أخلاق أهل البيت 48

وقال الصادق (ع) : «ان فيما نزل به الوحي من السماء : لو ان لابن آدم واديين ، يسيلان ذهباً وفضة ، لا بتغى لهما ثالثاً ، يابن آدم انما بطنك بحر من البحور ، وواد من الاودية ، لا يملأه شيء الا التراب» (1) .
وقال (ع) : «ما ذئبان ضاريان ، في غنم قد فارقها رعاؤها احدهما في اولها والاخر في آخرها ، بأفسد فيها من حب المال «الدنيا خ ل» والشرف في دين المسلم» (2) .
وقال أمير المؤمنين (ع) في ضمن وصيته لولده الحسن عليه السلام «واعلم يقينا انك لن تبلغ املك ، ولن تعدو اجلك ، وانك في سبيل من كان قبلك ، فخفض في الطلب ، واجمل في المكتسب ، فانه رب طلب ، قد جر الى حرب ، فليس كل طالب بمرزوق ، ولا كل مجمل بمحروم» (3) .
وقال الحسن بن علي عليهما السلام :
«هلاك الناس في ثلاث : الكبر . والحرص . والحسد .
فالكبر هلاك الدين وبه لعن ابليس ...
والحرص عدو النفس ، وبه اخرج آدم من الجنة .
والحسد رائد السوء ومنه قتل قابيل هابيل» (4) .
مساويء الحرص

وبديهي انه متى استبد الحرص بالانسان ، استرقه ، وسبب له العناء والشقاء ، فلا يهم الحريص ، ولا يشبع جشعه الا استكثار الاموال واكتنازها ، دون ان ينتهي الى حد محدود ، فكلما ادرك مأرباً طمح الى آخر ، وهكذا يلج به الحرص ، وتسعبده الاطماع ، حتى يوافيه الموت فيغدو ضحية الغناء والخسران .
والحريص اشد الناس جهدا في المال ، واقلهم انتفاعا واستمتاعاً به ،

(1) الوافي ج 3 ص 154 عن من لا يحضره الفقيه للصدوق (ره) .
(2) مرآة العقول في شرح الكافي للمجلسي (ره) ج 2 عن الكافي . ص 303 .
(3) نهج البلاغة .
(4) كشف الغمة .
أخلاق أهل البيت 49

يشقى بكسبه وادخاره ، وسرعان ما يفارقه بالموت ، فيهنأ به الوارث ، من حيث شقي هو به ، وحرم من لذته .
والحرص بعد هذا وذاك ، كثيراً ما يزج بصاحبه في مزالق الشبهات والمحرمات والتورط في آثامها ، ومشاكلها الاخروية ، كما يعيق صاحبه عن اعمال الخير ، وكسب المثويات كصلة الارحام واعانة البؤساء والمعوزين ، وفي ذلك ضرر بالغ ، وحرمان جسيم .

علاج الحرص

وبعد ان عرفنا مساوىء الحرص يحسن بنا ان نعرض مجملا من وسائل علاجه ونصائحه وهي :
1 ـ ان يتذكر الحريص مساوىء الحرص ، وغوائله الدينية والدنيوية وان الدنيا في حلالها حساب ، وفي حرامها عقاب ، وفي الشبهات عتاب .
2 ـ ان يتأمل ما اسلفناه من فضائل القناعة ، ومحاسنها ، مستجلياً سيرة العظماء الافذاذ ، من الانبياء والاوصياء والاولياء ، في زهدهم في الحياة ، وقناعتهم باليسير منها .
3 ـ ترك النظر والتطلع الى من يفوقه ثراءاً ، وتمتعاً بزخارف الحياة والنظر الى من دونه فيهما فذلك من دواعي القناعة وكبح جماح الحرص .
4 ـ الاقتصاد المعاشي ، فانه من اهم العوامل ، في تخفيف حدة الحرص ، اذ الاسراف في الانفاق يستلزم وفرة المال ، والافراط في كسبه والحرص عليه .
قال الصادق عليه السلام : «ضمنت لمن اقتصد ان لا يفتقر» (1) .


