المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 45

الزمان ففي ( سنن ابن حنبل ج 1 ص 85 ) أن جبرئيل أخبر محمداً بمصرع الحسين وآل بيته في كربلاء .
وينقل ابن الأثير في ( الكامل ) أن الرسول ( ص ) أعطى زوجه أم سلمة تراباً حمله له أمين الوحي من التربة التي سيراق فوقها دم الحسين وقال لها : إذا صار هذا التراب دماً فقد قتل الحسين .
وإن أم سلمة حفظت ذلك التراب في قارورة عندها فلما قتل الحسين صار التراب دماً ، فعلمت أن الحسين قتل واذاعت في الناس النبأ .
وسوف نسمع المؤرخين بعد ذلك في حوادث عامي : ( 60 61 ) يذكرون أن ( زهير بن القين البجلي ) وهو عثماني الهوى خرج من مكة بعد أن حج عام ( 60 ) فصادف خروجه مسير الحسين الى العراق فكان زهير يساير الحسين الا أنه لا ينزل معه ، فاستدعاه الحسين يوماً فشق عليه ذلك ، ثم أجابه فلما خرج من عنده أقبل على أصحابه ، فقال :
« من أحب منكم أن يتبعني والا فإنه آخر العهد » .
ثم راح يروي لهم قصة قديمة من عهد رسول الله ( ص ) : قال انه خرج مع جماعة من المسلمين في غزوة لهم فظفروا وأصابوا غنائم فرحوا بها ، وكان معهم « سلمان الفارسي » فأشار الى أن الحسين سيقتل : ثم قال سلمان لأصحابه : « اذا أدركتم سيد شباب أهل محمد فكونوا أشد فرحاً بقتالكم معه ، منكم بما أصبتم اليوم من الغنائم » .
قال ابن الأثير : وتوجه زهير بعد أن حدث أصحابه بحديث سلمان الفارسي فودع أهله وطلق زوجته مخافة أن يلحقها أذى ، ولزم الحسين ( ع ) حتى قتل معه .
وكان الحسين ( ع ) فيما يروي المؤرخون يعلم منذ طفولته بما قدّر له ، كما كان دور أخته زينب حديث القوم منذ ولدت . فهم يذكرون أن سلمان الفارسي أقبل على

المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 46

علي بن أبي طالب ( ع ) يهنئه بوليدته ، فألفاه واجماً حزيناً ، يتحدث عما سوف تلقى ابنته في كربلاء .
وبكى علي الفارس الشجاع ذو اللواء المنصور ، والملقب بأسد الإسلام ! .
أكانت هذه الروايات جميعاً من مخترعات الرواة ومبتدعات السمّار ؟ أكانت من اضافات المنقّبين وتصورات المتحدثين عن الكرامات ؟ أكانت من شطحات الواهمين ورؤى المغرقين في الخيال ؟ .
ذلك ما اطمأن اليه المستشرقون وقرّره « رونالدسون » في كتابه ( عقيدة الشيعة ) ، و « لامنس » في ( فاطمة وبنات محمد ) .
أما المؤرخون المسلمون فما يشك أكثرهم في أن هذه الروايات كلها صادقة لا ريب فيها ، وقلّ منهم من وقف عند خبر منها مرتاباً أو متسائلاً . وليس الأقدمون وحدهم هم الذين نزهوا مثل هذه الروايات عن الشك ، بل ان من كتاب العصر من لا يقل عنهم ايماناً بتلك الظلال التي أحاطت بمولد زينب . فهذا الكاتب الهندي المسلم « محمد الحاج سالمين » يصف في الفصل الأول من كتابه ( سيدة زينب sayyidah zeinab ) كيف استقبلت الوليدة بالدموع والهموم ، ثم يمضي بعد أن ينقل بعض المرويات عن النّبوءة المشئومة فيمثل النبي العظيم ( ص ) وقد انحنى على حفيدته يقبّلها بقلب حزين وعينين دامعتين ، عالماً بتلك الأيام السّود التي تنتظرها وراء الحجب .
ويمضي « سالمين » فيتساءل : « ترى الى أي مدى كان حزنه حين رأى بظهر الغيب تلك المذبحة الشنعاء التي تنتظر الغالي ! وكم اهتّز قلبه الرقيق الحاني وهو يطالع في وجه الوليدة الحلوة ، صورة المصير الفاجع المنتظر ؟ ! (12) .

