج العدل الاجتماعي بايجاز وبلاغة ، فقال لابنه :
«يا بني اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك ، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك ، واكره له ما تكره لها ، ولا تظلم كما لا تحب ان تظلم ، واحسن كما تحب ان يحسن اليك ، واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك ، وارضى من الناس بما ترضاه لهم من نفسك ، ولا تقل ما لا تعلم وان قل ما تعلم ، ولا تقل ما لا تحب ان يقال لك» .
اوصى عليه السلام ابنه الكريم ان يكون عادلاً فيما بينه وبين الناس كالميزان ، ثم اوضح له صور العدل وطرائقه ايجاباً وسلباً .

(1) النمل : 90 .
أخلاق أهل البيت 75

3 ـ عدل البشر الاحياء مع اسلافهم الاموات ، الذين رحلوا عن الحياة ، وخلفوا لهم المال والثراء ، وحرموا من متعه ولذائذه ، ولم يكسبوا في رحلتهم الابدية ، الا اذرعا من اثواب البلى ، واشباراً ضيقة من بطون الارض .
فمن العدل ان يستشعر الاحياء نحو اسلافهم بمشاعر الوفاء والعطف وحسن المكافأة ، وذلك بتنفيذ وصاياهم ، وتسديد ديونهم ، واسداء الخيرات والمبرات اليهم ، وطلب الغفران والرضا والرحمة من الله عز وجل لهم .
قال الصادق (ع) : «ان الميت ليفرح بالترحم عليه ، والاستغفار له ، كما يفرح الحي بالهدية تهدى اليه» .
وقال (ع) : «من عمل من المسلمين عن ميت عملاً صالحاً ، اضعف الله له اجره ، ونفع الله به الميت» (1) .
4 ـ عدل الحكام .
وحيث كان الحكام ساسة الرعية ، وولاة امر الامة ، فهم اجدر الناس بالعدل ، واولاهم بالتحلي به ، وكان عدلهم اسمى مفاهيم العدل ، واروعها مجالا وبهاءً ، وابلغها اثراً في حياة الناس .
بعدلهم يستتب الامن ، ويسود السلام ، ويشيع الرخاء ، وتسعد الرعية .
وبجورهم تنتكس تلك الفضائل ، والاماني الى نقائضها ، وتغدو الامة آنذاك في قلق وحيرة وضنك وشقاء .

محاسن العدل

فطرت النفوس السليمة على حب العدل وتعشقه ، وبغض الظلم واستنكاره . وقد اجمع البشر عبر الحياة ، واختلاف الشرائع والمباديء ، على تمجيد العدل وتقديسه ، والتغني بفضائله ومآثره ، والتفاني في سبيله .
فهو سر حياة الامم ، ورمز فضائلها ، وقوام مجدها وسعادتها ، وضمان امنها ورخائها ، واجل اهدافها وامانيها في الحياة .

(1) هذا الخبر وسابقه عن كتاب من لا يحضره الفقيه للصدوق .

السابق السابق الفهرس التالي التالي