الكرم

الكرم ضد البخل ، وهو : بذل المال او الطعام او اي نفع مشروع ، عن طيب نفس .

(1) البحار مج 15 ج 2 ص 199 عن الخصال للصدوق (ره) .
أخلاق أهل البيت 50

وهو من اشرف السجايا ، واعز المواهب ، واخلد المآثر . وناهيك في فضله ان كل نفيس جليل يوصف بالكرم ، ويعزى اليه ، قال تعالى : «انه لقرآن كريم» (الواقعة : 77) . «وجاءهم رسول كريم » (الدخان :17) . «وزروع ومقام كريم » (الدخان: 26) .
لذلك اشاد اهل البيت عليهم السلام بالكرم والكرماء ، ونوهوا عنهما ابلغ تنويه :
قال الباقر (ع) : «شاب سخي مرهق في الذنوب ، احب الى الله من شيخ عابد بخيل» (1) .
وقال الصادق (ع) : «اتى رجل النبي (ص) فقال : يا رسول الله اي الناس افضلهم ايماناً ؟ فقال : ابسطهم كفاً» (2) .
وعن جعفر بن محمد عن آبائه عليهم السلام قال : قال رسول الله (ص) «السخي قريب من الله ، قريب من الناس ، قريب من الجنة . والبخيل بعيد من الله ، بعيد من الناس ، قريب من النار» (3)
وقال الباقر (ع) : «انفق وايقن بالخلف من الله ، فانه لم يبخل عبد ولا امة بنفقة فيما يرضي الله ، الا انفق اضعافها فيما يسخط الله» (4) .

محاسن الكرم

لا يسعد المجتمع ، ولا يتذوق حلاوة الطمأنينة والسلام ، ومفاهيم الدعة والرخاء ، الا باستشعار افراده روح التعاطف والتراحم ، وتجاوبهم في المشاعر والاحاسيس ، في سراء الحياة وضرائها ، وبذلك يغدو المجتمع كالبنيان المرصوص ، يشد بعضه بعضاً .
وللتعاطف صور زاهرة ، تشع بالجمال والروعة والبهاء ، ولا ريب ان

(1) الوافي ج 6 ص 68 عن الكافي والفقيه .
(2) الوافي ج 6 ص 67 عن الكافي .
(3) البحار م 15 ج 3 عن كتاب الامامة والتبصرة .
(4) الوافي ج 6 ص 68 عن الكافي .
أخلاق أهل البيت 51

اسماها شأناً ، واكثرها جمالاً وجلالاً ، واخلدها ذكراً هي : عطف الموسرين ، وجودهم على البؤساء والمعوزين ، بما يخفف عنهم آلام الفاقة ولوعة الحرمان .
وبتحقيق هذا المبدأ الانساني النبيل ( مبدأ التعاطف والتراحم ) يستشعر المعوزون ازاء ذوي العطف عليهم ، والمحسنين اليهم ، مشاعر الصفاء ، والوئام والود ، مما يسعد المجتمع ، ويشيع فيه التجاوب ، والتلاحم والرخاء .
وباغفاله يشقى المجتمع ، وتسوده نوازع الحسد ، والحقد ، والبغضاء ، والكيد . فينفجر عن ثورة عارمة ماحقة ، تزهق النفوس ، وتمحق الاموال ، وتهدد الكرامات .
من اجل ذلك دعت الشريعة الاسلامية الى السخاء والبذل والعطف على البؤساء والمحرومين ، واستنكرت على المجتمع ان يراهم يتضورون سغبا وحرمانا ، دون ان يتحسس بمشاعرهم ، وينبري لنجدتهم واغاثتهم . واعتبرت الموسرين القادرين والمتقاعسين عن اسعافهم ابعد الناس عن الاسلام ، وقد قال رسو ل الله (ص) : «من اصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم» (1) .
وقال (ص) : «ما آمن بي من شبعانا وجاره جائع ، وما من اهل قرية يبيت فيهم جائع ينظر الله اليهم يوم القيامة » (2).
وانما حرض الاسلام اتباعه على الاريحية والسخاء ، ليكونوا مثلاً عالياً في تعاطفهم ومواساتهم ، ولينعموا بحياة كريمة ، وتعايش سلمي ، ولان الكرم صمام امن المجتمع ، وضمان صفائه وازدهاره .

