تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 177

ابيضّت عيناه من الحزن فهو كظيم(1) .
روى أبو حمزة الثمالي ، عن علي بن الحسين عليه السلام أنّ يعقوب كان يذبح كلّ يوم كبشاً يتصدّق منه ويأكل هو وعياله ، وأنّ سائلاً مؤمناً صوّاماً قوّاماً اعترى باب يعقوب عشيّة جمعة عند أوان إفطاره ، وكان مجتازاً غريباً فهتف على بابه فاستطعم هو وهم يسمعونه فلم يصدّقوا قوله ، فلمّا يئس أن يطعموه وغشيه الليل استعبر وشكا جوعه إلى الله سبحانه ، ورات طاوياً ، واصبح صائماً صابراً حامداً لله تعالى ، وبات يعقوب وآل يعقبو بطاناً ، وأصبحوا وعندهم فضلة من طعامهم ، فابتلاه الله سبحانه في يوسف عليه السلام ، وأوحى إليه أن استعدّ لبلائي ، وارض بقضائي ، واصبر للمصائب ، فرأى يوسف الرؤيا في تلك الليلة .
وروي أنّ يعقوب عليه السلام كان شديد الحبّ ليوسف ، وكان يوسف من أحسن الناس وجهاً .
وروي عن النبيّ صلى الله عليه وآله ، قال : اُعطي يوسف شطر الحسن ، والنصف الآخر لسائر الناس .
وقال كعب الأحبار : كان يوسف حسن الوجه ، جعد الشعر ، ضخم العين ، مستوي الخلقة ، أبيض اللون ، وكان إذا تبسّم رأيت النور في ضواحكه ، وإذا تكلّم رأيت شعاع النور يلتهب عن ثناياه ، ولا يستطيع أحد وصفه ، وكان حسنه كضوء النهار عن(2) الليل ، وكان يشبه آدم عليه السلام يوم خلقه الله عز وجل
(1) إشارة للآية : 84 من سورة يوسف .
(2) في المجمع : عند .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 178

وصوّره ونفخ فيه من روحه .(1)
فحسده إخوته ودبّروا في أمره ، وذلك انّ يعقوب كان شديد الحبّ ليوسف ، وكان يؤثره على سائر أولاده فحسدوه ، ثم رأى الرؤيا فصار حسدهم له أشدّ .
وقيل : إنّ يعقوب عليه السلام كان يرحمه وأخاه لصغرهما فاستثقلوا ذلك ، ودبّروا في هلاكه كما حكى سبحانه عنهم في قوله : «اقتلوا يوسف أو الطرحوه أرضاً يخل لكم وجه أبيكم»(2) أي اطرحوه في أرض بعيدة عن أبيه فلا يهتدي إليه .(3)
ولمّا أقبلوا إلى أبيهم وسألوه أن يرسل يوسف معهم وأظهروا النصيحة والمحبّة والشفقة على يوسف ، ولمّا همّ يعقوب أن يبعثه معهم وحثّهم على حفظه ، وقال : «إنّي ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون»(4) وكانت أرضهم مذأبة ، وكانت الذئاب ضارية في ذلك الوقت .
وقيل : إنّ يعقوب رأى في منامه كان يوسف قد شدّ عليه عشرة أذؤب ليقتلوه ، وإذا ذئب منها يحمي عنه ، فكأنّ الأرض انشقّت فدخل فيها يوسف فلم يخرج الا بعد ثلاثة أيّام ، فمن ثمّ قال ذلك فلقّنهم العلّة وكانوا لا يدركون .
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله قال : لا تلقّنوا الكذب فيكذبوا ، فإن بني يعقوب لم يعلموا أنّ الذئب يأكل الانسان حتى لقّنهم أبوهم .
(1) مجمع البيان : 3 / 212 و220 .
(2) سورة يوسف : 9 .
(3) مجمع البيان : 3 / 212 .
(4) سورة يوسف : 13 .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 179

