حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 215

كان زكريا يزورها في المحراب يجد عندها طعاما خاصا ، فياخذه العجب من ذلك ، وعندما سالها يوما ، من اين لك هذا ، فقالت له : هو من عند الله ان الله يرزق ما يشاء بغير حساب ، حيث كان ياتيها رزقها من الجنة .
اصبحت مريم عليها السلام اعظم نساء زمانها وسيدة نسائهم حيث كانت الملائكة تكلمها لعلو مقامها عند الله ... «واذ قالت الملائكة يا مريم ...» (1) .
يبشرها الملائكة ان الله قد اختارها وطهرها واصبحت من المصطفين اثر تقواها وايمانها وعبادتها .
ولادة عيسى بن مريم عليه السلام :


«اذ قالت الملائكة يا مريم ان الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين» (2) .
حملت مريم بعيسى المسيح عليه السلام في زوال يوم الجمعة ، وذلك عندما كانت تتعبد في محرابها هبط عليها الروح الامين جبرئيل بعد ان تمثل لها بشرا سويا ، عندما راته فزعت وارتبكت وقالت : «اني اعوذ بالرحمن منك ان كنت تقيا» قال لها جبرئيل : «انما انا رسول ربك لاهب لك غلاما زكيا» قالت له : «انّى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم اك بغيا» عليها جبرئيل قائلا : «كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان امرا مقضيا» (3) قضي الامر ولا مجال للتفكير وليس الامر لك يا مريم واخذ جبرئيل
1ـ آل عمران : 42.
2ـ آل عمران : 45.
3ـ مريم : 18ـ 21.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 216

ردن قميصها ونفخ فيه فحملت من ساعتها ، وقال تعالى فيها : «ومريم بنت عمران التي احصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدّقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين» (1) .
اختلف المفسرون في مدة حملها ، فقيل : حملت ساعة واحدة ، وقيل : تسع ساعات وكل ساعة بشهر ، وقيل : ستة اشهر ، وقد روي عن ابي عبد الله عليه السلام انه قال : «لم يولد مولود لستة اشهر الا الحسين بن علي عليه السلام ، وعيسى بن مريم عليه السلام» . وفي رواية اخرى : «لم يعش مولود قط ولد لستة اشهر غير الحسين عليه السلام وعيسى بن مريم عليه السلام» ، وقيل غير ذلك (2) .
فاجاءها المخاض ، اي جاءها الطلق ووجع الولادة بعد ان نفخ روح الله في ردنها فالتجات الى جذع النخلة لتستند اليها ، فلما ولدت ، قالت : «يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا فناداها من تحتها الا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا» (3) قيل : كان الذي ناداها جبرئيل وقيل : ابنها عيسى ، كان جبرئيل تحت الاكمة سمع كلامها فناداها وقال لها : لا تحزني قد جعل الله تحتك سريا ، اي نهرا صافيا ، وهزي بجذع النخلة وحركيها يتساقط عليك رطبا جنيا طيبا .
واخيرا رجعت مريم من الصحراء الى المدينة تحمل طفلها على صدرها «فاتت به قومها تحمله» فلما راوا الطفل بين يديها تعجبوا وبهتوا مما راوا وقلقوا بشدة حتى وقع بعضهم في الشك والشبهة ، والبعض الآخر تعجل في القضاء والحكم واطلق عنان لسانه في توبيخها وملامتها ، وقالوا : ان من المؤسف
1ـ التحريم : 12.
2ـ بحار الانوار ج14 ص207، وعلل الشرائع ص79.
3ـ مريم : 24.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 217

ان ترتكبي شيئا منكرا «قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا» وقالوا : «يا اخت هارون ما كان ابوك امرا سوء وما كانت امك بغيا» (1) .
فمع وجود مثل هذا الاب والام الطاهرين ما هذا الوضع الذي نراك عليه ؟ كيف انحرفتي هكذا ـ حيث كانوا يعتقدون ان مريم قد انحرفت ـ سكتت مريم ولم تجبهم بشيء بامر من الله ، واشارت الى وليدها ان كلموه فتعجبوا من تصرفها وتالموا وظنوا انها تسخر منهم ثم غضبوا وقالوا : «كيف نكلم من كان في المهد صبيا» فتكلم الطفل وتمت الحجة ، وظهر الحق وزهق الباطل وثبتت براءة الام وقال : «اني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا» وقال لهم ايضا : «وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا» طلب منهم الشفقة والرحمة لوالدته وعدم اتهامها بشيء فهي بريئة مما تتصورون ، وانا كذلك لم اكون جبارا ولا شقي ولا مستكبرا ولا طاغوتيا ، بل انا رسول لكم من قبل الله تعالى وقلبي رقيق وانا صغير في نفسي ، «واوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا والسلام علي يوم ولدت ويوم اموت ويوم ابعث حيا» (2) .
وطلب عيسى عليه السلام من الله تعالى ورجاه ان يجعل له في هذه الايام الثلاثة من حياته وهي : يوم ولادته ، ويوم موته ، واليوم الذي يبعث فيه ، ايام سعادة وسلامة وان يمن عليه بالشعور والامن والطمانينة حتى يتمكن ان يؤدي رسالته على احسن ما يرام ... فكان كذلك اعطاه الله تبارك وتعالى من العلم والقدرة والمعجزة بحيث كان يبرئ الاكمه والابرص ويحيي الموتى ويشفي المرضى باذن الله تعالى ، وعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل وبعثه الله تعالى الى
1ـ مريم : 28.
2ـ مريم : 33.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 218
بني اسرائيل .

لماذا سمي عيسى عليه السلام بـ «المسيح »:


اختلف المفسرون في انه لِمَ سمي عيسى عليه السلام بالمسيح ، قيل : لانه مسح باليمن والبركة ، وقيل : لانه مسح بالتطهر من الذنبوب ، وقيل : لانه مُسح بدهن زيت بورك فيه كانت الانبياء تمسح به ، وقيل : لانه مسح جبرئيل بجناحه عليه وقت ولادته ليكون عوذة من الشيطان الرجيم ، وقيل : لانه كان يمسح على راس اليتامى ، وقيل : لانه ما كان يمسح بيده على مريض الا ابراه واشفاه من مرضه .

من هم الحواريون :


قال تعالى : «فلما احس عيسى منهم الكفر قال من انصاري الى الله قال الحواريون نحن انصار الله آمنا بالله واشهد بانا مسلمون»(1) .
كان اليهود ينتظرون مجيء عيسى المسيح بعدما بشرهم به موسى عليه السلام قبل ان يولد ، وعندما ولد وبعث فيهم نبيا ، اعلن دعوته واثبتها بالادلة الكافية ، وعندما تعرضت مصالح بني اسرائيل للخطر ، وقفوا ضده واخذوا يصرون على المعارضة والعصيان والمعاندة والانحراف ، فنادى فيهم : من انصارى الى الله ، فاستجاب لندائه نفر قليل ، كانوا مؤمنين واطهارا سماهم القرآن الكريم بـ «الحواريين» لبوا نداء المسيح ووقفوا معه لنشر اهدافه وشريعته المقدسة .
اعلن الحواريون استعدادهم لتقديم كل عون ومساعدة للمسيح وقالوا : نحن انصار الله آمنا بالله ، لم يقولوا نحن انصارك ، بل قالوا : نحن انصار الله ،
1ـ آل عمران : 52.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 219

يريدون ان يعربوا عن منتهى ايمانهم بالتوحيد ويؤكدوا اخلاصهم ، ولا يشم منهم اي رائحة للشرك ، نحن انصار الله ننصر دينه ونريدك ان تكون شاهدا علينا .
و«حواريون» جمع حوري من مادة «حور» بمعنى الغسل والتبييض ، وقد تطلق على الشيء الابيض ، لذلك يطلق العرب على الطعام الابيض «الحواري» ، و«حور» جمع حوراء وهي البيضاء البشرة .
اما سبب تسمية تلاميذ المسيح بالحواريين فقد ذكرت له احتمالات كثيرة منها : كانوا فضلا عن طهارة قلوبهم وصفاء ارواحهم ، كانوا دائبين السعي في تطهير الناس وتنوير افكارهم وغسلهم من ادران الذنوب .
اما اسماؤهم كما جاءت في انجيل متّى ولوقا ، الباب السادس ، فهي : 1ـ بطرس 2ـ اندرياس 3ـ يعقوب 4ـ يوحنا 5ـ فيلوبس 6ـ برتولولما 7ـ توما 8ـ متّى 9ـ يعقوب بن حلفا 10ـ شمعون 11ـ يهوذا اخو يعقوب 12ـ يهوذا الاسخريوطي الذي خان المسيح .
يذكر المرحوم الطبرسي في تفسير «مجمع البيان» ان الحواريين كانوا يرافقون المسيح في رحلاته ، وكلما عطشوا او جاعوا راوا الماء والطعام مهيئا امامهم بامر الله ، فكانوا يرون في ذلك فخرا لهم ايّ فخر ، وسالوا المسيح : اهناك من هو افضل منا ؟ فقال : نعم ، افضل منكم من يعمل بيده وياكل من كسبه .
وعلى اثر ذلك اشتغلوا بغسل الملابس للناس لقاء اجر وانشغلوا بذلك .
وروي ان عيسى بن مريم عليه السلام قال : يا معشر الحواريين لي اليكم حاجة اقضوها لي ، قالوا : قضيت حاجتك يا روح الله ، فقام فغسل اقدامهم ، فقالوا : كنا نحن احق بهذا يا روح الله ، فقال : ان احق الناس بالخدمة العالم ، انما تواضعت هكذا حتى تتواضعوا بعدي في الناس كتواضعي لكم ، ثم قال عيسى عليه السلام :
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 220

بالتواضع تعمر الحكمة لا بالتكبر ، وكذلك في السهل ينبت الزرع لا في الجبل (1) .

هل قتل المسيح عليه السلام او صلب


يجيب الله تعالى على هذا السؤال ويقول : «وما قتلوه وماصلبوه ولكن شبه لهم ...» (2) .
وقال تعالى ايضا :«... يا عيسى اني متوفيك ورافعك الي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا الى يوم القيامة» (3) .
بعد ان اعلن المسيح رسالته واخذ يبلغ ما امره الله تعالى ، اشتد العدوان من قبل بني اسرائيل وارتدوا ونقضوا العهود واتبعوا سبيل الضلال وعمدوا الى قتل الانبياء ، واخذوا يخططون ويتآمرون على قتله ، ويمكرون به ، لكن الله تعالى حفظ حياة نبيه وصان دعوته ورفعه اليه واعاد مكرهم الى نحورهم ... «ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين» (4) .
لم يكتفي الجناة من بني اسرائيل بما ارتكبوه من جنايات في حق الانبياء واصحاب الانبياء والصالحين ، ولم يكتفوا باتهام مريم العذراء الطاهرة حيث الصقوا بها تهمة شنيعة وبهتانا عظيما ، لانها حملت بعيسى عليه السلام باذن الله تعالى من دون اب ، حتى عمدوا على نبي الله ليقتلوه وادعوا بانهم قتلوه وافتخروا بذلك وقالوا : انا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله ـ كناية واستهزاء بقولهم رسول
1ـ بحار الانوار ج14 ص278.
2ـ النساء : 158.
3ـ آل عمران :55.
4ـ آل عمران : 54.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 221

الله ـ وقد كذبوا بدعواهم هذه ، فهم لم يقتلوه ولم يصلبوه ، بل صلبوا شخصا آخر شبيها بعيسى بن مريم عليه السلام ، وقد رد عليهم الله تعالى وكذب دعواهم في قوله تعالى : «وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ...» وقد اختلفوا فيما بينهم في قتل المسيح واشتبه عليهم الحال وظنوا انهم قتلوه بنفسه او قتلوا شخصا آخر شبيه بعيسى وظنوا انهم قتلوه كما تشير الآية المباركة لذلك «... وان الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم الا اتباع الظن ...» وياتي القرآن مرة اخرى ليؤكد بانهم لم يقتلوه ويقول : «وماقتلوه يقينا بل رفعه الله اليه وكان الله عزيزا حكيما» وهو القادر على كل شيء ، مثلما خلقه من غير اب بامكانه ان يحفظه من القتل ويرفعه اليه .
عن علي بن الحسن بن فضال ، عن ابيه ، عن الرضا عليه السلام ، انه قال في حديث طويل وصف الائمة عليهم السلام : «وانهم يقتلون بالسيف ، او بالسم ـ وساق الحديث الى ان قال عليه السلام ـ ما شبه امر احد من انبياء الله وحججه عليهم السلام للناس الا امر عيسى بن مريم وحده ، لانه رفع من الارض حيا ، وقبض روحه بين السماء والارض ، ثم رفعه الى السماء ورد عليه روحه ، وذلك قوله عز وجل : «اذ قال الله يا عيسى اني متوفيك ورافعك الي ومطهرك من الذين كفروا ...» فان اليهود والنصارى اتفقت على انه قتل ، فكذبهم الله عز وجل (1) .
ويذكر القرآن الكريم في سورة اخرى ودليل آخر على عدم قتل المسيح عليه السلام بل قبضه الى الله وابعاده عن البشر ورفعه الى السماء في قوله تعالى : «يا عيسى اني متوفيك ورافعك الي ومطهرك» (2) .
1ـ عيون الاخبار ص118.
2ـ آل عمران : 55.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 222

تاتي هنا معنى كلمة «متوفيك» من الاستيفاء ، وانتهاء المدة ، ليست من «الوفاة والموت» : لان «الفوت» هو بُعد الشيء عن الانسان بحيث يتعذر ادراكه و«الوافي» الذي بلغ التمام ، ووفى بعهده ، اذا اتمه ولم ينقصه ، واذا استوفى احد دينه من المدين قيل : توفى دينه .
وقد وردت كلمة «توفى» في القرآن كرارا ، منها : «هو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار» (1) فهنا عبر عن النوم بكلمة «يتوفاكم ».
وقيل : توفى الميت ، استيفاء مدته التي وفيت له ، وانتهت ايامه وشهوره واعوامه في الدنيا ، وتوفيت المال منه ، اي استوفيته اذا اخذته كله (2) .
ومعنى قوله تعالى : «... اني متوفيك ورافعك الي ...» اي : يا عيسى اني سوف استوفيك وارفعك الي ، وهذا يعني حياة عيسى لا موته ، فتامل .
وقوله تعالى : «ومطهرك من الذين كفروا» اي هو انقاذه من ايدي عديمي الايمان الخبثاء البعيدين عن الحق والحقيقة الذين كانوا يوجهون انواع التهم التي تلوث سمعة المسيح عليه السلام ويحوكون المؤامرات ويخططون الخطط الشيطانية من اجل القضاء عليه ، فنصره الله وطهره من تلك التهم والمؤامرات .
وعلى هذا نرى القرآن الكريم يؤكد في آياته المباركة بان المسيح عليه السلام لم يقتل ولم يصلب ، بل اشتبه الامر على اليهود فظنوا انهم صلبوه .
والمسيحيون اليوم في اناجيلهم الاربعة الموجودة في متناول ايديهم ، يعتقدون بان المسيح قد صلب وقتل ، ولم يكتفوا بذلك ولم يعتبرونه مجرد نبي ارسل لهداية وارشاد البشرية ، بل يعتقدون بانه «الله» او »ابن الله« وواحد من
1ـ الانعام : 60.
2ـ لسان العرب ج15 ص359 كلمة وَفي .
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 223

اركان الثالوث المقدس لديهم ، وانما جاء الى هذا العالم ليكون قربانا يفتدي بنفسه مقابل الخطايا والآثام التي يرتكبها البشر .
ويقولون : انه جاء ليضحي بنفسه من اجل ذنوبهم وخطاياهم ، وقد صلب وقتل ليغسل بدمه ذنوب البشر ولينقذ البشرية من العقاب .
ولذلك يسمون المسيح عليه السلام بـ «المنقذ» او «المخلص» او «الفادي» ، ولذلك يصرون على قتل المسيح وصلبه حتى يمرروا هذه الشعارات والاعتقادات الزائفة بين الامة والشعوب المسيحية .
ومن المعروف لدى المسلمين جميعا وكثير من علماء وعقلاء المسيح ، ان الاناجيل الاربعة المتداولة في الوقت الحاضر والتي تشهد بصلب المسيح كلها محرفة ، وقد دونت بعد المسيح بسنين طويلة ، وقد دونها حواريوه وبعض انصاره ، وهذه الحقيقة يعترف بها المؤرخون المسيحيون انفسهم .
ويروى في انجيل «متى» الاحتجاج 26 الجملة 57، ان حواريّ المسيح عليه السلام قد هربوا حين هجم الاعداء على المسيح ، والاناجيل تشهد بهذا الامر وعلى هذا فان هؤلاء الحواريين سمعوا بقتل المسيح من افواه الناس ونقلوه ، ولم يكونوا هم حاضرين وشاهدين القتل والصلب .
وكذلك تذكر بعض الاناجيل ، غير الاناجيل الاربعة ، مثل انجيل «برنابا» نفت قضية صلب المسيح عليه السلام ، وكما ان بعضا من الطوائف المسيحية ابدت شكوكها حول قضية الصلب ، وذهب البعض ابعد من هذا ، فادعوا بان التاريخ قد ذكر شخصين باسم «عيسى» احدهما عيسى المصلوب والاخر هو »عيسى« غير المصلوب ، وبينهما فاصل زمني يقدر بـ «خمسمائة سنة ».
وعلى اي حال فقد اختلف المفسرون والعلماء والكتّاب في امر
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 224

المسيح عليه السلام ، حتى علماء المسيحيين هم انفسهم في شك من امرهم ، فلم يؤمن احدهم بقول نفسه ، بل كانوا ولا يزالوا يتبعون الظن والاوهام .
«وان الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم الا اتباع الظن» (1) .
وعلى هذا نرى الاختلافات فيما بينهم ، حيث يقول البعض هو واحد من ثلاث ، وقال البعض هو ابن الله ، وقال البعض هو روح الله ، وقيل : يد الله... كما قال البعض : قتل وقيل : صلب ، وقيل : مات وبعد ذلك رجعت روحه وسوف يعود ، الى غير ذلك من الاقوال والتحليلات والتكهّنات .
وافضل ما نتمسك به هو قول الله تعالى في كتابه الكريم «الذي لا ياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه» (2) ويؤكد بان المسيح عليه السلام لم يقتل ولم يصلب ولم يموت ، بل اشتبه عليهم الامر ، فظنوا انهم صلبوه... «وقولهم انا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وان الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم الا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله اليه» .
واقول لك يا عزيزي القارئ : اقرا وارقا ، فكر وتامل في آيات الله من كتاب الله ونور قلبك وتحرر من قيودك ، وانظر الى قوله تعالى ما يقول فيهم :
«وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بافواههم يضاهؤن قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله انى يؤفكون * اتخذوا احبارهم ورهبانهم اربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما امروا
1ـ النساء : 157.
2ـ فصلت : 42.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 225

الا ليعبدوا الها واحدا لا اله الا هو سبحانه عما يشركون * يريدون ان يطفؤُا نور الله بافواههم ويابى الله الا ان يتم نوره ولو كره الكافرون * هو الذي ارسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون * يا ايها الذين آمنوا ان كثيرا من الاحبار والرهبان لياكلون اموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب اليم» (1) .

طمعه قتله :


في هذه القصة القصيرة حكمه وموعظة بليغة جدا لنتيجة طمع الانسان الذي يؤدي به الى الهلاك علينا ان نتعظ ونعتبر .
عن الصادق جعفر بن محمد عليه السلام : ان عيسى ابن مريم عليه السلام توجه في بعض حوائجه ومعه ثلاثة نفر من اصحابه فمر بلبنات ثلاث من ذهب على ظهر الطريق فقال عيسى عليه السلام لاصحابه : ان هذا يقتل الناس ثم مضى ، فقال احدهم : ان لي حاجة ، قال : فانصرف ، ثم قال الآخر ان لي حاجة فانصرف ، ثم قال الآخر : لي حاجة فانصرف ، ، فوافوا عند الذهب ثلاثتهم ، فقال اثنان لواحد : اشتر لنا طعما ، فذهب يشتري لهما طعاما فجعل فيه سما ليقتلهما كيلا يشاركاه في الذهب ، وقال الاثنان : اذا جاء قتلناه كي لا يشاركنا ، فلما جاء قاما اليه فقتلاه ثم تغذيا فماتا ، فرجع اليهم عيسى عليه السلام وهم موتى حوله ، فاحياهم باذن الله تعالى ذكره ثم قال : الم اقل لكم ان هذا يقتل الناس ؟ (2)
1ـ التوبة : 30ـ 34.
2ـ بحار الانوار ج14 ص284.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 226

وصايا عيسى عليه السلام لاصحابه :


قال عيسى بن مريم عليه السلام لاصحابه : يا بني ادم اهربوا من الدنيا الى الله ، واخرجوا قلوبكم عنها ، فانكم لا تصلحون لها ولا تصلح لكم ، ولاتبقون فيها ولا تبقى لكم .
هي الخداعة الفجاعة ، المغرور من اغتر بها ، المغبون من اطمان اليها ، الهالك من احبها وارادها .
فتوبوا الى بارئكم ، واتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ، ولا مولود هو جاز عن والده شيئا .
اين اباؤكم ؟ اين امهاتكم ؟ اين اخوتكم ؟ اين اخواتكم ؟ اين اولادكم ؟
دعوا فاجابوا ، واستودعوا الثرى ، وجاوروا الموتى ، وصاروا في الهلكى ، خرجوا عن الدنيا ، وفارقوا الاحبة ، واحتاجوا الى ما قدموا واستغنوا عما خلفوا ، فكم توعظون وكم تزجرون وانتم لاهون ساهون .
مثلكم في الدنيا مثل البهائم ، همتكم بطونكم وفروجكم ، اما تستحيون ممن خلقكم وقد اوعد من عصاه النار ، ولستم ممن يقوي على النار ، ووعد من اطاعه الجنة ومجاورته في الفردوس الاعلى ، فتنافسوا فيه ، وكونوا من اهله ، وانصفوا من انفسكم ، وتعطفوا على ضعفائكم واهل الحاجة منكم .
توبوا الى الله توبة نصوحا ، وكونوا عبيدا ابرارا ، ولا تكونوا ملوكا جبابرة ، ولا من العتاة الفراعنة المتمردين على من قهرهم بالموت ، جبار الجبابرة رب السماوات ورب الارضين ، واله الاولين والاخرين مالك يوم الدين ، شديد العقاب ، اليم العذاب ، لا ينجوا منه ظالم ولا يفوته شيء ، ولا يعزب عنه شيء ، ولا يتوارى منه شيء ، احصى كل شيء علمه وانزله منزلته في جنة او نار .
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 227

ابن ادم الضعيف ! اين تهرب ممن يطلبك في سواد ليلك وبياض نهارك وفي كل حال من حالاتك ؟ قد ابلغ من وعظ ، وافلح من اتعظ (1) .

وصايا الله تعالى لعيسى عليه السلام :


هذه بعض الوصايا القدسية التي اوصى الله تبارك وتعالى بها نبيه عيسى بن مريم عليهما السلام وهي كما تعلمون لا يخص بها عيسى عليه السلام فقط ، بل هي وصايا لكل ابناء البشر .
يجب علينا ان نتعض ونعمل بها حتى نكون من المتمسكين بحبل الله ونكون سعداء في الدنيا والاخرة .
يا عيسى انا ربك ورب ابائك اسمي واحد وانا الاحد المتفرد بخلق كل شيء وكل شيء من صنعي وكل خلقي الي راجعون .
يا عسى انت المسيح بامري وانت تخلق من الطين كهيئة الطير باذني وانت تحيي الموتى بكلامي فكن الي راغبا ومني راهبا فانك لن تجد مني ملجا الا الي .
يا عيسى اوصيك وصية المتحنن عليك بالرحمة حين حقت لك مني الولاية بتحريك مني المسرة فبوركت كبيرا وبوركت صغيرا حيثما كنت اشهد انك عبدي ابن امتي .
يا عيسى انزلني من نفسك كهمك واجعل ذكري لمعادك وتقرب الي بالنوافل وتوكل علي اكفك ولا تول غيري فاخذلك .
يا عيسى اصبر على البلاء وارض بالقضاء وكن كمسرتي فيك فان مسرتي
1ـ بحار الانوار ج 14 ص 288 .
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 228

ان اطاع فلا اعصى .
يا عيسى احي ذكري بلسانك وليكن ودي في قلبك . يا عيسى تيقظ في ساعات الغفلة واحكم لي بلطيف الحكمة .
يا عيسى كن راغبا وراهبا وامت قلبك بالخشية . يا عيسى راع الليل لتحري مسرتي واظما نهارك ليوم حاجتك عندي . يا عيسى نافس في الخير جهدك لتعرف بالخير حيثما توجهت .
يا عيسى احكم في عبادي بنصحي وقم فيهم بعدلي فقد انزلت عليك شفاء لما في الصدور من مرض الشيطان .
يا عيسى لا تكن جليسا لكل مفتون . يا عيسى حقا اقول ما امنت بي خليقة الا خشعت لي وما خشعت لي الا رجت ثوابي فاشهدك انها امنة من عقابي مالم تغير اول تبدل سنتي .
يا عيسى ابن البكر البتول ابك على نفسك بكاء من قد ودع الاهل وقلى الدنيا وتركها لاهلها وصارت رغبته فيما عند الله .
يا عيسى كن مع ذلك تلين الكلام ، وتفشي السلام ، يقظان اذا نامت عيون الابرار حذارا للمعاد والزلازل الشداد ، واهوال يوم القيامة حيث لا ينفع اهل ولا ولد ولا مال .
يا عيسى اكحل عينيك بميل الحزن اذا ضحك البطالون . يا عيسى كن خاشعا صابرا فطوبى لك ان نالك ما وعد الصابرون .
يا عيسى رح (1) من الدنيا يوما فيوما وذق ما قد ذهب طعمه فحقا اقول ما
1ـ اي : اقطع عنك كل يوم شيئا من تعلقك في الدنيا .
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 229

انت الا بساعتك ويومك فرح من الدنيا (1) بالبلغة ، وليكفك الخشن الجشب(2) ، فقد رايت الى ما تصير ، ومكتوب ما اخذت وكيف اتلفت . يا عيسى انك مسؤول فارحم الضعيف كرحمتي اياك ، ولا تقهر اليتيم .
يا عيسى ابك على نفسك في الصلاة وانقل قدميك الى مواضع الصلوات واسمعني لذاذة نطقك بذكري فان صنيعي اليك حسن . يا عيسى كم من امة قد اهلكتها بسالف ذنب قد عصمتك منه .
يا عيسى ارفق بالضعيف وارفع طرفك الكليل (3) الى السماء وادعني فاني منك قريب ولا تدعني الا متضرعا الي وهمك هم واحد ، فانك متى تدعني كذلك اجبك .
يا عيسى اني لم ارض بالدنيا ثوبا لمن كان قبلك ولا عقابا لمن انتقمت منه . يا عيسى انك تفني وانا ابقى ومني رزقك وعندي ميقات اجلك ، والي ايابك ، وعلي حسابك ، فاسالني ولا تسال غيري ، فيحسن منك الدعاء ، ومني الاجابة .
يا عيسى ما اكثر البشر واقل عدد من من صبر ! الاشجار كثيرة وطيبها قليل . فلا يغرنك حسن شجرة حتى تذوق ثمرتها .
يا عيسى لا يغرنك المتمرد علي بالعصيان ، ياكل زرقي ويعبد غيري ، ثم يدوني عند الكرب فاجيبه ، ثم يرجع الى ما كان ، افعلي يتمرد ، ام لسخطي يتعرض ؟ فبي حلفت لاخذنه اخذه ليس له منها منجي، ولا دوني ملتجا ، اين يهرب ؟ من سمائي وارضي ؟
1ـ اي : اترك الدنيا واكتفي منها بالكفاف .
2ـ اي : الخشن من الثياب والجشب من الطعام .
3ـ اي : لا تحدق النظر الى السماء حياء بل انظر بتخشع .
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 230

يا عيسى قل لظلمة بني اسرائيل لا تدعوني والسحت تحت احضانكم (1) ، والاصنام في بيوتكم ، فاني وأيت ان اجيب من دعاني ، وان اجعل اجابتي اياهم لعنا عليهم حتى يتفرقوا .
يا عيسى كم اجمل النظر (2) واحسن الطلب والقوم في غفلة لا يرجعون ، تخرج الكلمة من افواههم لا تعيها قلوبهم ، يتعرضون لمقتي ، ويتحببون بي الى المؤمنين .
يا عيسى ليكن لسانك في السر والعلانية واحدا وكذلك فليكن قلبك وبصرك ، واطو قلبك ولسانك عن المحارم ، وغض طرفك عما لا خير فيه فكم ناظر نظرة زرعت في قلبه شهوة ، ووردت به موارد الهكلة !
يا عيسى كن رحيما مترحما وكن للعباد كما تشاء ان يكون العباد لك ، واكثر ذكر الموت ومفارقة الاهلين . ولا تله فان اللهو يفسد صاحبه ، ولا تغفل فان الغافل مني بعيد ، واذكرني بالصالحات حتى اذكرك .
يا عيسى تب الي بع الذنب ، وذكر بي الاوابين ، وامن بي ، وتقرب الي المؤمنين ، ومرهم يدعوني معك ، واياك ودعوة المظلوم فاني وايت (3) على نفسي ان افتح لها بابا من السماء وان اجيبه ولو بعد حين .
يا عيسى اعلم ان صاحب السوء يغوي (4) ، وان قرين السوء يردي (5) ، فاعلم من تقارن ، واختر لنفسك اخوانا من المؤمنين ، يا عيسى تب الي فانه لا
1ـ الحضن : تحت الابط الى السرة ووسط الظهر ، كناية عن خبط الحرام وعدم رده الى اهله .
2ـ في الكافي : كم اطيل النظر .
3ـ في الكافي : اليت .
4ـ اي : يعدي صاحبه اخلاقه الذميمة .
5ـ اي يهلك .
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 231

يتعاظمني ذنب ان اغفره وانا ارحم الراحمين .
يا عيسى اعمل لنفسك في مهلة من اجلك قبل ان لا يعمل لها غيرك واعبدني ليوم كالف سنة مما تعدون فاني اجزي بالحسنة اضعافها ، وان السيئة توبق صاحبها ، وتنافس في العمل الصالح ، فكم من مجلس قد نهض اهله وهم مجارون من النار .
يا عيسى ازهد في الفاني المنقطع وطئ رسوم منازل من كان قبلك فادعهم وناجهم هل تحس منهم من احد ، فخذ موعظتك منهم ، واعلم انك ستحلقهم في اللاحقين .
يا عيسى قل لمن تمرد بالعصيان وعمل بالادهان يستوقع عقوبتي ، وينتظر اهلاكي اياه سيصطلم (1) مع الهالكين ، طوبى لك يا ابن مريم ثم طوبى لك ان اخذت بادب الهك الذي يتحنن عليك ترحما ، وبداك بالنعم منه تكرما ، وكان لك في الشدائد ، لا تعصه .
يا عيسى فانه لا يحل لك عصيانه قد عهدت اليك كما عهدت الى من كان قبلك وانا على ذلك من الشاهدين .
يا عيسى ما اكرمت خليقة بمثل ديني ، ولا انعمت عليها بمثل رحمتي . يا عيسى اغسل بالماء منك ما ظهر ، وداو بالحسنات منك ما بطن ، فانك الي راجع .
يا عيسى اعطيتك ما انعمت به عليك فيضا من غير تكدير ، وطلبت منك قرضا لنفسك فبخلت به عليها لتكون من الهالكين .
يا عيسى تزين بالدين ، وحب المساكين ، وامش على الارض هونا ، وصل على البقاع فكلها طاهر .
1ـ اي الاستيصال .

السابق السابق الفهرس التالي التالي