مجالات الكرم

تتفاوت فضيلة الكرم ، بتفاوت مواطنه ومجالاته . فأسمى فضائل الكرم ، واشرف بواعثه ومجالاته ، ما كان استجابة لامر الله تعالى ، وتنفيذا لشرعه المطاع ، وفرائضه المقدسة ، كالزكاة ، والخمس ونحوهما .
وهذا هو مقياس الكرم والسخاء في عرف الشريعة الاسلامية ، كما قال

(1) و (2) عن الكافي .
أخلاق أهل البيت 52

النبي (ص) : «من ادى ما افترض الله عليه ، فهو اسخى الناس» (1) .
وافضل مصاديق البر والسخاء بعد ذلك ، واجدرها ـ عيال الرجل واهل بيته ، فانهم فضلا عن وجوب الانفاق عليهم ، وضرورته شرعا وعرفاً ، اولى بالمعروف والاحسان ، واحق بالرعاية واللطف .
وقد يشذ بعض الافراد عن هذا المبدأ الطبيعي الاصيل ، فيغدقون نوالهم وسخاءهم على الاباعد والغرباء ، طلباً للسمعة والمباهاة ، ويتصفون بالشح والتقتير على اهلهم وعوائلهم ، مما يجعلهم في ضنك واحتياج مريرين ، وهم الصق الناس بهم واحناهم عليهم ، وذلك من لؤم النفس ، وغباء الوعي .
لذلك اوصى اهل البيت (ع) بالعطف على العيال ، والترفيه عنهم بمقتضيات العيش ولوازم الحياة :
قال الامام الرضا (ع) : «ينبغي للرجل ان يوسع على عياله ، لئلا يتمنوا موته» (2) .
وقال الامام موسى بن جعفر (ع) : «ان عيال الرجل اسراؤه ، فمن انعم الله عليه نعمة فليوسع على اسرائه ، فان لم يفعل اوشك ان تزول تلك النعمة» (3) .
والارحام بعد هذا وذاك ، احق الناس بالبر ، واحراهم بالصلة والنوال ، لاواصرهم الرحمية ، وتساندهم في الشدائد والازمات .
ومن الخطأ الفاضح ، حرمانهم من تلك العواطف ، واسباغها على الاباعد والغرباء ، ويعتبر ذلك ازدراءاً صارخاً ، يستثير سخطهم ونفارهم ، ويحرم جافيهم من عطفهم ومساندتهم .
وهكذا يجدر بالكريم ، تقديم الاقرب الافضل ، من مستحقي الصلة والنوال ، كالاصدقاء والجيران، وذوي الفضل والصلاح ، فانهم اولى بالعطف من غيرهم .

(1) الوافي ج 6 ص 67 عن الفقيه .
(2) الوافي ج 6 ص 61 عن الكافي والفقيه .
(3) الوافي ج 6 ص 61 عن الكافي والفقيه .
أخلاق أهل البيت 53

بواعث الكرم

وتختلف بواعث الكرم ، باختلاف الكرماء ، ودواعي اريحيتهم ، فأسمى البواعث غاية ، واحمدها عاقبة ، ما كان في سبيل الله ، وابتغاء رضوانه ، وكسب مثوبته .
وقد يكون الباعث رغبة في الثناء ، وكسب المحامد والامجاد ، وهنا يغدو الكريم تاجراً مساوماً بأريحيته وسخائه .
وقد يكون الباعث رغبة في نفع مأمول ، او رهبة من ضرر مخوف ، يحفزان على التكرم والاحسان .
ويلعب الحب دوراً كبيراً في بعث المحب وتشجيعه على الاريحية والسخاء . استمالةً لمحبوبه . واستدراراً لعطفه .
والحدير بالذكر ان الكرم لا يجمل وقعه ، ولا تحلو ثماره ، الا اذا تنزه عن المن ، وصفى من شوائب التسويف والمطل ، وخلا من مظاهر التضخيم والتنويه ، كما قال الصادق (ع) : « رأيت المعروف لا يصلح الا بثلاث خصال : تصغيره ، وستره ، وتعجيله . فانك اذا صغرته عظمته عند من تصنعه اليه ، واذا سترته تممته ، واذا عجلته هنيته ، وان كان غير ذلك محقته ونكدته» (1) .


الايثار

وهو : اسمى درجات الكرم ، وارفع مفاهيمه ، ولا يتحلى بهذه الصفة المثالية النادرة ، الا الذين تحلوا بالاريحية ، ويلغوا قمة السخاء ، فجادوا بالعطاء ، وهم بأمس الحاجة اليه ، وآثروا بالنوال ، وهم في ضنك من الحياة ، وقد اشاد القرآن بفضلهم قائلاً : «ويؤثرون على انفسهم ولو كان بهم خصاصة» (الحشر : 9) .
وسئل الصادق (ع) : اي الصدقة افضل ؟ قال : جهد المقل ، اما سمعت الله تعالى يقول :«ويؤثرون على انفسهم ولو كان بهم خصاصة» (2) .

(1) البحار م 16 من كتاب العشرة ص 116 عن علل الشرائع للصدوق (ره) .
(2) الوافي ج 6 ص 58 عن الفقيه .
أخلاق أهل البيت 54

ولقد كان النبي (ص) المثل الاعلى في عظمة الايثار ، وسمو الاريحية .
قال جابر بن عبد الله : ما سئل رسول الله (ص) شيئا فقال لا .
وقال الصادق (ع) : «ان رسول الله اقبل الى الجعرانة ، فقسم فيها الاموال ، وجعل الناس يسألونه فيعطيهم ، حتى ألجأوه الى شجرة فأخذت برده . وخدشت ظهره ، حتى جلوه عنها ، وهم يسألونه ، فقال : ايها الناس ردوا علي بردي ، والله لو كان عندي عدد شجر تهامة نعماً لقسمته بينكم ، ثم ما الفيتموني جباناً ولا بخيلاً ...» (1) .
وقد كان (ص) يؤثر على نفسه البؤساء والمعوزين ، فيجود عليهم بماله وقوته ، ويظل طاوياً ، وربما شد حجر المجاعة على بطنه مواساة لهم.
قال الباقر (ع) : «ما شبع النبي من خبز بر ثلاثة ايام متوالية ، منذ بعثه الله الى ان قبضه» (2) .
وهكذا كان اهل بيته عليهم السلام في كرمهم وايثارهم :
قال الصادق (ع) : «كان علي اشبه الناس برسول الله ، كان يأكل الخبز والزيت ، ويطعم الناس الخبز واللحم» (3) .
وفي علي واهل بيته الطاهرين ، نزلت الاية الكريمة :
« ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً . انما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءاً ولا شكورا» (الدهر : 8 ـ 9) .
فقد اجمع اولياء اهل البيت على نزولها في علي وفاطمة والحسن والحسين .. وقد اخرجه جماعة من اعلام غيرهم ، واليك ما ذكره الزمخشري في تفسير السورة من الكشاف .
قال : «وعن ابن عباس ان الحسن والحسين مرضا ، فعادهما رسول الله في

(1) سفينة البحار ج 1 ص 607 عن علل الشرائع . والجعرانة موضع بين مكة والطائف .
(2) سفينة البحار ج 1 ص 194 عن الكافي .
(3) البحار م 9 ص 538 عن الكافي .
أخلاق أهل البيت 55