وهذا يدلّ على أنّالخصم لا ينبغي أن يلقن حجّة .
ولمّا ذهبوا به أخرجوه عن يعقبو مكرّماً ، فلمّا وصلوا إلى الصحراء أظهروا له العداوة وجعلو يضربونه وهو يستغيث بواحد واحد منهم فلا يغيثه ، وكان يقول : يا أبتاه ، فهمّوا بقتله ، فمنعهم يهوذا ـ وقيل : لاوي ـ فذهبوا به إلى الجبّ ، فجعلوا يدلونه فيه وهو يتعلّق بشفيره ، ثمّ نزعوا عنه قميصه وهو يقول : لا تفعلوا ، ردّوا عليّ القميص أتوارى به .
فيقولون : ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكباً يؤنسنك(1) ، فدلّوه في البئر حتى إذا بلغ نصفها فألقوه إرادة أن يموت وكان في البئر ماء فسقط فيه ، ثمّ آوى إلى صخرة فيها فقام عليها ، وكان يهوذا يأتيه بالطعام .
وقيل : وكّل الله به ملكاً يحرسه ويطعمه .
وقيل : إنّ إبراهيم عليه السلام لمّا اُلقي في النار عرياناً أتاه جبرئيل عليه السلام بقميص من حرير الجنّة فألبسه إيّاه ، فكان ذلك القميص عند إبراهيم عليه السلام ، فلمّا مات ورثه إسحاق ، فلمّا مات إسحاق ورثه يعقوب ، فلمّا شبّ يوسف جعل يعقوب ذلك القميص في تعويذ وعلّقه في عنق يوسف ، فكان لا يفارقه ، فلمّا اُلقي في البئري عرياناً جاء جبرئيل وكان عليه ذلك التعويذ ، فأخرج منه القميص وألبسه إيّاه .
قيل : وهو القميص الذي وجد يعقوب ريحه لمّا فصلت العير من مصر ، وكان يعقوب بفلسطين فقال : «إنّي لأجدُ ريح يوسف»(2) .
وفي كتاب النبوّة ، عن الحسن بن محبوب ، عن الحسن بن عمارة ، عن
(1) كذا في المجمع ، وفي الأل : والإحدى عشر كوكباً تؤنسك .
(2) سورة يوسف : 94 .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 180

مسمع أبي سيّار(1) ، عن الصادق عليه السلام قال : لمّا ألقى إخوة يوسف يوسف في الجبّ نزل عليه جبرئيل وقال : يا غلام ، من طرحك في الجبّ ؟
قال : إخوتي لمنزلتي من أبي حسدوني ، ولذلك في الجبّ طرحوني .
فقال : أتحبّ أن تخرج من هذا الجبّ ؟
فقال : ذاك إلى إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب .
فقال له جبرئيل : إنّ إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب يقول لك : قل : اللهم إنّي أسألك [بأن لك الحمد لا إله الا أنت بديع السماوات والأرض ، يا ذا الجلال والاكرام](2) أن تصلّي على محمد وآل محمد ، وأن تجعل لي من أمري فرجاً ومخرجاً ، وترزقني من حيث أحتسب ومن حيث لا أحتسب ، فجعل الله له من ذلك يومئذ فرجاً ، ومن كيد المرأة مخرجاً ، وآتاه ملك مصر من حيث لم يحتسب .
وروي أنّ يوسف عليه السلام قال في الجب : يا إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، ارحم ضعفي وقلّة حيلتي وصغري .
قال مجاهد : أوحى الله إليه وهو في الجبّ ونبّأه وأوحى إليه أن اكتم حالك ، واصبر على ما أصابك ، فإنّك ستخبر(3) إخوتك بما فعلوا بك في وقت لا يعرفونك .
ولمّا فعلوا بيوسف ما فعلوا جاءوا أباهم عشاءً يبكون(4) كما ذكر سبحانه
(1) كذا في المجمع ، وفي الاصل : مسمع بن سيّار .
(2) من المجمع .
(3) كذا في المجمع ، وفي الاصل : تجير .
(4) إشارة إلى الآية : 16 من سورة يوسف .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 181

ليلبسوا على أبيهم ، وإنّما أظهروا البكاء ليوهموا أنّهم صادقون ، وفي هذا دلالة على أنّ البكاء لا يوجب صدق دعوى الباكي في دعواه .
ولمّا سمع يعقوب بكاءهم وصياحهم فزع وقال : ما لكم ؟
فقالوا : «يا أبانا ذهبنا نستبق ـ على الأقدام ؛ وقيل : ننتصل(1) ونترامى فننظر أيّ السهام أسبق ـ وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ـ أي مصدّق ـ ولو كنّا صادقين»(2) . وأظهروا ليعقوب قميص يوسف ملطّخاً بالدم ، وقالوا : هذا دم يوسف حين أكله الذئب ؛ قيل : إنّهم ذبحوا سخلة وجعلوا دمها على القميص ولم يمزّقوا الثوب ، ولم يخطر ببالهم انّ الذئب إذا أكل إنساناً يمزّق ثوبه ؛ وقيل : إنّ يعقوب قال : أروني القميص ، فأروه إيّاه ، فلمّا رآه صحيحاً قال : يا بنيّ ، ما رأيت ذئباً أحلم من هذا الذئب ! أكل ابني ولم يخرق قميصه .
وقيل : إنّه لمّا قال لهم يعقوب ذلك ، قالوا : بل قتله اللصوص .
فقال عليه السلام : فكيف قتلوه وتركوا قميصه وهم إليه أحوج من قتله ؟ «بل سوّلت لكم أنفسكم أمرا ـ أي زيّنت لكم ـ فصبرٌ جميل»(3) أي صبري صبر جميل لا أشكو إلى الناس .
وقيل : إنّما يكون الصبر جميلاً إذا قصد به وجه الله تعالى ، وفعل للوجه الذي وجب .
وقيل : إنّ البلاء نزل على يعقوب في كبره ، وعلى يوسف في صغره بلا
(1) كذا في المجمع ، وفي الأصل : نتناصل .
(2) سورة يوسف : 17 .
(3) سورة يوسف : 18 .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 182

ذنب كان منهما ، فأكبّ يعقوب على حزنه ، وانطلق يوسف في رقّه ، وكان(1) ذلك بعين الله سبحانه يسمع ويرى ، وكلّ ذلك امتحان من الله ، ومكث يوسف عليه السلام في الجبّ ثلاثة أيّام .(2)
ثم جاءت السيارة من قبل مدين يريدون مصر فأخطأوا الطريق ، وانطلقوا يهيمون حتى نزلوا قريباً من الجب ، وكان الجب في قفرة بعيدة من العمران ، وإنّما هو للرعاة والمجتازة ، وكان ماؤه ملحاً فعذب ، فبعثوا رجلاً يقال له مالك بن داغر(3) ليطلب الماء «فأدلى دلوه» فتعلّق يوسف عليه السلام بالدلو(4) ، فلمّا خرج إذا هو بغلام أحسن ما يكون .
فنادى أصحابه وقال : «يا بُشرى هذا غلام وأسرّوه»(5) من أصحابهم لئلّا يطلبوا منهم الشركة يه ، وكانت إخوته قريب منهم فآتوهم وقالوا : هذا عبد لنا أبق منّا واختفى في الجب(6) ، وقالوا له بالعبرانية : لئن قلت أنا أخوهم قتلناك ، فتابعهم(7) على ذلك لئلّا يقتلوه ، وطلبوا من القافلة أن يشروه منهم ، فأذعنوا لهم بذلك ، فشروه منهم كما قال سبحانه : «وشروه بثمن بخس دراهم معدودة»(8) أي ناقص لا بركة فيه لأنّه حرام ، وقوله سبحانه : «معدودة» أي قليلة ، وذكر العدد عبارة عن القلّة ، وقيل : إنّهم كانوا لا يزنون من الدراهم دون
(1) في المجمع : وكلّ .
(2) مجمع البيان : 3 / 216 ـ 218 . وانظر : عرائس المجالس : 110 ـ 116 .
(3) في العرائس : دعر ، وفي المجمع : زعر ، وكذا في الموضع الآتي .
(4) في المجمع : بالحبل .
(5) سورة يوسف : 19 .
(6) في المجمع : الموضع .
(7) كذا في المجمع ، وفي الأصل : فبايعهم .
(8) سورة يوسف : 20 .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 183

الاوقية ، وكانوا يزنون الاوقية وهي أربعون درهماً فما زاد عليها ؛ وقيل : كانت الدراهم عشرين ، وكانوا إخوته عشرة فاقتسموها درهمين درهمين .
ذكر أبو حمزة الثمالي أنّ مالك بن داغر وأصحابه لم يزالوا يتعرّفون من الله الخير في سفرهم ذلك حتى فارقوا يوسف ففقدوا ذلك ، وتحرّك قلب مالك ليوسف فأتاه ، فقال : اخبرني من أنت ؟
فانتسب له يوسف ولم يكن مالك يعرفه ، فقال : أنا يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، فالتزمه مالك وبكى وكان مالك رجلاً عاقراً لا يولد له ، فقال ليوسف : لو دعوت ربّك أن يهب لي ولداً ، فدعا يوسف ربّه أن يهب له ولداً ويجعلهم ذكوراً ، فولد له اثنا عشر بطناً ، في كلّ بطن غلامان «وكانوا فيه من الزاهدين»(1) أي من الزاهدين في شرائه لأنّهم لم يروا عليه آثار العبوديّة ، ووجدوا فيه علامات الأحرار ، فلذلك زهدوا فيه .(2)
ولمّا عرض للبيع في سوق مصر تزايدوا فيه حتى بلغ ثمنه وزنه ورقاً ومسكاً وحريراً ، فاشتراه العزيز بهذا الثمن ، وقال لامرأته راعيل ـ ولقبها زليخا ـ : «أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتّخذه ولداً»(3) ، وإنّما قال ذلك لما رأى على يوسف من الجمال والعقل والهداية في الأمور ، والعزيز هو خان الملك وخليفته وكان اسمه اطفير(4) ، والمل هو الريان بن الوليد(5) وكان أصله
(1) سورة يوسف : 20 .
(2) مجمع البيان : 3 / 219 ـ 220 . وانظر : عرائس المجالس : 116 .
(3) سورة يوسف : 21 .
(4) في العرائس : قطفير بن رحيب ، وفي المجمع : واسمه قطفير ، وكان لا يأتي النساء ؛ وقيل : إنّ اسمه اظفير .
(5) في العرائس : الريان بن الوليد بن ثروان بن أراشة بن قاران بن عمرو بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح عليه السلام .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 184

من العماليق ؛ وقيل : إنّه لم يمت حتى آمن بيوسف واتّبعه على دينه ، ثم مات ويوسف عليه السلام حيّ فملك بعده قابوس بن مصعب(1) ، فدعاه يوسف إلى الاسلام فأبى أن يقبل .(2)
ولمّا أن استقرّ في منزل اطفير راودته زوجته زليخا عن نفسه ، ورامت منه أن يواقعها ، وعلق قلبها بحبّه لما رأت من جماله وهيبته ؛ قيل: إنّ يوسف عليه السلام كان إذا مشى في أزقّة مصر أشرق نور وجهه على الحيطان كما يشرق نور انعكاس نور الشمس على الحائط إذا قابلت الماء ، كما قال سبحانه : «ولقد همّت به وهمّ بها» معناه همّت هي بالفاحشة وهمّ يوسف بضربها ودفعها عن نفسه كما يقال : هممت بفلان أي بضربة أو إيقاع مكروه به ، فيكون معنى رؤية البرهان أن الله سبحانه أراه برهاناً علىانّه إن أقدم على ما همّ به أهلكه أهلها أو قتلوه ، أو ادّعت عليه المراودة على القبيح وقذفته بأنّه دعها إليه وضربها لامتناعها منه فأخبر سبحانه أنّه صرف عنه السوء والفحشاء اللذين هما القتل وظنّ اقتراف الفاحشة به ويكون التقدير : «لو لا أن رأى برهان ربّه» لفعل ذلك .(3)
ويؤيّد انّه لم يهمّ بالفاحشة قوله سبحانه : «كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء»(4) وقوله ذلك ليعلم أنّي لم أخنه بالغيب .(5)
ثم انّ يوسف لمّا رأى شدّة إقبالها عليه والتزامها له ولّى فارّاً منها قاصداً
(1) في العرائس : قابوس بن مصعب بن معاوية بن نمير بن السلواس بن فاران بن عمرو بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح عليه السلام .
(2) مجمع البيان : 3 / 221 . وانظر : عرائس المجالس : 117 .
(3) مجمع البيان : 3 / 223 ـ 224 . وانظر : عرائس المجالس : 118 .
(4) سورة يوسف : 24 .
(5) مجمع البيان : 3 / 225 .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 185

للخروج من الباب ، فسبقته إلى الباب وأرامت منعه من الخروج لتقضي شهوتها منه ، ورام هو الفرار منها ، فلحقته قبل أن يصل إلى الباب ، والتزمته بقميصه من ورائه فقدّته ـ كما حكى سبحانه ـ وإذا سيّدها من وراء الباب ، فلمّا رأته اندهشت وورّكت الذنب(1) على يوسف لتبرئ ساحتها عند زوجها وقالت : «ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً الا أن يُسجن أو عذاب أليم»(2)
وأراد يوسف براءة ساحته فقال : «هي راودتني عن نفسي» لمّا ذكرت المرأة ذلك لم يجد يوسف بدّاً من تنزيه نفسه ، ولو كفّت عن الكذب لم يذكر يوسف شيئاً من ذلك ، «وشهد شاهد من أهلها» وهو صبيّ في المهد ؛ قيل : إنّه كان ابن اُخت زليخا وهو ابن ثلاثة أشهر ، فقال : «إن كان قميصه قُدّ من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قدّ من دبرٍ فكذبت وهو من الصادقين»(3) لأنّه لو كان مقبلاً عليها لكان قميصه قدّ من قبل ، فلمّا كان فارّاً منها كان القدّ من دبر لأنّه هو الهارب منها ، وهي الطالبة له ، وهذا الأمر ظاهر ، فلمّا رأى زوجها ذلك علم خيانة المرأة ، فقال : «إنّه من كيدكنّ إنّ كيدكنّ عظيم»(4) ثم أقبل على يوسف ، فقال : «يوسف أعرض عن هذا» ولا تذكر هذا الحديث طلباً للبراءة فقد ظهر صدقك وبراءتك ، ثم أقبل على زليخا وقال : «واستغفري لذنبك»(5) ؛ قيل : إنّه لم يكن غيوراً فسلبه الله الغيرة لطفاً منه بيوسف حتى كفي شرّه ، ولهذا قال ليوسف : «أعرض عن هذا» ، واقتصر على
(1) وَرّكَ فلان ذنبه على غيره تَوريكاً : إذا أضافه إليه وقَرَفَه به ، وإنّه لمُوَرّكٌ في هذا الأمر : أي ليس له فيه ذنب . «لسان العرب : 10 / 512 ـ ورك ـ » .
(2) سورة يوسف : 25 .
(3) سورة يوسف: 26 و27 .
(4 و5) سورة يوسف : 28 و29 .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 186

هذا القدر ، ثم قال لها : «واستغفري لذنبك» فإنّ الذنب منك .(1)
ثم قال الله سبحانه : «ثمّ بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات»(2) ، وذلك انّ زليخا لم تزل تفتِل منه(3) في الذروة ، والغارب(4) ، وكان مطواعاً لها وجملاً ذلولاً ، زمامه بيدها حتى أنساه ذلك ما عاين من الآيات وعمل برأيها في سجنه ، وكيد النساء أعظم من كيد الشيطان لانّ كيد الشيطان بالوسوسة ، وكيد النساء اللطف لأنّه بالمشاهدة وقوله سبحانه : «ومِن شرّ النفّاثات في العقد»(5) والمصريّات أعظم النساء كيداً لأنّه معهنّ ما ليس مع غيرهنّ من البوائق والحيل .
وعن بعض العلماء : انّي أخاف من النساء أكثر ممّا أخاف من الشيطان لأنّ الله سبحانه وتعالى يقول : «إنّ كيد الشيطان كان ضعيفاً»(6) وفي النساء : «إنّ كيدكنّ عظيم» وخاصّة إذا قارن ذلك عدم الغيرة في الأزواج ، وهذا الأمر مركوس في طبيعة أكثر رجال مصر .
قال شيخنا الشهيد شمس الدين محمد بن مكّي رضي الله عنه في كتاب الدروس : إنّ شرب ماء النيل يميت القلب ، والأكل في فخارها ، وغسل الرأس بطينها يذهب بالغيرة ويورث الدياثة .(7)
ولمّا كثر اللغط في شأنها وشأن يوسف ، وشاع الأمر بذلك ، وتكلّمت
(1) مجمع البيان :3 / 227 .
(2) سورة يوسف : 35 .
(3) في «ح» : أي من زوجها .
(4) في حديث الزبير : فما زال يَفتِلُ في الذَروَةِ والغارب حتى أجابته عائشة إلى الخروج . «لسان العرب : 1 / 644 ـ غرب ـ » .
(5) سورة الفلق : 4 .
(6) سورة النساء : 76 .
(7) الدروس : 3 / 47 .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 187

النسوة بذلك انّ «امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه»(1) ، وأظهروا الانكار لفعلها وأشهروا خطأها دعتهنّ واستضافتهنّ وأظهرت حبّها إيّاه واستكتمتهنّ فأظهرنه ، وأعتدت لكلّ واحدة منهنّ متّكأً ـ أي وسادة ـ ، وقدّمت لهنّ الفواكه أوّلاً ، «وآتت كلّ واحدةٍ منهنّ سكّيناً» لتقطيع الفواكه ، وكانت قد أجلست يوسف غير مجلسهنّ ، وأمرته بالخروج عليهنّ في هيأته ، ولم يكن يتهيّأ له أن لا يخرج لأنّه بمنزلة العبد لها ، «فلمّا رأينه أكبرنه» أي أعظمنه وتحيّرن في جماله إذ كان كالقمر ليلة البدر «وقطّعن أيديهنّ»(2) بتلك السكاكين ، فما أحسسن الا بالدم ، ولم يجدن ألم القطع لاشتغال قلوبهنّ بيوسف عليه السلام ، والمعنى : جرحن أيديهنّ ، وليس معناه أبنّ أيديهنّ ، لأنّ هذا مستعمل في الكلام ، تقول للرجل : قطعت يدي : أي خدشتها .(3)
ثم قال الله سبحانه : «ثمّ بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ـ الدالّة على براءة يوسف [وهي قدّ القميص من دبره وجزّ الأيدي](4) ـ ليسجننّه حتّى حين»(5) ، وذلك انّ المرأة قالت لزوجها : إنّ هذا العبد قد فضحني في الناس ، من حيث إنّه يخبرهم انّي راودته عن نفسه ، ولست اُطيق أن أعتذر بعذري ، فإمّا أن تأذن لي فأخرج وأعتذر ، وإمّا أن تحبسه كما حبستني .
فحبسه لذلك بعد علمه ببراءته وليظهر للناس انّ الذنب كان له لأنّه ما يحبس الا المجرم ، وقيل : كان الحبس قريباً منها فأرادت انّها تكون إذا أرادت
(1) سورة يوسف : 30 .
(2) سورة يوسف : 31 .
(3) مجمع البيان : 3 / 330 .
(4) من المجمع .
(5) سورة يوسف : 35 .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 188

أن تراه أشرفت عليه ورأته ، وقوله : «وليسجننّه حتّى حين» قيل : حتى ينسى حديث الامرأة معه .(1)
ولمّا اُدخل السجن اُدخل معه غلامان للملك أحدهما صاحب شرابه ، والآخر صاحب طعامه اُنهي إلى الملك الأعظم أنّهما يريدان يسمّانه فأدخلهما إلى السجن ، وكان يوسف لمّا دخل السجن عرّفهما انّه يعبّر الرؤيا ، فقال أحد العبدين للآخر : هلمّ حتى نجرّبه ، فقال أحدهما وهو الساقي : رأيت أصل كرمة(2) عليها ثلاثة عناقيد من عنب فجنيتها وعصرتها في كأس الملك وسقيته إيّاها .
وقال الآخر : إنّي رأيت كأنّ فوق رأسي ثلاث سلال فيها الخبز وألوان الأطعمة وسباع الطير تنهش منها «نبّئنا بتأويله إنّا نراك من المحسنين»(3) إنّك ذو أفعال جميلة .
قيل : إنّما نسباه إلى الاحسان لأنّه كان إذا ضاق على رجل مكانه وسّع له ، وإن احتاج جمع له ، وإن مرض قام عليه ؛ وقيل : إنّه كان يعين المظلوم ، وينصر الضعيف ، ويعود العليل ، وكان يحبو كلّ رجل بما يؤتى به ذلك اليوم من منزله من الطعام ، وهذا مثل قول عيسى : «واُنبّئكم بما تأكلون وما تدّخرون في بيوتكم»(4) «ذلكما ممّا علّمني ربّي»(5) .
وقيل : قالا له : من أين عرفت ذلك ولست بكاهن ولا عرّاف ؟
(1) مجمع البيان : 3 / 232 .
(2) في المجتمع : حبلة .
(3) سورة يوسف : 36 .
(4) سورة آل عمران : 49 .
(5) سورة يوسف : 37 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي