حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 124

وقال لهم : انكم تقولون : ان كوكب الزهرة هذا هو ربي ، والبعض يقول ان الشمس هو ربي ، وكيف للرب ان يختفي ويغيب خلف الافق المظلم ، عندئذ اتخذ ابراهيم من هذا الافول سلاحا يواجههم به فقال : انا لا يمكنني ان اتقبل معبودا يافل كهذا .
وعليه فان عبارة «هذا ربي» تفي : هذا ما تعتقدونه انه ربي ، او قالها بلهجة الاستفهام : «هذا ربي ؟» فاخذ ابراهيم عليه السلام يحاج ازر وقومه في عبادة الاصنام ويدعوهم الى عبادة الله سبحانه وتعالى ، وطلب من ابيه آزر «عمه» ان يتبعه حتى يهديه الى الصراط المستقيم ، ولم يزل يحاجه ويلح عليه حتى زبره وطرده وهدده واوعده ان يرجمنه ان لم ينته عن ذكر الهته بسوء .
فتلطف ابراهيم عليه السلام ارفاقا به وحنانا عليه ، ووعده ان يستغفر له ربه .
وكذلك كان يحاج قومه في امر عبادة الكواكب وافولها واثبت لهم بطلان عقيدتهم بقوله : «انا لا احب الآفلين» لان الالوهية والربوبية تلازمان المحبوبية ، والحب ارتباط حقيقي بين الرب والمربوب ، وحب المربوب لربه يجعله ينجذب نحوه اكثر فاكثر ويتبعه تكوينيا ويقترب منه ، فاذا غاب هذا المحبوب وافل سوف ينقطع حبل الاتصال به ويتغير عن جماله ويبتعد عنه .
فمن الواجب ان يكون الرب ثابت الوجود غير متغير الاحوال .
وقد ورد عن الامام الصادق عليه السلام : «هل الدين الا الحب» .
هل كان آزر ابا لابراهيم عليه السلام :


قيل ان آزر المعروف عنه كان ابا ابراهيم عليه السلام كما ذكره القران الكريم في ظاهر قوله تعالى : «واذ قال ابراهيم لابيه ازر اتتخذ اصناما ، ءالهة اني اراك
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 125
وقومك في ضلال مبين» (1) .
اختلف المفسرون في ذلك ، ولكن الظاهر من الادلة القرآنية والروايات الواردة ان ابا ابراهيم عليه السلام هو : «تارخ» كما جاء في التوراة الموجودة ايضا ، وان «آزر» هو عم ابراهيم عليه السلام ، وان والده كان موحدا غير مشرك ، وكما ورد ان آباء النبي محمد صلى الله عليه واله وسلم كانوا جميعا موحدين غير مشركين ، وذلك ما جاء في قوله تعالى : «الذي يراك حين تقوم ، وتقلبك في الساجدين» (2) .
قيل : معناه ان روح محمد صلى الله عليه واله وسلم كان ينقلها الله تعالى من ساجد الى ساجد ، وعلى هذا فالآية دالة على ان جميع آباء النبي محمد صلى الله عليه واله وسلم كانوا مسلمين يسجدون لله عز وجل ، وحينئذ يجب القطع بان والد ابراهيم عليه السلام كان مسلما . «... ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين» (3) .
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم انه قال : «لم ازل انقل من اصلاب الطاهرين الى ارحام الطاهرات» (4) .
وقد قال اهل اللغة : ان كلمة «الاب» ربما تطلق على الجد والعم وغيرهما وذلك في قوله تعالى لما قال يعقوب لابناءه لما حضره الموت «... ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد الهك واله ءابائك ابراهيم واسماعيل واسحاق ...» (5) .
فابراهيم جد يعقوب واسماعيل عمه وقد اطلق على كل منهما الاب ،
1ـ الانعام : 74.
2ـ الشعراء : 219.
3ـ ال عمران : 68.
4ـ مفاتيح الغيب ج4 ص72.
5ـ البقرة : 133.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 126