(12) ( السيد زينب ) عائشة بنت الشاطيء ص 28 .
المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 47

الأجواء العائلية

لا شك أن البيئة والأجواء العائلية التي ينشأ فيها الانسان تلعب دوراً أساسياً في بناء شخصيّته فهي التي تغرس في نفسه قيمها وافكارها ، وتربيه على سلوكياتها وعاداتها .
ولنلق الآن نظرة عابرة على الأجواء العائلية التي نشأت من خلالها السيدة زينب (عليها السلام) .

الوضع الحياتي المعيشي

قد تختلف تأثيرات حياة الترف والرفاه على نفس الطفل عن تأثيرات حياة التقشف والبساطة ، ففي الحالة الأولى ينشأ الطفل على الدّلع والدلال ، وينعدم لديه الشعور بقيمة الأشياء لتوفرها أمامه ، ولا تنمو في نفسه حساسية ولا شفاهية تجاه حالات الفقر والحرمان لأنه لم يتذوق مرارتها ، كما أن مشاكل الحياة قد تصدمه بقوة لعدم استعداده النفسي لمواجهة الصعوبات والمشاكل .
اما في الحالة الثانية فان شخصية الطفل قد تكون أكثر اتزاناً وأقوى جلداً ، وأقل استهانة بالأشياء والأمور ، وأقرب الى التفاعل النفسي مع الطبقات المحرومة والضعيفة في المجتمع .
كما أننا يجب أن نفرق بين البساطة والتقشف اللذين يفرضهما الفقر والحاجة وبينها في حالة الأختيار والطواعية ، ففي اُولى الحالتين قد تسبب حالة البساطة والتقشف عند الأنسان وجود التطلعات والتمنيّات لرغد العيش ورفاهية الحياة ، كما قد يتسرب الى نفس الطفل شيء من عدم الارتياح تجاه الموسرين المترفين كارضية للحقد والحسد والانتقام .
بينما توجد حالة البساطة المختارة كنمط للحياة عند العائلة توجد المشاعر والانعكاسات الايجابية دون تلك السلبيات حيث يرى الطفل ان عائلته تمتلك القدرة على الرفاه لكنها لا ترغبه لمنطلقات أخلاقية ، كما لو كانت العائلة تؤثر

المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 48

الفقراء والمحتاجين ، وتجود على الضعفاء والمعوزين .
والسيدة زينب نشأت في أفضل جو عائلي من هذا الجانب فأسرتها لم تكن فقيرة معوزة ، فلربما سمعت زينب في فترة طفولتها عن ثروات جدتها خديجة ، كما ترى الموقع القيادي لجدها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حيث ولدت ونشأت في فترة الانتصارات العسكرية والسياسية والتي كانت تعود على المسلمين بالغنائم الكثيرة ولجدها النبي ( صلى الله عليه وآله ) فيها التصرف المطلق الى جانب استعداد المسلمين لبذل كل امكانياتهم ووضعها تحت تصرّف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
وتلاحظ السيدة زينب امتلاك عائلتها لبعض الأمكانيات ثم تنازلها عنها لصالح الآخرين ، ويخلد القرآن الحكيم نموذجاً لهذه الحالة عند عائلة زينب مشيداً بها في سورة الانسان ، حيث يقول ( تعالى ) : «يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمَاً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرَاً • وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِهِ مِسْكِيْنَاً وَيَتِيمَاً وَأَسِيرَاً • إِنََّمَا نُطعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُورَاً »(13) .
ففي كثير من التفاسير أن هذه الآيات نزلت في حق أهل البيت (عليهم السلام) ونثبت منها عبارة الرازي بنصها :
ذكر الواحدي من أصحابنا أي السنة وصاحب ( الكشاف ) من المعتزلة : ان الحسن والحسين مرضا فعادهما الرسول في أناس معه ، فقالوا : يا أبا الحسن لو نذرت على ولدك .
فنذر علي وفاطمة وجارية لهما إن شفاهما الله تعالى أن يصوموا ثلاثة أيام ، فشفيا فاستقرض علي ثلاثة اصوع من شعير ، فطحنت فاطمة صاعاً ، واختبزت خمسة أقراص على عددهم ، ووضعوها بين ايديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل ، فقال : السلام عليكم يأهل بيت محمد مسكين أطعموني ، أطمعكم الله من