ناس معه ، فقالوا : يا ابا الحسن لو نذرت على ولديك ، فنذر علي فاطمة وفضة جارية لهما ، ان برئا مما بهما ان يصوموا ثلاثة ايام فشفيا ،وما معهم شيء ، فاستقرض علي من شمعون الخيبري اليهودي ثلاثة اصوع من شعير ، فطحنت فاطمة صاعاً ، واختبزت خمسة اقراص على عددهم ، فوضعوها بين ايديهم ليفطروا ، فوقف عليهم سائل فقال : السلام عليكم اهل بيت محمد ، مسكين من مساكين المسلمين ، اطعموني اطعمكم الله من موائد الجنة ، فآثروه ، وباتوا ولم يذوقوا الا الماء ، واصبحوا صياماً ، فلما امسوا ووضعوا الطعام بين ايديهم ، وقف عليهم يتيم فآثروه ، ووقف عليهم اسير في الثالثة ففعلوا مثل ذلك .
فلما اصبحوا اخذ علي بيد الحسن والحسين واقبلوا الى رسول الله ، فلما ابصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع ، قال : ما اشد ما يسوؤني ما ارى بكم ، وقام فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها ، قد التصق بطنها بظهرها ، وغارت عيناها ، فساءه ذلك ، فنزل جبرائيل وقال : خذها يا محمد هنأك الله في اهل بيتك ، فأقرأه السورة» (1) .
وقد زخرت اسفار السير بايثارهم ، واريحتهم ، بما يطول ذكره في هذا البحث المجمل .


البخل

وهو : الامساك عما يحسن السخاء فيه ، وهو ضد الكرم .
والبخل من السجايا الذميمة ، والخلال الخسيسة ، الموجبة لهوان صاحبها ومقته وازدرائه ، وقد عابها الاسلام ، وحذر المسلمين منها تحذيراً رهيباً . قال تعالى : «ها انتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ، ومن يبخل فانما يبخل عن نفسه والله الغني وانتم الفقراء» (محمد : 38) .
وقال تعالى : «الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ، ويكتمون ما آتاهم

(1) عن الكلمة الغراء ـ للمرحوم اية الله السيد عبد الحسين شرف الدين ص 29 نقل بتصرف وتلخيص .
أخلاق أهل البيت 56

الله من فضله ، واعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً» (النساء : 37) .
وقال تعالى : «ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة» (آل عمران : 180) .
وعن الصادق عن آبائه عليهم السلام : «ان أمير المؤمنين سمع رجلاً يقول : ان الشحيح اغدر من الظالم . فقال : كذبت ان الظالم قد يتوب ويستغفر ، ويرد الظلامة عن اهلها ، والشحيح اذا شح منع الزكاة ، والصدقة ، وصلة الرحم ، وقرى الضيف ، والنفقة في سبيل الله تعالى ، وابواب البر ، وحرام على الجنة ان يدخلها شحيح» (1) .
وعن جعفر بن محمد عن آبائه عليهم السلام قال : «قال رسول الله (ص) : السخي قريب من الله ، قريب من الناس ، قريب من الجنة ، والبخيل بعيد من الله ، بعيد من الناس ، قريب من النار» (2) .
وقال أمير المؤمنين عليه السلام : «عجبت للبخيل يستعجل الفقر الذي منه هرب ، ويفوته الغنى الذي اياه طلب ، فيعيش في الدنيا عيش الفقراء ويحاسب في الاخرة حساب الاغنياء» (3) .
وسنعرض اخباراً اخرى في مطاوي هذا البحث .

مساوىء البخل

البخل سجية خسيسة ، وخلق لئيم باعث على المساوىء الجمة ، والاخطار الجسيمة في دنيا الانسان واخراه .
اما خطره الاخروي : فقد اعربت عنه اقوال اهل البيت عليهم السلام ولخصه امير المؤمنين (ع) في كلمته السالفة حيث قال : «والشحيح اذا شح منع الزكاة ، والصدقة ، وصلة الرحم ، وقرى الضيف ، والنفقة في سبيل الله ،

(1) الوافي ج 6 ص 69 عن الكافي .
(2) البحار م 15 ج 3 عن كتاب الامامة والتبصرة .
(3) نهج البلاغة .
أخلاق أهل البيت 57

وابواب البر ، وحرام على الجنة ان يدخلها شحيح» .
واما خطره الدنيوي فانه داعية للمقت والازدراء ، لدى القريب والبعيد وربما تمنى موت البخيل اقربهم اليه ، واحبهم له ، لحرمانه من نواله وطعماً في تراثه .
والبخيل بعد هذا اشد الناس عناءاً وشقاءاً ، يكدح في جمع المال والثراء ، ولا يستمتع به ، وسرعان ما يخلفه للوارث ، فيعيش في الدنيا عيش الفقراء ، ويحاسب في الاخرة حساب الاغنياء .

صور البخل

والبخل ـ وان كان ذميماً مقيتاً ـ بيد انه يتفاوت ذمه ، وتتفاقم مساوئه ، باختلاف صوره وابعاده :
فأقبح صوره واشدها اثما ، هو البخل بالفرائض المالية ، التي اوجبها الله تعالى على المسلمين ، تنظيماً لحياتهم الاقتصادية ، وانعاشاً لمعوزيهم . وهكذا تختلف معائب البخل ، باختلاف الاشخاص والحالات : فبخل الاغنياء اقبح من بخل الفقراء ، والشح على العيال او الاقرباء او الاصدقاء او الاضياف ابشع واذم منه على غيرهم ، والتقتير والتضييق في ضرورات الحياة من طعام وملابس ، اسوأ منه في مجالات الترف والبذخ اعاذنا الله من جميع صوره ومثالبه .

علاج البخل

وحيث كان البخل من النزعات الخسيسة ، والخلال الماحقة ، فجدير بالعاقل علاجه ومكافحته ، واليك بعض النصائح العلاجية له :
1 ـ ان يستعرض ما اسلفناه من محاسن الكرم ، ومساوىء البخل ، فذلك يخفف من سورة البخل . وان لم يجد ذلك ، كان على الشحيح ان يخادع نفسه بتشويقها الى السخاء ، رغبة في الثناء والسمعة ، فاذا ما انس بالبذل ، وارتاح اليه ، هذب نفسه بالاخلاص ، وحبب اليها البذل في سبيل الله عز وجل .

أخلاق أهل البيت 58

2 ـ للبخل اسباب ودوافع ، وعلاجه منوط بعلاجها ، وبدرء الاسباب تزول المسببات .
واقوى دوافع الشح خوف الفقر ، وهذا الخوف من نزعات الشيطان ، وايحائه المثبط عن السخاء ، وقد عالج القرآن الكريم ذلك بأسلوبه البديع الحكيم ، فقرر : ان الامساك لا يجدي البخيل نفعاً ، وانما ينعكس عليه افلاساً وحرماناً ، فقال تعالى : «ها انتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ، ومن يبخل فانما يبخل عن نفسه ، والله الغني وانتم الفقراء» (محمد : 38) .
وقرر كذلك ان ما يسديه المرء من عوارف السخاء ، لا تضيع هدراً ، بل تعود مخلوفة على المسدي ، من الرزاق الكريم ، قال عز وجل : «وما انفقتم من شيء فهو يخلفه ، وهو خير الرازقين» (سبأ : 39) .
وهكذا يضاعف القرآن تشويقه الى السخاء ، مؤكداً ان المنفق في سبيل الله هو كالمقرض لله عز وجل ، وانه تعالى بلطفه الواسع يرد عليه القرض اضعافاً مضاعفة : «مثل الذين ينفقون اموالهم في سبيل الله كمثل حبة انبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة ، والله يضاعف لمن يشاء ، والله واسع عليم» (البقرة : 261) .
اما الذين استرقهم البخل ، ولم يجدهم الاغراء والتشويق الى السخاء ، يوجه القرآن اليهم تهديداً رهيباً ، يملاً النفس ويهز المشاعر :
«والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب اليم . يوم يحمى عليها في نار جهنم ، فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لانفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون» (التوبة : 34 ـ 35) .
ومن دواعي البخل : اهتمام الاباء بمستقبل ابنائهم من بعدهم ، فيضنون بالمال توفيراً لاولادهم ، وليكون ذخيرة لهم ، تقيهم العوز والفاقة .
وهذه غريزة عاطفية راسخة في الانسان ، لا تضره ولا تجحف به ، ما دامت سوية معتدلة ، بعيدة عن الافراط والمغالاة .

أخلاق أهل البيت 59

بيد انه لا يليق بالعاقل ، ان يسرف فيها ، وينجرف بتيارها ، مضحياً بمصالحه الدنيوية والدينية في سبيل ابنائه .
وقد حذر القرآن الكريم الاباء من سطوة تلك العاطفة ، وسيطرتها عليهم كيلا يفتتنوا بحب ابنائهم ، ويقترفوا في سبيلهم ما يخالف الدين والضمير : «واعلموا انما اموالكم ، واولادكم فتنة ، وان الله عنده اجر عظيم» (الانفال : 29) .
واعظم ما قاله آمير المؤمنين (ع) في كتاب له : «اما بعد ، فان الذي في يديك من الدنيا . قد كان له اهل قبلك ، وهو صائر الى اهل بعدك ، وانما انت جامع لاحد رجلين : رجل عمل فيما جمعته بطاعة الله ، فسعد بما شقيت به ، او رجل عمل فيه بمعصية الله ، فشقي بما جمعت له ، وليس لاحد هذين اهلاً ان تؤثره على نفسك ، وتحمل له على ظهرك ، فأرجو لمن مضى رحمة الله ، ولمن بقي رزق الله» (1) .
وعن ابي عبد الله عليه السلام في قول الله تعالى : «كذلك يريهم الله اعمالهم حسرات عليهم» (البقرة : 167) قال : «هو الرجل يدع ماله لا ينفقه في طاعة الله بخلاً ، ثم يموت فيدعه لمن يعمل فيه بطاعة الله ، او في معصية الله ، فان عمل فيه بطاعة الله ، رآه في ميزان غيره فرآه حسرة ، وقد كان المال له ، وان كان عمل به في معصية الله ، قواه بذلك المال حتى عمل به في معصية الله» (2) .

** *

وهناك فئة تعشق المال لذاته ، وتهيم بحبه ، دون ان تتخذه وسيلة الى سعادة دينية او دنيوية ، وانما تجد انسها ومتعتها في اكتناز المال فحسب ، ومن ثم تبخل به اشد البخل .
وهذا هوس نفسي ، يشقي اربابه ، ويوردهم المهالك ، ليس المال غاية ، وانماهو ذريعة لمآرب المعاش او المعاد ، فاذا انتفت الذريعتان غدا المال تافهاً عديم النفع .

(1) نهج البلاغة .
(2) الوافي ج 6 ص 69 عن الكافي والفقيه .
أخلاق أهل البيت 60

وكيف يكدح المرء في جمع المال واكتنازه ؟ ! ثم سرعان ما يغنمه الوارث . ويتمتع به . فيكون له المهنى وللمورث الوزر والعناء .
وقد استنكر القرآن الكريم هذا الهوس ، وانذر اربابه انذارا رهيباً : «كلا بل لا تكرمون اليتيم ، ولا تحاضون على طعام المسكين ، وتأكلون التراث اكلاً لما ، وتحبون المال حباً جماً ، كلا اذا دكت الارض دكاً دكاً ، وجاء ربك والملك صفاً صفاً وجيء يؤمئذ بجهنم ، يومئذ يتذكر الانسان وانى له الذكرى ، يقول يا ليتيني قدمت لحياتي ، فيؤمئذ لا يعذب عذابه احد ، ولا يوثق وثاقه احد» (الفجر : 17 ـ 26) .
وقال تعالى : «ويل لكل همزة لمزة ، الذي جمع مالاً وعدده ، يحسب ان ماله اخلده ، كلا لينبذن في الحطمة ، وما ادراك ما الحطمة ، نار الله الموقدة ، التي تطلع على الافئدة ، انها عليها مؤصدة ، في عمد ممددة» (الهمزة) .
وابلغ ما اثر في هذا المجال ، كلمة أمير المؤمنين (ع) ، وهي في القمة من الحكمة وسمو المعنى ، قال (ع) : «انما الدنيا فناء ، وعناء ، وغير ، وعبر :
فمن فنائها : انك ترى الدهر موتراً قوسه ، مفوقاً نبله ، لا تخطيء سهامه ولا تشفى جراحه . يرمي الصحيح بالسقم ، والحي بالموت .
ومن عنائها : ان المرء يجمع ما لا يأكل ، ويبني ما لا يسكن ، ثم يخرج الى الله لا مالاً حمل ، ولا بناءاً نقل .
ومن غيرها : انك ترى المغبوط مرحرما ، والمرحوم مغبوطا ، ليس بينهم الا نعيم زل ، وبؤس نزل .
ومن عبرها : ان المرء يشرف على امله ، فيتخطفه اجله ، فلا امل مدرك ، ولا مؤمل متروك» (1) .


العفة

وهي : الامتناع والترفع عما لا يحل او لا يجمل ، من شهوات البطن والجنس ، والتحرر من استرقاقها المذل .

(1) سفينة البحار ج 1 ص 467 .
أخلاق أهل البيت 61

وهي من انبل السجايا ، وارفع الخصائص ، الدالة على سمو الايمان ، وشرف النفس ، وعز الكرامة ، وقد اشادت بفضلها الآثار :
قال الباقر (ع) : «ما من عبادة افضل عند الله منعفة بطن وفرج» (1) .
وقال رجل للباقر (ع) : «اني ضعيف العمل ، قليل الصلاة قليل الصيام ، ولكني ارجو ان لا آكل الا حلالاً ، ولا انكح الا حلالاً . فقال له : واي جهاد افضل من عفة بطن وفرج» (2) .
وقال رسول الله (ص) : «اكثر ما تلج به امتي النار ، الاجوفان البطن والفرج» (3) .

حقيقة العفة

ليس المراد بالعفة ، حرمان النفس من اشواقها ، ورغائبها المشروعة ، في المطعم والجنس ، وانما الغرض منها ، هو القصد والاعتدال في تعاطيها وممارستها ، اذ كل افراط او تفريط مضر بالانسان ، وداع الى شقائه وبؤسه :
فالافراط في شهوات البطن والجنس ، يفضيان به الى المخاطر الجسيمة ، والاضرار الماحقة ، التي سنذكرها في بحث (الشره) .
والتفريط فيها كذلك ، باعث على الحرمان من متع الحياة ، ولذائذها المشروعة ، وموجب لهزال الجسد ، وضعف طاقاته ومعنوياته .

الاعتدال المطلوب

من الصعب تحديد الاعتدال في غريزتي الطعام والجنس ، لاختلاف حاجات الافراد وطاقاتهم ، فاعتدال في شخص قد يعتبر افراطاً او تفريطا في آخر .
والاعتدال النسبي في المأكل هو : ان ينال كل فرد ما يقيم اوده ويسد

(1) الوافي ج 3 ص 65 عن الكافي .
(2) البحار م 15 ج 2 ص 184 عن محاسن البرقي وقريب منه في الكافي .
(3) البحار م 15 ج 2 ص 183 عن الكافي .

السابق السابق الفهرس التالي التالي