أخلاق أهل البيت 19

النهوض بأعباء الحياة ، وتحقيق غاياتها واهدافها ، ومن ثم ليسعدوا بحياة كريمة هانئة ، وتعايش سلمي .
وتلك غايات سامية ، لا تتحقق الا بالتفاهم الصحيح ، والتعاون الوثيق ، وتبادل الثقة والائتمان بين اولئك الافراد .
وبديهي ان اللسان هو اداة التفاهم ، ومنطلق المعاني والافكار ، والترجمان المفسر عما يدور في خلد الناس من مختلف المفاهيم والغايات ، فهو يلعب دورا خطيرا في حياة المجتمع ، وتجاوب مشاعره وافكاره .
وعلى صدقه او كذبه ترتكز سعادة المجتمع او شقاؤه ، فان كان اللسان صادق اللهجة ، امينا في ترجمة خوالج النفس واغراضها ، ادى رسالة التفاهم والتواثق ، وكان خير ، ورسول محبة وسلام .
وان كان متصفا بالخداع والتزوير ، وخيانة الترجمة والاعراب ، غدا رائد شر ، ومدعاة تناكر وتباغض بين افراد المجتمع ، ومعول هدم في كيانه .
من اجل ذلك كان الصدق من ضروارت المجتمع ، وحاجاته الملحة ، وكانت له آثاره وانعكاساته في حياة الناس .
فهو نظام عقد المجتمع السعيد ، ورمز خلقه الرفيع ، ودليل استقامة افراده ونبلهم ، والباعث القوي على طيب السمعة ، وحسن الثناء والتقدير ، وكسب الثقة والائتمان من الناس .
كما له آثاره ومعطياته في توفير الوقت الثمين ، وكسب الراحة الجسمية والنفسية .
فاذا صدق المتبايعون في مبايعاتهم ، ارتاحوا جميعا من عناء المماكسة ، وضياع الوقت الثمين في نشدان الواقع ، وتحري الصدق .
واذا تواطأ ارباب الاعمال والوظائف على التزام الصدق ، كان ذلك ضماناً لصيانة حقوق الناس ، واستتباب امنهم ورخائهم .
واذا تحلى كافة الناس بالصدق ، ودرجوا عليه ، احرزوا منافعه الجمة ، ومغانمه الجليلة .

أخلاق أهل البيت 20

واذا شاع الكذب في المجتمع ، وهت قيمه الاخلاقية ، وساد التبرم والسخط بين افراده ، وعز فيه التفاهم والتعاون ، وغدا عرضة للتبعثر والانهيار .
اقسام الصدق

للصدق صور واقسام تتجلى في الاقوال والافعال ، واليك ابرزها ؟
(1) ـ الصدق في الاقوال ، وهو : الاخبار عن الشيء على حقيقته من غير تزوير وتمويه .
(2) ـ الصدق في الافعال ، وهو : مطابقة القول للفعل ، كالبر بالقسم ، والوفاء بالعهد والوعد .
(3) ـ الصدق في العزم ، وهو : التصميم على افعال الخير ، فان انجزها كان صادق العزم ، والا كان كاذبه .
(4) ـ الصدق في النية ، وهو : تطهيرها من شوائب الرياء ، والاخلاص بها الى الله تعالى وحده .


الكذب

وهو : مخالفة القول للواقع . وهو من ابشع العيوب والجرائم ، ومصدر الاثام والشرور ، وداعية الفضيحة والسقوط . لذلك حرمته الشريعة الاسلامية ، ونعت على المتصفين به ، وتوعدتهم في الكتاب والسنة :
قال تعالى : «ان الله لا يهدي من هو مسرف كذاب» .

(غافر : 28)

وقال تعالى : «ويل لكل افاك اثيم» .

(الجاثية : 7)

وقال تعالى : «انما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله ، واولئك هم الكاذبون» .

(النحل : 105)

وقال الباقر (ع) : «ان الله جعل للشر اقفالا ، وجعل مفاتيح تلك الاقفال الشراب ، والكذب شر من الشراب» (1) .

(1) الكافي .
أخلاق أهل البيت 21

وقال (ع) : «كان علي بن الحسين يقول لولده : اتقوا الكذب ، الصغير منه والكبير ، في كل جد وهزل ، فان الرجل اذا كذب في الصغير ، اجترأ على الكبير ، اما علمتم ان رسول الله (ص) قال : ما يزال العبد يصدق حتى يكتبه الله صديقاً ، وما يزال العبد يكذب حتى يكتبه الله كذاباً» (1) .
وقال الباقر (ع) : «ان الكذب هو خراب الايمان» (2) .
وقال أمير المؤمنين (ع) : «اعتياد الكذب يورث الفقر» (3) .
وقال عيسى بن مريم (ع) : «من كثر كذبه ذهب بهاؤه» (4) .
وقال رسول الله (ص) في حجة الوداع : «قد كثرت علي الكذابة وستكثر ، فمن كذب علي متعمدا ، فليتبوأ مقعده من النار ، فاذا اتاكم الحديث فاعرضوه على كتاب الله وسنتي ، فما وافق كتاب الله فخذوا به ، وما خالف كتاب الله وسنتي فلا تأخذوا به» (5) .

مساوىء الكذب

وانما حرمت الشريعة الاسلامية (الكذب) وانذرت عليه بالهوان والعقاب ، لما ينطوي عليه من اضرار خطيرة ، ومساوىء جمة ، فهو :
(1) ـ باعث على سوء السمعة ، وسقوط الكرامة ، وانعدام الوثاقة ، فلا يصدق الكذاب وان نطق بالصدق ، ولا تقبل شهادته ، ولا يوثق بمواعيده وعهوده .
ومن خصائصه ان ينسى اكاذيبه ويختلق ما يخالفها ، وربما لفق الاكاذيب العديدة المتناقضة ، دعماً لكذبة افتراها ، فتغدوا احاديثه هذراً مقيتاً ، ولغواً فاضحاً .

(1) ، (2) الكافي .
(3) الخصال للصدوق .
(4) الكافي .
(5) احتجاج الطبرسي .
أخلاق أهل البيت 22

(2) ـ انه يضعف ثقة الناس بعضهم ببعض ، ويشيع فيهم احاسيس التوجس والتناكر .
(3) ـ انه باعث على تضييع الوقت والجهد الثمينين ، لتمييز الواقع من المزيف ، والصدق من الكذب .
(4) ـ وله فوق ذلك آثار روحية سيئة ، ومغبة خطيرة ، نوهت عنها النصوص السالفة .

دواعي الكذب

الكذب انحراف خلقي له اسبابه ودواعيه ، اهمها :
(1) ـ العادة : قد يعتاد المرء على ممارسة الكذب بدافع الجهل ، او التأثر بالمحيط المتخلف ، او لضعف الوازع الديني ، فيشب على هذه العادة السيئة ، وتمتد جذورها في نفسه ، لذلك قال بعض الحكماء : «من استحلى رضاع الكذب عسر فطامه» .
(2) ـ الطمع : وهو من اقوى الدوافع على الكذب والتزوير ، تحقيقاً لاطماع الكذاب ، واشباعا لنهمه .
(3) ـ العداء والحسد : فطالما سولا لا ربابهما تلفيق التهم ، وتزويق الافتراءات والاكاذيب ، على من يعادونه او يحسدونه . وقد عانى الصلحاء والنبلاء الذين يترفعون عن الخوض في الباطل ، ومقابلة الاساءة بمثلها ـ كثيرا من مآسي التهم والافتراءات والاراجيف .

انواع الكذب

للكذب صور شوهاء ، تتفاوت بشاعتها باختلاف اضرارها وآثارها السيئة ، وهي :
الاولى ـ اليمين الكاذبة
وهي من ابشع صور الكذب ، واشدها خطراً واثماً ، فانها جناية مزدوجة :

أخلاق أهل البيت 23

جرأة صارخة على المولى عز وجل بالحلف به كذباً وبهتاناً ، وجريمة نكراء تمحق الحقوق وتهدر الكرامات .
من اجل ذلك جاءت النصوص في ذمها والتحذير منها :
قال رسول الله (ص) : «اياكم واليمين الفاجرة ، فانها تدع الديار من اهلها بلاقع» (1) .
وقال الصادق (ع) : «اليمين الصبر الكاذبة ، تورث العقب الفقر» (2) .
الثانية ـ شهادة الزور
وهي كسابقتها جريمة خطيرة ، وظلم سافر هدام ، تبعث على غمط الحقوق ، واستلاب الاموال ، واشاعة الفوضى في المجتمع ، بمساندة المجرمين على جرائم التدليس والابتزاز .
انظر كيف تنذر النصوص شهود الزور بالعقاب الاليم :
قال رسول الله (ص) : «لا ينقضي كلام شاهد الزور من بين يدي الحاكم حتى يتبوأ مقعده من النار ، وكذلك من كتم الشهادة» (3) .
ونهى القرآن الكريم عنها فقال تعالى : «واجتنبوا قول الزور» .

(الحج : 30)


أضرار اليمين الكاذبة وشهادة الزور

وانما حرمت الشريعة الاسلامية اليمين الكاذبة ، وشهادة الزور ، وتوعدت عليهما بصنوف الوعيد والارهاب ، لآثارهما السيئة ، واضرارهما الماحقة ، في دين الانسان ودنياه ، من ذلك :
(1) ـ ان مقترف اليمين الكاذبة ، وشهادة الزور ، يسيىء الى نفسه اساءة كبرى بتعريضها الى سخط الله تعالى ، وعقوباته التي صورتها النصوص السالفة .
(2) ـ ويسيىء كذلك الى من سانده ومالأه ، بالحلف كذباً ، والشهادة

(1) ، (2) الكافي .
(3) الكافي ومن لا يحضره الفقيه .
أخلاق أهل البيت 24

زوراً ، حيث شجعه على بخس حقوق الناس ، وابتزاز اموالهم ، وهدر كراماتهم .
(3) ـ ويسيىء كذلك الى من اختلق عليه اليمين والشهادة المزورتين ، بخذلانه واضاعة حقوقه ، واسقاط معنوياته .
(4) ـ ويسيىء الى المجتمع عامة باشاعة الفوضى والفساد فيه ، وتحطيم قيمه الدينية والاخلاقية .
(5) ـ ويسيىء الى الشريعة الاسلامية بتحديها ، ومخالفة دستورها المقدس ، الذي يجب اتباعه وتطبيقه على كل مسلم .
الثالثة ـ خلف الوعد
الوفاء بالوعد من الخلال الكريمة التي يزدان بها العقلاء ، ويتحلى بها النبلاء ، وقد نوه الله عنها في كتابه الكريم فقال : «واذكر في الكتاب اسماعيل انه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبياً» .

(مريم : 54)

ذلك ان اسماعيل عليه السلام وعد رجلا ، فمكث في انتظاره سنة كاملة ، في مكان لا يبارحه ، وفاءاً بوعده .
وانه لمن المؤسف ان يشيع خلف الوعد بين المسلمين اليوم ، متجاهلين نتائجه السيئة في اضعاف الثقة المتبادلة بينهم ، وافساد العلاقات الاجتماعية ، والاضرار بالمصالح العامة .
قال الصادق (ع) : «عدة المؤمن اخاه نذر لا كفارة له ، فمن اخلف فبخلف الله تعالى بدأ ، ولمقته تعرض ، وذلك قوله تعالى : «يا ايها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ، كبر مقتاً عند الله ان تقولوا ما لا تفعلون» (1) .
وقال (ع) : «ان رسول الله (ص) وعد رجلاً الى صخرة فقال : انا لك هاهنا حتى تأتي . قال : فاشتدت الشمس عليه ، فقال اصحابه : يا رسول الله لو انك تحولت الى الظل . فقال : قد وعدته الى هاهنا : وان لم يجيء كان منه الى المحشر» (2) .

(1) الكافي .
(2) علل الشرائع .
أخلاق أهل البيت 25

الرابعة ـ الكذب الساخر
فقد يستحلي البعض تلفيق الاكاذيب الساخرة ، للتنذر على الناس ، والسخرية بهم ، وهو لهو عابث خطير ، ينتج الاحقاد والاثام .
قال الصادق (ع) : «من روى على مؤمن رواية ، يريد بها شينه ، وهدم مروته ليسقط من اعين الناس ، اخرجه الله تعالى من ولايته الى ولاية الشيطان ، فلا يقبله الشيطان» (1) .

علاج الكذب

فجدير بالعاقل ان يعالج نفسه من هذا المرض الاخلاقي الخطير ، والخلق الذميم ، مستهديا بالنصائح التالية :
(1) ـ ان يتدبر مااسلفناه من مساوىء الكذب ، وسوء آثاره المادية والادبية على الانسان .
(2) ـ ان يستعرض فضائل الصدق ومآثره الجليلة ، التي نوهنا عنها في بحث الصدق .
(3) ـ ان يرتاض على التزام الصدق ، ومجانبة الكذب ، والدأب المتواصل على ممارسة هذه الرياضة النفسية ، حتى يبرأ من هذا الخلق الماحق الذميم .

مسوغات الكذب

لا شك ان الكذب رذيلة مقيتة حرمها الشرع ، لمساوئها الجمة ، بيد ان هناك ظروف طارئة تبيح الكذب وتسوغه ، وذلك فيما اذا توقفت عليه مصلحة هامة ، لا تتحقق الا به ، فقد اجازته الشريعة الاسلامية حينذاك ، كانقاذ المسلم ، وتخليصه من القتل او الاسر ، او صيانة عرضه وكرامته ، او حفظ ماله المحترم ، فان الكذب والحالة هذه واجب اسلامي محتم .
وهكذا اذا كان الكذب وسيلة لتحقيق غاية راجحة ، وهدف اصلاحي ،

(1) الكافي .
أخلاق أهل البيت 26

فانه آنذاك راجح او مباح ، كالاصلاح بين الناس ، او استرضاء الزوجة واستمالتها او مخادعة الاعداء في الحروب .
وقد صرحت النصوص بتسويغ الكذب للاغراض السالفة .
قال الصادق (ع) : «كل كذب مسؤول عنه صاحبه يوماً الا في ثلاثة : رجل كايد في حربه فهو موضوع عنه ، او رجل اصلح بين اثنين يلقى هذا بغير ما يلقى هذا يريد بذلك الاصلاح فيما بينما ، او رجل وعد اهله شيئا وهو لا يريد ان يتم لهم» (1) .


الحلم وكظم الغيظ

وهما : ضبط النفس ازاء مثيرات الغضب . وهما من اشرف السجايا ، واعز الخصال ، ودليلا سمو النفس ، وكرم الاخلاق ، وسببا المودة والاعزاز .
وقد مدح الله الحلماء والكاظمين الغيظ ، واثنى عليهم في محكم كتابه الكريم .
فقال تعالى : «واذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما»

(الفرقان : 63) .

وقال تعالى : «ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ، ادفع بالتي هي احسن فاذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ، وما يلقاها الا الذين صبروا وما يلقاها الا ذو حظ عظيم»

(فصلت : 34 ـ 35) .

وقال تعالى : «والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين»

(آل عمران : 134) .

وعلى هذا النسق جاءت توجيهات اهل البيت عليهم السلام :
قال الباقر (ع) : «ان الله عز وجل يحب الحيي الحليم» (2) .
وسمع أمير المؤمنين (ع) رجلاً يشتم قنبراً ، وقد رام قنبر ان يرد عليه

(1) الكافي .
(2) الكافي .
أخلاق أهل البيت 27

فناداه أمير المؤمنين (ع) : مهلاً يا قنبر ، دع شاتمك ، مهانا ، ترضي الرحمن ، وتسخط الشيطان ، وتعاقب عدوك ، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، ما ارضى المؤمن ربه بمثل الحلم ، ولا اسخط الشيطان بمثل الصمت ، ولا عوقب الاحمق بمثل السكوت عنه» (1) .
وقال (ع) : «اول عوض الحليم من حلمه ، ان الناس انصاره على الجاهل» (2) .
وقال الصادق (ع) : «اذا وقع بين رجلين منازعة نزل ملكان ، فيقولان للسفيه منهما : قلت وقلت ، وانت اهل لما قلت ، ستجزى بما قلت . ويقولان للحليم منهما : صبرت وحلمت ، سيغفر الله لك ، ان اتممت ذلك . قال : فان رد الحليم عليه ارتفع الملكان» (3) .
وقال الصادق (ع) : «ما من عبد كظم غيظاً ، الا زاده الله عز وجل عزاً في الدنيا والاخرة ، وقد قال الله عز وجل : «والكاظمين الغيظ ، والعافين عن الناس ، والله يحب المحسنين» واثابه مكان غيظه ذلك» (4) .
وقال الامام موسى بن جعفر (ع) : «اصبر على اعداء النعم ، فانك لن تكافىء من عصى الله فيك ، بأفضل من ان تطيع الله فيه» (5) .
واحضر عليه السلام ولده يوماً فقال لهم : «يا بني اني موصيكم بوصية ، فمن حفظها لم يضع معها ، ان اتاكم آت فأسمعكم في الاذن اليمنى مكروهاً ، ثم تحول الى الاذن اليسرى فاعتذر وقال : لم اقل شيئا فاقبلوا عذره» (6) .
وقد يحسب السفهاء ان الحلم من دلائل الضعف ، ودواعي الهوان ، ولكن العقلاء يرونه من سمات النبل ، وسمو الخلق ، ودواعي العزة والكرامة . فكلما عظم الانسان قدراً ، كرمت اخلاقه ، وسمت نفسه ، عن مجاراة

(1) مجالس الشيخ المفيد .
(2) نهج البلاغة .
(3) ، (4) ، (5) الكافي .
(6) كشف الغمة للأربلي .
أخلاق أهل البيت 28

السفهاء في جالتهم وطيشهم ، معتصما بالحلم وكرم الاغضاء ، وحسن العفو ، ما يجعله مثار الاكبار والثناء .
كما قيل :
وذي سفه يخاطبني بجهل فآنف ان اكون له مجيبـاً
يزيد سفاهةً وازيد حلمـاً كعود زاده الاحراق طيبـا

ويقال : ان رجلا شتم احد الحكماء ، فأمسك عنه ، فقيل له في ذلك قال : «لا ادخل حرباً الغالب فيها اشر من المغلوب» .
ومن اروع ما نظمه الشعراء في مدح الحلم ، ما رواه الامام الرضا (ع) ، حين قال له المأمون : انشدني احسن ما رويت في الحلم ، فقال (ع) :
اذا كان دوني من بليـــت بجهـله ابيـت لنفسي ان تـقابل بالجــهل
وان كان مثلي في محلى من النــهى اخذت بحلمي كي اجل عن الـمثـل
وان كنت ادنى منه في الفضل والحجى عرفــت لــه حق التقدم والفضل

فقال له المأمون . ما احسن هذا ، هذا من قاله ؟ فقال : بعض فتياننا (1) .
ولقد كان الرسول الاعظم (ص) والائمة الطاهرون من اهل بيته ، المثل الاعلى في الحلم ، وجميل الصفح ، وحسن التجاوز .
وقد زخرت اسفار السير والمناقب ، بالفيض الغمر منها ، واليك نموذجاً من ذلك .
قال الباقر (ع) : «ان رسول الله (ص) اتى باليهودية التي سمت الشاة للنبي ، فقال لها : ما حملك على ما صنعت ؟ فقالت : قلت ان كان نبياً لم يضره ، وان كان ملكاً ارحت الناس منه ، فعفى رسول الله عنها» (2) .
وعفى (ص) عن جماعة كثيرة ، بعد ان اباح دمهم ، وامر بقتلهم .
منهم : هبار بن الاسود بن المطلب ، وهو الذي روع زينب بنت رسول الله ، فألقت ذا بطنها ، فأباح رسول الله دمه لذلك ، فروي انه اعتذر الى النبي

(1) معاني الاخبار ، وعيون اخبار الرضا للشيخ الصدوق .
(2) الكافي .
أخلاق أهل البيت 29

(ص) من سوء فعله ، وقال : وكنا يانبي الله اهل شرك ، فهدانا الله بك ، وانقذنا بك من الهلكة ، فاصفح عن جهلي ، وعما كان يبلغك عني ، فاني مقر بسوء فعلي ، معترف بذنبي . فقال (ص) : قد عفوت عنك ، وقد احسن الله اليك ، حيث هداك الى الاسلام . والاسلام يجب ما قبله .
ومنهم : عبد الله بن الزبعرى ، وكان يهجو النبي (ص) بمكة ، ويعظم القول فيه : فهرب يوم الفتح ، ثم رجع الى رسول الله واعتذر ، فقبل (ص) عذره .
ومنهم : وحشي قاتل حمزة سلام الله عليه ، روي انه لم اسلم ، قال له النبي : اوحشي ؟ قال : نعم . قال : اخبرني كيف قتلت عمي ؟ فأخبره ، فبكى (ص) وقال : غيب وجهك عني (1) .
وهكذا كان أمير المؤمني علي (ع) احلم الناس واصفحهم عن المسيىء :
ظفر بعبد الله بن الزبير ، ومروان بن الحكم ، وسعيد بن العاص ، وهم الد اعدائه ، والمؤلبين عليه ، فعفا عنهم ، ولم يتعقبهم بسوء .
وظفر بعمرو بن العاص ، وهو اخطر عليه من جيش ذي عدة ، فأعرض عنه ، وتركه ينجو بحياته حين كشف عن سوأته اتقاءاً لضربته .
وحال جند معاوية بينه وبين الماء في معركة صفين ، وهم يقولون له ولا قطرة حتى تموت عطشاً ، فلما حمل عليهم ، واجلاهم عنه ، سوغ لهم ان يشربوا منه كما يشرب جنده .
وزار السيدة عائشة بعد وقعة الجمل ، وودعها اكرم وداع ، وسار في ركابها اميالاً ، وارسل معها من يخدمها ويحف بها (2) .
وكان الحسن بن علي (ع) على سر ابيه وجده صلوات الله عليهم اجمعين : فمن حلمه ما رواه المبرد ، وابن عائشة : ان شامياً رآه راكباً ، فجعل

(1) سفينة البحار ج 1 .
(2) عبقرية الامام للعقاد بتصرف .
أخلاق أهل البيت 30

يلعنه ، والحسن لا يرد ، فلما فرغ ، اقبل الحسن عليه السلام فسلم عليه ، وضحك ، فقال : ايها الشيخ اظنك غريبا ، ولعلك شبهت ، فلو استعتبتنا اعتبناك ، ولو سألتنا اعطيناك ، ولو استرشدتنا ارشدناك ، ولو استحملتنا احملناك ، وان كنت جائعا اشبعناك ، وان كنت عرياناً كسوناك ، وان كنت محتاجاً اغنيناك ، وان كنت طريداً آويناك ، وان كان لك حاجة قضيناها لك ، فلو حركت رحلك الينا ، وكنت ضيفا الى وقت ارتحالك ، كان اعود عليك ، لان لنا موضعا رحباً ، وجاهاً عريضاً ، ومالاً كثيراً . فلما سمع الرجل كلامه بكى ، ثم قال : اشهد انك خليفة الله في ارضه ، الله اعلم حيث يجعل رسالته ، وكنت انت وابوك ابغض خلق الله الي ، والان انت احب خلق الله الي ، وحول رحله اليه ، وكان ضيفه الى ان ارتحل وصار معتقداً لمحبتهم (1) .
وهكذا كان الحسين بن علي عليهما السلام : جنى غلام للحسين عليه السلام جناية توجب العقاب عليه ، فأمر به ان يضرب ، فقال : يا مولاي والكاظمين الغيظ . قال : خلوا عنه . قال : يا مولاي والعافين عن الناس . قال : قد عفوت عنك . قال : والله يحب المحسنين . قال : انت حر لوجه الله ، ولك ضعف ما كنت اعطيك (2) .
واني استقرأت سيرة اهل البيت عليهم السلام فوجدتها نمطاً فريداً ، ومثلاً عالياً ، في دنيا السير والاخلاق :
من ذلك ما قصه الرواة من حلم الامام زين العابدين (ع) ، فقد كان عنده اضياف ، فاستعجل خادماً له بشواء كان في التنور ، فأقبل به الخادم مسرعاً ، فسقط السفود منه على رأس ابن لعلي بن الحسين (ع) تحت الدرجة ، فأصاب رأسه فقتله ، فقال علي للغلام وقد تحير الغلام واضطرب : انت حر ، فانك لم تتعمده ، واخذ في جهاز ابنه ودفنه (3) .
ولقب الامام موسى بن جعفر عليه السلام (بالكاظم) لوفرة حلمه ،

(1) البحار مجلد 9 ص 95 .
(2) كشف الغمة للأربلي .
(3) كشف الغمة للأربلي .
أخلاق أهل البيت 31

وتجرعه الغيظ ، في مرضاة الله تعالى .
يحدث الراوي عن ذلك ، فيقول : كان في المدينة رجل من اولاده بعض الصحابة يؤذي ابا الحسن موسى عليه السلام ويسبه اذا رآه ، ويشتم علياً ، فقال له بعض حاشيته يوماً : دعنا نقتل هذا الفاجر . فنهاهم عن ذلك اشد النهي ، وزجرهم ، وسأل عنه فذكر انه يزرع بناحية من نواحي المدينة ، فركب اليه فوجده في مزرعة له ، فدخل المزرعة بحماره ، فصاح به لا توطىء زرعنا ، فتوطأه (ع) بالحمار حتى وصل اليه ، ونزل وجلس عنده ، وباسطه وضاحكه ، وقال له : كم غرمت على زرعك هذا ؟ قال : مائة دينار . قال : فكم ترجو ان تصيب ؟ قال : لست اعلم الغيب . قال له : انما قلت كم ترجو ان يجيئك فيه . قال : ارجو ان يجيىء مائتا دينار . قال : فأخرج له ابو الحسن صرة فيها ثلاثمائة دينار وقال : هذا زرعك على حاله ، والله يرزقك فيه ما ترجو . قال : فقام الرجل فقبل رأسه ، وسأله ان يصفح عن فارطه ، فتبسم اليه ابو الحسن وانصرف . قال : وراح الى المسجد ، فوجد الرجل جالسا ، فلما نظر اليه ، قال : الله اعلم حيث يجعل رسالته . قال : فوثب اصحابه اليه فقالوا : ما قضيتك ؟ ! قد كنت تقول غير هذا . قال : فقال لهم : قد سمعتم ما قلت الان ، وجعل يدعو لابي الحسن عليه السلام ، فخاصموه وخاصمهم ، فلما رجع ابو الحسن الى داره ، قال لجلسائه الذين سألوه في قتله : ايما كان خيراً ما اردتم ام ما اردت ، انني اصلحت امره بالمقدار الذي عرفتم وكفيت شره (1) . وقد احسن الفرزدق حيث يقول في مدحهم :
من معشر حبهـم ديـن وبغضـهم كفــر وقربهـم منجـىً ومعتصـم
ان عد أهل التقـى كانـوا ائمتهـم او قيل من خير أهل الارض قيل هم

الغضب

وهو : حالة نفسية ، تبعث على هياج الانسان ، وثورته قولاً او عملاً . وهو مفتاح الشرور ، ورأس الآثام ، وداعية الازمات والاخطار . وقد تكاثرت الآثار في

(1) البحار مجلد 11 نقلا عن اعلام الورى للطبرسي وارشاد المفيد .
أخلاق أهل البيت 32

ذمه والتحذير منه :
قال الصادق (ع) : «الغضب مفتاح كل شر» (1) .
وانما صار الغضب مفتاحاً للشرور ، لما ينجم عنه من اخطار وآثام ، كالاستهزاء ، والتعيير ، والفحش ، والضرب ، والقتل ، ونحو ذلك من المساوىء . وقال الباقر (ع) : «ان الرجل ليغضب فما يرضى ابداً حتى يدخل النار» (2) .
وقال أميرالمؤمنين (ع) : «واحذر الغضب ، فانه جند عظيم من جنود ابليس» (3) .
وقال (ع) : «الحدة ضرب من الجنون ، لان صاحبها يندم ، فان لم يندم فجنونه مستحكم» (4) .
وقال الصادق (ع) : «سمعت ابي يقول : اتى رسول الله (ص) رجل بدوي ، فقال : اني اسكن البادية ، فعلمني جوامع الكلام . فقال ، آمرك ان لا تغضب . فأعاد الاعرابي عليه المسألة ثلاث مرات ، حتى رجع الى نفسه ، فقال : لا أسأل عن شيء بعد هذا ، ما امرني رسول الله الا بالخير ....» (5) .

بواعث الغضب

لا يحدث الغضب عفواً واعتباطاً ، وانما ينشأ عن اسباب وبواعث تجعل الانسان مرهف الاحساس ، سريع التأثر .
ولو تأملنا تلك البواعث ، وجدناها مجملة على الوجه التالي :
(1) ـ قد يكون منشأ الغضب انحرافاً صحياً ، كاعتلال الصحة العامة ، او ضعف الجهاز العصبي ، مما يسبب سرعة التهيج .
(2) ـ وقد يكون المنشأ نفسياً ، منبعثاً عن الاجهاد العقلي ، او المغالاة في

(1) ، (2) الكافي .
(3) ، (4) نهج البلاغة .
(5) الكافي .
أخلاق أهل البيت 33

الانانية ، او الشعور بالاهانة ، والاستنقاص ، ونحوها من الحالات النفسية ، التي سرعان ما تستفز الانسان ، وتستثير غضبه .
(3) ـ وقد يكون المنشأ اخلاقياً ، كتعود الشراسة ، وسرعة التهيج ، مما يوجب رسوخ عادة الغضب في صاحبه .

اضرار الغضب

للغضب اضرار جسمية ، وغوائل فادحة ، تضر بالانسان فرداً ومجتمعاً ، جسمياً ونفسياً ، مادياً وادبياً . فكم غضبة جرحت العواطف ، وشحنت النفوس بالاضغان ، وفصمت عرى التحابب والتآلف بين الناس . وكم غضبة زجت اناساً في السجون ، وعرضتهم للمهالك ، وكم غضبة اثارت الحروب ، وسفكت الدماء ، فراح ضحيتها الآلاف من الابرياء .
كل ذلك سوى ما ينجم عنه من المآسي والازمات النفسية ، التي قد تؤدي الى موت الفجأة .
والغضب بعد هذا يحيل الانسان بركاناً ثائراً ، يتفجر غيظاً وشراً ، فاذا هو انسان في واقع وحش ، ووحش في صورة انسان .
فاذا بلسانه ينطلق بالفحش والبذاء ، وهتك الاعراض ، واذا بيديه تنبعثان بالضرب والتنكيل ، وربما افضى الى القتل ، هذا مع سطوة الغاضب وسيطرته على خصمه ، والا انعكست غوائل الغضب على صاحبه ، فينبعث في تمزيق ثوبه ، ولطم رأسه ، وربما تعاطى اعمالاً جنونية ، كسب البهائم وضرب الجمادات .

الغضب بين المدح والذم

الغضب غريزة هامة ، تلهب في الانسان روح الحمية والاباء ، وتبعثه على التضحية والفداء ، في سبيل اهدافه الرفيعة ، ومثله العليا ، كالذود عن العقيدة ، وصيانة الارواح ، والاموال ، والكرامات . ومتى تجرد الانسان من هذه الغريزة صار عرضة للهوان والاستعباد ، كما قيل : «من استغضب فلم يغضب فهو حمار» .

السابق السابق الفهرس التالي التالي