(13) سورة الإنسان ، الآيات ( 7 9 ) .
المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 49

الجنة .
فآثروه ولم يذوقوا الا الماء ، وأصبحوا صائمين ، فلما امسوا ووضعوا الطعام بين ايديهم وقف يتيم فآثروه ، وجاءهم اسير في الليلة الثالثة ، ففعلوا مثل ذلك ، فلما أصبحوا ابصرهم رسول الله يرتعشون كالفراخ ، فقال : ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم .
فنزل جبرئيل وقال : خذها يا محمد هناك الله في أهل بيتك ، فقرأ هذه السورة (14) .
وقد سجّل الشيخ الأميني في موسوعته ( الغدير ) قائمة تحتوي على المصادر التي روت هذه الحادثة من كتب التفسير والحديث لأهل السنة والجماعة بلغت ( 34 مصدراً ) (15) .
ونموذج آخر تسجّله الروايات يعطينا صورة عن بساطة الحياة والزهد المتعمد الذي اختارته عائلة زينب انطلاقاً من منهجية خاصة في فهم الحياة والتعامل معها .
عن زرارة عن أبي جعفر الباقر ( عليه السلام ) قال : كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا أراد سفراً سلم على من أراد التسليم عليه من أهله ، ثم يكون آخر من يسلم عليه فاطمة ، فيكون وجهه الى سفره من بيتها ، وإذا رجع بدأ بها أي يزورها قبل كل أحد فسافر مرة وقد أصاب علي شيئاً من الغنيمة ورفعه الى فاطمة ، فأخذت سوارين من فضة ، وعلقت على بابها ستراً أي ألبست الباب ثوباً للزينة فلما قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله) دخل المسجد ، فتوجه نحو بيت فاطمة كما كان يصنع ، فقامت الى أبيها صبابة وشوقاً اليه ، فنظر فاذا في يدها سواران من فضة وإذا على بابها ستر ، فقعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)

(14) ( التفسير الكاشف ) محمد جواد مغنية ج 7 ، ص 483 .
(15) ( الغدير ) عبد الحسين الأميني ج 3 ، ص 107 111 .
المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 50

حيث ينظر اليها ، فبكت فاطمة وحزنت وقالت : ما صنع هذا بي قبلها .
فدعت ابنيها ، فنزعت الستر عن بابها ، وخلعت السوارين من يديها ثم دفعت السوارين الى احدهما والستر الى الآخر ، ثم قالت لهما :
انطلقا الى أبي فأقرئاه السلام وقولا له : ما أحدثنا بعدك غير هذا فشأنك به .
فجاءاه فأبلغاه ذلك عن أمهما ، فقبلهما رسول الله (صلى الله عليه وآله) والتزمهما وأقعد كل واحد منهما على فخذه ، ثم أمر بذينك السوارين فكسراً فجعلهما قطعاً ، ثم دعا أهل الصفة وهم قوم من المهاجرين لم يكن لهم منازل ولا أموال فقسمه بينهم .
وروى ابن شاهين في ( مناقب فاطمة ) عن أبي هريرة وثوبان هذا الحديث مع تغيير يسير الى أن قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) فعلت فداها أبوها ثلاث مرات مالآل محمد والدنيا ؟ فانهم خلقوا للآخرة وخلقت الدنيا لهم .
وفي رواية أحمد بن حنبل : فان هؤلاء أهل بيتي ولا أحب أن يأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا .
وقد روى هذا الحديث الخطيب العمري في ( مشكاة المصابيح ) والطبري في ( ذخائر العقبى ) والثوري في ( نهاية الارب ) والقندوزي في ( ينابيع المودة ) والطبراني في ( المعجم الكبير ) ، والزبيدي في ( أتحاف السادة ) وغيرهم (16) .
لم تكن عائلة زينب تمتلك بيتاً تقطنه لكن أحد الصحابة المتمكنين من أهل المدينة وهو ( حارثة بن النعمان ) وضع أحد منازله تحت تصرف علي حينما أراد الزواج من بنت الرسول فاطمة ، وبعد فترة بنى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيتاً ملاصقاً لمسجده له باب شارع الى المسجد ، كبقية الحجرات التي بناها لزوجاته ، وانتقلت عائلة زينب الى ذلك البيت الجديد الملاصق لبيت الله المجاور

(16) ( الزهراء من المهد الى اللحد ) القزويني ص 279 .
المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 51

لبيت رسول الله (صلى الله عليه وآله)(17) .
ويُروى أن سلمان الفارسي رأى فاطمة الزهراء مرة فبكى ، وقال : إن قيصر وكسرى في السندس والحرير وابنة محمد في ثياب بالية (18) .
الأنسجام والمحبة

لماذا نرى بعض الناس وديعين أليفين قادرين على التعاون والأنسجام مع الآخرين ، ونرى بعض الآخر عدائيين مزعجين يتعاملون مع الآخرين بخشونة وقسوة ؟ .
إن من أبرز العوامل والأسباب التي تؤثر في صنع نفسية الأنسان وتوجيهها نحو الإلفة والوداعة أو العداء والإساءة ، هي الأجواء العائلية التي يعيشها الأنسان في طفولته ، فاذا عاش الطفل جواً عائلياً تسوده المحبة والأنسجام فانه يتربى ضمن ذلك النموذج ، أما اذا ما نشأ في أجواء المشاحنة والبغضاء بين أبيه وأمه ، أو بينه وبين والديه ، أو فيما بين اخوته ، فان ذلك يزرع في نفسه بذور الحقد والقسوة ، ويدفعه لممارسة العنف والأيذاء دفاعاً عن ذاته وحقوقه .
يقول الأستاذ الفلسفي : « إن سلوك جميع أفراد البشر وأساليب معاشرتهم مع الناس انما هو خلاصة للأساليب التربوية التي اتخذت معهم في دور الطفولة ، من قبل الآباء أو الأمهات في الأسرة أو من قبل المعلمين في المدرسة . فكل خير أو شر لقّنوه أياهم في أيام الطفولة يظهر على سلوكهم عند الكبر ، وعندما يصبحون أعضاء في هذا المجتمع الإنساني الكبير وبعبارة اخرى فان الوضع الروحي والخلقي والسلوكي للناس في كل عصر إنما هو حصيلة البذور التربوبية التي نثرت في أدمغتهم أيام الطفولة »(19) .

(17) ( الزهراء من المهد الى اللحد ) القزويني ص 188 213 .
(18) ( مع بطلة كربلاء ) محمد جواد مغنية ص 25 .
(19) ( الطفل بين الوراثة والتربية ) محمد تقي فلسفي ج 2 ، ص 70 .
المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 52

لذلك يؤكد الإسلام على أن يغمر الأطفال بالعطف والحنان وأن يتعامل معهم الوالدان بالمحبة والشفقة ، وأن يجنبوا ابناءهم حصول المشاكل أمامهم .
وقد عاشت السيدة زينب وترعرعت في جو يغمره العطف والحنان وتسوده المحبة والإنسجام ، فعمدا البيت وقطباه علي وفاطمة والدا زينب كانت علاقتهما قمة في الصفاء والحب لا تدانيها أية علاقة زوجية في تاريخ البشر .
يقول الإمام علي (عليه السلام) عن حياته مع الزهراء (عليها السلام) :
« فوالله ما أغضبتها ولا أكرهتها على أمر حتى قبضها الله ( عز وجل ) ولا أغضبتني ولا عصت لي أمراً ، لقد كنت أنظر اليها فتنكشف عني الهموم والأحزان » (20) .
وفي آخر ساعة من حياتها تخاطب الزهراء علياً (عليهما السلام) قائلة :
« يابن عم ! ما عهدتني كاذبة ولا خائنة ولا خالفتك منذ عاشرتني » ؟ ! .
فيجبيها الإمام علي : « معاذ الله أنت أعلم بالله وأبر وأتقى وأكرم وأشد خوفاً من الله من أن اُوبّخك بمخالفتي » (21) .
الأجواء الرسالية

نشأت العقيلة زينب ضمن عائلة قد نذرت نفسها للجهاد في سبيل الله ، وتربت في أجواء رسالية ما كان يدور فيها غير الأهتمامات القيمية المبدئية ، فجدها الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) قاد بنفسه حوالي ( 28 غزوة ومعركة )(22)وأبوها الإمام علي (عليه السلام) رافق الرسول ( ص ) في جميع تلك المعارك عدا

(20) ( فاطمة الزهراء من المهد الى اللحد ) القزويني ص 212 .
(21) المصدر السابق ص 609 .
(22) ( الرسول القائد ) محمود شيت خطاب ص 431 .
المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 53

واحدة وهي غزوة تبوك حيث تخلف بأمر من رسول الله (صلى الله عليه وآله) .
كما قاد الإمام بنفسه العديد من السرّايا والمعارك المحدودة .
إن ذلك يعني أن بيب وعائلتها كانوا يعيشون ظروف الجهاد في أغلب فترات حياتهم ، فحينما يغادرهم الجدّ أو الأب الى ساحة المعركة فستكون نفوسهم منشدّة ومرتبطة بما يدور على ساحات القتال .
ولا يقتصر الأمر على تفاعل الأسرة مع قضايا الحرب والجهاد بل انها كانت معنية بكل أوضاع المجتمع ، فعائلة زينب هي في موقع القيادة والقلب .
وهكذا عاشت السيدة زينب (عليها السلام) فترة طفولتها في بيت تتموّج فيه هموم مجتمعها ، وفي أجواء مفعمة بالمسؤولية والتضحية .

المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 55




المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 56

الفاجعة الكبرى


المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 57

بعد خمس سنوات عاشتها زينب في كنف عائلتها الحنون ، وفي ظل أجواء المحبّة والعطف ، حيث كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يظلل بيت زينب برعايته ، ويغمر أفراد ذلك البيت بعنايته واجلاله . فلا يكاد يمر يوم لا يلتقي فيه محمد بأهل بيته ، واذا ما سافر كان بيتهم آخر محطة ينطلق منها لسفره ، واذا ما عاد كان بيتهم أول منزل يدخله .
روى الحاكم في ( المستدرك ) بسنده عن أبي ثعلبة الخشني : كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) اذا رجع من غزوة أو سفر أتى المسجد فصلى فيه ركعتين ثم ثنى بفاطمة ثم يأتي أزواجه .
وبسنده عن ابن عمران : ان النبي (صلى الله عليه وآله) كان إذا سافر كان آخر الناس عهداً به فاطمة ، واذا قدم من سفر كان أول الناس به عهداً فاطمة » (23) .

(23) ( أعيان الشيعة السيد محسن الأمين ) ج 1 ، ص 307 .
المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 58

ويقول الشيخ مغنية : وكان النبي لا يصبر عن بيته هذا ، ولا يشغله عنه شاغل ، بخاصة بعد ان نبتت فيه رياحينه ، فاذا دخله قبل هذا ، وشمّ ذاك وابتسم لتلك . . . ودخله ذات يوم فأخذ الحسن وحمله ، فأخذ علي الحسين وحمله ، فأخذت فاطمة زينب وحملتها (24) ، فإهتزت أركان البيت طرباً لجوّ الصفوة المختارة ، وابتهاج الرسول بآله وابتهاجهم به ، وتدلنا هذه الظاهرة وكثير غيرها ان محمداً كان أكثر الأنبياء غبطة وسعادة بأهل بيته » (25) .
وشاء الله ( سبحانه وتعالى ) أن يكون حظ السيدة زينب من تلك الحياة الهانئة السعيدة محدوداً بالسنوات الخمس الأولى من حياتها ، فما ان دخلت السنة الحادية عشر للهجرة ، وتصرّمت أيام شهرها الثاني شهر صفر ،الا وشمس السعادة في بيت زينب قد آذنت بالغروب ، فرسول الله (صلى الله عليه وآله) يلبّي نداء ربه ويفارق الحياة ويلتحق بالرفيق الأعلى في الثامن والعشرين من شهر صفر سنة ( 11 ه ) .
واذا كان فقد رسول الله (صلى الله عليه وآله) يشكل صدمة كبرى وفاجعة مهولة عظمى على المسلمين جميعاً فانه ولا شك أشد وقعاً وأعظم أثراً على أهل بيته الملتصقين به والمتنعمين برعايته وعطفه .
وزينب الصغيرة في السن المرهفة الأحساس الرقيقة المشاعر وجدت نفسها في مواجهة هذه الرزية الكبرى ، ورأت كيف انقلبت الأجواء في بيتها رأساً على عقب من بهجة وغبطة وسرور الى كآبة وحزن واضطراب .
لقد صحبت زينب أمها الزهراء وهي تنكّب على أبيها رسول الله عند مصارعته لسكرات الموت نادبة .
« واويلتاه لموت خاتم الأنبياء ، وامصيبتاه لممات خير الأتقياء ، ولإنقطاع سيد

