أدب الطف ـ الجزء الثالث 158


قال صاحب الخريدة ـ قسم شعراء مصر ـ كان ذا علم غزير وفضل كثير ، لم يعمل بشعره ولم يرحل من ضره ، وأنشدني ابن اخته القاضي محمد بن القاضي محمد بن ابراهيم المعروف بابن الداعي من أسوان ، وقد وفدت إلى دمشق سنة إحدى وسبعين قال: أنشدني خالي الرشيد بن الزبير لنفسه من قصيدة:
تواصى على ظلمي الأنام بأسرهم وأظلم من لاقـيت أهلـي وجيراني
لكل امرىء شيطـان جـن يكيده بسوء ولي دون الورى الف شيطان

قال السيد الامين في الاعيان: ذكره صاحب (نسمة السحر فيمن تشيع وشعر) ، وقال: كان من الإسماعيلية ، وله من المؤلفات:
1 ـ الرسالة الحصيبية.
2 ـ جنان الجنان ورياض الاذهان في شعراء مصر ومن طرأ عليهم ، في اربع مجلدات ذيل به على اليتيمة.
3 ـ منية الألمعي وبلغة المدعى في علوم كثيرة.
4 ـ المقامات.
5 ـ الهدايا والطرف.
6 ـ شفاء الغلة في سمت القبلة.
7 ـ ديوان شعره ، نحو مائة ورقة.

أدب الطف ـ الجزء الثالث 159


وقال ياقوت في معجم الادباء: أحمد بن علي بن الزبير الغساني الاسواني المصري ، يلقب بالرشيد ، وكنيته ابو الحسين ، مات سنة اثنتين وستين وخمسمائة ، على ما نذكره ، وكان كاتباً شاعراً فقيها نحوياً لغوياً ، ناشئاً ، عروضياً ، مؤرخاً منطقياً ، مهندساً عارفاً بالطب والموسيقى والنجوم ، متفنناً.
وقال السلفي: أنشدني القاضي ابو الحسن ، أحمد بن علي بن ابراهيم الغساني الاسواني لنفسه بالثغر:
سمحنـا لدنيانا بما بخلت به علينا ولم نحفل بجل امروها
فيا ليتنا لما حرمنا سرروها وقينـا أذى آفاتها وشرورها

قال: وكان ابن الزبير هذا ، من أفراد الدهر فضلاً في فنون كثيرة من العلوم ، وهو من بيت كبير بالصعيد من الممولين ، وولي النظر بثغر الاسكندرية والدواوين السلطانية ، بغير اختياره ، وله تآليف ونظم ونثر التحق فيها بالأوائل المجيدين ، قتل ظلماً وعدواناً في محرم سنة اثنتين وستين وخمسمائة ، وله تصانيف معروفة لغير اهل مصر ، منها: كتاب منية الألمعي وبلغة المدعي ، يشتمل على علوم كثيرة كتاب المقامات. كتاب منية الألمعي وبلغة المدعي: يشتمل على علوم كثيرة. كتاب المقامات. كتاب جنان الجنان وروضة الأذهان ، في أربع مجلدات ، يشتمل على شعر شعراء مصر ، ومن طرأ عليهم. كتاب الهدايا والطرف. كتاب شفاء الغلة في سمت القبلة كتاب رسائله نحو خمسين ورقة. كتاب ديوان شعره ، نحو مائة ورقة.
ومولده بأسوان ، وهي بلدة من صعيد مصر ، وهاجر منها الى مصر فأقام بها واتصل بملوكها ومدح وزراءها ، وتقدم عندهم وأنفذ الى اليمن في رسالة ، ثم قلد قضاءها وأحكامها ، ولقب بقاضي قضاة اليمن ، وداعي دعاة الزمن ، ولما استقرت بها داره ، سمت نفسه إلى رتبة الخلافة فسعى

أدب الطف ـ الجزء الثالث 160


فيها ، وأجابه قوم ، وسلم عليه بها ، وضربت له السكة ، وكان نقش السكة على الوجه الواحد: « قل هو الله أحد ، الله الصمد » وعلى الوجه الآخر (الامام الامجد أبو الحسين احمد) ثم قبض عليه وأنفذ مكبلا الى قوص فحكى من حضر دخوله إليها: انه رأى رجلاً ينادي بين يديه هذا عدو السلطان احمد بن الزبير وهو مغطى الوجه حتى وصل الى دار الامارة والأمير بها يومئذ طرخان سليط وكان بينهما ذحول(1) قديمة فقال: أحبسوه في المطبخ الذي كان يتولاه قديماً وكان ابن الزبير قد تولى المطبخ وفي ذلك يقول الشريف الأخفش من أبيات يخاطب الصالح بن رزيك:
يولـى على الشيء اشكاله فيصبح هـذا لـهذا أخـا
أقام على المطبخ ابن الزبير فولى على المطبخ المطبخا

