إلهي هديتني فلهوت ، ووعظت فقسوت ، وأبليت الجميل فعصيت ، ثم عرفت ما أصدرت ؟ إذ عرفتنيه فاستغفرت ، فأقلت فعدت ، فسترت فلك إلهي الحمد . تقحمت أودية الهلاك ، وحللت شعاب تلف تعرضت فيها لسطواتك ، وبحلولها عقوباتك ، ووسيلتي إليك التوحيد ، وذريعتي أني لم أشرك بك شيئاً ، ولم أتخذ معك إلهاً ، وقد فررت إليك بنفسي ، وإليك مفر المسيء ، ومفزع المضيع لحظ نفسه ، الملتجئ . فكم من عدو انتضى علي سيف عداوته ، وشحذ لي ظبة مديته ، وأرهف لي شبا حده ، وداف لي قواتل سمومه ، وسدد نحوي صوائب سهامه ، ولم تنم عني عين حراسته ، وأضمر أن يسومني المكروه ، ويجر عني زعاف مرارته .
في ظلال الصيحيفة السجادية
626
فنظرت يا إلهي إلى ضعفي عن احتمال الفوادح ، وعجزي عن الانتصار ممن قصدني بمحاربته ، ووحدتي في كثير عدد من ناواني ، وأرصد لي بالبلآء فيما لم أعمل فيه فكري . فابتدأتني بنصرك ، وشددت أزري بقوتك . ( إلهي هديتني فلهوت ، ووعظت فقسوت . . . . ) أرشدتني إلى طريق حياتي ، ونجاتي ، وأكرمتني بالكثير من معروفك ، وإحسانك ، وحذرتني من سوء العاقبة ، وعزمت بدوري على السمع ، والطاعة . . . ولكن عند العمل ، والتنفيذ جذبني هواي ، وغلبت علي شقوتي ، فتجاوزت ، وأسرفت . والآن عدت إلى رشدي بتوفيق منك . وأقلعت عن سوء فعلي ، وإسائتي ، فاقبل تضرعي ، واغفر خطيئتي يا خير من سئل ، وأرحم من استرحم .
ومن المفيد أن نذكر بهذه المناسبة ما قاله حول الموعظة ، وآثارها عمرو بن محمد السهروردي (1) في كتاب عوارف المعارف ، ونلخصه بما يلي :
أقسام الموعظة
ذهب فلاح إلى أرضه ، وملأ كفه بحبات القمح ، وراح يبذرها ذات اليمين ، وذات الشمال ، وتنقسم هذه الحبات بالنظر إلى أماكنها أربعة أقسام :
1 ـ قسم منها وقع على صخرة ملساء لا تراب عليها ، فأنحط عليه الطير ، واختطفه .
2 ـ وقسم وقع على حجر تغطيه طبقة رقيقة من التراب ، ويبلله قليل من
(1) انظر ، عوارف المعارف لأبي حفص شهاب الدين عمرو بن محمد السهروردي ( ت 563 هـ ) : 215 ، وعوارف المعارف على هامش الإحياء : 4 / 191 .
في ظلال الصيحيفة السجادية
627
الندى ، فنبت الحب حتى إذا وصلت عروقه إلى سطح الحجر لم تجد طريقاً لها فيبس النبت ، ومات .
3 ـ وشيء من البذر وقع في أرض طيبة لكنها مليئة بالأشواك ، فنبت البذر حتى إذا أراد ان يرتفع خنقته الأشواك فذوى ، وانتهى .
4 ـ وشيء آخر من البذر وقع في أرض طيبة ، ولا أشواك فيها ، وما أشبه ، فنبتت الحبة ، ونمت ، وآتت أكلها .
ومثل الحبة التي وقعت على الصخرة الملساء ، وألتقطها الطير ، كمثل موعظة نافعة شافية يسمعها أعمى القلب ، فيدير عنها أذنيه حتى لا يسمعها ، فما يلبث الشيطان أن يختطفها من قلبه ليتركه خاوياً .
ومثل الحبة التي وقعت على الحجر المغطى بقليل من التراب ، كمثل الرجل الذي يستحسن ما يسمع ، ولكنه لا يجد في قلبه أي عزم على العمل لقسوته ، وصلابته ، فيذهب القول النافع هباء .
ومثل الحبة التي وقعت في أرض طيبة يكتنفها الشوك ، كمثل الرجل يسمع منك المفيد ، ويهم بالعمل على موجبه ، لكنه يجد من الشهوات العمياء ما يصرفه عن كل خير .
وأخيراً فمثل الحبة التي وقعت في أرض طيبة لا شيء فيها من عوائق النمو ، كمثل الرجل يتقبل الموعظة الحسنة ، فيفهمها ، ويعمل بها دون أن يصده عنها أي شيء من أعماقه .
( تقحمت أودية الهلاك ، وحللت شعاب . . . ) : جمع شعب بكسر الشين ، وهو الطريق في الجبل ، ومسيل الماء ، والمعنى تعرضت بسوء إختياري لغضبك ، وعذابك ، وأتوب إليك في مقامي هذا ( ووسيلتي إليك التوحيد . . .) فسبحانك لا إله
في ظلال الصيحيفة السجادية
268
إلا أنت ، إني كنت من الظالمين ( وقد فررت إليك . . . ) مستغيثاً برحمتك ، ومغفرتك متوكلاً على جودك ، وحلمك .
( فكم من عدو انتضى علي سيف عداوته . . . ) انتضى : جرد ، وشحد : أحد ، والظبة : حد السيف وما أشبه ، وشبا السنان : طرفه المحدود ، وداف : خلط : ومعنى هذا الكلام بجملته الشكوى إليه تعالى من ظالم غاشم ، يضمر الشر للإمام عليه السلام ، ويجرعه مرارة العسف ، والتنكيل . . . وغير بعيد أن تكون هذه الشكوى من الدولة الأموية حيث كانت في عهد الإمام عليه السلام ، وكان من ضحاياها مجزرة الطف ، ووقعة الحرة ، وإحراق الكعبة . . . وكان هذا الدعاء ، وغيره كثير أمضى من سيوف المسلمين على رؤوس الأمويين .
( فنظرت يا إلهي إلى ضعفي عن احتمال الفوادح . . . ) : الخطوب ، والمصائب ( ووحدتي في كثير عدد من ناواني . . . ) ومثله قول والده سيد الشهداء عليه السلام يوم كربلاء : « وإني زاحف بهذه الأسرة مع قلة العدد ، وكثرة العدو ، وخذلان الناصر » (1) .
هذا علي بن الحسين كالشمس
( فابتدأتني بنصرك ، وشددت أزري بقوتك ) ومن مظاهر هذا النصر ، والأزر قصته مع هشام بن عبد الملك ساعة الطواف حول الكعبة ، وقصيدة الفرزدق التي يقول فيها :
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابـن خـير عبـاد الله كلهم
هذا التقي النقي الطـاهر العلم
ينمي إلى ذروة العز التي قصرت
عن نيلها عرب الإسلام والعجم
(1) انظر ، اللهوف في قتلى الطفوف : 124 ، لواعج الأشجان : 131 ، مثير الأحزان : 40 .
في ظلال الصيحيفة السجادية
629
ينشق نور الهدى من نور غرته
كالشمس تنجاب عن إشراقها الظلم
من معشر حبهم دين وبـغضهم
كفـر وقـربهم منجىً ومـعتصم
مقـدم بـعد ذكر الله ذكـرهـم
في كل بـدو ومختوم به الكـلـم
إن عـد أهل التقى كانوا أئـمتهم
أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم (1)
(1) هذه القصة جاءت بنصها مع تقديم وتأخير في بعض الأبيات ، وأنها كانت ثورة على الباطل ، ونصرةً للحقً ، وقد كمت الأفواه ، واخرست الألسن مما تعد هذه القصيدة ضربة سياسية للحكم الاموي ، ولذا علق البستاني صاحب دائرة المعارف : 9 / 356 حيث قال : وقالوا : كفى بالفرزدق أن يكون قال هذه القصيدة حتى يدخل الجنة . وجاء هذا رداً التشكيك الذي صدر من أبي الفرج الإصفهاني صاحب الكتاب الأغاني : 21 / 376 ، و : 14 / 75 ، في نسب هذه القصيدة إلى الفرزدق .
وقال صاحب أنوار الربيع : 4 / 35 بعد كلام طويل : ولا شك أن الله سبحانه أيده في مقالها وسدده حال ارتجالها . وعلق الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه الإمام زيد : 28 ـ 29 بقوله : وإنا لا نرى ذلك الشك سائغاً او يتفق مع المنهاج السليم في دراسة الروايات للأسباب التالية . . . وذكر منها تضافر الروايات كلها على نسبتها للفرزدق ، وعدم محاولة الإصفهاني الطعن في الرواية بتكذيب رواتها . . . .
وهذا صاحب كتاب المجمل في تاريخ الأدب العربي : 268 طبعة بغداد عام 1347 هـ فإنه أراد أن يطمس الحقيقة حيث قال ، والذي يدور على الألسنة أن السبب في حبس هشام أياه قصيدة قالها في مدح علي بن الحسين ، وعرض فيها بهشام إذ قال :
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
والبيت يعرفه والحل والحرم
والتحقيق أن هذه القصيدة محمولة عليه ، وليست منه في ورد ، ولا صدر وقائلها إنما هو الحزين الكناني من فحول شعراء الامويين قالها في عبد الله بن عبد الملك بن مروان ، ومن الناس من يرويها لغيره أيضاً ، إذاً فدعوى أن الفرزدق علوي المذهب في سياسته باطلة . . . .
وقد ناقش السيد العلامة المحقق المقرم رحمة الله هذه الشبهة في مجلة العرفان عدد 22 سنة
=
في ظلال الصيحيفة السجادية
630
= 1350 هـ : 3 / 374 و 5 / 651 باب المناظرة تحت عنوان « الوجدان يحاكم مخالفيه » ثم نشر القصيدة ، ومصادرها في هامش كفاية الطالب للكنجي الشافعي : 303 ، والكواكب السماوية : 20 من المقدمة .
وانظر قول ابن خلكان في الوفيات ، واليافعي في مرآة الجنان : 1 / 239 ، والدميري في حياة الحيوان بمادة « الأسٍد » : 1 / 11 ، وقول ابن العماد في شذرات الذهب : 1 / 142 ، والبداية والنهاية لابن كثير : 9 / 109 ، وشرح شواهد المغني للسيوطي : 250 طبعة مصر ، وشرح لامية العجم للصفدي : 2 / 162 وأمالي السيد المرتضى : 1 / 47 و 48 ، ومروج الذهب للمسعودي : 2 / 195 .
وانظر قول جرجي زيدان في آداب اللغة العربية : 1 / 247 « لم يكن مداح بني أمية لأنه يتشيع لعلي وولده عليهم السلام وصاحب تأريخ التمدن الإسلامي : 3 / 100 حيث يقول « كان الفرودق متشيعاً في الباطن لبني هاشم » . وانظر تأريخ الأدب العربي لأحمد حسن الزيات : 160 ، طبقات الشافعية الكبرى : 1 / 153 ، حلية الأولياء لأبي نعيم الاصبهاني : 3 / 139 ، الأغاني لأبي الفرج الإصفهاني : 19 / 40 ، رجال الكشي : 86 ، الصواعق المحرقة : 119 ، الإتحاف بحب الأشراف للشبراوي : 51 ، دائرة المعارف لفريد وجدي : 7 / 166 ، نور الأبصار للشبلنجي : 128 ، روضة الواعظين للفتال : 171 ، روضات الجنات : 520 ، كفاية الطالب للكنجي : 306 ، و : 451 و452 طبعة آخر ، زهر الآداب للحصري على هامش العقد الفريد : 1 / 68 ، المناقب لابن شهر آشوب : 2 / 265 ، الاختصاص للشيخ المفيد : 191 .
ومن المعلوم أن الإصفهاني لم ينكر القصيدة كلها بل أنكر البيتين « في كفه خيزران » و « يغضي حياءً »فانهما عنده للحزين الكناني في عبد الله بن عبد الملك مدعياً بأن العصا يحملها الملوك ، والجبابرة والإمام السجاد عليه السلام منزه عن ذلك ، لكن فاته ان النبي صلى الله عليه واله ندب الى حمل العصا في السفر ، والامام السجاد اتبع سنة جده صلى الله عليه وآله وهي التي علقها عليه السلام عند السفر على ناقته ولم يضربها مدة حياته 7 ، ثم إن الحزين لم يكن من مداح بني هاشم بل اختص مدحه بالامويين . كما أن بعض المؤرخين أثبتها بتمامها حسبما صحت لديه ، روايتها فأنهاها البعض
=
في ظلال الصيحيفة السجادية
631
وأخيراً أنظر شرح الدعاء العشرون فقرة هذا هو الإمام السجاد .
ثم فللت لي حده ، وصيرته من بعد جمع عديد وحده ؛ وأعليت كعبي عليه ، وجعلت ما سدده مردوداً عليه ، فرددته لم يشف غيظه ، ولم يسكن غليله ؛ قد عض على شواه ، وأدبر مولياً قد أخلفت سراياه . وكم من باغ بغاني بمكائده ، ونصب لي شرك مصائده ، ووكل بي تفقد رعايته ، وأظبأ إلي إظبآء السبع لطريدته . . . ، انتظاراً لانتهاز الفرصة لفريسته ، وهو يظهر لي بشاشة الملق ، وينظرني على شدة الحنق . . . . فلما رأيت يا إلهي تباركت ، وتعاليت دغل سريرته ، وقبح ما انطوى عليه ، أركسته لأم رأسه في زبيته ، ورددته في مهوى حفرته ؛ فانقمع بعد استطالته ذليلاً في ربق حبالته التي كان يقدر أن يراني فيها ، وقد كاد أن يحل بي لولا رحمتك ما حل بساحته .
من هنا إلى آخر الدعاء لا شيء وراء المعنى الظاهر ، لذا نوجز ، ولا نطيل ( ثم فللت ) : كسرت ، أو ثلمت ( وأعليت كعبي عليه ) الكعب : قبة القدم ، وعقدة القصب ، وغير ذلك . والمراد هنا رفعت شأني على شأنه ( وجعلت ما سدده . . . ) : رددت كيده إلى نحره ( غليله ) : حقده ، وغيظه : « قل موتوا بغيظكم » (1)( على شواه ) : على
= إلى ( 41 ) بيتاً وقال آخر ( 30 ) وقال ثالث ( 29 ) ورابع ( 27 ) وخامس ( 28 ) وسادس ( 39 ) وقيل ( 20 ) و( 21 ) و( 23 ) و( 24 ) و( 25 ) و( 26 ) وقيل ( 16 ) وقيل ( 8 ) و( 9 ) و ( 10 ) ومن أراد التحقيق في عدد أبياتها فليراجع المصادر السابقة .
(1) آل عمران : 119 .
في ظلال الصيحيفة السجادية
632
أصابعه . لأن الشوى يطلق على الأطراف من اليدين ، والرجلين ( قد أخلفت سراياه ) : تأخرت جيوشه ، وتقهقرت .
( ووكل بي ) أقام علي عيوناً تراقب ما أقول ، وأفعل ، ويشعر هذا بأن حكام الجور كانوا يتجسسون أخبار أهل البيت عليهم السلام عن طريق العملاء ، والأجراء ( وأظبأ إلي . . . ) قل الشيخ الطريحي في مجمع البحرين ما نصه بالحرف : « في الدعاء : أضبأ إلي إضباء السبع لطريدته أي لجأ إلي ملازماً لي . . . والطريدة بمعنى مفعولة أي مطروده السبع » (1)( الملق ) : التوود الكاذب ( الحنق ) الغيظ ( دغل ) : انطوى على الشر ، والغدر ، والدليل على إرادة هذا المعنى قول الإمام عليه السلام بلا فاصل : « وقبح ما انطوى عليه » ( أركسته لأم رأسه في زبيته ) بضم الزاي : الحفرة ، وأم الرأس : جلدة رقيقة على الدماغ ، والمعنى قلبته على رأسه في حفرته ( ورددته في مهوى حفرته ) عطف تكرار .
( فانقمع ) : فاقهر ( ربق ) بكسر الراء : حبل فيه عرى ، ومعنى الجملة حاول العدو أن يقتنصني بحبله ، وكاد يفوز بما أراد ، ولكن نجوت منه برحمتك ، وعنايتك .
وكم من حاسد قد شرق بي بغصته ، وشجي مني بغيظه ، وسلقني بحد لسانه ، ووحرني بقرف عيوبه ، وجعل عرضي غرضاً لمراميه ، وقلدني خلالاً لم تزل فيه ، ووحرني بكيده ، وقصدني بمكيدته . فناديك يا إلهي مستغيثاً بك ، واثقاً بسرعة إجابتك ، عالماً أنه لا يضطهد من آوى إلى ظل كنفك ، ولا يفزغ من لجأ إلى معقل
(1) انظر ، مجمع البحرين مادة : ( أضبأ ) ، لسان العرب : 1 / 111 ، النهاية : 3 / 69 ، تاج العروس : 1 / 89 .
في ظلال الصيحيفة السجادية
633
انتصارك ، فحصنتني من بأسه بقدرتك . وكم من سحائب مكروه جليتها عني ، وسحائب نعم أمطرتها علي ، وجداول رحمة نشرتها ، وعافية ألبستها ، وأعين أحداث طمستها ، وغواشي كربات كشفتها . وكم من ظن حسن حققت ، وعدم جبرت ، وصرعة أنعشت ، ومسكنة حولت ، كل ذلك إنعاماً ، وتطولاً منك ، وفي جميعه انهماكاً مني على معاصيك . لم تمنعك إساءتي عن إتمام إحسانك ، ولا حجرني ذالك عن ارتكاب مساخطك ، لا تسأل عما تفعل . ( قد شرق ) يقال : شرق بريقه ، أو بالماء إذا غص به ( شجي ) : كل ما اعترض في الحلق ( وحرني ) اشتد علي غيظه ( بقرف ) : بتهمة ( عرضي ) شرفي ( خلالاً ) : خصالاً ( ظل كنفك ) : مناعة جانبك ( وكم من سحائب مكروه . . . ) أسبغت النعم ، وكشفت النقم . وتقدم في الدعاء الخامس والأربعين ، وغيره ( لم تمنعك إساءتي . . . ) عارضتك بالعصيان فعارضتني بالإحسان . تقدم في الدعاء السادس والأربعين ، وغيره .
ولقد سئلت فأعطيت ، ولم تسأل فابتدأت ، واستميح فضلك فما أكديت . أبيت يا مولاي إلا إحساناً ، وامتناناً ، وتطولاً ، وإنعاماً ، وأبيت إلا تقحماً لحرماتك ، وتعدياً لحدودك ، وغفلةً عن وعيدك . فلك الحمد إلهي من مقتدر لا يغلب ، وذي أناة لا تعجل ؛ هذا مقام
في ظلال الصيحيفة السجادية
634
من اعترف بسبوغ النعم ، وقابلها بالتقصير ، وشهد على نفسه بالتضييع . أللهم فإني أتقرب إليك بالمحمدية الرفيعة ، والعلوية البيضآء ، وأتوجه إليك بهما ، أن تعيذني من شر ( كذا ، وكذا ) فإن ذالك لا يضيق عليك في وجدك ، ولا يتكأدك في قدرتك ، وأنت على كل شيء قدير . فهب لي يا إلهي من رحمتك ، ودوام توفيقك ، ما أتخذه سلماً أعرج به إلى رضوانك ، وآمن به من عقابك ، يا أرحم الراحمين . . . . ( ولقد سئلت فأعطيت . . . ) يعطي من سأل ، ومن لا يسأل تحنناً منه ، وكرماً ( واستميح فضلك ) : أطلب عطاءك ( فما أكديت ) : فما قطعت آلاءك ونعماءك ( إلا إحساناً ، وامتناناً ، وتطولا ، وإنعاماً ) المعنى واحد ( وأبيت إلا تقحماً . . . ) إلا إقداماً بلا روية على انتهاك ما حرمت ، والمعنى أبيت أنت يا إلهي إلا ما يليق بكرمك من الإحسان ، وأيضاً أبيت أنا إلا ما يليق بلؤمي من الإساءة . وهذا تكرار لقوله قبل لحظة : « لم تمنعك إساءتي عن إتمام إحسانك » . ( هذا مقام من اعترف . . . ) الاعتراف بالذنب كفارة له . جاء في أصول الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام : « ما خرج عبد من ذنب إلا بإقرار . . . إن الرجل ليذنب الذنب فيدخله الله به الجنة . . . قلت : يدخله الله الجنة ؟ قال : نعم ، إنه ليذنب فلا يزال منه خائفاً ماقتاً لنفسه ، فيرحمه الله ، فيدخله الجنة » (1) . ( بالمحمدية ) : سنة محمد صلى الله عليه وآله
(1) انظر ، الكافي : 2 / 426 ح 3 ، شرح اصول الكافي : 10 / 158 ، الوسائل : 16 / 61 ، عدة الداعي : 223 .
في ظلال الصيحيفة السجادية
635
أي قوله ، وفعله ، وتقريره : « من يطع الرسول فقد أطاع الله » (1)( والعلوية ) : ولاية علي عليه السلام لحديث « من كنت مولاه فعلي مولاه » (2) أي من يطع علياً فقد أطاع الرسول ( وجدك ) بضم الواو : الغنى ( لا يتكأدك ) : لا يشق عليك .
( ودوام توفيقك . . . ) أبداً ، ما من شيء يحدث في الكون إلا وراءه قوة فاعلة توفق ، أو تفرق ، تيسر ، أو تعسر . وما شهدنا إلا بما رأينا ، وجربنا ، وما من شك أنه تعالى لا يقضي ، ويقدر إلا على أساس العلم بالواقع ، والحكمة البالغة .
أللهم إنك خلقتني سوياً ، وربيتني صغيراً ، ورزقتني مكفياً ، أللهم إني وجدت فيما أنزلت من كتابك ، وبشرت به عبادك . . . أن قلت « يا عبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً » (1)، وقد تقدم مني ما قد علمت ، وما أنت أعلم به مني ، فيا سوأتاً مما أحصاه علي كتابك . فلولا الموقف التي أؤمل من عفوك الذي شمل كل . . . لألقيت بيدي ، ولو أن أحداً استطاع الهرب من ربه . . . لكنت أنا أحق بالهرب منك ، وأنت لا تخفي عليك خافية في الأرض ولا في السماء إلا أتيت بها ، وكفى بك جازياً ، وكفى بك حسيباً . أللهم إنك طالبي إن انا هربت ، ومدركي إن أنا فررت ؛ فها أنا ذا بين
(1) الزمر : 53 .
في ظلال الصيحيفة السجادية
638
يديك خاضع ذليل راغم ؛ إن تعذبني فإني لذلك أهل ، وهو يا رب منك عدل ؛ وإن تعف عني فقديماً شملني عفوك ، وألبستني عافيتك . ( أللهم إنك خلقتني سوياً ) : كامل البنية ( وربيتني صغيراً ، ورزقتني مكفياً ) وفي دعاء سيد الشهداء عليه السلام : « أخرجتني إلى الدنيا تاماً سوياً ، وحفظتني في المهد طفلاً صبياً ، ورزقني من الغذاء لبناً مرياً . . . حتى إذا كملت فطرتي ، واعتدلت سريرتي أوجبت علي حجتك بأن ألهمتني معرفتك » (1) ، فنظرت ( فيما أنزلت من كتابك ) وقرأت فيما قرأت : « قل يا عبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم » (2) ، فأقبلت عليك يا إلهي ، وقولك ثقتي ، ورحمتك أملي ، وعفوك رجائي .
( وقد تقدم مني ما قد علمت ) من سوء ما فعلت ، وقلت ، وأضمرت ( فيا سوأتاً ) : يا سوء فعلي ، أو حالي بسبب ما أحصاه علي كتاب الله ( لألقيت بيدي ) أي لولا الأمل بلطف الله ، وعفوه لسقط في يده بمعنى يئس ، وتحير ( ولو أن أحداً استطاع الهرب . . . ) لا يعجزه من طلب ، ولا يفوته من هرب ( إلا أتيت بها . . . ) أي الا علمت بها ، وحاسبت عليها ، وجازيت ( فها أنا ذا بين يديك خاضع . . . ) أشكو إليك ضعفي ، وفقري إلى حلمك ، ورحمتك ( إن تعذبني . . . ) فبعدلك ( وإن تعف . . . ) فبفضلك . وقد تقدم في الدعاء العاشر ، وغيره .
فأسألك أللهم بالمخزون من أسمائك ، وبما وارته الحجب من بهائك ، إلا رحمت هذه النفس الجزوعة ، وهذه الرمة الهلوعة ، التي
(1) انظر ، إقبال الأعمال : 2 / 75 ، بحار الأنوار : 95 / 217 ، صحيفة الإمام الحسين عليه السلام : 168 ، كلمات الإمام الحسين عليه السلام : 794 ، حياة الإمام الحسين عليه السلام : 1 / 168 .
(2) الزمر : 53 .
في ظلال الصيحيفة السجادية
639
لا تستطيع حر شمسك ، فكيف تستطيع حر نارك ؟ والتي لا تستطيع صوت رعدك ؛ فكيف تستطيع صوت غضبك ؟ فارحمني أللهم فإني امرؤ حقير ، وخطري يسير ، وليس عذابي مما يزيد في ملكك مثقال ذرة ؛ ولو أن عذابي مما يزيد في ملكك لسألتك الصبر عليه ، وأحببت أن يكون ذلك لك ؛ ولكن سلطانك أللهم أعظم ، وملكك أدوم من أن تزيد فيه طاعة المطيعين ، أو تنقص منه معصية المذنبين . فارحمني يا أرحم الراحمين ، وتجاوز عني يا ذا الجلال والإكرام ، وتب علي إنك أنت التواب الرحيم . ( فأسألك أللهم بالمخزون من أسمائك ) لله تعالى أسماء ، وصفات لا يعلمها إلا هو ، ولذا قال الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله : « لا أحصي ثناءً عليك ، أنت كم أثنيت على نفسك » (1) . ( من بهائك ) وبهاؤه تعالى عظمته التي لا حد لها ، ولا نهاية ، فكيف يدركها العقل المخلوق المحدود ! ( رحمت هذه النفس الجزوعة ) التي تؤلمها البقة وتقتلها الشرقة ، وتنتنها العرقة كما قال الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام (2) . ( وهذه الرمة ) : البالية ( الهلوعة ) : الجزوعة ( التي لا تستطيع حر شمسك ، فكيف تستطيع حر نارك ؟ ) قال سبحانه : « نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون » (3) وفي نهج البلاغة :
(1) انظر ، مسند أحمد : 1 / 96 ، صحيح مسلم : 2 / 51 ، سنن ابن ماجه : 1 / 373 ح 1179 ، سنن الترمذي : 5 / 187 .
(2) انظر ، نهج البلاغة : 4 / 98 ، الحكمة ( 419 ) ، شرح النهج للمعتزلي : 20 / 62 ، عيون الحكم والمواعظ : 488 .
(3) التوبة : 81 .
في ظلال الصيحيفة السجادية
640
« فكيف إذا كان بين طابقين من نار ، ضجيع حجر ، وقرين شيطان » (1) .
( أللهم فإني امرؤ حقير ، وخطري يسير . . . ) كل القوى ليست بشيء إلى جانب قوتك ، وكمالك ، واذن علام الاهتمام بشأني ، وحسابي ، وعذابي ما دمت انت الاعلى ، وسلطانك الأعظم ، والأقوى ؟ ( ولو أن عذابي مما يزيد في ملكك لسألتك الصبر عليه ، وأجببت أن يكون ذلك لك ) هذه الكلمات واضحة لا تحتاج إلى تفسير ، وذكرناها لنشير إلى أن هذا المعنى بلغ الغاية ، والنهاية في عمقه ، وعظمته ، ويستحيل أن يحسه ، ويدركه إلا من عرف الله ، وأقبل بكله عليه ، وحده دون سواه ، ونهل من نبعه تعالى الذي لا يفيض ، ولا يغيض ، وهنا يكمن سر الجلاء ، والوضوح .
( وملكك أدوم من أن تزيد فيه طاعة . . . ) في نهج البلاغة : « لا ينقص سلطانك من عصاك ، ولا يزيد ملكك من أطاعك ،ولا يرد أمرك من سخط قضاءك ، ولا يستغني عنك من تولى أمرك » (2) .