وكذلك قول يوسف عليه السلام : «واتبعت ملة آباءي ابراهيم واسحاق ويعقوب» (1) فاسحاق جد يوسف وابراهيم جد ابيه وقد اطلق على كل منهما الاب .
فقد تحصل من هذا : ان آزر الذي تذكره الآية ليس ابا لابراهيم عليه السلام حقيقة ، وانما كان معنونا ببعض الاوصاف التي تصح اطلاق الاب عليه ، وان يخاطبه ابراهيم بيا ابت ، كما ورد في اللغة ان يمكن اطلاق الاب على الجد والعم وزوج الام بعد ابيه وكل من يتولى امور شخص ، وكل كبير مطاع .
وان والد ابراهيم عليه السلام الحقيقي غير آزر ، لكن القرآن لم يصرح باسمه لحكمة ما .
وقد ذكرنا انه ورد في التوراة والروايات ان اسمه «تارخ» وقيل : ان ابراهيم بن تارخ بن ناحور بن سروج بن ... ابن سام بن نوح ؟» .
وقيل : انه ولد في ور الكلدانيين حدود سنة الفين تقريبا قبل الميلاد .

نمرود وام ابراهيم عليه السلام :


روي انه لما كسر ابراهيم عليه السلام الاصنام وعلق الفاس في عنق كبيرهم واخبروا الملك نمرود بذلك ، ارسل على آزر فجاؤوا به ، فقال له الملك ، خنتني يا آزر وكتمت هذا الولد عني ، فقال : ايها الملك هذا عمل امه ـ «كانت قد اتفقت مع آزر انها تقوم بالدفاع عنه اذا فشى امره» ـ فدعا نمرود ام ابراهيم فقال لها : ما حملك على ان تكتمي عني امر هذا الغلام حتى فعل بآلهتنا ما فعل ؟
فقالت ايها الملك : نظرا مني لرعيتك .
قال : وكيف ذلك ؟ قالت : رايتك تقتل اولاد رعيتك فكان يذهب النسل ،
1ـ يوسف : 38.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 127

فلما ولدت هذا الغلام اخفيته وقلت : ان كان هذا الذي يطلبه الملك دفعته اليه ليقتله ويكف عن قتل اولاد الناس ، وان لم يكن ذلك فبقي لنا ولدنا ، وقد ظفرت به فشانك ، فكف عن اولاد الناس .
فصوب رايها وعفى عن ابراهيم ولم يقتله .
وبهذه الطريقة الذكية تخلصت ام ابراهيم من بطش نمرود وخلصت نفسها وآزر من القتل ، وسلمت امر ابنها ابراهيم الى الله ، وقد انجاه الله من نار نمرود وجعلها بردا وسلاما ...

تبليغ الرسالة :


لما كبر ابراهيم عليه السلام اخرجته امه من الغار وجاءت به الى البيت وادخلته على آزر ، نظر اليه فقال : من هذا الصبي وكيف بقي ولم يقتل .
قالت : هذا ابني ولدته وقت كذا وكذا .
فقال : ويحك ان علم الملك به زالت منزلتنا عنده ، قالت : لا عليك ان لم يشعر الملك به بقي لنا ولدنا وان شعر به كفيتك الاحتجاج عنه .
وكان آزر كلما نظر الى ابراهيم احبه حبا شديدا ، وكان يدفع اليه الاصنام ليبيعها مع اخوته كما يبيع اخوته ، «وكان آزر وزير نمرود ، وكان يتخذ الاصنام له وللناس ويدفعها الى ولده فيبيعونها وكان على دار الاصنام» .
كان ابراهيم عليه السلام لما ياخذ الاصنام للبيع يعلق في اعناقها الخيوط ويجرها على الارض ويقول : من يشتري ما لا يضره ولا ينفعه ؟ ويفرقها في الماء ويقول لها : اشربي وتكلمي ، ويكسر ارجلها وايديها .. .
فذكر اخوته ذلك لابيه فنهاه فلم ينته ، فحبسه في منزله ولم يدعه ان
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 128

يخرج .
كانت هذه اول رسالة تبليغية قام بها ابراهيم عليه السلام في قومه ليقول لهم ، ان هذه الاصنام التي تعبدونها لا تنفع ولا تضر ولا تسمع ولا تشعر .. .
وقد فند كل اعتقاداتهم بعبادة الاصنام والكواكب والشمس والقمر ، وقال لهم : كيف تعبدون ربا يغيب عن الوجود ويختفي لا حول له ولا قوة .. .
وكان يبرهن لهم ذلك عن طريق الوجدان والعقل بان هذه الاصنام والاوثان التي تعبدونها من دون الله لا تنفع ولا تضر ، بل هناك قوة قاهرة ووجود ازلي ، وقدرة فائقة على كل القدرات هو الله الواحد الاحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ، خلق كل هذه الكائنات وهو على كل شيء قدير .