فقال بعض الحاضرين لطرخان: ينبغي ان تحسن الى الرجل فإن أخاه ـ يعني ـ المهذب حسن بن الزبير قريب من قلب الصالح ولا أستبعد ان يستعطفه عليه فتقع في خجل.
قال: فلم يمض على ذلك غير ليلة أو ليلتين ، حتى ورد ساع من الصالح ابن رزيك ، إلى طرخان بكتاب يأمره فيه باطلاقه والإحسان إليه فأحضره طرخان من سجنه مكرماً.
قال الحاكي: فلقد رأيته وهو يزاحمه في رتبته ومجلسه وكان السبب في تقدمه في الدولة المصرية في أول أمره ما حدثني به الشريف ابو عبدالله محمد ابن ابي محمد العزيز الادريسي الحسني الصعيدي قال: حدثني زهر الدولة ، حدثنا: ان احمد بن الزبير دخل الى مصر بعد مقتل الظاهر وجلوس الفائز ،

(1) الذحول ، جمع الذحل ، الثأر والعداوة والحقد.
أدب الطف ـ الجزء الثالث 161


وعليه اطمار رثة وطيلسان صوف فحضر المأتم وقد حضر شعراء الدولة فأنشدوا مراثيهم على مراتبهم فقام في آخرهم ، وأنشد قصيدته التي أولها:
ما للرياض تميل سكرا هل سقيت بالمزن خمرا

الى أن وصل إلى قوله :
أفكر بلاء بالعرا ق وكربلاء بمصر خمرا

فذرفت العيون وعج القصر بالبكا والعويل وانثالت عليه العطايا من كل جانب وعاد الى منزله بمال وافر حصل له من الامراء والخدم وحظايا القصر وحمل إليه من قبل الوزير جملة من المال.
وقيل له : لو لا انه العزاء والمأتم ، لجاءتك الخلع.
قال: وكان على جلالته وفضله ومنزلته من العلم والنسب قبيح المنظر أسود الجلدة جهم الوجه سمج الخلقة ذا شفة غليظة وانف مبسوط ، كخلقة الزنوج ، قصيراً.
حدثني الشريف المذكور عن ابيه قال كنت أنا والرشيد بن الزبير والفقيه سليمان الديلمي ، نجتمع بالقاهرة في منزل واحد فغاب عنا الرشيد وطال انتظارنا له وكان ذلك في عنفوان شبابه وإبان صباه فجاءنا ، وقد مضى معظم النهار ، فقلنا له : ما أبطأ بك عنا؟ فتبسم وقال لا تسألوا عما جرى على اليوم فقلنا: لا بد من ذلك ، فتمنع ، وألححنا عليه ، فقال: مررت اليوم بالموضع الفلاني ، واذا امرأة شابة صبيحة الوجه وضيئة المنظر حسانة الخلق ظريفة الشمائل فلما رأتني نظرت إلي نظر مطمع لي في نفسه فتوهمت أنني وقعت منها بموقع ونسيت نفسي وأشارت إلي بطرفها ، فتبعتها

أدب الطف ـ الجزء الثالث 162


وهي تدخل في سكة وتخرج من اخرى حتى دخلت داراً وأشارت إلي فدخلت ، ورفعت النقاب عن وجه كالقمر في ليلة تمامه ثم صفقت بيديها منادية: يا ست الدار فنزلت إليها طفلة ، كأنها فلقة قمر وقالت: إن رجعت تبولين في الفراش تركت سيدنا القاضي يأكلك ، ثم التفتت وقالت: ـ لا أعدمني الله إحسانه بفضل سيدنا القاضي أدام الله عزه ـ فخرجت وانا خزيان خجلاً ، لا أهتدي إلى الطريق.
وحدثني قال: إجتمع ليلة عند الصالح بن رزيك هو وجماعة من الفضلاء فألقى عليهم مسألة في اللغة فلم يجب عنها بالصواب سواه ، فاعجب به الصالح فقال الرشيد: ما سئلت قط عن مسألة إلا وجدتني أتوقد فهماً فقال ابن قادوس ، وكان حاضراً.
إن قلت: من نار خلقـ ـت وفقت كل الناس فهما
قلنا: صدقت ، فما الذي أطـفاك حتى صرت فحما

واما سبب مقتله: فلميله الى أسد الدين شيركوه عند دخوله الى البلاد ومكاتبته له ، واتصل ذلك بشاور وزير العاضد ، فطلبه ، فاختفى بالاسكندرية واتفق التجاء الملك صلاح الدين يوسف بن ايوب الى الاسكندرية ومحاصرته بها فخرج ابن الزبير راكباً متقلداً سيفاً وقاتل بين يديه ولم يزل معه مدة مقامه بالاسكندرية إلى ان خرج منها فتزايد وجد شاور عليه واشتد طلبه له ، واتفق ان ظفر به على صفة لم تتحقق لنا ، فأمر باشهاره على جمل ، وعلى رأسه طرطور ووراءه جلواز ينال منه.
وأخبريني الشريف الإدريسي عن الفضل بن أبي الفضل انه رآه على تلك الحال الشنيعة وهو ينشد:
إن كان عندك يا زمان بقية مما تهين به الكرام فهاتها


أدب الطف ـ الجزء الثالث 163


ثم جعل يهمهم شفتيه بالقرآن ، وأمر به بعد إشهاره بمصر والقاهرة ان يصلب شنقاً ، فلما وصل به الى الشناقة جعل يقول للمتولي: لك منه: عجل عجل فلا رغبة للكريم في الحياة بعد هذه الحال. ثم صلب.
حدثني الشريف المذكور قال: حدثني الثقة حجاج بن المسيح الأسواني: أن ابن الزبير دفن في موضع صلبه ، فما مضت الايام والليالي حتى قتل شاور وسحب ، فاتفق أن حفر له ليدفن فوجد الرشيد بن الزبير في الحفرة مدفوناً فدفنا معاً في موضع واحد ، ثم نقل كل واحد منهما بعد ذلك الى تربة له بقرافة مصر القاهرة.
ومن شعر الرشيد ، قوله يجب أخاه المهذب عن قصيدته التي أولها:
يا ربع ابن ترى الأحبة يمموا رحلوا فلا خلت المنازل منهم

ويروي: ونأوا فلا سلت الجوانح عنهم
وسـروا وقـد كتموا الغداة مسيرهم وضـياء نور الشمس ما لا يكتم
وتبدلوا ارض الـعقيق عـن الحمى روت جفـوني أي ارض يمموا
نزلوا العذيب ، وإنـما فـي مهجتي نزلوا وفي قـلب المتـيم خيموا
ما ضرهم لو ودعـوا مـن اودعوا نار الغرام وسلـموا من أسلموا
هم في الحشا إن أعرقوا أو أشأموا أو أيمنوا أو أنجدوا أو أتـهموا
وهم مجال الـفكـر من قلبي وإن بعد المزار فصفو عيشي معهم
أحبابنا ما كـان اعظـم هـجركم عندي ولكـن التـفـرق اعظم
غبتم ، فلا والله ما طرق الـكرى جفـني ولـكن سح بعدكم الدم
وزعـمـتم إني صبـور بعـدكم هيهـات لا لقيتم مـا قـلـتم
وإذا سئـلت بـمن أهيـم صبابة قلت الذين هم الـذيـن هم هم
النازلين بـمهـجتي وبمـقلتـي وسط السـويدا والسواد الاكرم


أدب الطف ـ الجزء الثالث 164


لا ذنب لي في البعد أعـرفه سـوى أني حفـظت العهـد لمـا خنتـم
فأقمت حـين ظـغنـتم وعدلت لمـ ـا جرتـم ، وسـهدت لـما نمتم
يا محـرقاً قلـبي بنـار صـدودهم رفقاً ففـيه نـار شـوق تـضرم
اسـعــرتـم فيـه لهـيب صبابة لا تنـطفـي إلا بـقرب مـنـكم
يا سـاكنـي أرض العـذيب سقيتم دمعي إذا ضن الغمــام المـرزم
بعدت منـازلـكم وشـط مـزاركم وعهودكم محـفوظة مـذ غبـتم
لا لـوم للأحـباب فـيـما قد جنوا حكمتهم في مهـجتـي فتـحكموا
أحباب قلـبي أعـمـروه بـذكركم فلطالمـا حفـظ الـوداد المسلـم
أحباب قلبـي أعمــروه بذكـركم عن بعض ما يلقى الفؤاد المـغرم
كم تظـلمونـا قـادريـن ومـالنا ونأيتـم وقـطـعتـم وهجـرتـم
ورحلـتـم وبعدتـم وظـلـمتـم ونأيـتـم وقـطعـتم وهـجرتـم
هيـهات لا أسـلوكم أبـداً وهـل يسلوا عن الـبيت الـحرام المحرم
وانا الـذي واصـلت حين قطعتم وحفـظت أسبـاب الهوى اذ خنتم
جـار الـزمـان علي ، لما جرتم ظلماً ومال الدهـر لـما مـلـتـم
وغدوت بعد فارقكـم وكـأنـني هدف يمر بـجانبـيـه الأسـهـم
ونزلـت مـقهـور الفـؤاد ببلدة قل الصديق بـهـا وقـل الـدرهم
في معـشر خلقوا شخوص بهائم يصـدا بـها فكر اللبـيب ويـبهم
إن كورمـوا لم يكرموا أو علموا لم يعـلـموا أو خوطبوا لم يفهموا
لا تـنـفـق الآداب عنـدهم ولا الاحسان يعرف فـي كثيـر منهم
صم عن المعروف حتى يسمعوا هجر الكلام فيـقدمـوا ويقـدموا
فالله يغنـي عنـهم ويـزيد في زهدي لهم ويفـك أسـري منـهم


أدب الطف ـ الجزء الثالث 165


قال الأمين في أعيان الشيعة: ومن شعره قوله في أهل البيت عليهم السلام وهو مسك الختام.
خذوا بيدي يا آل بيت محمد اذا زلت الإقدام في غدوة الغد
أبى القلب إلا حبكم وولاءكم وما ذاك الا من طهارة مولدي

وقال ابن خلكان في الوفيات: كان من أهل الفضل والنباهة والرياسة ، صنف كتاب الجنان ورياض الاذهان وذكر فيه جماعة من مشاهير الفضلاء وله ديوان شعر ولأخيه القاضي المهذب ابي محمد الحسن ديوان شعر أيضاً ، وكانا مجيدين في نظمهما ونثرهما ، ومن شعر القاضي المهذب ، وهو لطيف غريب من جملة مفيدة بديعة:
وترى الهجرة والنجـوم كأنما تسقي الرياض بجدول ملآن
لو لم تكن نهراً لما عامت بها أبداً نجوم الحوت والسرطان

وله ايضاً من جملة قصيدة:
ومالى إلى ماء سوى النيل غلة ولو أنه استغفر الله ـ زمزم

وله كل معنى حسن وأول شعر قاله ، سنة ست وعشرين وخمسمائة ، وذكره العماد الكاتب في كتاب السيل والذيل ، وهو اشعر من الرشيد ، والرشيد أعلم منه في سائر العلوم ، وتوفي بالقاهرة ، سنة احدى وستين وخمسمائة في رجب ـ رحمه الله ـ واما القاضي الرشيد فقد ذكره الحافظ أبو

أدب الطف ـ الجزء الثالث 166


الطاهر السلفي ، في بعض تعاليقه ، وقال: ولي النظر بثغر الاسكندرية في الدواوين السلطانية بغير اختياره ، في سنة تسع وخمسين وخمسمائة ، ثم قتل ظلماً وعدواناً في المحرم ، سنة ثلاث وستين وخمسمائة ، ـ رحمه الله ـ وذكره العماد أيضاً في كتاب السيل والذيل ، الذي ذيل به على الخريدة فقال: الخضم الزاخر والبحر العباب ، ذكرته في الخريدة وأخاه المهذب ، قتله شاور ظلماً لميله الى اسد الدين شيركوه في سنة ثلاث وستين وخمسمائة . كان اسود الجلدة ، وسيد البلدة ، أوحد عصره في علم الهندسة والرياضيات والعلوم الشرعيات والاداب الشعريات ، ومما انشدني له الامير عضد الدين ، ابو الفوارس مرهف بن اسامة بن منقذ ، وذكر انه سمعها منه:
جلت لدي الرزايا بل جلت هممي وهل يضر جلاء الـصارم الذكـر
غيري يغيره عن حسن شـيمته صرف الزمان ومـا يأتي من الغير
لو كانت النار للياقـوت محرقة لكان يـشتـبه اليـاقـوت بالـحجر
لا تغرين بأطمـاري وقيـمتها فأنما هـي أصـداف عـلـى درر
ولا تظن خفاء النجم من صفر فالذنب في ذاك محمول على البصر

قلت: وهذا البيت مأخوذ من قول أبي العلاء المعري ، في قصيدته الطويلة المشهورة فإنه القائل فيها:
والنجم تستصغر الأبصار رؤيته والذنب للطرف لا للنجم في الصغر

وأورد له العماد الكاتب في الخريدة أيضاً ، قوله في الكامل بن شاور:
إذا ما نبت بالحر دار يودها ولم يرتحل عنها فليس بذي حزم
وهبـه بها صباً ألم يدر أنه سيـزعجه منها الحمام على رغم

وقال العماد: أنشدني محمد بن عيسى اليمني ببغداد ، سنة إحدى وخمسين قال: أنشدني الرشيد باليمن لنفسه في رجل:

أدب الطف ـ الجزء الثالث 167


لئن خاب ظني في رجائك بعدما ظننت بأنـي قـد ظفـرت بمنصـف
فانك قد قـلدتـني كـل مـنـة ملكت بها شكري لـدى كـل مـوقف
لأنك قد حذرتـني كل صـاحب وأعلمتني أن ليس في الأرض من يفي

وكان الرشيد أسود اللون وفيه يقول أبو الفتح محمود بن قادوس ، الكاتب الشاعر يهجوه:
يا شبه لقمان بـلا حكـمة وخاسراً فـي العلـم لا راسخاً
سلخت أشعار الـورى كلها فصرت تدعـى الاسود السالخا

