في ظلال الصيحيفة السجادية 641

الدعاء الحادي والخمسون

دعاؤه في التضرع ، والاستكانة

إلهي أحمدك ـ وأنت للحمد أهل ـ على حسن صنيعك إلي ، وسبوغ نعمائك علي ، وجزيل عطائك عندي ، وعلى ما فضلتني به من رحمتك ، وأسبغت علي من نعمتك ؛ فقد أحسنت عندي ما يعجز عنه شكري .
ولولا إحسانك إلي ، وسبوغ نعمائك علي . . . ما بلغت أحراز حظي ، ولا إصلاح نفسي ، ولكنك إبتدأتني بالإحسان ، ورزقتني في أموري كلها الكفاية ، وصرفت عني جهد البلاء ، ومنعت مني محذور القضاء .
إلهي فكم من بلاء جاهد قد صرفت عني ، وكم من نعمة سابغة أقررت بها عيني ، وكم من صنيعة كريمة لك عندي .
أنت الذي اجبت عند الإضطرار دعوتي ، وأقلت عند العثار زلتي ،

في ظلال الصيحيفة السجادية 642

وأخذت لي من الأعداء بظلامتي .
كل ما في هذا الدعاء ، واضح وقد تقدم ، ولكن لا مناص من الكلام ( على حسن صنيعك . . . ) قال سبحانه : « ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد » (1) ، أي يحذر سبحانه العبد أن يفعل ما يشاء معتمداً على رحمة الله ، ورأفته ، لأنه تعالى لا يرحم مجازفة ، وبلا سبب موجب ، كيف وأفعاله منزهة عن العبث ؟ وإنما يرحم بمقتضى حكمته ، وعلمه . بمن هو أهل للرأفة ، والرحمة . . .
أبداً لا فرق بين الرزق ، والرحمة ، هذه لمن كان له من إيمانه ، وعمله الصالح ما يؤهله للرحمة ، وذاك لمن سعى له سعيه .
( ولو لا إحسانك إلي ، وسبوغ نعمائك علي . . . ما بلغت إحراز حظي ، ولا إصلاح نفسي ) منك يا إلهي أسباب العيش ، وتيسيرها ، ومني السمع ، والطاعة لأمرك ، ونهيك ، ومعنى هذا أن إصلاح النفس مع الفقر ، والحرمان صعب مستصعب ، وهذا صريح في قول الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله : « كاد الفقر يكون كفراً » (2) ، وقال الإمام علي عليه السلام : « لو كان الفقر رجلاً لقتلته » (3) ، وقرن سبحانه الفقر بالفحشاء في الآية : « الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرةً منه وفضلاً والله واسع عليم » (4) ، وذكر أهل مكة بنعمته عليهم حين دعاهم إلى الإيمان
(1) آل عمران : 30 .
(2) انظر ، الكافي : 2 / 307 ح 4 ، شرح اصول الكافي : 9 / 318 ، مسند الشهاب : 1 / 342 ، الجامع الصغير : 2 / 266 ، كنز العمال : 6 / 492 ح 16682 ، الدعاء للطبراني : 320 ، تحفة الأحوذي : 7 / 17 و : 10 / 45 .
(3) لم أعثر على هذه الحكمة .
(4) البقرة : 268 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 643

به كما قال : « فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وءامنهم من خوف » (1) .
( ومنعت مني محذور القضاء ) أي ما قدرت ، وقضيت أن تبتليني بما أكره ، وأحذر ( بلاء جاهد ) : شاق ، وجهد البلاء المصيبة التي تختار معها الموت ( نعمة سابغة ) : واسعة .
إلهي ما وجدتك بخيلاً حين سألتك ، ولا منقبضاً حين أردتك ؛ بل وجدتك لدعائي سامعاً ، ولمطالبي معطياً ، ووجدت نعماك علي سابغة ،
كل ما شأن من شأني ، وكل زمان من زماني .
فأنت عندي محمود ، وصنيعك لدي مبرور ؛ تحمدك نفسي ، ولساني ، وعقلي . . . حمداً يبلغ الوفاء ، وحقيقة الشكر ، حمداً يكون مبلغ رضاك عني ، فنجني من سخطك .
يا كهفي حين تعييني المذاهب ، ويا مقيلي عثرتي ؛ فلولا سترك عورتي لكنت من المفضوحين ، ويا مؤيدي بالنصر ، فلولا نصرك إياي لكنت من المغلوبين ، ويا من وضعت له الملوك نير المذلة على أعناقها ، فهم من سطواته خائفون ، ويا أهل التقوى ، ويا من له الأسماء الحسنى .
. . . أسألك أن تعفو عني ، وتغفر لي ، فلست بريئاً فأعتذر ، ولا بذي قوة فأنتصر ، ولا مفر لي فأفر .
(1) قريش : 3 ـ 4 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 644


( إلهي ما وجدتك بخيلاً . . . ) واضح كل الوضوح . وقد تقدم أكثر من مرة ، ومع هذا نلخصه بأني سالتك يا إلهي أن تسمع ندائي ، وتقبل دعائي ، وتحقق رجائي فاستجيب ، وأعطيتني ما أردت ، وزيادة ، فوجب لك علي الوفاء ، والحمد ، والثناء والذكر ، والشكر على نعمك الجلي ، ولكن هيهات أن أقوم ، وأؤدي شكر نعمة واحدة مهما اجتهدت ( فنجني من سخطك ) على تقصيري في حقك .
( يا كهفي حين تعييني المذاهب . . . ) عاد الإمام عليه السلام إلى ترداد نعم الله عليه ، وتعدادها ، منها إنه لا يجد ملجأ إلا الله حين تشتد الأزمات ، وتضيق الحلقات ، ومنها أنه تعالى ستر ما فيه من عيب ، ولم ينشره على الأشهاد ، وأيضاً نصره على عدوه بعظيم الأجر في الآخرة ، وخلود الذكر في الدنيا من دونه ( ويا من وضعت له الملوك نير المذلة على أعناقها . . . ) أبداً لا ملوك ، وسلاطين أمام قاصم ظهور الجبارين ، ومبيد آثار الظالمين ، ويستخلف مكانهم الفقراء ، والمستضعفين ( ويا أهل التقوى ) تخافه الخلائق ، وتتقي غضبه ، وعذابه ( له الأسماء الحسنى ) أحسنها ، وأكملها ( فلست بريئاً فاعتذر ) لا عذر بعد الإعذار ، والإنذار ( ولا بذي قوة فأنتصر ) لا قوة لمخلوق إلا بخالقه ، وكلنا نكرر ليل نهار : لا حول ولا قوة إلا بالله الواحد القهار . وأستقيلك عثراتي ، واتنصل إليك من ذنوبي التي قد أوبقتني ، وأحاطت بي فأهلكتني ؛ منها إليك رب تائباً فتب علي ، متعوذاً فأعذني ، مستجيراً فلا تخذلني ، سائلا فلا تحرمني ، معتصماً فلا تسلمني ، داعياً فلا تردني خائباً . دعوتك يا رب مسكيناً مستكيناً مشفقاً ، خائفاً وجلاً ، فقيراً ، مضطراً إليك أشكو إليك يا إلهي ضعف

في ظلال الصيحيفة السجادية 645

نفسي عن المسارعة فيما وعدته أوليائك ، والمجانبة عما حذرته أعداءك ، وكثرة همومي ، ووسوسة نفسي . إلهي لم تفضحني بسريرتي ، ولم تهلكني بجريرتي ؛ أدعوك فتجيبني . . . وإن كنت بطيئاً حين تدعوني ، وأسألك كلما شئت من حوائجي ، وحيث ما كنت . وضعت عندك سري ، فلا أدعو سواك ، ولا أرجو غيرك ؛ لبيك لبيك ، تسمع من شكا إليك ، وتلقي من توكل عليك ، وتخلص من اعتصم بك ، وتفرج عمن لاذبك . إلهي فلا تحرمني خير الآخرة ، والأولى لقلة شكري ، واغفر لي ما تعلم من ذنوبي ، إن تعذب فأنا الظالم المفرط المضيع الآثم المقصر المضجع المغفل حظ نفسي ؛ وإن تغفر فأنت أرحم الراحمين .
( وأستقيلك عثراتي ) : اغفر لي زلتي ، وخطيئتي ، وقد تقدم في الدعاء الثاني والثلاثين ( وأتنصل إليك من ذنوبي ) أخرج منها بالندم ، والاعتراف ، والتوبة ، وطلب العفو ( أوبقتني ) : أهلكتني ، وتقدم في الدعاء الثاني والأربعين ( متعوذاً ) : معتصماً ( مستكيناً ) : خاضعاً ( أشكو إليك يا إلهي ضعف نفسي عن المسارعة . . . ) وعدت يا إلهي بالجنان ، والرضوان أولياءك الذين يجتنبون الموبقات ، ونفسي ـ لهمومها ، ووسوستها ـ تضعف عن المسارعة إلى ما أمرت ، والمجانبة عما نهيت ( فنجني ) من غضبك ، وعذابك برحمتك ، ومغفرتك لتباطئي ، وتثاقلي ( وأسألك كلما شئت من حوائجي . . . . ) وفوق ذلك كله ، ورغم معصيتي ، وجرمي ، وجريرتي ـ أسألك أن تقضي حوائجي بالكامل ، لا لشيء إلا لثقتي ، وإيماني ، وعلمي ، ويقيني بأنه ليس كمثلك مسؤول ، ولا سواك مأمول .
وكل من آمن بالله إيماناً لا يشوبه ريب ، يسوغ له أن يخاطب الله بهذا المنطق

في ظلال الصيحيفة السجادية 646

والأسلوب ، لأن المؤمن يرجو رحمة ربه حتى ولو رأى العذاب وجهاً لوجه ، بل وإن أدخله النار ، أما الجاحد فقد قطع الطريق هو بنفسه على نفسه ، واختار لها سوء المصير بإعلانه الحرب على خالقه ، ورازقه .
( تسمع من شكا إليك ) إن يك صادقاً في إيمانه ( وتلقي من توكل عليك ) وسلم الأمر كله إليك ، وإن غابت عنه حكمتك ( فلا تحرمني خير الآخرة ، والأولى . . . . ) يا من لا ينقطع إحسانه حتى عن المفرط المضيع ، والآثم المقصر « المضجع » : « المقصر ، وتقدم في الدعاء التاسع والأربعين .

في ظلال الصيحيفة السجادية 647

الدعاء الثاني والخمسون

دعاؤه في الإلحاح على الله

يا الله الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ، ولا في السماء ، وكيف يخفى عليك يا إلهي ما أنت خلقته ؟ وكيف يخفى عليك يا إلهي ما أنت خلقته ؟ وكيف لا تحصي ما أنت صنعته ؟ أو كيف يغيب عنك ما أنت تدبره ؟ أو كيف يستطيع أن يهرب منك من لا حياة له ألا برزقك ؟ أو كيف ينجو منك من لا مذهب له في غير ملكك ؟
سبحانك أخشى خلقك لك أعلمهم بك ، وأخضعهم لك أعملهم بطاعتك ؛ وأهونهم عليك من أنت ترزقه ، وهو يعبد غيرك .
سبحانك لا ينقص سلطانك من أشرك بك ، وكذب رسلك ؛ وليس يستطيع من كره قضاءك أن يرد أمرك ، ولا يمتنع منك من كذب بقدرتك ، ولا يفوتك من عبد غيرك ، ولا يعمر في الدنيا من كره لقاءك .

في ظلال الصيحيفة السجادية 468


( وكيف يخفى عليك . . . ) أحاط سبحانه علماً بكل شيء ، لأنه الخالق ، والمدبر لكل شيء .


أتعصي الله في ملكه ؟

( وكيف يستطيع أن يهرب منك من لا حياة له إلا برزقك ؟ أو كيف ينجو منك من لا مذهب له في غير ملكك ؟ ) روي أن رجلاً تكررت منه المعاصي ، وكلما حاول التوبة ، والإقلاع منها غلبته نفسه ، فأتى الحسين سيد الشهداء عليه السلام وقال له : « يا ابن رسول الله أسرفت على نفسي ، فاعرض علي ما يكون لها زاجراً ، أو مستنقذاً . فقال الإمام عليه السلام : إن قبلت مني خصلة من خمس خصال فقدرت عليها لم تضرك المعصية . قال الرجل : ما هي يا ابن رسول الله ؟
1 ـ قال الإمام : إذا أردت أن تعصي الله جل وعز فلا تأكل من رزقه ؟
قال الرجل : إذن أموت جوعاً .
قال الإمام : أيحسن بك أن تأكل رزقه ، وتعصي أمره ؟
قال الرجل : هات الثانية .
2 ـ قال الإمام : إذا أردت أن تعصيه فلا تعصه في ملكه .
قال الرجل : هذه أعظم من تلك ، كيف ! ولله ملك السموات ، والأرض ؟
قال الإمام : أيليق بك أن تاكل رزقه ، وتسكن ملكه ، وتعصيه ؟
قال الرجل : أين الثالثة ؟
3 ـ قال الإمام : إذا أردت أن تعصيه ، فاختر موضعاً لا يراك فيه .
قال الرجل : ايش هذا ؟ وهل تخفى على الله خافية ؟
قال الإمام : أتأكل رزقه ، وتسكن أرضه ، ثم تعصيه بمرأى منه ؟ قال الرجل :

في ظلال الصيحيفة السجادية 649

والرابعة ؟
4 ـ قال الإمام : إذا جاءك ملك الموت ليقبض روحك ، فقل له : أخرني حتى أتوب .
قال الر جل : بقيت الخامسة .
5 ـ قال الإمام : إذا جاء الزبانية يوم القيامة ليأخذوك إلى جهنم فلا تذهب معهم .
فقال الرجل : حسبي ، حسبي ، يا ابن رسول الله ، أتوب إلى الله ، ولن يراني بعد اليوم فيما يكره .
( سبحانك أخشى خلقك لك أعلمهم بك ) بنص القرآن الكريم : « إنما يخشى الله من عباده العلماؤا إن الله عزيز غفور » (1) . . . « والراسخون في العلم يقولون ءامنا به » (2) ، وفي الحديث : « العلماء أمناء الله على خلقه » (3) ، وفيه إشعار بأن الدين علم ، وليس غيباً في غيب ، وكفى حتى الغيب فإنه ينتهي إلى العقل ، ولا دين ، ولا علم بلا عقل .


أطوع الناس لله من لا يرى نفسه مطيعاً

( وأخضعهم لك أعملهم بطاعتك ) وأطلع الناس لله تعالى من لا يرى نفسه مطيعاً حتى وهو في أعلى درجات الطاعة ، يتهم نفسه بالتقصير ، ويخاف من حساب الله ، وغضبه كما يرجو رحمته ، وعفوه ، وهو غارق في المعصية إلى أذنيه ،
(1) فاطر : 28 .
(2) آل عمران : 7 .
(3) انظر ، مسند الشهاب : 1 / 100 ح 114 و 115 ، الجامع الصغير : 2 / 190 ح 5700 ، كنز العمال : 10 / 134 ح 28675 ، كشف الخفاء : 3 / 65 ، شرح اصول الكافي : 9 / 56 ح 14 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 650

قال سيد الشهداء عليه السلام في دعاء يوم عرفة : « أن رجائي لا ينقطع عنك ، وإن عصيتك كما أن خوفي لا يزايلني ، وإن أطعتك . . . إلهي من كانت محاسنه مساوئ فكيف لا تكون مساوئه مساوئ ؟ ومن كانت حقائقه دعاوي فكيف لا تكون دعاويه دعاوي ؟ » ( 1 )، ولا تفسير لهذا الكلام إلا التجرد أمام الله تعالى من كل طاعة ، وفضيلة ، والانقطاع إلى رحمة الله ، وفضله حتى كأن العارف بالله لم يقم بأي جهد ، بل ، وأتى بكل معصية ، وهذي هي طريقة أهل الله ، والعارفين بأنها محبوبة لديه تعالى حيث قال : « إنه لا يحب المستكبرين » (2) . . . « إن الله لا يحب الفرحين » (3) . فهل نتعظ بمواعظ الله ، وأهل الله ؟ ولكن الجاهل بجهله ميؤس منه . وهذا غاية الخذلان . ويأتي بعد أسطر من هذا الدعاء قول الإمام السجاد عليه السلام : « أللهم إني أصبح ، وأمسي مستقلا لعملي » . أنظر شرح الدعاء السابع والأربعون فقرة خوف المطيعين ، والدعاء الرابع والخمسون فقرة خوف العابدين .
( وأهونهم عليك من أنت ترزقه ، وهو يعبد غيرك ) في الحديث الشريف : « لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ـ من الخير ـ ما سقى منها كافراً شربة ماء » (4) . . . « أغفل الناس من لم يتعظ بتغير الدنيا من حال إلى حال ، وأعظم الناس في الدنيا خطراً من لم يجعل للدنيا خطراً » (5) . وقد تقدم أن الدنيا المذمومة هي دنيا الحرام ، وأن الدين ، ودنيا الحلال شيء واحد ( لا ينقص سلطانك . . . . ) لا تضرك
(1) انظر ، إقبال الأعمال : 339 ، بحار الأنوار : 95 / 227 ، كلمات الإمام الحسين عليه السلام : 805 .
(2) النحل : 23 .
(3) القصص : 76 .
(4) انظر ، الجامع الصغير ، 2 / 437 ح 7480 ، العهود المحمدية : 548 ، كنز العمال : 3 / 195 ح 6132 ، فيض القدير شرح الجامع الصغير : 1 / 74 ح 14 ، كشف الخفاء : 1 / 18 .
(5) انظر ، معاني الأخبار : 195 ، روضة الواعظين : 442 ، الأربعون حديثاً للشهيد الأول : 55 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 651

معصية من عصاك ، ولا تنفعك طاعة من أطاعك . وقد تقدم في الدعاء الخمسين .
سبحانك ما أعظم شأنك ، وأقهر سلطانك ، وأشد قوتك ، وأنفذ أمرك ؛ سبحانك قضيت على جميع خلقك الموت ؛ من وحدك ، ومن كفر بك ، وكل ذائق الموت ، وكل صائر إليك .
فتباركت ، وتعاليت لا إله إلا أنت ، وحدك لا شريك لك ، آمنت بك ، وصدقت رسلك ، وقبلت كتابك ، وكفرت بكل معبود غيرك ، وبرئت ممن عبد سواك .
أللهم إني أصبح ، وأمسي مستقلا لعملي ، معترفاً بذنبي ، مقراً بخطاياي ، أنا بإسرافي على نفسي ذليل ، عملي أهلكني ، وهواي أرداني ، وشهواتي حرمتني .
( ما أعظم شأنك ) : قدرك ، قال سبحانه : « وما قدروا الله حق قدره » (1) ، والمراد من التعجب في قول الإمام عليه السلام تقديسه تعالى ، وتنزيهه من الأشباه ، والأضداد ( وكل صائر إليك ) بعد الموت للحساب ، والجزاء ، قال إفلاطون : « لو لم يكن معاد نرجو فيه الخيرات لكانت الدنيا فرصة الأشرار ، وكان القرد أفضل من الإنسان » (2) . ومعنى هذا أن البعث ليس لمجرد البعث بل ليسأل المرء عن عمره فيما أفناه ، وعن جسده فيما أبلاه ، وعن ماله مما اكتسبه ، وفيما أنفقه » ؟ (3) كما في
(1) الأنعام : 91 .
(2) انظر ، جمهورية إفلاطون ، البحث الخامس ، ( النتيجة وخلود النفس ، وجزاء الفضيلة يوم الدينونة ) .
(3) انظر ، المعجم الكبير : 11 / 84 ح 11177 ، شرح الأخبار : 2 / 508 ح 898 ، المعجم =
في ظلال الصيحيفة السجادية 652

الحديث الشريف ، وأيضاً معنى هذا أن الآخرة ليست غيباً في غيب ، بل هي إمتداد للحياة الدنيا : « ومن كان في هذه أعمى فهو في الأخرة أعمى وأضل سبيلاً » (1) .


وما أدري ما يفعل بي ؟

( أللهم إني أصبح ، وأمسي مستقلا لعملي . . . ) تقدم قبل قليل أن أطوع الناس لله من لا يرى نفسه مطيعاً ، وكانت هذه الجملة فيما ذكرنا من الدلائل ، والشواهد على ذلك ، ومعناها ما أنا براض عن عملي ، لأني لا أدري : هل ينجيني من غضب الله ، أو هو هباء ، وضياع ؟ وهكذا المؤمن الحق يستقل الخير من قوله ، وفعله ، وإن كثر ، ويستكثر الشر منه وإن قل كما جاء في الدعاء العشرين على عكس المؤمن الجاهل الزائف يستكثر الخير منه وان قل ، ويستقل الشر وان كثر ! ولما توفي الصحابي الجليل عثمان به مظعون قالت امرأة من الأنصار : « رحمة الله عليك يا أبا السائب . فشهادتي عليك لقد أكرمك الله . فقال لها النبي صلى الله عليه وآله : وما يدريك أن الله أكرمه ؟ فقالت له : بأبي أنت ، وأمي يا رسول الله ! ، فمن الذي يكرمه الله ؟ فقال : أما هو فقد جاءه اليقين ، والله وإني لأرجو له الخير . والله ما أدري ، وأنا رسول الله ما يفعل بي » (2) ؟ وبهذا جاء نص القرآن الكريم : « قل ما كنت بدعاً من الرسل
= الأوسط : 9 / 155 ح 9406 ، جامع الأخبار : 499 ح 1384 ، المناقب لابن المغازلي : 120 ح 157 ، فرائد السمطين : 2 / 301 ح 557 ، أمالي الصدوق : 42 ح 9 ، الخصال : 253 ح 125 ، تحف العقول : 56 مرسلاً ، تنبيه الخواطر : 2 / 75 ، أمالي الطوسي : 593 ح 1227 ، روضة الواعظين : 549 مرسلاً .
(1) الإسراء : 72 .
(2) انظر ، الكافي : 5 / 495 ، الدر المنثور : 7 / 436 ، مسند أحمد : 6 / 436 ، صحيح البخاري : 2 / 71 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 653

وما أدرى ما يفعل بى ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي ومآ أنا إلا نذير مبين » (1) .
وتسأل : كيف لا يدري النبي صلى الله عليه وآله ما يفعل به ، وقد خاطبه سبحانه بقوله : « ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر » (2) ، وغير ذلك من الآيات ؟ .
الجواب : لا يسوغ لأحد كائناً من كان أن يجرأ على القول من عنده ، وتلقائه أن الله سيفعل به غداً ، أو بغيره كذا ، وكيت ، لأنه رجم بالغيب ، وفي الآية : « وقالوا ما لنا لا نرى رجالاً كنا نعدهم من الأشرار » (3) : وقال سبحانه حكاية عن خليله إبراهيم عليه السلام : « والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين » (4) . وكل مؤمن يرجو ويطمع أن تشمله رحمة الله ، ومغفرته ، لا على العلم ، واليقين بأنه من أهل الجنة إلا أن يبشره الله بها كالآيات التي تدل على مقام محمد صلى الله عليه وآله ، وعظمته عند الله ، أو يبشره النبي بوحي من الله كأحاديث الفضائل ، والمناقب في أهل البيت عليهم السلام ، وبعض الصحابه ، وعليه يكون معنى آية الإحقاف وما أدري ما يفعل بي ، ولا بكم إلا ما علمني ربي ، وقد أعلم تبارك ، وتعالى حبيبه محمداً بأنه هو بالذات رحمة للعالمين أي هو الصراط المستقيم إلى جنات النعيم .
. . . فأسألك يا مولاي سؤال من نفسه لاهية لطول أمله ، وبدنه غافل لسكون عروقه ، وقلبه مفتون بكثرة النعم عليه ، وفكره قليل لما هو صائر إليه .
. . . سؤال من قد غلب عليه الأمل ، وفتنه الهوى ، واستمكنت منه
(1) الاحقاف : 9 .
(2) الفتح : 2 .
(3) ص : 62 .
(4) الشعراء : 82 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 654

الدنيا ، وأظله الأجل ؛ سؤال من استكثر ذنوبه ، واعترف بخطيئته ؛ سؤال من لا رب له غيرك ، ولا ولي له دونك ، ولا منقذ له منك ، ولا ملجأ له منك إلا إليك .
إلهي أسألك بحقك الواجب على جميع خلقك ، وباسمك العظيم الذي أمرت رسولك أن يسبحك به ، وبجلال وجهك الكريم الذي لا يبلى ، ولا يتغير ، ولا يحول ، ولا يفنى . . . أن تصلي على محمد وآل محمد ، وأن تغنيني عن كل شيء بعبادتك ، وأن تسلي نفسي عن الدنيا بمخافتك ، وأن تثنيني بالكثير من كرامتك برحمتك .
فإليك أفر ، ومنك أخاف ، وبك أستغيث ، وإياك أرجو ، ولك أدعو ، وإليك الحأ ، وبك أثق ، وإياك أستعين ، وبك أومن ، وعليك أتوكل ، وعلى جودك ، وكرمك أتكل .
( لطول أمله ) لا عمل بلا أمل ، ولكن طوله ينسي الآخرة . أنظر شرح الدعاء الأربعون فقرة الأمل ، ( وبدنه غافل لسكون عروقه ) كناية عن الكسل ، والفرار من الجهد ، والعمل ( وقلبه مفتون ) مشغول بالمال ، وتدبيره عن الله ، وأمره ( وفكره قليل لما هو صائر إليه ) قد شغلته دنياه عن آخرته ، لا يفكر إلا قليلاً ( وأظله الأجل ) دنا منه الموت ، وألقى ظله عليه ، ولا مفر منه ( سؤال من استكثر ذنوبه . . . ) تكرار لما سبقه من اللهو ، والسهو ، والفتنة ، والغفلة ، والتمسك بالدنيا الدنية ( سؤال من لا رب له غيرك ، ولا ولي له دونك ، ولا منقذ له منك ، ولا ملجأ له منك إلا إليك ) هذا كلام من عرف الله حقاً ، وأنه الأصل ، والسبب الأول ، وأن الدنيا ، والآخرة له وحده ، فانقطع إليه ، وتعلق به ، ومثله تماماً قول أبيه سيد الشهداء عليه السلام : « ماذا وجد من فقدك ؟ وما الذي فقد من وجدك ؟ لقد خاب من رضي دونك بدلاً ، ولقد خسر

في ظلال الصيحيفة السجادية 655

من بغى عنك حولاً » (1) .
( بحقك الواجب على جميع خلقك ) ، وحقه تعالى هو ما ذكره الإمام عليه السلام بأن نؤمن ، ونوقن بأنه لا رب ، ولا ولي ، ولا منقذ ، ولا ملجأ إلا هو ، وأن نعمل بموجب هذا الإيمان .


الاسم الأعظم

( وباسمك العظيم . . . ) ما من شك أن الإسم ، أي اسم ، كلمة تتألف من حروف ميتة لا فضل لحرف منها على حرف ، وإنما مكانها علواً ، وانخفاضاً بمكان المعنى الذي تعبر عنه ، وتدل عليه ، والله تبارك وتعالى هو العلي الأعظم ، وعليه فكل أسمائه الحسنى بمنزلة سواء سمواً ، وعلواً . ومع هذا قيل : هناك اسم للذات القدسية هو أعظم الأسماء ، وأعلاها . ولكن لا دليل لهذا القول يركن إليه ـ فيما قرأت ـ والأقرب إلى القبول ما رواه الفخر الرازي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام في كتاب جوامع البينات : « إن الإنسان إذا ذكر اسم الله ـ أي إسم كان ـ عند تعلق قلبه بغير الله لم ينتفع به ، وإذا ذكره عند انقطاع طمعه من غير الله كان ذلك الإسم الأعظم » .
وروى الشيخ القمي في سفينة البحار عن الإمام الرضا عليه السلام : « إن بسم الله الرحمن الرحيم أقرب إلى إسم الله الأعظم من سواد العين إلى بياضها » (2) ، ومعنى هذا في واقعه أنه لا إسم أعظم من إسم ، ولكن للفظ الجلالة « الله » مع الرحمن الرحيم أثراً خاصاً . وهذا شيء ، والإسم الأعظم من كل إسم شيء آخر .
(1) انظر ، إقبال الأعمال : 349 ، بحار الأنوار : 95 / 226 .
(2) انظر ، مستدرك سفينة البحار : 9 / 75 ، بحار الأنوار : 89 / 233 ح 15 ، و : 75 / 371 ح 6 ، عيون الأخبار : 2 / 5 ، تفسير نور الثقلين : 1 / 8 ح 21 ، مسند الإمام الرضا : 1 / 310 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 656



في ظلال الصيحيفة السجادية 657

الدعاء الثالث والخمسون

دعاؤه في التذلل لله عزوجل

رب أفحمتني ذنوبي ، وانقطعت مقالتي ، فلا حجة لي ، فأنا الأسير ببليتي ، المرتهن بعملي ، المتردد في خطيئتي ، المتحير عن قصدي ، المنقطع بي .
قد أوقفت نفسي موقف الأذلاء المذنبين ، موقف الأشقيآء المتجرين عليك ، المستخفين بوعدك . سبحانك ! أي جرأة اجترأت عليك ؟ وأي تغرير غررت بنفسي ! . . . .
مولاي إرحم كبوتي لحر وجهي ، وزلة قدمي ، وعد بحلمك على جهلي ، وبإحسانك على إسآءتي ، فأنا المقر بذنبي ، المعترف بخطيئتي ، وهذه يدي ، وناصيتي ، أستكين بالقود من نفسي ؛ إرحم شيبتي ، ونفاد أيامي ، واقتراب أجلي ، وضعفي ، ومسكنتي ، وقلة حيلتي .

في ظلال الصيحيفة السجادية 658


( رب أفحمتني ذنوبي . . . ) واضح ، وتقدم في الدعاء السادس عشر ، وغيره ( قد أوقفت نفسي موقف الأذلاء المذنبين . . . ) إذا أردت من الله حاجة فقف على بابه موقف الذليل المنكسر ، وقل : أمنن علي من فضلك يا كريم ، ولا طريق على الإطلاق إلى فضله أنجح من هذه الطريق ، وتقدم في الدعاء الحادي والعشرين ، وغيره ( وهذه يدي ، وناصيتي ) كناية عن التسليم ، والانقياد لحكمه تعالى ( أستكين ) : أركع ، وأخضع ( بالقود ) : بالقصاص ( إرحم شيبتي ) في سفينة البحار عن رسول الله صلى الله عليه وآله : « إن الله ينظر في وجه الشيخ المؤمن صباحاً ، ومساءً ، ويقول : يا عبدي كبر سنك ، ودق عظمك ، ورق جلدك ، وقرب أجلك ، وحان قدومك علي ، فاستح مني ، فأنا أستحي من شيبتك أن أعذبك بالنار » (1) أي أنه تعالى يرحم صاحب الشيبة ، ويرفق به ، فعليه أن يرفق هو أيضاً بنفسه ، ويرحمها بترك الذنوب .
مولاي ، وارحمني إذا انقطع من الدنيا أثري ، وامحى من المخلوقين ذكري ، وكنت في المنسيين ، كمن قد نسي .
مولاي ، وارحمني عند تغير صورتي ، وحالي إذا بلي جسمي ، وتفرقت أعضائي ، وتقطعت أوصالي ، يا غفلتي عما يراد بي .
مولاي ، وارحمني في حشري ، ونشري ، واجعل في ذلك اليوم مع أوليائك موقفي ، وفي أحبائك مصدري ، وفي جوارك مسكني يا رب العالمين .
( مولاي ، وارحمني إذا . . . ) حملت إلى زنزانة ضيقة ، وموحشة ، ومخفية ،
(1) انظر ، بحار الأنوار : 70 / 390 ح 12 ، جامع الأخبار : 107 ، مستدرك سفينة البحار : 6 / 106 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 659

ومظلمة ، ينقطع فيها أثري ، ويغيب خبري ، وغريبة الغرائب أن نؤمن بهذا المآب ولكن نذهل عنه عند العمل ! فرحماك يا أرحم من استرحم . . . ذهولنا ، وعقولنا ، وقلوبنا ، وكل جوارحنا بيدك ، ولا نملك منها إلا ما ملكتنا ، فمدنا بلطفك ، ووفقنا إلى طاعتك ، وإليك نتوسل بك ، وبحبيبك محمد وآل محمد صلواتك عليه ، وعليهم ( وارحمني عند تغير صورتي ) حين تأكل الأرض لحمي ، وتطحن عظمي ( وارحمني في حشري ، ونشري ) الحشر : الجمع ، والنشر : الإحياء .
( واجعل في ذلك اليوم . . . ) للخلق يوم القيامة موقف بين يدي الله تعالى للعرض ، والحساب ، وتقرير الثواب ، والعقاب ، وبعده ينتشرون متفرقين مسرعين إلى مقرهم الأخير ، لكل حسب عمله ، والإمام عليه السلام يدعو الله سبحانه أن يكون موقفه غداً مع الأخيار لا مع الأشرار ، وأن يأخذ طريقه بعد الحساب مع أحباء الله لا مع أعدائه ، وأن يكون مقره الأخير في رحمة الله ، ونعيمه لا في نقمته وجحيمه .

في ظلال الصيحيفة السجادية 660



في ظلال الصيحيفة السجادية 661

الدعاء الرابع والخمسون

دعاؤه في استكشاف الهموم

يا فارج الهم ، وكاشف الغم ؛ يا رحمن الدنيا ، والآخرة ، ورحيمهما . . . . ، صل على محمد وآل محمد ، وافرج همي ، واكشف غمي .
يا واحد يا أحد ، يا صمد ، يا من لم يلد ، ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد . . . . ، اعصمني ، وطهرني ، واذهب ببليتي .


بين الواقع ، والخرافة

( يا فارج الهم ، وكاشف الغم . . . وافرج همي ، واكشف غمي . . . ) سبق القول ، وتكرر أن الله يجري المسببات على أسبابها ، والنتائج على مقدماتها . . . وجميع ظواهر الكون ، وحالات الإنسان ، والحيوان ، والنبات ، تقوم على هذا الأساس ، على مبدأ العلة ، ومعلولها ، والمؤثر ، وأثره بشهادة الحس ، والبديهة ، فالله سبحانه هو الذي أخرج يوسف عليه السلام من الجب حيث قيض له الركب في الأرض القفر ،

في ظلال الصيحيفة السجادية 662

وأدلى واردهم بدلوه ، وعليه يكون معنى « فرج همي ، واكشف غمي » أن يسهل سبحانه لقائل هذا الدعاء أسباب الفرج ، ويكشف له عنها كي يسرع بدوره إليها ، وينتهز الفرصة قبل فواتها .
وقد فرق أهل العلم ، والوعي بين الواقع ، والخرافة بأن من السخافة ، والخرافة أن نربط الحادثة بغير أسبابها ، ونخرجها عن حدود العقل ، والدين ، أما منطق الواقع فإنه يرجع كل حادثة إلى السبب الذي يتحكم بها . . . ولا خروج عن هذا المبدأ إلا في المعجزة الخارقة ؛ لأنها الوسيلة لأثبات نبوة الأنبياء حيث يقول سبحانه للشيء كن فيكون تماماً كما قال للنار : « يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين » (1) .
وبعد ، فإن الله سبحانه جعل الدنيا داراً للسباق ، والجهاد لا للدعاء ، والبكاء وكفى : ولا للكدية ، والتسول ، ولا للقرصنة ، واللصوصية ، ولا للإتجار بالدين وأكل أموال الأيتام ، والمشردين ، وأيضاً ما خلق الله تعالى الإنسان ، وزوده بكل موهبة ، وطاقة إلا للجهد ، والعمل لا للبطالة ، والكسل ، ويحدثنا التأريخ أن العديد من الأنباء ، والعلماء الكبار كانوا يكدحون في سبيل العيش . وقال بعض العارفين : « العمل من أجل العيال ساعتين أفضل من صلاة ركعتين » .
أللهم إني أسألك سؤال من اشتدت فاقته ، وضعفت قوته ، وكثرت ذنوبه ، سؤال من لا يجد لفاقته مغيثاً ، ولا لضعفه مقوياً ، ولا لذنبه غافراً غيرك .
يا ذا الجلال ، والإكرام . . . أسألك عملاً تحب به من عمل به ، ويقيناً
(1) الأنبياء : 70 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 663

تنفع به من استيقن به حق اليقين في نفاذ أمرك .
أللهم صل على محمد وآل محمد ، واقبض على الصدق نفسي ، واقطع من الدنيا حاجتي ، واجعل فيما عندك رغبتي ، شوقاً إلى لقائك ، وهب لي صدق التوكل عليك .
( من اشتدت فاقته . . . ) : حاجته ، وتقدم في الدعاء الثامن والأبعين ، وغيره ( أسألك عملاً تحب به من عمل به ) ونص القرآن الكريم على أن الله يحب المحسنين ، والتوابين ، والمتطهرين ، والمتقين ، والصابرين ، والمتوكلين ، والمقسطين ـ العادلين ـ « الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص » (1) ( ويقيناً تنفع به من استيقن به . . . ) المراد باليقين هنا العلم الذي يكون معه الخوف من الله سبحانه تماماً كالخوف منه لو شاهده ورآه وجهاً لوجه ، ومتى بلغ الخوف هذه المنزلة لم يبق للعصيان سبيل ، وإلى هذا أشار الإمام عليه السلام بقوله : « في نفاذ أمرك » ( واقبض على الصدق نفسي ) أي على الإخلاص في الإيمان بك ، وفي العمل بموجبه . ولا شيء أثر في نفسي أكثر من دعاء سيد الشهداء عليه السلام : « لا تميتني على غضبك » (2) . ( واقطع من الدنيا حاجتي ) أي من دنيا الحرام ، وإلا فالإنسان ابن الأرض ، ولا غنى له عنها .
( شوقاً إلى لقائك ) قيل للنبي صلى الله عليه وآله : « كلنا نكره الموت يا رسول الله ! قال : ليس ذلك كراهية الموت ، ولكن المؤمن إذا حضر جاءه البشير من الله بما هو صائر إليه ، فليس شيء أحب إليه من أن يكون قد لقي الله ، فأحب لقاء الله فأحب الله لقاءه ،
(1) الصف : 4 .
(2) نظر ، البحار : 95 / 220 ، كلمات الإمام الحسين ، للقرشي : 797 ، حياة الإمام الحسين ، للقرشي : 1 / 173 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 664

وإن الفاجر إذا حضر جاءه ما هو صائر إليه من الشر فكره لقاء الله فكره الله لقاءه » (1) .
أسألك من خير كتاب قد خلا ، وأعوذ بك من شر كتاب قد خلا ؛ أسألك خوف العابدين لك ، وعبادة الخاشعين لك ، ويقين المتوكلين عليك ، وتوكل المؤمنين عليك .
أللهم اجعل رغبتي في مسألتي مثل رغبة أوليائك في مسائلهم ، ورهبتي مثل رهبة أوليائك ، واستعملني في مرضاتك ، عملاً لا أترك معه شيئاً من دينك مخافة أحد من خلقك .
أللهم هذه حاجتي ، فأعظم فيها رغبتي ، وأظهر فيها عذري ، ولقني فيها حجتي ، وعاف فيها جسدي .
أللهم من أصبح له ثقة ، أو رجآء غيرك ، فقد أصبحت وأنت ثقتي ، ورجآئي في الأمور كلها ، فاقض لي بخيرها عاقبةً ، ونجني من مضلات الفتن ، برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على سيدنا محمد رسول الله المصطفى ، وعلى آله الطاهرين .
( أسألك من خير كتاب قد خلا . . . ) المراد بالكتاب هنا ما سطر ، وسجل فيه أعمال العباد ، قال سبحانه : « كان ذلك في الكتاب مسطوراً » (2) وخلا : سبق ، والمعنى أسألك أن تقبل ما عملته من خير ، وتعفو عما ارتكبته من شر .
(1) انظر ، كنز العمال : 15 / 566 ح 42198 ، مسند أحمد : 3 / 107 مجمع الزوائد : 2 / 320 ، صحيح مسلم : 8 / 65 ، سنن النسائي : 4 / 10 .
(2) الإسراء : 58 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 665



خوف العابدين

( أسألك خوف العابدين لك ، وعبادة الخاشعين لك ) في نهج البلاغة ، وغيره من آثار أهل البيت عليهم السلام : « إن قوماً عبدوا الله رغبةً فتلك عبادة التجار ، وإن قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد ، وإن قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار » (1) . ومع ذلك يرون أنفسهم مقصرين ، ويحسون بالخوف منه تعالى أن لا يقبل عبادتهم ، فتلك عبادة الأحرار ، لأنهم عرفوا الفضل فأكبروه ، وقاموا بواجبه . والإمام عليه السلام يسأل الله سبحانه أن يرزقه خوف الأحرار لا خوف العبيد أي الخوف من التقصير في حق الله لا من عقابه .
أما خشوع العابدين فليس المراد به هنا مجرد الخضوع ، بل والإنقطاع إلى الله ، والتعلق به وحده كأن لا شيء في الوجود سواه . . . وقد روى الرواة أن الإمام السجاد عليه السلام : « أنه كان إذا توضأ للصلاة يصفر لونه ، فقيل له : ما هذا [ الذي ] نراه يغشاك عند الوضوء ؟ فيقول : ما تدرون بين يدي من اريد أن أقوم ؟ » (2) . وفي ذات يوم وقع حريق في بيته وهو ساجد ، فجعلوا يقولون له : يا ابن رسول الله النار
(1) انظر ، نهج البلاغة : 4 / 53 ، الحكمة ( 237 ) ، تحف العقول : 246 ، نزهة الناظر وتنبيه الخاطر : 99 ، وسائل الشيعة : 1 / 63 ، بحار الأنوار : 41 / 14 .
(2) انظر ، المناقب لابن شهر آشوب : 4 / 148 ، ينابيع المودة : 3 / 105 طبعة اسوة ، و : 453 طبعة أخرى ، كفاية الطالب : 449 ، الإرشاد : 2 / 142 ، سير أعلام النبلاء : 4 / 238 ، الإتحاف بحب الأشراف : 49 ،أخبار الدول : 109 مع إختلاف يسير في اللفظ . وانظر درر الأبكار : ورقة 70 ، نهاية الإرب : 21 / 326 . وفي مختصر تأريخ دمشق : 17 / 236 بلفظ « إذا توضأ اصفر لونه : فيقول له أهله : ما هذا الذي يغشاك ؟ فيقول : أتدرون لمن أتاهب للقيام بين يديه » وانظر ، طبقات ابن سعد : 216 ، حلية الأولياء لأبي نعيم الاصبهاني : 3 / 133 علل الشرايع للشيخ الصدوق : 88 ، الكافي بهامش مرآة العقول : 3 / 119 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 666

النار ، يا ابن رسول الله النار النار ، فما رفع رأسه حتى أطفئت ، فقيل له : ما الذي ألهاك عنها ؟ فقال : ألهتني عنها النار الكبرى (1) . أنظر شرح الدعاء العشرون فقرة هذا هو الإمام السجاد عليه السلام ، والدعاء التاسع والأربعون فقرة هذا هو علي بن الحسين كالشمس .
( ويقين المتوكلين عليك ، وتوكل المؤمنين عليك ) والمؤمن بالله حقاً المتوكل عليه يقيناً هو الذي تكون ثقته بأجر الله ، وثوابه أشد ، وأقوى من ثقته ، ويقينه بوجوده (أللهم اجعل رغبتي في مسألتي مثل رغبة أوليآئك . . . ) وسيرة الإمام عليه السلام ، وعبادته شاهدا صدق ، وعدل أنه سيد الأولياء ، وإمام الأتقياء ، ولكن الخوف من التقصير شأن الكبار ، والأحرار ، كما أشرنا ( واستعملني في مرضاتك . . . ) واضح ، وتقدم في الدعاء السادس عشر ، وغيره ( أللهم هذه حاجتي ، فأعظم فيها رغبتي ) هذه إشارة الى مرضاته تعالى ، وأعظم رغبتي فيها : أحترمها ، والمعنى حاجتي لديك يا إلهي أن تثيبني على رغبتي في مرضاتك ( وأظهر فيها عذري ) واعذرني إذا سرت في العمل لوجهك ، ومرضاتك .
( ولقني فيها حجتي ) ألهمني ما أقول في طلب مرضاتك ، وعند تقصيري في العمل من أجلها ( وعاف فيها جسدي ) قوني على طاعتك ( أللهم من أصبح له ثقة . . . ) بك أثق ، لا بسواك ، إياك وحدك أرجو لأمر آخرتي ، ودنياي . وتقدم في الدعاء الثامن والأربعين ، والثاني والخمسين .
( والحمد لله ، وحده ، وأسأله تعالى أن يقبل هذا العمل اليسير لوجه الكريم ،
(1) انظر ، تهذيب الكمال : 20 / 390 ، التخويف من النار لابن رجب الحنبلي : 23 ، العدد القوية : 63 ح 85 ، مناقب آل أبي طالب : 3 / 290 ، بحار الأنورا : 46 / 80 ، تأريخ مدينة دمشق : 41 /377 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 667

كشكر على ما سدد ، ووفق لتأليف الكاشف ، والتفسير المبين ، وفي ظلال نهج البلاغة و . . . علماً بأن التسديد لهذا الكتاب يستدعي آخر شكراً على الكتاب الشاكر . . .إلى ما لا نهاية لأن اللاحق إحسان جديد ،وعتيد ، وإن سميته شكراً .
وصلى الله على سيدنا محمد رسول الله المصطفى ، وآله الطاهرين


السابق السابق الفهرس