المعجزة الخالدة


كان لنمرود وقومه عيد يخرجون في كل سنة خارج المدينة واذا رجعوا منه دخلوا على الاصنام فيسجدون لها ، فقالوا لابراهيم : الا تخرج معنا ؟ فخرج ، فلما كان في بعض الطريق قال لهم : اشتكي رجلي ولا يمكنني مواصلة السير ، فرجع الى المدينة ودخل على اصنامهم فكسرها جميعا وترك كبيرهم وعلق الفاس في رقبته وخرج .
فلما رجع القوم من عيدهم فوجدوا اصنامهم مكسرة ، قالوا : من فعل هذا بآلهتنا انه لمن الظالمين .
قال احدهم : اني سمعت ابراهيم يعيب آلهتنا ويقول انها لا تنفع ولا تضر ولا تبصر ولا تسمع ، فهو الذي كسرها .
فذهبوا الى ملكهم نمرود واخبروه ، فبعث خلفه وقال : من فعل هذا
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 129

بآلهتنا .
قال ابراهيم عليه السلام فعله كبيرهم هذا فاسئلوهم ان كانوا ينطقون .
فرجعوا الى انفسهم عندما سمعوا قول ابراهيم ونكسوا رؤوسهم واخذوا يفكرون في الامر وآمن البعض منهم وصدقوا ابراهيم فيما قال لهم في عبادة الله تعالى .
لما راى نمرود هذا الموقف ، وسمع اعتراض بعض اصحابه على ابراهيم وقولهم «احرقوه وانصروا آلهتكم» امر نمرود بجمع الحطب واضرام النار والقاء ابراهيم فيها .
فلما اشعلوا النار وكان لهيبها مرتفع جدا ، حاروا كيف يلقون ابراهيم فيها ، فجاء ابليس وعلمهم صنع المنجنيق ، «وهو اول منجنيق صنعت» ، فوضعوه فيها ثم رموه ، ولكن الله تعالى انجاه من الحريق وجعل النار عليه بردا وسلاما .. «قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على ابراهيم» (1) .
قال الامام الصادق عليه السلام : «لما اجلس ابراهيم في المنجنيق وارادوا ان يرموا به في النار اتاه جبرئيل فقال : السلام عليك يا ابراهيم ورحمة الله وبركاته ، الك حاجة ؟ فقال : اما اليك فلا فلما طرحوه دعا الله فقال : (يا الله يا واحد يا احد يا صمد يا من لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد) فحسرت(2) النار عنه وانه لمحتبى ومعه جبرئيل وهما يتحدثان في روضة خضراء . (3)
وقيل : ان ابراهيم عليه السلام لما القي في النار كان عمره ست عشر سنة ، وبعد ذلك
1ـ الانبياء : 69.
2ـ فحسرت : اي انكشفت عنه ، واحتبى : اي اشتمر بالثوب وجمعه عليه من شدت البرد .
3ـ البحار : ج12 ص24.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 130

سلط الله على نمرود وخيله البعوض حتى اخذت لحومهم وشربت دمائهم فاهلكتهم ، ودخلت واحدة من البعوض في دماغ نمرود حتى اهلكته (1) وبقيت هذه المعجزة خالدة تتناقلها الاجيال والى ان تقوم الساعة

محاجة ابراهيم عليه السلام لنمرود :


كان القوم يعبدون نمرود ويتخذونه ربا ، كما كان هو يدعي ذلك ايضا ، فحاجه ابراهيم عليه السلام فقال له : ربي الذي يحيي ويميت ، فغالطه الملك وقال : انا احيي واميت : فدعى باسيرين فمن قد وجب عليهما القتل ، اطلق سراح احدهما وقتل الاخر .
فقال له ابراهيم : ان الله ياتي بالشمس من المشرق فات بها من المغرب ، فبهت الذي كفر وخسر المناضرة .
ولما انتصر ابراهيم عليه السلام على نمرود اخذ يدعو الناس الى دين الله الحنيف دين التوحيد فآمن البعض منهم ، وكان من بينهم لوطا وزوجة ابراهيم هاجر ، وتبرا ابراهيم من آزر الذي كان يدعوه ابا له ، ولم يكن بوالده الحقيقي ، وبعد ذلك هاجر ومعه زوجته ولوط الى الارض المقدسة ليبلغ رسالته ويدعو الله من غير معارض يعارضه .

دعاء المخلوقات لابراهيم عليه السلام :


روي انه لما ارادوا احراق ابراهيم عليه السلام لم يبقى شيء الا طلب من الله ان يخلصه من النار .
1ـ مجمع البيان ج7 ص55.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 131

قالت الارض : يا رب ليس على ظهري احد يعبدك غيره فيحرق ؟
وقالت الملائكة : يا رب خليلك ابراهيم يحرق ؟
فقال الله عز وجل : ان دعاني كفيته .
وقال جبرئيل : يا رب خليلك ابراهيم ليس على الارض احد يعبدك غيره ، سلطت عليه عدوه يحرقه بالنار ، فقال تعالى : اسكت انما يقول هذا عبد مثلك يخاف الفوت ، هو عبدي آخذه اذا شئت ، فان دعاني اجبته .
فدعى ابراهيم عليه السلام ربه بسورة الاخلاص : وقال : «يا الله يا واحد يا احد يا صمد يا من لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد ، نجني برحمتك من النار» .
قال : فالتقى جبرئيل معه في الهواء وقد وضع في المنجنيق فقال : يا ابراهيم هل لك الي حاجة ؟ فقال ابراهيم : اما اليك فلا ، واما الى رب العالمين فنعم ، فدفع اليه خاتما مكتوب عليه : «لا اله الا الله ، محمد رسول الله ، الجات ظهري الى الله ، واسندت امري الى الله ، وفوضت امري الى الله» .
فاوحى الله الى النار : «يا نار كوني بردا وسلاما على ابراهيم» (1) فنزل جبرئيل وجلس معه يحدثه في النار وهم في روضة خضراء . وكان الوزغ ينفخ في النار ليطفئها .
وكان الضفدع يذهب بالماء ليطفئ به النار .
كل هذا حبا لابراهيم عليه السلام .

خروج ابراهيم عليه السلام من قومه :


ان ابراهيم عليه السلام لما كسر الاصنام وعاب آلهتهم ، وامر نمرود ان يلقوه في
1ـ الانبياء : 69.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 132

النار ، وانقذه الله منها ، بعد ذلك امر نمرود ان ينفوه من بلاده ، فاخرجوه هو وزوجته سارة ولوطا .
كانت سارة صاحبة ماشية كثيرة وارض زراعية واسعة وكانت قد ملكت ابراهيم زوجها جميع ما تملكه ، فقام فيه واصلحه وكثرت الماشية والزرع حتى صار ثريا جدا لم يوجد اثرى منه ولما ارادوا ان ينفوه امر نمرود ان يمنعوه من اخراج ماشيته واملاكه ، فحاجهم ابراهيم في ذلك ، واختصموا الى قاضي نمرود فقضى لصالح ابراهيم عليه السلام ، فاخبروا نمرود بذلك ، فامرهم ان يخلوا سبيله وسبيل ماشيته وامواله وان يخرجوه ، وقال لهم : انه ان بقي في بلادكم افسد دينكم واضر بآلهتكم فاخرجوه هو وزوجته ولوطا وما يملك ... .
وقال لهم ابراهيم عليه السلام : «اني ذاهب الى ربي سيهديني» وذهب الى بلاد الشام ، يعني بيت المقدس .

زواجه من هاجر وولادة اسماعيل :


لما خرج ابراهيم عليه السلام من سلطان نمرود ، استقر في سلطان رجل من القبط يقال له «عرارة» ، فلما استقر في ملكه اعجبته غيرة ابراهيم وايمانه اهدى الملك جارية قبطية الى سارة زوجة ابراهيم عليه السلام وكانت حسناء وجميلة اسمها هاجر .
ثم ان ابراهيم لما ابطا عليه الولد قال لسارة : لو شئت لبعتني هاجر لعل الله ان يرزقنا منها ولدا فيكون لنا خلفا ، فوافقت سارة واشترى منها هاجر ، فوقع عليها فولدت له اسماعيل عليه السلام .
لما تزوج ابراهيم من هاجر وولدت له اسماعيل ، حصلت خلافات شديدة بين هاجر وسارة مما اضطر ابراهيم عليه السلام ان يحمل هاجر وولدها اسماعيل
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 133

ويخرج بهما الى الصراء .

ابراهيم عليه السلام وبناء البيت الحرام :


لما خرج ابراهيم عليه السلام الى الصحراء نزل في مكان يقال له «الابطح» وادي في مكة واسع لا ماء فيه ولا زرع ، فوضع زوجته هاجر مع ابنها اسماعيل عليه السلام في ذلك المكان ، «كما امره الله تعالى بذلك» .
فلما اراد الانصراف عنهم قالت له هاجر : يا ابراهيم لماذا وضعتنا في موضع ليس فيه انيس ولا ماء ولا زرع ؟ ومن يكفينا ؟
فقال ابراهيم عليه السلام : الذي امرني ان اضعكم في هذا المكان هو الذي يكفيكم ، ثم انصرف عنهم ، فلما ابتعد عنهم قليلا التفت اليهم فقال : «ربنا اني اسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل افئدة من الناس تهوي اليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون» (1) . ثم مضى وانصرف وبقيت هاجر وابنها اسماعيل وحدهم في تلك الصحراء القاحلة .
فلما غاب عنهم ابراهيم وارتفع النهار عطش اسماعيل وطلب ماء ، فقامت هاجر في الوادي تبحث عن الماء فنادت باعلى صوتها : هل في الوادي من انيس ؟ فلم يجبها سوى الصدى ، فابتعدت عن اسماعيل وصعدت على جبل الصفا ولمع لها السراب في الوادي وظنت انه ماء ، فنزلت في بطن الوادي وسعت فلما بلغت المسعى غاب عنها .
ثم لمع لها السراب من ناحية المروة ، فهبطت الى الوادي تطلب الماء فلما
1ـ ابراهيم : 37.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 134

فلما اقتربت منه غاب عنها ، حتى فعلت ذلك سبع مرات ، فلما كان في الشوط السابع وهي على المروة نظرت الى اسماعيل وقد ظهر الماء من تحت رجليه فجائت اليه وجمعت حوله رملا فزمته ، فلذلك سميت «زمزم» وسقت اسماعيل من ذلك الماء .
فلما ظهر الماء في تلك المنطقة ، وانبت الزرع والشجر وعكف الطير والوحش على الماء ، نظرت قبيلة جرهم الى انعطاف الطير والوحش على ذلك المكان ، اتبعوها حتى وصلوا الى الماء فنظروا الى امراة وصبي نازلين في ذلك الموضع قد استظلا بشجرة وقد ظهر الماء لهما .
فقالوا لهاجر : من انت ؟ وما شانك وشان هذا الصبي ؟
قالت : انا ام ولد ابراهيم خليل الرحمن ، وهذا ابنه ، امره الله ان ينزلنا ههنا .
فقالوا لها : فتاذنين لنا ان نكون بالقرب منكم ؟
قالت لهم : حتى ياتي ابراهيم .
فلما زارهم ابراهيم في اليوم الثالث اخبرته هاجر بالقوم والنزول بالقرب منهم ، فقال نعم ، واذن لهم فنزلوا بالقرب منهم وضربوا خيامهم فانست هاجر واسماعيل بهم .
فلما كبر اسماعيل وترعرع وكانت جرهم قد وهبوا لاسماعيل كل واحد منهم شاة او شاتين ، وكانت هاجر واسماعيل يعيشان بها .
فلما بلغ اسماعيل مبلغ الرجال امر الله ابراهيم عليه السلام ان يبني البيت ، فقال : يا رب في اية بقعة ابني البيت ، فبعث الله تعالى جبرئيل عليه السلام فخط له موضع البيت فقام ابراهيم بمساعدت ولده اسماعيل عليهما السلام ببناء البيت الحرام .
روي عن الامام الباقر عليه السلام قال : نزلت ثلاثة احجار من الجنة : مقام
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 135

ابراهيم ، وحجر بني اسرائيل ، والحجر الاسود ، استودعه الله ابراهيم ، وكان الحجر ابيض اشد بياضا من القراطيس فاسود من خطايا بني آدم .

النداء للحج :


فلما تم بناء البيت امر الله عز وجل ابراهيم عليه السلام ان يحج ويحج معه اسماعيل ويسكنه الحرم .
فحجا على جمل احمر ومعهما جبرئيل يعلمهما مناسك الحج .
فلما بلغا الحرم قال جبرئيل عليه السلام : يا ابراهيم انزل فاغتسلا قبل ان تدخلا الحرم ، فنزلا واغتسلا ، وبعد ذلك اراهما كيف يتهيئان للاحرام ففعلا ، ثم امرهما فاهلا بالحج وامرهما بالتلبية الاربع ، ثم سار بهما حتى اتى بهما باب الصفا فنزلا عن البعير وقام جبرئيل بينهما فاستقبل البيت فكبر وكبرا ، وحمد الله وحمدا ، فتقدم جبرئيل واستلما الحجر ثم اراهما المناسك وما يعملانه .
فلما قضيا مناسكهما امر الله عز وجل ابراهيم بالانصراف ، واقام اسماعيل وحده ما معه احد غير امه .
فلما كان في السنة القابلة اذن الله عز وجل لابراهيم في الحج ، وكانت العرب تحج اليه .
وقد روي عن ابي عبد الله عليه السلام قال : لما امر الله عز وجل ابراهيم واسماعيل عليهما السلام ببنيان البيت وتم بناؤه امره ان يصعد ركنا ثم ينادي في الناس : الا هلم الحج ، فلو نادى هلموا الى الحج لم يحج الا من كان يومئذ انسيا مخلوقا ، ولكن نادى ، هلم الحج ـ فلبى الناس في اصلاب الرجال : لبيك داعي الله لبيك داعي الله ، فمن لبى عشرا حج عشرا ، ومن لبى خمسا حج خمسا ، ومن لبى
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 136

واحدا حج واحدا ، ومن لى اكثر فبعدد ذلك ، ومن لم يلب لم يحج . (1)

فضائل ابراهيم عليه السلام :


لقد خص الله تبارك وتعالى النبي ابراهيم عليه السلام بفضائل وكرامات لم يخص بها غيره من الانبياء .
اتخذه الله خليلا ومحبا له وذلك قوله تعالى :«... واتخذ الله ابراهيم خليلا» (2) اي محبا لا خلل في مودته وذلك لكمال خلته ، والمراد بخلته لله ، انه كان مواليا لاولياء الله ، ومعاديا لاعداء الله ، والمراد بخلة الله له ، نصرته على من اراده بسوء ، كما انقذه من نار نمرود وجعلها عليه بردا وسلاما ، وكما فعله بملك مصر حين راوده بسوء عن اهله .
وجعله اماما للناس وقدوة ، كما جعله «امة» قال تعالى : «ان ابراهيم كان امة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين» (3) اي كان ابراهيم عليه السلام قدوة معلما للخير ، وكان يتجلى بصفاة العظمة والابوة لبقية الانبياء .
وقيل : سماه الله «امة» لان قوام الامة كان به ، وقيل : لانه قام بعمل امة ، وقيل : لانه انفرد في دهره بالتوحيد فكان مؤمنا وحده والناس كلهم كفار .
وكان قانتا لله مطيعا له دائما على عبادته مصليا حنيفا مستقيما على الطاعة .
استجاب الله دعاؤه حتى اكرم بالنبوة وذريته ، «كما صليت على ابراهيم
1ـ علل الشرائع : ص 145 .
2ـ النساء : 126 .
3ـ النحل : 120 .
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 137

وال ابراهيم» .
وهو عليه السلام اول من يدعى يوم القيامة بعد النبي محمد صلى الله عليه واله وسلم ويقف معه عن يمين العرش ، كما ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه واله وسلم .
عن النبي صلى الله عليه واله وسلم انه قال : يا علي انه اول من يدعى به يوم القيامة يدعى بي فاقوم عن يمين العرش في ظله ، فيكسى حلة خضراء من حلل الجنة ، ...الى ان قال صلى الله عليه واله وسلم : ثم ينادي مناد من عند العرش : نعم الاب ابوك ابراهيم ، نعم الاخ اخوك علي ، الخبر . (1)
وكان ابراهيم عليه السلام اول من اضاف الضيف ، واول من شاب ، فقيل له ما هذا ؟ قال : وقار في الدنيا ، ونور في الاخرة ، وقيل : اتخذ الله عز وجل ابراهيم خليلا لكثرة سجوده على الارض ، واطعام الطعام ، وصلاته بالليل والناس نيام .
وقيل : اول من قاتل في سبيل الله ابراهيم عليه السلام حيث اسرت الروم لوطا عليه السلام فنفر ابراهيم عليه السلام واستنقذه من اسرهم ، واول من قص شاربه واول لبس النعل ، واول من اخرج الخمس ، واول من اتخذ الرايات .

اول من اختتن ابراهيم عليه السلام :


روي عن ابي عبد الله الصادق عليه السلام قال : ان من قبلنا يقولون : ان ابراهيم خليل الرحمن عليه السلام ختن نفسه ، فقال : سبحان الله ليس كما يقولون كذبوا على ابراهيم عليه السلام ، فقال : ان الانبياء عليهم السلام كانت تسقط عنهم غلفهم مع سررهم في اليوم السابع ، فلما ولد ابراهيم اسماعيل من هاجر ، عيرتها سارة بما تعير به الاماء ، قال : فبكت هاجر واشتد عليها ، فلما راها اسماعيل تبكي بكى لبكائها ،
1ـ امالي الصدوق : 195 عنه البحار : ج12 ص 3 .
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 138

قال : فدخل ابراهيم عليه السلام فقال ما يبكيك يا اسماعيل ؟ فقال : ان سارة عيرت امي بكذا وكذا فبكت فبكيت لبكائها ، فقام ابراهيم عليه السلام الى مصلاه فناجى ربه عز وجل فيه ، وساله ان يلقي عن هاجر ، قال : فالقاه الله عز وجل عنها ، فلما ولدت سارة اسحاق وكان يوم السابع سقطت من اسحاق سرته ولم تسقط غلفته ، قال : فجزعت من ذلك سارة ، فلما دخل عليها ابراهيم قالت له : يا ابراهيم ما هذا الحادث الذي قد حدث في ال ابراهيم واولاد الانبياء ؟ ! هذا ابنك اسحاق قد سقطت عنه سرته ولم تسقط عنه غلفته ، فقام ابراهيم عليه السلام الى مصلاه فناجى ربه عز وجل وقال : يا رب ما هذا الحادث الذي حدث في ال ابراهيم واولاد الانبياء ؟هذا اسحاق ابني قد سقطت سرته ولم تسقط عنه غلفته ، قال : فاوحى الله عز وجل ، ان يا ابراهيم هذا لما عيرت سارة هاجر ، فاليت ان لا اسقط ذلك عن احد من اولاد الانبياء بعد تعييرها لهاجر ، فاختن اسحاق بالحديد واذاقه حر الحديد ، وقال فختن ابراهيم عليه السلام اسحاق بحديد فجرت السنة بالختان في الناس بعد ذلك(1) .

احياء الموتى :


روي عن علي بن محمد بن الجهم قال : سأل المامون الرضا عليه السلام : عن ابراهيم عليه السلام :«رب ارني كيف تحيي الموتى قال اولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي» .
قال الرضا عليه السلام : ان الله تبارك وتعالى كان اوحى الى ابراهيم عليه السلام : اني متخذ من عبادي خليلا ان سالني احياء الموتى اجبته .
1ـ علل الشرائع ص 171 عنه البحار : ج 12 ص 100 .
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 139

قال : فوقع كلام الله في نفس ابراهيم عليه السلام انه ذلك الخليل ، فقال : «رب ارني كيف تحيي الموتى ، قال اولم تؤمن ، قال بلى ، ولكن ليطمئن قلبي» على الخلة ، «قال فخذ اربعة من الطير فصرهن اليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن ياتينك سعيا واعلم ان الله عزيز حكيم» .
فاخذ ابراهيم عليه السلام : اربعة طيور ، نسرا وبطا وطاووسا وديكا ، فقطعهن فخلطهن ، ثم جعل على كل جبل من الجبال العشرة التي حوله منهن جزءا ، وجعل مناقيرهن بين اصابعه ، ثم دعاهن باسمائهن ، ووضع عنده حبا وماء ، فتطايرت تلك الاجزاء بعضها الى بعض حتى استوت الابدان ، وجاء كل بدن حتى انضم الى رقبته وراسه ، فخلى ابراهيم عليه السلام عن مناقيرهن ، فطرن ثم وقفن فشربن من ذلك الماء والتقطن من ذلك الحب وقلن ، يا نبي الله احييتنا احياك الله ، فقال ابراهيم عليه السلام بل الله يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير . (1)
وهناك رواية اخرى عن ابي ايوب يقول فيها : ان ابراهيم عليه السلام نظر الى جيفة على ساحل البحر تاكلها سباع البر وسباع البحر ، ثم يثب السباع بعضها على بعض فياكل بعضها بعضا ، فتعجب ابراهيم عليه السلام فقال : «رب ارني كيف تحيي الموتى ، فقال له الله تعالى : اولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ، قال فخذ اربعة من الطير ... الى اخر القصة» (2) .

الكلمات التي علمها الله لابراهيم عليه السلام


عن المفضل بن عمر ، عن الصادق عليه السلام قال : سالته عن قول الله عز وجل :
1ـ توحيد الصدوق : ص 121 وعيون الاخبار : 110 .
2ـ تفسير القمي : 81 عنه البحار ج 12 ص 65 .
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 140

«واذ ابتلى ابراهيم ربه بكلمات» ما هذه الكلمات ؟ قال : هي الكلمات التي تلقاها ادم عليه السلام من ربه فتاب عليه .
وهو انه قال : «يا رب اسالك بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين الا تبت علي» فتاب الله عليه انه هو التواب الرحيم ، فقلت له : يا ابن رسول الله ، فما يعني عز وجل بقوله «فاتمهن» ؟
قال : يعني فاتمهن الى القائم (عج) اثني عشر اماما ، تسعة من ولد الحسين عليه السلام .
قال المفضل : فقلت له : يا ابن رسول الله فاخبرني عن قوله الله عز وجل : «وجعلها كلمة باقية في عقبه» قال : يعني بذلك الامام جعلها الله في عقب الحسين عليه السلام الى يوم القيامة .
قال : فقلت له : يا ابن رسول الله فكيف صارت الامامة في ولد الحسين دون ولد الحسن وهما جميعا ولدا رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وسبطاه وسيدا شباب اهل الجنة ؟ فقال عليه السلام : ان موسى وهارون كانا نبيين مرسلين اخوين ، فجعل الله النبوة في صلب هارون دون صلب موسى ، ولم يكن لاحد ان يقول : لم فعل الله ذلك ؟ فان الامامة خلافة الله عز وجل ليس لاحد ان يقول : لم جعل الله في صلب الحسين دون صلب الحسن عليه السلام ؟ لان الله هو الحكيم في افعاله لا يسال عما يفعل وهم يسالون (1) .

ابناء البنت :


وكذلك بالنسبة لابناء البنت في نسبتهم ذرية لجدهم من امهم ، مثل الحسن
1ـ البحار : ج 16 .
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 141

والحسين عليه ابناء رسول الله صلى الله عليه واله وسلم .
وقد سمى الله عز وجل عيسى من ذرية ابراهيم وكان ابن بنته من بعده ، ولما صح ان ابن البنت ذرية ، ودعا ابراهيم عليه السلام لذريته بالامامة وجب على محمد صلى الله عليه واله وسلم الاقتداء به في وضع الامامة في المعصومين عليهم السلام من ذريته حذو النعل بالنعل بعدما اوحى الله عز وجل اليه وحكم عليه بقوله تعالى : «ومن يرغب عن ملة ابراهيم الا من سفه نفسه» (1) جل نبي الله عن ذلك ، وكذلك قوله تعالى «ان اولى الناس بابراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين امنوا»(2) وامير المؤمنين علي عليه السلام ابو ذرية النبي صلى الله عليه واله وسلم ، واوضع الامامة فيه وضعها في ذرية المعصومين عليهم السلام وقوله عز وجل : «لا ينال عهدي الظالمين» يعني ان الامامة لا تصلح لمن قد عبد صنما او وثنا او اشرك بالله طرفه عين ، وان اسلم بعد ذلك .
وكذلك لا يصلح للامامة لمن ارتكب من المحارم شيئا صغيرا كان او كبيرا وان تاب منه بعد ذلك ، وكذلك لا يقيم الحد من في جنبه حد .
فاذا لا يكون الامام او النبي الا معصوما ، وذلك بنص الله عليه وعلى لسان نبيه محمد صلى الله عليه واله وسلم ، لان العصمة ليست في ظاهر الخلقة فترى كالسواد والبياض ، وهي مغيبة لا تعرف الا بتعريف علام الغيوب عز وجل .

الزوجة الطالحة والزوجة الصالحة


قال ابن عباس : لما اتى ابراهيم باسماعيل وهاجر فوضعهما بمكة واتت
1ـ البقرة : 130 .
2ـ ال عمران : 68 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي