أخلاق أهل البيت 1



اخلاق
أهـل البـيت

أخلاق أهل البيت 2

بسم الله الرحمن الرحيم


أخلاق أهل البيت 3

أخلاق
أهـل البيـت
(عليهم السلام)

لسيد محمد مهدي الصدر
مؤسسة دار الكتاب الإسلامي

أخلاق أهل البيت 4




أخلاق أهل البيت 5

مقدمة الكتاب

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين .
وبعد :
فان علم الاخلاق هو : العلم الباحث في محاسن الاخلاق ومساوئها ، والحث على التحلي بالاولى والتخلي عن الثانية .
ويحتل هذا العلم مكانة مرموقة ، ومحلاً رفيعاً بين العلوم ، لشرف موضوعه ، وسمو غايته . فهو نظامها ، وواسطة عقدها ، ورمز فضائلها ، ومظهر جمالها ، اذ العلوم بأسرها منوطة بالخلق الكريم ، تزدان بجماله ، وتحلو بآدابه ، فان خلت منه غدت هزيلة شوهاء ، تثير السخط والتقزز .
ولا بدع فالاخلاق الفاضلة هي التي تحقق في الانسان معاني الانسانية الرفيعة ، وتحيطه بهالة وضاءة من الجمال والكمال ، وشرف النفس والضمير ، وسمو العزة والكرامة ، كما تمسخه الاخلاق الذميمة ، وتحطه الى سوي الهمج والوحوش .
وليس اثر الاخلاق مقصورا على الافراد فحسب بل يسري الى الامم والشعوب ، حيث تعكس الاخلاق حياتها وخصائصها ومبلغ رقيها ، او تخلفها في مضمار الامم .

أخلاق أهل البيت 6

وقد زخر التاريخ بأحداث وعبر دلت على ان فساد الاخلاق وتفسخها كان معولاً هداماً في تقويض صروح الحضارات ، وانهيار كثير من الدول والممالك :
واذا اصيب القوم في اخلاقهم فأقم عليهم مأتماً وعويلاً

وناهيك في عظمة الاخلاق ، ان النبي (ص) اولاها عناية كبرى ، وجعلها الهدف والغاية من بعثته ورسالته ، فقال :
(بعثت لأتمم مكارم الاخلاق)
وهذا هو ما يهدف اليه علم الاخلاق ، بما يرسمه من نظم وآداب ، تهذب ضمائر الناس وتقوم اخلاقهم ، وتوجههم الى السيرة الحميدة ، والسلوك الامثل .
وتختلف مناهج الابحاث الخلقية واساليبها باختلاف المعنيين بدراستها من القدامى والمحدثين : بين متزمت غال في فلسفته الخلقية ، يجعلها جافة مرهقة عسيرة التطبيق والتنفيذ . وبين متحكم فيها بأهوائه ، يرسمها كما اقتضت تقاليده الخاصة ، ومحيطه المحدود ، ونزعاته وطباعه ، مما يجردها من صفة الاصالة والكمال . وهذا ما يجعل تلك المناهج مختلفة متباينة ، لا تصلح ان تكون دستوراً اخلاقيا خالداً للبشرية .
والملحوظ للباحث المقارن بين تلك المناهج ان افضلها واكملها هو : النهج الاسلامي ، المستمد من القرآن الكريم ، واخلاق اهل البيت عليهم السلام ، الذي ازدان بالقصد والاعتدال ، واصالة المبدأ ، وسمو الغاية ، وحكمة التوجيه ، وحسن الملائمة لمختلف العصور والافكار .
وهو النهج الفريد الامثل الذي يستطيع بفضل خصائصه وميزاته ان يسمو بالناس فرداً ومجتمعاً ، نحو التكامل الخلقي ، والمثل الاخلاقية العليا ، بأسلوب شيق محبب ، يستهوي العقول والقلوب ، ويحقق لهم ذلك بأقرب وقت ، وايسر طريق .
هو منهج يمثل سمو آداب الوحي الالهي ، وبلاغة اهل البيت عليهم السلام ، وحكمتهم ، وهم يسيرون على ضوئه ، ويستلهمون مفاهيمه ، ويستقون من معينه ، ليحيلوها الى الناس حكمة بالغة ، وادباً رفيعاً ، ودروساً اخلاقية

أخلاق أهل البيت 7

فذة ، تشع بنورها وطهورها على النفس ، فتزكيها وتنيرها بمفاهيمها الخيرة وتوجيهها الهادف البناء .
من اجل ذلك تعشقت هذا النهج ، وصبوت اليه ، وآثرت تخطيط هذه الرسالة ورسم ابحاثها على ضوئه وهداه .
ولئن اهتدى به اناس وقصر عنه اخرون ، فليس ذلك بقادح في حكمته وسمو تعاليمه ، وانما هو لأختلاف طباع الناس ، ونزعاتهم في تقبل مفاهيم التوجيه والتأديب ، وانتفاعهم بها ، كاختلاف المرضى في انتفاعهم بالادوية الشافية والعقاقير الناجعة : فمنهم المنتفع بها ، ومنهم من لا تجديه نفعاً .
ومما يحز في النفس ، ويبعث على الاسى والاسف البالغين ، ان المسلمين بعد ان كانوا قادة الامم ، وروادها الى الفضائل ، ومكارم الاخلاق ، قد خسروا مثاليتهم لأنحرافهم عن آداب الاسلام ، واخلاقه الفذة ، ما جعلهم في حالة مزرية من التخلف والتسيب الخلقيين . لذلك كان لزاماً عليهم ـ اذا ما ابتغوا العزة والكرامة وطيب السمعة ـ ان يستعيدوا ما اغفلوه من تراثهم الاخلاقي الضخم ، وينتفعوا برصيده المذخور ، ليكسبوا ثقة الناس واعجابهم من جديد ، وليكونوا كما اراد الله تعالى لهم «خير امة اخرجت للناس» .
وتلك امنية غالية ، لا تنال الا بتظافر جهود المخلصين من اعلام الامة الاسلامية وموجهيها ، على توعية المسلمين ، وحثهم على التمسك بالاخلاق الاسلامية ، ونشر مفاهيمها البناءة والاهتمام بعرضها عرضا شيقا جذابا ، يغري الناس بدراستها والافادة منها . وهذا ما حداني الى تأليف هذا الكتاب ، وتخطيطه على ضوء الخصائص التالية :
(1) ان هذا الكتاب لم يستوعب علم الاخلاق ، وانما ضم اهم ابحاثه ، وابلغها اثرا في حياة الناس .وقد جهدت ما استطعت في تجنب المصطلحات العلمية والفاظها الغامضة ، وعرضتها بأسلوب واضح مركز ، يمتع القارىء ، ولا يرهقه بالغموض والاطناب ، الباعثين على الملل والسأم .

أخلاق أهل البيت 8

(2) اختيار الاحاديث والاخبار الواردة فيه من الكتب المعتبرة والمصادر الوثيقة لدى المحدثين والرواة .
(3) الاهتمام بذكر محاسن الخلق الكريم ، ومساوىء الخلق الذميم ، وبيان آثارهما الروحية والمادية في حياة الفرد او المجتمع .
والجدير بالذكر : ان المقياس الخلقي في تقييم الفضائل الخلقية ، وتحديد واقعها هو : التوسط والاعتدال ، المبرأ من الافراط والتفريط . فالخلق الرضي هو : ما كان وسطاً بين المغالاة والاهمال ، كنقطة الدائرة من محيطها ، فان انحرف عن الوسط الى طرف الافراط او التفريط غدا خلقاً ذميماً . فالعفة فضيلة بين رذيلتي الشر والجمود : فان افرط الانسان فيها كان جامداً خاملاً ، معرضاً عن ضرورات الحياة ولذائذها المشروعة ، وان فرط فيها وقصر ، كان شرها جشعاً ، منهمكاً في اللذائذ والشهوات .
والشجاعة فضيلة بين رذيلتي التهور والجبن : فان افرط الشجاع فيها كان متهوراً مجازفا فيما يحسن الاحجام عنه ، وان فرط وقصر كان جباناً هياباً محجماً عما يحسن الاقدام عليه .
والسخاء فضيلة بين رذيلتي التبذير والبخل : فان افرط فيها كان مسرفا مبذرا سخيا على من لايستحق البذل والسخاء، وان فرط فيها وقصر كان شحيحاً بخيلاً فيما يجدر الجود والسخاء فيه ... وهكذا دواليك .
من اجل ذلك كان كسب الفضائل ، والتحلي بها ، والثبات عليها ، من الاهداف السامية التي يتبارى فيها ، ويتنافس عليها ، ذوو النفوس الكبيرة ، والهمم العالية ، ولا ينالها الا ذو حظ عظيم .
ولم ار امثال الرجال تفاوتا لدى المجد حتى عد الف بواحد

واني لارجو الله عز وجل ان يتقبل مني هذا المجهود المتواضع ويثيبني عليه ، بلطفه الواسع ، وكرمه الجزيل ، وان يوفقني واخواني المؤمنين للانتفاع به ، والسير على ضوئه ، انه ولي الهداية والتوفيق .
الكاظمية

مهدي السيد علي الصدر

أخلاق أهل البيت 9

حسن الخلق

حسن الخلق هو : حالة نفسية تبعث على حسن معاشرة الناس ، ومجاملتهم بالبشاشة ، وطيب القول ، ولطف المداراة ، كما عرفه الامام الصادق عليه السلام حينما سئل عن حده فقال : «تلين جناحك ، وتطيب كلامك ، وتلقى اخاك ببشر حسن» (1) .
من الاماني والامال التي يطمح اليها كل عاقل حصيف ، ويسعى جاهداً في كسبها وتحقيقها ، ان يكون ذا شخصية جذابة ، ومكانة مرموقة ، محبباً لدى الناس ، عزيزاً عليهم .
وانها لامنية غالية ، وهدف سامي ، لا يناله الا ذوو الفضائل والخصائص التي تؤهلهم كفاءاتهم لبلوغها ، ونيل اهدافها ، كالعلم والاريحية والشجاعة ونحوها من الخلال الكريمة .
بيد ان جميع تلك القيم والفضائل ، لا تكون مدعاة للاعجاب والاكبار ، وسمو المنزلة ، ورفعة الشأن ، الا اذا اقترنت بحسن الخلق ، وازدانت بجماله الزاهر ، ونوره الوضاء . فاذا ما تجردت منه فقدت قيمها الاصيلة ، وغدت صوراً شوهاء تثير السأم والتذمر .
لذلك كان حسن الخلق ملاك الفضائل ونظام عقدها ، ومحور فلكها ،

(1) الكافي للكليني .
أخلاق أهل البيت 10

واكثرها اعدادا وتأهيلا لكسب المحامد والامجاد ، ونيل المحبة والاعزاز .
انظر كيف يمجد اهل البيت عليهم السلام هذا الخلق الكريم ، ويطرون المتحلين به اطراء رائعاً ، ويحثون على التمسك به بمختلف الاساليب التوجيهية المشوقة ، كما تصوره النصوص التالية :
قال النبي (ص) : «افاضلكم احسنكم اخلاقاً ، الموطئون اكنافاً ، الذين يألفون ويؤلفون وتوطأ رحالهم» (1) .
وقال الباقر (ع) : «إن اكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً» (2) .
وقال الصادق (ع) : «ما يقدم المؤمن على الله تعالى بعمل بعد الفرائض ، احب الى الله تعالى من ان يسع الناس بخلقه» (3) .
وقال عليه السلام : «ان الله تعالى ليعطي العبد من الثواب على حسن الخلق ، كما يعطي المجاهد في سبيل الله ، يغدو عليه ويروح» (4) .
وقال النبي (ص) : «ان صاحب الخلق الحسن له مثل اجر الصائم القائم» (5) .
وقال الصادق (ع) : «ان الخلق الحسن يميث الخطيئة ، كما تميث الشمس الجليد» (6) .
وقال (ع) : «البر وحسن الخلق يعمران الديار ، ويزيدان في الاعمار» (7) .
وقال (ع) : «ان شئت ان تكرم فلن ، وان شئت ان تهان فاخشن» (8) .
وقال النبي (ص) : «انكم لم تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم» (9) .

(1) الكافي . والاكناف جمع كنف ، وهو : الناحية والجانب ، ويقال « رجل موطأ الاكناف » اي كريم مضياف .
(2) ، (3) ، (4) ، (5) ، (6) عن الكافي .
(7) عن الكافي .
(8) تحف العقول .
(9) من لا يحضره الفقيه .
أخلاق أهل البيت 11

وكفى بحسن الخلق شرفاً وفضلا ، ان الله عز وجل لم يبعث رسله وانبياءه الى الناس الا بعد ان حلاهم بهذه السجية الكريمة ، وزانهم بها ، فهي رمز فضائلهم ، وعنوان شخصياتهم .
ولقد كان سيد المرسلين (ص) المثل الاعلى في حسن الخلق ، وغيره من كرائم الفضائل والخلال . واستطاع بأخلاقه المثالية ان يملك القلوب والعقول ، واستحق بذلك ثناء الله تعالى عليه بقوله عز وجل من قائل : «وانك لعلى خلق عظيم» .
قال امير المؤمنين علي (ع) وهو يصور اخلاق رسول الله (ص) : «كان اجود الناس كفاً ، واجرأ الناس صدرا ، واصدق الناس لهجة ، واوفاهم ذمة ، والينهم عريكة ، واكرمهم عشرة . من رآه بديهة هابه . ومن خالطه فعرفه احبه ، لم ار مثله قبله ولا بعده» (1) .
وحسبنا ان نذكر ما اصابه من قريش ، فقد تألبت عليه ، وجرعته الوان الغصص ، حتى اضطرته الى مغادرة اهله وبلاده ، فلما نصره الله عليهم ، واظفره بهم ، لم يشكوا انه سيثأر منهم ، وينكل بهم ، فما زاد ان قال لهم : ما تقولون اني فاعل بكم ؟ ! قالوا : خيراً ، اخ كريم وابن اخ كريم . فقال : اقول كما قال اخي يوسف : لا تثريب عليكم اليوم ، اذهبوا فأنتم الطلقاء .
وجاء عن انس قال : كنت مع النبي (ص) ، وعليه برد غليظ الحاشية ، فجذبه اعرابي بردائه جذبة شديدة ، حتى اثرت حاشية البرد في صفحة عاتقه ، ثم قال : يا محمد احمل لي على بعيري هذين من مال الله الذي عندك ، فانك لا تحمل لي من مالك ، ولا مال ابيك . فسكت النبي (ص) ثم قال : المال مال الله ، وانا عبده . ثم قال : ويقاد منك يا اعرابي ما فعلت بي ؟ ! قال : لا . قال : لم ؟ قال : لانك لا تكافىء بالسيئة السيئة . فضحك النبي ، ثم امر ان يحمل له على بعير شعيراً وعلى الاخر تمراً (2) .

(1) سفينة البحار ـ مادة خلق ـ .
(2) سفينة البحار ـ مادة خلق ـ .
أخلاق أهل البيت 12

وعن امير المؤمنين (ع) قال : ان يهوديا كان له على رسول الله (ص) دنانير ، فتقاضاه ، فقال له : يا يهودي ما عندك ما اعطيك . فقال : فاني لا افارقك يا محمد حتى تقضيني . فقال : اذن اجلس معك ، فجلس معه حتى صلى في ذلك الموضع الظهر والعصر والمغرب والعشاء الاخرة والغداة ، وكان اصحاب رسول الله يتهددونه ويتواعدونه ، فنظر رسول الله اليهم وقال : ما الذي تصنعون به ؟ ! فقالوا : يا رسول الله يهودي يحبسك ! فقال : لم يبعثني ربي عز وجل بأن اظلم معاهدا ولا غيره . فلما علا النهار قال اليهودي : اشهد ان لا اله الا الله ، واشهد ان محمداً عبده ورسوله ، وشطر مالي في سبيل الله ، اما والله ما فعلت بك الذي فعلت ، الا لانظر الى نعتك في التوراة ، فاني قرأت نعتك في التوراة : محمد بن عبد الله ، مولده بمكة ، ومهاجره بطيبة ، وليس بفظ ولا غليظ ، ولا سخاب ، ولا متزين بالفحش ، ولا قول الخنا ، وانا اشهد ان لا اله الا الله ، وانك رسول الله ، وهذا مالي فاحكم فيه بما انزل الله ، وكان اليهودي كثير المال (1) .
وهكذا كان الائمة المعصومون من اهل البيت عليهم السلام في مكارم اخلاقهم وسمو آدابهم . وقد حمل الرواة الينا صورا رائعةودروسا خالدة من سيرتهم المثالية ، واخلاقهم الفذة .
من ذلك ما ورد عن ابي محمد العسكري (ع) قال : ورد على امير المؤمنين (ع) اخوان له مؤمنان ، اب وابن ، فقام اليهما واكرمهما واجلسهما في صدر مجلسه ، وجلس بين يديها ، ثم امر بطعام فأحضر فأكلا منه ، ثم جاء قنبر بطست وابريق خشب ومنديل ، فأخذ أمير المؤمنين عليه السلام الابريق فغسل يد الرجل بعد ان كان الرجل يمتنع من ذلك ، وتمرغ في التراب ، واقسم له اميرالمؤمنين عليه السلام ان يغسل مطمئناً ، كما كان يغسل لو كان الصاب عليه قنبر ففعل ، ثم ناوله الابريق محمد بن الحنفية وقال : يا بني لو كان هذا الابن حضرني دون ابيه لصببت على يده ، ولكن الله عز وجل يأبى ان يسوي بين ابن وابيه ، اذا جمعهما مكان ، ولكن قد صب الاب على الاب ، فليصب الابن على

(1) البحار م 6 في مكارم اخلاق النبي (ص) .
أخلاق أهل البيت 13

الابن ، فصب محمد بن الحنفية على الابن .
ثم قال العسكري (ع) : فمن اتبع علياً على ذلك فهو الشيعي حقاً (1) .
وورد ان الحسن والحسين مرا على شيخ يتوضأ ولا يحسن ، فأخذا في التنازع ، يقول كل واحد منهما انت لا تحسن الوضوء ، فقالا : ايها الشيخ كن حكما بيننا ، يتوضأ كل واحد منا ، فتوضئا ثم قالا : اينا يحسن ؟ قال : كلاكما تحسنان الوضوء ، ولكن هذا الشيخ الجاهل هو الذي لم يكن يحسن ، وقد تعلم الان منكما ، وتاب على يديكما ببركتكما وشفقتكما على امة جدكما (2) .
وجنى غلام للحسين عليه السلام جناية توجب العقاب عليه ، فأمر به ان يضرب ، فقال : يا مولاي والكاظمين الغيظ . قال : خلوا عنه . فقال : يا مولاي والعافين عن الناس . قال : قد عفوت عنك . قال : يا مولاي والله يحب المحسنين . قال : انت حر لوجه الله ، ولك ضعف ما كنت اعطيك (3) .
وحدث الصولي : انه جرى بين الحسين وبين محمد بن الحنفية كلام ، فكتب ابن الحنفية الى الحسين : «اما بعد يا اخي فان ابي واباك علي لا تفضلني فيه ولا افضلك ، وامك فاطمة بنت رسول الله ، لو كان ملء الارض ذهباً ملك امي ما وفت بأمك ، فاذا قرأت كتابي هذا فصر الي حتى تترضاني . فانك احق بالفضل مني ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته» ففعل الحسين فلم يجر بعد ذلك بينهما شيء (4) .
وعن محمد بن جعفر وغيره قالوا : وقف على علي بن الحسين (ع) رجل من اهل بيته فأسمعه وشتمه ، فلم يكلمه ، فلما انصرف قال لجلسائه : لقد سمعتم ما قال هذا الرجل ، وانا احب ان تبلغوا معي اليه حتى تسمعوا مني ردي عليه .
فقالوا له : نفعل ، ولقد كنا نحب ان يقول له ويقول . فأخذ نعليه ومشى

(1) سفينة البحار ـ مادة وضع ـ .
(2) البحار م 10 عن عيون المحاسن ص 89 .
(3) البحار م 10 ص 145 عن كشف الغمة .
(4) البحار م 10 ص 144 عن مناقب ابن شهر آشوب .
أخلاق أهل البيت 14

وهو يقول : «والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين» فعلمنا انه لا يقول له شيئاً .
قال : فخرج حتى اتى منزل الرجل ، فصرخ به ، فقال : قولوا له هذا علي بن الحسين . قال : فخرج متوثباً للشر ، وهو لا يشك انه انما جاء مكافئاً له على بعض ما كان منه .
فقال له علي بن الحسين : يا اخي انك وقفت علي آنفاً وقلت وقلت فان كنت قلت ما في فأستغفر الله منه ، وان كنت قلت ما ليس في فغفر الله لك . قال : فقبله الرجل بين عينيه ، وقال : بل قلت فيك ما ليس فيك وانا احق به (1) .
وليس شيء ادل على شرف حسن الخلق ، وعظيم اثره في سمو الانسان واسعاده ، من الحديث التالي :
عن علي بن الحسين (ع) قال : ثلاثة نفر آلوا باللات والعزى ليقتلوا محمداً (ص) ، فذهب امير المؤمنين وحده اليهم وقتل واحداً منهم وجاء بآخرين ، فقال النبي (ص) : قدم الي احد الرجلين ، فقدمه فقال : قل لا اله الا الله ، واشهد اني رسول الله . فقال : لنقل جبل ابي قبيس احب الي من ان اقول هذه الكلمة . قال : يا علي اخره واضرب عنقه . ثم قال : قدم الاخر ، فقال : قل لا اله الا الله ، واشهد اني رسول الله . قال : الحقني بصاحبي . قال : يا علي اخره واضرب عنقه . فاخره وقام أمير المؤمنين ليضرب عنقه فنزل جبرائيل على النبي (ص) فقال : يا محمد ان ربك يقرئك السلام ، ويقول لا تقتله فانه حسن الخلق سخي في قومه . فقال النبي (ص) : يا علي امسك ، فان هذا رسول ربي يخبرني انه حسن الخلق سخي في قومه . فقال المشرك تحت السيف : هذا رسول ربك يخبرك ؟ قال : نعم . قال : والله ما ملكت درهماً مع اخ لي قط ، ولا قطبت وجهي في الحرب ، فأنا اشهد ان لا اله الا الله ، وانك رسول الله . فقال رسول الله : هذا ممن جره حسن خلقه وسخائه الى جنات النعيم (2) .

(1) البحار م 11 ص 17 عن اعلام الورى وارشاد المفيد .
(2) البحار م 15 ج 2 ص 210 في حسن الخلق .
أخلاق أهل البيت 15

سوء الخلق

وهو : انحراف نفساني ، يسبب انقباض الانسان وغلظته وشراسته ، نقيض حسن الخلق .
من الثابت ان لسوء الخلق اثاراً سيئة ، ونتائج خطيرة ، في تشويه المتصف به ، وحط كرامته ، مما جعله عرضة للمقت والازدراء ، وهدفاً للنقد والذم .
وربما تفاقمت اعراضه ومضاعفاته ، فيكون حينذاك سببا لمختلف المآسي والازمات الجسمية والنفسية المادية والروحية .
وحسبك في خسة هذا الخلق وسوء آثاره ، ان الله تعالى خاطب سيد رسله ، وخاتم انبيائه ، وهو المثل الاعلى في جميع الفضائل والمكرمات قائلاً : «ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك» .
من اجل ذلك فقد تساند العقل والنقل على ذمه والتحذير منه ، واليك طرفا من ذلك : قال النبي (ص) : «عليكم بحسن الخلق ، فان حسن الخلق في الجنة لا محالة ، واياكم وسوء الخلق ، فان سوء الخلق في النار لا محالة» (1) .
وقال الصادق (ع) : «ان شئت ان تكرم فلن ، وان شئت ان تهان فاخشن» (2).
وقال النبي (ص) : «ابى الله لصاحب الخلق السيئ بالتوبة ، قيل : فكيف ذلك يا رسول الله ؟ قال : لانه اذا تاب من ذنب وقع في ذنب اعظم منه» (3) .
وقال الصادق (ع) : «ان سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل» (4) .
وقال (ع) : «من ساء خلقه عذب نفسه» (5) .

(1) عيون اخبار الرضا للشيخ الصدوق (ره) .
(2) تحف العقول .
(3) ،(4) ، (5) عن الكافي .
أخلاق أهل البيت 16

الاخلاق بين الاستقامة والانحراف

كما تمرض الاجساد وتعتورها اعراض المرض من شحوب وهزال وضعف ، كذلك تمرض الاخلاق ، وتبدو عليها سمات الاعتلال ومضاعفاته ، في صور من الهزال الخلقي ، والانهيار النفسي ، على اختلاف في ابعاد المرض ودرجات اعراضه الطارئة على الاجسام والاخلاق .
وكما تعالج الاجسام المريضة ، وتسترد صحتها ونشاطها ، كذلك تعالج الاخلاق المريضة ، وتستأنف اعتدالها واستقامتها ، متفاوتة في ذلك حسب اعراضها ، وطباع ذويها ، كالاجسام سواء بسواء .
ولولا امكان معالجة الاخلاق وتقويمها ، لحبطت جهود الانبياء في تهذيب الناس ، وتوجيههم وجهة الخير والصلاح ، وغدا البشر من جراء ذلك كالحيوان واخس قيمة ، وأسوأ حالاً منه ، حيث امكن ترويضه ، وتطوير اخلاقه ، فالفرس الجموح يغدو بالترويض سلس المقاد ، والبهائم الوحشية تعود داجنة اليفة .
فكيف لا يجدي ذلك في تهذيب الانسان ، وتقويم اخلاقه ، وهو اشرف الخلق ، واسماهم كفاءة وعقلاً ؟؟
من اجل ذلك فقد تمرض اخلاق الوادع الخلوق ، ويغدو عبوساً شرساً منحرفاً عن مثاليته الخلقية ، لحدوث احدى الاسباب التالية :
(1) ـ الوهن والضعف الناجمان عن مرض الانسان واعتلال صحته ، او طرو اعراض الهرم والشيخوخة عليه ، مما يجعله مرهف الاعصاب عاجزاً عن التصبر ، واحتمال مؤونة الناس ومداراتهم .
(2) ـ الهموم : فانها تذهل اللبيب الخلوق ، وتحرفه عن اخلاقه الكريمة ، وطبعه الوادع .
(3) ـ الفقر : فانه قد يسبب تجهم الفقير وغلظته ، انفةً من هوان الفقر والم الحرمان ، او حزنا على زوال نعمته السالفة ، وفقد غناه .
(4) ـ الغنى : فكثيرا ما يجمح بصاحبه نحو الزهو والتيه والكبر والطغيان ، كما قال الشاعر :

أخلاق أهل البيت 17

لقد كشف الاثراء عنك خلائقاً من اللؤم كانت تحت ثوب من الفقر

(5) ـ المنصب فقد يحدث تنمراً في الخلق ، وتطاولا على الناس ، منبعثا عن ضعة النفس وضعفها ، او لؤم الطبع وخسته .
(6) ـ العزلة والتزمت : فانه قد يسبب شعوراً بالخيبة والهوان ، مما يجعل المعزول عبوساً متجهماً .

علاج سوء الخلق

وحيث كان سوء الخلق من أسوأ الخصال واخس الصفات ، فجدير بمن يرغب في تهذيب نفسه ، وتطهير اخلاقه ، من هذا الخلق الذميم ، ان يتبع النصائح التالية :
(1) ـ ان يتذكر مساوىء سوء الخلق واضراره الفادحة ، وانه باعث على سخط الله تعالى ، وازدراء الناس ونفرتهم ، على ما شرحناه في مطلع هذا البحث .
(2) ـ ان يستعرض ما اسلفناه من فضائل حسن الخلق ، ومآثره الجليلة ، وما ورد في مدحه ، والحث عليه ، من آثار اهل البيت عليهم السلام .
(3) ـ التريض على ضبط الاعصاب ، وقمع نزوات الخلق السيئ وبوادره ، وذلك بالتريث في كل ما يصدر عنه من قول او فعل ، مستهديا بقول الرسول الاعظم (ص) : «افضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه» . يتبع تلك النصائح من اعتلت اخلاقه ، ومرضت بدوافع نفسية ، او خلقية . اما من ساء خلقه بأسباب مرضية جسمية ، فعلاجه بالوسائل الطبية ، وتقوية الصحة العامة ، وتوفير دواعي الراحة والطمأنية ، وهدوء الاعصاب .


الصدق

وهو : مطابقة القول للواقع ، وهو اشرف الفضائل النفسية ، والمزايا الخلقية ، لخصائصه الجليلة ، وآثاره الهامة في حياة الفرد والمجتمع .
فهو زينة الحديث ورواؤه ، ورمز الاستقامة والصلاح ، وسبب النجاح

أخلاق أهل البيت 18

والنجاة ، لذلك مجدته الشريعة الاسلامية ، وحرضت عليه ، قرآناً وسنةً .
قال تعالى : «والذي جاء بالصدق وصدق به اولئك هم المتقون ، لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين» .

(الزمر : 33 ـ 34)

وقال تعالى : «وهذا يوم ينفع الصادقين صدقهم ، لهم جنات تجري من تحتها الانهار ، خالدين فيها ابداً» .

(المائدة : 119)

وقال تعالى : «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ، وكونوا مع الصادقين» .

(التوبة : 119)

وهكذا كرم اهل البيت عليهم السلام هذا الخلق الرفيع ، ودعوا اليه بأساليبهم البليغة الحكيمة :
قال الصادق (ع) : «لاتغتروا بصلاتهم ، ولا بصيامهم ، فان الرجل ربما لهج بالصلاة والصوم حتى لو تركه استوحش ، ولكن اختبروهم عند صدق الحديث ، واداء الامانة» (1) .
وقال النبي (ص) : «زينة الحديث الصدق» (2) .
وقال أمير المؤمنين (ع) : «الزموا الصدق فانه منجاة» (3) .
وقال الصادق (ع) : «من صدق لسانه زكى عمله» (4) .
اي صار عمله ببركة الصدق زاكياً نامياً في الثواب ، لان الله تعالى «انما يقبل من المتقين» والصدق من ابرز خصائص التقوى واهم شرائطه .

مآثر الصدق

من ضرورات الحياة الاجتماعية ، ومقوماتها الاصلية هي :
شيوع التفاهم والتآزر بين عناصر المجتمع وافراده ، ليستطيعوا بذلك

(1) الكافي .
(2) الامامة والتبصرة .
(3) كمال الدين للصدوق .
(4) الكافي .

الفهرس التالي التالي