(24) ( بحار الأنوار ) المجلسي ج 10 ، ص 58 .
(25) ( مع بطلة كربلاء ) محمد جواد مغنية ص 22 .
المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 59

الأصفياء ، واحسرتاه لإنقطاع الوحي من السماء ، فقد حرمت اليوم كلامك » (26).
ورأت زينب أخويها الحسنين حينما القيا بنفسيهما على جدهما الرسول يودعانه وهما يذرفان الدموع ، فجعل يقبلهما وهما يقبلانه واراد عليّ أن ينحيهما عنه ، فقال (صلى الله عليه وآله) :
« دعهما يتمتعان مني وأتمتع منهما فستصيبهما بعدي اثرة » (27) .
وتوالت مشاهد الألم الحسرة أمام ناظري زينب فهذه أمها الزهراء تنكب على جثمان أبيها رسول الله ( ص ) بعد وفاته تبكي أمر البكاء قائلة : « واأبتاه ، الى جبرئيل أنعاه ! واأبتاه جنة الفردوس مأواه ! واأبتاه أجاب رباً دعاه ! ! » (28) .
وتقول أيضاً : « واأبتاه وارسول الله ، وانبي الرحمتاه ، الآن لا يأتي الوحي ، الآن ينقع عنا جبرئيل ، اللهم إلحق روحي بروحه ، واشفعني بالنظر الى وجهه ، ولا تحرمني أجره وشفاعته يوم القيامة » (29) .
وهذا أبوها علي بن أبي طالب ( ع ) وهو الجبل الأشم في صموده وبطولته لكنه تذوب نفسه أمام هذه المصيبة ، فيقول : « إن الصبر لجميل الا عنك ، وإن الجزع لقبيح إلاّ عليك ، وان المصاب بك لجليل ، وإنه قبلك وبعدك لجلل » (30) .
وقال أيضاً وهو يلي غسل رسول الله ( ص ) وتجهيزه : «بأبي أنت وأمي يا رسول الله ! لقد انقطع بموتك مالم ينقطع بموت غيرك من النبوة والإنباء وأخبار السماء ، خصّصت حتى صرت مسلياً عمن سواك ، وعممت حتى صار الناس

(26) ( حياة الإمام الحسن ) باقر شريف القرشي ج 1 ، ص 133 .
(27) المصدر السابق ، ص 134 .
(28) المصدر السابق ، ص 136 .
(29) ( حياة الإمام الحسين ) باقر شريف القرشي ج 1 ، ص 221 .
(30) ( نهج البلاغة ) الإمام علي ، قصار الحكم ، رقم : 292 .
المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 60

فيك سواء ، ولولا انك أمرت بالصبر ، ونهيت عن الجزع ، لأنفذنا عليك ماء الشئون ، ولكان الداء مماطلا ، والكمد محالفاً ، وقلا لك ، ولكنه ما لا يملك رده ، ولا يستطاع دفعه بأبي أنت وأمي ! اُذكرنا عند ربك ، واجعلني من بالك !
» (31).
ويتحدث الامام جعفر الصادق ( ع ) عن مدى وقع المأساة على بيت زينب ، فيقول : « لما مات النبي (صلى الله عليه وآله) سقط سطران ؟ ؟ خمسة وسبعين يوماً لم تر كاشرة ولا ضاحكة تأتي قبور الشهداء في كل جمعة مرتين الاثنين والخميس ، فتقول : « ها هنا كان رسول الله ، وها هنا كان المشركون » .
وقال ابن شهر اشوب في ( المناقب ) روي أنها مازالت بعد أبيها معصبة الرأس ناحلة الجسم منهذة الركن باكية العين محترة القلب يُغشى عليها ساعة بعد ساعة ، وتقول لولديها : أين أبوكما الذي كان يكرمكما ويحمكما مرة بعد مرة ؟ أين أبوكما الذي كان أشد الناس شفقة عليكما فلا يدعكما تمشيان على الأرض ولا أراه يفتح هذا الباب أبداً ولا يحملكما على عاتقه كما لم يزل يفعل بكما .
وروي أنه لما قبض النبي (صلى الله عليه وآله) امتنع بلال من الأذان ، وقال : لا اُؤذن لأحد بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وإن فاطمة قالت ذات يوم :
( أشتهي أن أسمع صوت مؤذن أبي بأذان ) .
فبلغ ذلك بلالاً فأخذ في الاذان فلما قال : الله أكبر الله أكبر . ذكرت أباها وأيامه ، فلم تتمالك من البكاء ، فلما بلغ الى قوله : أشهد أن محمداً رسول

(31) المصدر السابق ، الخطبة رقم : 235.
(32) ( حياة الإمام الحسين ) باقر شريف القرشي ج 1 ، ص 225.
المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 61

الله ) .
شهقت فاطمة وسقطت لوجهها وغشي عليها ، فقال الناس لبلال : امسك فقد فارقت ابنة رسول الله الدنيا .
وظنوا أنها قد ماتت ، فلم يتم الاذان . فأفاقت فسألته اتمامه فلم يفعل ، وقال لها : يا سيدة النسوان إني أخشى عليك مما تنزلينه بنفسك اذا سمعت صوتي بالاذان.
فأعفته من ذلك .
وعن علي (عليه السلام) قال : غسلت النبي في قميصه فكانت فاطمة تقول : أرني القميص . فاذا شمته غشي عليها ، فلما رأيت ذلك غيبته (33) .
ورأت الزهراء ( ع ) يوماً أنس بن مالك ، فقالت : يا أنس كيف طابت أنفسكم أن تحثوا على النبي التراب ؟ (34) .
ولك أن تتصور حالة السيدة زينب وهي طفلة ذات خمس سنوات من العمر لابد أنها كانت ملتصقة بأمها الزهراء ( ع ) وتعايش معها هذه الصدمة العاطفية الكبيرة.

(33) ( أعيان الشيعة ) السيد محسن الأمين ج 1 ، ص 319 .
(34) ( تاريخ الاسلام ) الحافظ الذهبي « السيرة النبوية » ص 562 .
المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 62




المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 63

المحنة السياسية


المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 64




المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 65

حينما تحل بالإنسان مصيبة أو كارثة فإن من أهم العوامل التي تساعده على التحمل والصمود في مواجهتها هو توفر التعاطف والمؤاساةله من قبل ذويه وأصحابه وجيرانه وأبناء مجتمعه .
إن ما يلقاه المصاب من تعاطف انساني ومواساة اجتماعية يكون بمثابة البلسم لجراحه ، والسّلوة لنكبته ، لذلك ورد التشجيع من قبل الاسلام على مواساة المصابين ، كما يندفع الناس بفطرتهم للتعاطف مع المصابين على اختلاف أديانهم ومللهم .
وعائلة زينب التي نكبت بفقد رسول الله (صلى الله عليه وآله) بدل أن يغمرها المسلمون بتعاطفهم ومواساتهم خاصة مع كثرة توصيات الرسول بذريته وأهل بيته ، بدل ذلك ألمت بهم محنة سياسية رهيبة بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) مباشرة ، ضاعفت عليهم المصاب وزادت آلامهم ومأساتهم .
وتسجل كتب التاريخ والحديث الكثير من تفاصيل تلك المحنة مع اختلاف المؤرخين والمحدثين والكتاب في تفسير وقائعها ، ولسنا الآن بصدد مناقشة الآراء

السابق السابق الفهرس التالي التالي