وكان الرشيد سافر الى اليمن رسولاً ، ومدح جماعة من ملوكها ، وممن مدحه منهم ، علي بن حاتم الهمذاني قال فيه:
لقد أجدبت أرض الصعيد وأقحطوا فلست أنال القحط في أرض قحطان
وقد كفلـت لـي مـأرب بمآربي فلست علـى أسـوان يوماً بأسوان
وإن جهلت حـقي زعانف خندف فقد عرفـت فضلي غطارف همدان

فحسده الداعي في عدن على ذلك ، فكتب بالابيات الى صاحب مصر فكانت سبب الغضب عليه ، فأمسكه وأنفذه اليه مقيداً مجرداً ، وأخذ جميع موجوده ، فأقام باليمن مدة ، ثم رجع الى مصر ، فقتله شاور كما ذكرناه ، وكتب إليه الجليس بن الحباب.
ثروة المكـرمات بعدك فقر ومحل العلا ببعدك قـفر
بل تجلى إذا حللت الدياجي وتمر الأيام حـيث تـمر
أذنب الدهر في مسيرك ذنبا ليس منه سوى إيابك عذر


أدب الطف ـ الجزء الثالث 168


والغساني: بفتح الغين المعجمة ، والسين المهملة ، وبعد الالف نون ، هذه النسبة الى غسان ، وهي قبيلة كبيرة من الأزد ، شربوا من ماء غسان ، وهو باليمن فسموا به ، والأسواني: بضم الهمزة ، وسكون السين المهملة ، وفتح الواو ، وبعد الالف نون ، هذه النسبة الى أسوان ، وهي بصعيد مصر. قال السمعاني: هي بفتح الهمزة والصحيح الضم ، هكذا قال لي الشيخ الحافظ ، ذكي الدين ابو محمد عبد العظيم المنذري حافظ مصر.

أدب الطف ـ الجزء الثالث 169


سعيد بن مكي النيلي

لا تنكـري إن ألفـت الهم والأرقا وبت من بعدهم حـلف الأسى قلقا
قد كنـت آمل روحي أن تفارقـني ولا أرى شمـلنا الملـتام مفترقـا
ليـت الركـائب لازمـت لبيـنهم وليت ناعـق يـوم البين لا نعـقا
كم هد ركني وكم أوهى قوى جلدي وكـم دم بمـواضي جوره هـرقا
لا تطلـبوا أبداً منـي البقـاء فهل يرجى مع البين من أهل الغرام بقا
يحـق لي إن بكت عيني دمـاً لهم وإن غـدوت بنار الحزن محتـرقا
يا منـزلاً لعبت أيـدي الشتات به وكـان يشـرق للـوفاد مـؤتلـقا
مالي على ربعـك البالي غدوت به وظلـت أسأل عن أهليهن ما نطقا
أبكي عليه ولـو أن البـكاء عـلى سـوى بني احمد المختار ما خلقا
تحكـمت فيهم الأعداء ـ ويلهموا ومن نجيع الدمـا اسقـوهم العلقا
تالله كم قصـموا ظهـراً لحـيدرة وكم بروا للرسول المصطفى عنقا
والله ما قـابلوا بالطـف يومـهم إلا بما يـوم بدر فيهـم سـبقـا

الى أن يقول في آخرها:
فهـاكموهـا مـن النيلي رائـقة تحكي الحيـا رقة لفـظاً ومتـسقا
إذا تلى نـائـح يـوم محـاسنها أزرت على كل من بالشعر قد نطقا
من شاعر في محاق الشعر خاطره الى طريق العلى والمجد قـد سبقا(1)


(1) عن كتاب معدن البكاء في مصيبة خامس آل العبا مخطوط المرحوم محمد صالح البرغاني قال هي للنيلي ولما كان المترجم قد اكثر من النظم في أهل البيت ترجح عندي أن تكون له.
أدب الطف ـ الجزء الثالث 170


قال الدكتور مصطفى جواد: هو سعيد بن احمد بن مكي النيلي كان أديباً وشاعراً ونحوياً فاضلاً ومؤدباً بارعاً من ادباء الشيعة المشهورين ، أقام بعد النيل ببغداد لقيام سوق الأدب فيها في أواسط القرن السادس وهو من أهله. (1)
ووصفه العماد الاصفهاني بأنه كان مغالياً في التشيع جالياً بالتورع غالياً في المذهب عالياً في الأدب معلماً في المكتب مقدماً في التعصب ثم أسن حتى جاوز حد الهرم وذهب بصره وعاد وجوده شبيه العدم وأناف على التسعين وآخر عهدي به في درب صالح ببغداد سنة اثنتين وستين [وخمسمائة]. قال: ثم سمعت انه لحق بالأولين
وذكره ياقوت الحموي في معجم الأدباء مع أنه لم يذكر له مؤلفاً ولا رسالة والذي بعثه على ذكره كونه أديباً نحوياً وقال فيه « له شعر جيد كثرة في مدح أهل البيت وله غزل رقيق مات سنة 565 هـ ، وقد ناهز المائة » . وكل من ذكره بعد عماد الدين الاصفهاني إنما هو عيال عليه وطالب إليه. ودرب صالح الذي رآه فيه سنة 562 هـ آخر رؤية هو من دروب الجانب الشرقي ببغداد ولا نعلم موضعه من بغداد الحالية مع كثرة تفتيشنا عنه إلا أنه كان مباءة للسروات والكبراء على ما يستفاد من بعض الاخبار ـ وقد روى عن ابن مكي النيلي بعض شعره ابن اخته عمر الواسطي الصفار. هذا جميع ما وقع الينا حتى اليوم من أخباره وسيرته وهو بالاضافة الى المائة

(1) مجلة الغرى النجفية السنة الثامنة ص 39.
أدب الطف ـ الجزء الثالث 171


السنة التي ناهزها شيء قليل جداً يجعل سيرته رمزاً من رموز التراجم في تاريخ الأدباء العراقيين في هذا القرن ، ومن شعره قصيدة يذكر فيها أهل البيت عليهم السلام ويفترعها بالغزل على عادتهم في المدح ويقول.
قـمر أقـام قيامـتي بقـولـه لم لا يجـود لمهجـتي بذمامه؟
ملكته كـبدي فـأتلف مهجتـي بجمال بهـجته وحسـن كلامه
وبمـبسم عـذب كأن رضابـه شهد مذاب فـي عبـير مدامه
وبناظر غـنج وطــرف أحور يصمي القلوب اذا رنا بسهامه
وكأن خـط غـداره فـي حسنه شمس تجلت وهي تحت لثامه
فالصبح يسفر مـن ضياء جبينه والليل يقبل مـن أثيث ظلامه
والظبي ليـس لحاظـه كلحاظه والغصن ليس قـوامه كقوامه
قمـر كأن الحسن يعشق بعضه بعضاً فساعـده على قسامـه
فالحسـن عـن تلـقائه وورائه ويمـيـنه وشمالـه وأمـامه
ويكـاد من تـرف لدقة خصره ينقد بـالأرداف عنـد قيامـه

قال الصفدي (قلت شعر متوسط) وهو مصيب في قوله إلا أنه يعلم أن هذه مقدمة صناعية للموضوع فلا ينبغي له الحكم بها في قضية الشعر ومنها في مدح أهل البيت عليهم السلام.
دع يا سعيد هواك واستمسك بمن تسعد بهـم وتزاح من آثامه
بمحـمد وبحيـدر وبفـاطــم وبولدهم عقـد الـولا بتمامه
قـوم يسـر وليـهم في بعـثه ويعض ظالمهـم على ابهامه
وتـرى ولـي وليـهم وكتابـه بيمينه والنـور مـن قدامـه
يسقيه مـن حوض النبي محمد كأساً بها يشفي غلـيل أوامه
بيدي أميرالمؤمنين وحسب من يسقى بـه كـأساً بكف إمامه
ذاك الذي لـولاه ما تضحت لنا سبل الهدى في غوره وشآمه


أدب الطف ـ الجزء الثالث 172


عـبد الآله وغيـره من جهله ما زال منعـكفاً على أصنامه
ما آصف يوماً وشمعون الصفا مع يوشع في العلم مثل غلامه

قال عماد الدين الاصفهاني (من ههنا دخل في المغالاة وخرج عن المضافاة فقبضنا اليد عن كتابة الباقي ورددنا القدح على الساقي وما أحسن التوالي وأقبح التغالي).
وقال العماد ايضاً انشدني له ابن اخته عمر الواسطي الصفار ببغداد قال انشدني خالي سعيد بن مكى من كلمة له ، وقال محب الدين ابو عبدالله محمد بن الوليد بن الحسن الواسطي الصفار من تاريخه (نزيل بغداد روى عن خاله شيئاً من شعره كتب الى ابو عبدالله محمد بن محمد بن حامد الاصفهاني الكاتب ونقلته من خطه قال انشدني عمر الواسطي الصفار ببغداد انشدنا خالي سعيد ابن النيلي لنفسه من كلمة له.
ما بال مغاني بشخـصك اطلال قد طال وقـوفي بها وبثي قد طال
الـربـع دثـور متـناه قـفار والربع محيل بعـد الاوانس بطال
عنقه دبـور وشمال وجنـوب مع ملث مـرخي العزالي محـلال
يا صاح قفاً باللوى فسائل رسما قد خال لعل الرسوم تنبي عن حال
ما شف فؤادي الا لغيب غراب بالبين ينادي قد طار يضرب بالغال
مذ طار شجا بالفراق قلباً حزيناً بالبين واقصى بالبعد صاحبة الخال
تمشي تتـهادى وقـد ثناها دل من فرط حياها تخفي رنين الخلخال

وهذه ابيان الغاية منها اظهار البراعة النظمية حسب فاني لا أجد بحرها رهواً ولا أحسب نظمها إلا زهواً ، وله في مدح النبي والأئمة ـ ع ـ
ومحمد يـوم القيامة شافع للمؤمنين وكل عبد مقنت
وعلي والحسنان ابنا فاطم للمؤمنين الفائزين الشيعة.


أدب الطف ـ الجزء الثالث 173


وعلي زيـن العابـدين وباقـر علم التقى وجـعفر هو منيتي
والكاظم الميمون موسى والرضا علم الهدى عند النوائب عدتي
ومحـمد الهادي الى سبل الهدى وعلى المهدي جعلت ذخيرتي
والعسـكرييـن الذيـن بحـبهم أرجو إذا أبصرت وجه الحجة

وقال في مدع الأمام علي عليه السلام :
فـان يكن آدم من قـبل الـورى بنـى وفي جنة عدن داره
فـان مـولاي عـلياً ذا العـلى مـن قبله ساطـعة أنواره
تـاب عـلى آدم مـن ذنـوبـه بخمـسة وهو بهم أجـاره
وان يـكـن نـوح بنـى سفينة تنجيه من سيل طمى تياره
فـان مـولاي عـلياً ذا الـعلى سفيـنة ينـجو بها أنصاره
وان يكون ذو النون ناجى حوته في الـيم لما كظه حصاره
ففـي جـلنرى للأنـام عـبرة يعرفها مـن دلـه اختياره
ردت لـه الشـمس بأرض بابل والليل قــد تجللت أستاره
وان يكن مـوسى رعى مجتهداً عشراً الى أن شفه انتظاره
وسـار بعـد ضـرهن بـأهله حتى عـلت بالواديين ناره
فـان مـولاي عـلياً ذا الـعلى زوجه واخـتار من يختاره
وان يـكن عيسـى لـه فضيلة تدهش من أدهشـه انبهاره
من حمـلته أمـه مـا سجـدت للات بل شغـلها استغفاره

وقال يذكر فتحه لحصن خيبر:
فهزها فـاهتز من حولهم حصناً بنـوه حجراً جلمدا
ثم دحا البـاب على نبذة تمسح خمسين ذراعاً عددا
وعبر الجيش على راحته حيدره الطـاهر لما وردا


أدب الطف ـ الجزء الثالث 174


وقال في ذكر خارقة له:
ألم تبصروا الثعبان مستشفعاً بـه الى الله والمعـصوم يلحسـه لحسا
فعاد كطـاووس يطيـر كـأنـه تعثر في الأملاك فاستوجب الحبسا
أما رد كـف العبد بعد انقطاعها أمـا رد عينا بعدما طمست طمسا
ألم تعلـموا أن الـنبي محـمداً بجيدرة أوصى ولـم يسكن الـرما
وقال لهم والقـوم في خم حضر ويتلوا الذي فيه وقد همسوا همسوا

وقال يمدحه عليه السلام :
خصـه الله بالـعلوم فأضحى وهو ينبىء بسر كل ضمير
حافظ العلم عن أخيه عن الله خبير عن اللطـيف الخبير

والضعف ظاهر على شعره لأنه اشتغل بالتأديب ، ونظم المناقب وهي شعر قصصي ديني خال من الروعة وان كان مبعثه الحب واللوعة ثم أن التأديب كان يتعب ذلك الأديب ويكد ذهنه ويشتت باله والشعر فن من الفنون التي تحتاج الى المواظبة والمعاناة والتفرغ وفراغ البال في غالب الأحوال ، وكان سعيد بن مكي بعيداً عن ذلك فلا جرم أن شعره جاء تارات جاماً وتارات بارداً ، . انتهى.
وفي الجزء السادس من الاعيان ص 407: ابو سعيد النيلي(1) منسوب الى النيل ، بلدة على الفرات بين بغداد والكوفة ، كان الحجاج حفر لها نهراً اسماه النيل باسم نيل مصر. وفي مجالس المؤمنين: ابو سعيد النيلي رحمه الله من فضلاء شعراء الامامية ، وهذ الابيات من بعض قصائده المشهورة: قمر أقام قيامتي بقوامه الى آخر ما مر.

(1) الصحيح سعيد بن مكي النيلي.
أدب الطف ـ الجزء الثالث 175


وقال يوسف اسطي معرضاً:
اذا اجتمع الناس في واحد خالفهم في الرضا واحد
فقـد دل اجاعهـم كلهـم على أنـه عقله فـاسد

فاجابه ابو سعيد بقوله:
ألا قل لـمن قـال فـي غيه وربـي على قـولـه شاهد
اذا اجتمع النـاس في واحـد وخـالفهم في الرضا واحـد
كـذبت وقولك غيرالصحيح وزغــلك ينقـده الـناقـد
فقد أجمعت قوم موسى جميعاً على العجل يا رجس يا مارد
وداموا عكـوفاً على عجلهـم وهـارون منـفـرد فـارد
فكان الكثيرهــم المخطئـون وكان المصيب هـو الواحد

وفي كتاب (احقاق الحق) ج3 ص 75.
ابو سعيد سعد بن احمد المكي النيلي من مشاهير الادباء والشعراء واكثر منظوماته في مديح اهل البيت عليهم السلام توفي سنة 562 وقيل 592. والنيلي نسبة الى النيل بالحلة. راجع الريحانة ج4 ص 264.
وفي اعيان الشيعة ج1 ص 197.
سعد بن احمد بن مكي النيلي المؤدب المعروف بابن مكي.
قال العماد الكاتب: كان غالياً في التشيع وعده ابن شهراشوب من شعراء أهل البيت المتقين (595) (565) معجم الادباء.
أقول وممن اشتهر بهذا اللقب:
1 ـ في أعيان الشيعة ج 1 ص 198.

علي بن محمد بن السكون الحلي النيلي. كان شاعراً توفي سنة 606.
2 ـ وفي ص 200 من الأعيان جزء أول قال:

الشيخ علي بن عبدالحميد النيلي وفاته حدود 800.

أدب الطف ـ الجزء الثالث 176


الشاعر صردر


ابو منصور علي بن الحسن بن الفضل المعروف بـ (صردر).
تسائل عن ثمـامات بجزوى ووادي الـرمل يـعلم من عنينا
وقد كشف الغـطاء فما نبالي أصـرحـنا بحــبك أم كنـينا
ألا لله طيـف مـنك يسري يجـوب مهـامتها بـيناً فبـينا
مطيته طـوال الليل جـفنـي فكـيف شكا الـيك وجـا ، وأينا
فأمسـينا كـأنا مـا افترقنا وأصبحـنا كـأنـا مـا التـقينا
لقد خـدع الخيال فؤاد صب رآه على هـوى الاحـباب هينا
كما فعلت بـنو كـوفان لما الى كوفانـهم طـالبوا الحسـينا
فبينا عاهدوه على التـوافي اذا هـم نابـذوه عـدى وبـينا
واسمـهم مواعـظه فقالـوا سمـعنا يـا حسين وقـد عصينا
فالـفوا قوله حقـاً وصـدقاً وألفى قولـهـم كـذبـا ومـينا
هم منـعوه مـن مـاء مباح وسقـوه فضـول السـم حيـنا
يقل الرمـح بدراً مـن محياً له والارض من جسد حنينا « كذا »
وتسبى المحصنات الى يزيد كـأن لـه على المـختار ديـنا(1)


(1) عن الاعيان ج 41 ص 111.
أدب الطف ـ الجزء الثالث 177


ابو منصور علي بن الحسن بن الفضل المعروف بـ صردر. توفي في طريق خراسان ، تردى في حفرة سنة 565 ، له ديوان شعر طبع بمطبعة دارالكتب المصرية بالقاهرة سنة 1253 هـ وكتب عليه: نظر الرئيس ابي منصور علي ابن الحسن بن علي بن الفضل الشهير بـ صردر. وقال ابن خلكان في وفيات الاعيان: هو الكاتب المعروف والشاعر المشهور ، أحد نجباء عصره جمع بين جوده السبك وحسن المعنى ، وعلى شعره طلاوة رائعة وبهجة فائقة.
وإنما قيل له صردر لأن أباه كان يلقب بصربعر لشحه فلما نبغ ولده المذكور وأجاد في الشعر قيل له صردر ، وقد هجاه بعض شعراء وقته وهو الشريف ابو جعفر مسعود المعروف بالبياضي الشاعر فقال:
لئن لقب الناس قدماً أباك وسموه من شحه صربعرا
فانك تنـثر مـا صـره عقـوقاً له وتسميه شعراً

قال ابن خلكان: ولعمري ما انصفه هذا الهاجي فان شعره نادر وإنما العدو لا يبالي ما يقول. وكانت وفاة صردر في سنة خمس وستين واربعمائة وكان سبب موته انه تردى في حفرة حفرت للاسد في قرية بطريق خرسان. وكانت ولادته قبل الاربعمائة.
ومن لطيف قوله في الشيب كما جاء في الوفيات لابن خلكان:
لم أبك إن رحل الشباب وإنما أبكي لأن يتقارب الميعاد
شعر الفتـى أوراقه فاذا ذوى جفت على آثاره الاعواد


السابق السابق الفهرس التالي التالي