ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 189



المطلب السابع والأربعون

في ترجمة محمد ذي النفس الزكية عليه السلام

قال أرباب التاريخ : ولد محمد ذي النفس الزكية ابن عبدالله بن الحسن بن علي عليهم السلام سنة مائة .
وذكر أبو الفرج الأصبهاني : قال : ولد محمد بن عبدالله وبين كتفيه خال أسود كهيئة البيضة عظما , فقال فيه الشاعر :
فإن الذي يروى الرواة لبين إذا مـا ابن عبدالله فيهم تجردا
له خـاتم لم يعطه الله غيره وفيه علامات من البر والهدى

وكان يقال له : صريح قريش , ويقال له : المهدي .
وقال أبو الفرج الأصبهاني في المقاتل : كان محمد بن ذي النفس الزكية بن عبدالله بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام أفضل أهل زمانه في علمه بكتاب الله وحفظه له وفقهه في الدين وفي شجاعته وجوده وبأسه وكل أمر يحمل بمثله .
قال أبو الفرج : حدث عمير بن الفضل الخثعمي , قال : رأيت أبا جعفر المنصور يوماً , وقد خرج محمد بن عبدالله بن الحسن من دار ابنه , وله فرس واقف على الباب مع عبد له أسود وأو جعفر معه , فأخذ بردائه حتى ركب ثم سوّى ثيابه على السرج ومضى محمد , فقلت : وكنت حينئذ أعرفه ولا أعرف محمداً من هذا الذي أعظمته هذا الإعظام حتى أخذت بركابه وسوّيت عليه ثيابه ؟ قال : أو
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 190

ما نعرفه ؟ قلت : لا . قال : هذا محمد بن عبدالله بن الحسن مهديّنا أهل البيت .
قال اليعقوب بن عربي : سمعت أبا جعفر المنصور يقول في أيام بني أمية وهو في نفر من بني أمية يقول : ما في آل محمد أعلم بدين الله ولا أحقّ بولاية الأمر من محمد بن عبدالله , وبايع له وكان يعرفني بصحبته والخروج معه .
قال يعقوب : وحبسني بعد مقتل محمد بضع عشر سنة وهو الذي بايع له رجال من بني هاشم من آل أبي طالب عليه السلام وآل العباس وسائر بني هاشم , وقد بايعوا له بالأبواء (1) مرة وبالمدينة مرة ثانية .
قال أبو الفرج : ثم إن بني هاشم اجتمعوا فخطبهم عبدالله بن الحسن فحمدالله وأثنى عليه , ثم قال : يا بني هاشم إنكم أهل البيت قد فضلكم الله بالرسالة واختاركم لها وأكثركم بركة يا ذرية محمد صلى الله عليه واله وسلم وبنوا عمه وعترته وأولى الناس بالفزع في أمر الله من وضعه الله موضعكم من نبيه صلى الله عليه واله وسلم وقد ترون كتاب الله معطلاً وسنة نبيه متروكة , والباطل حياً والحق ميتاً , قاتلوا لله في الطلب لرضاه بما هو أهله قبل أن ينزع منكم اسمكم ويهونوا عليه كما هانت بنوا إسرائيل وكانوا أحب خلقه إليه , وقد علمت أنا لم نزل نسمع أن هؤلاء القوم إذا قتل بعضهم بعضاً خرج الأمر من أيديهم فقد قتلوا صاحبهم يعني الوليد بن يزيد , فهلم نبايع محمداً فقد علمت أنه المهدي . فقالوا : لم يجتمع أصحابنا بعد ولو اجتمعوا فعلنا ولسنا نرى أبا عبدالله جعفر بن محمد الصادق .
قال الراوي : وأرسل إليه عبدالله فأبى أن يأتي فقام وقال : أنا آتي به الساعة , فخرج بنفسه حتى أتى الصادق عليه السلام فدعاه وجاء معه الى المحل الذي اجتمع به الهاشميون , وأوسع له عبدالله إلى جانبه ثم قال له : قد علمت ما صنع بنا بنو أمية
(1) الأبواء موضع بين مكة والمدينة , ولد فيه الإمام موسى بن جعفر عليه السلام .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 191

وقد رأينا أن نبايع لهذا الفتى . فقال : لا تفعلوا فإن الأمر لم يأت بعد , فغضب عبدالله وقال : لقد علمت خلاف ما تقول , ولكنه يحملك على ذلك الحسد لابني . فقال الصادق عليه السلام : لا والله ما ذاك يحملني ولكن هذا وإخوته وأبناءهم دونكم وضرب يده على ظهر أبي السفاح , قال : ثم نهض فلحقه عبدالصمد وأبو جعفر المنصور , وقالا : يا أبا عبدالله أتقول ذلك ؟ قال : نعم والله أقول وأعلمه ثم التفت الى عبدالله وقال : والله ما هي إليك ولا الى ابنيك ولكنها لهؤلاء , وإن ابنيك لمقتولان (1) . قال : وتفرق المجلس ولم يجتمعوا بعدها .
وروى عن عبدالله بن جعفر بن المسور في حديثه قال : وخرج في ذلك اليوم جعفر الصادق يتوكأ على يدي , فقال لي : أرأيت صاحب الرداء الأصفر ـ يعني أبا جفعر المنصور ـ ؟ قلت : نعم , قال : فإنا نجده يقتل محمد . قلت : أو يقتل محمداً ؟ قال : نعم , فقلت في نفسي حسده ورب الكعبة , قال : ثم ما خرجت والله من الدنيا حتى رأيته قتله .
وعن ابن داحة أن جعفر بن محمد عليه السلام قال لعبدالله بن الحسن : إن هذا الأمر والله ليس لك ولا إلى ابنيك وإنما هو لهذا ـ يعني السفاح ـ , ثم لهذا ـ يعني المنصور ـ ثم لولده من بعده لا يزال فيهم حتى يوامروا الصبيان ويشاوروا النساء , فقال عبدالله : والله يا جعفر ما أطلعك الله على غيبه , ما قلت هذا إلا حسداً لابني . فقال : لا والله ما حسدت ابنك وإن هذا يعني ـ يعني أبا جعفر ـ يقتله على أحجار الزيبت , ثم يقتل أخاه إبراهيم بعده بالطفوف , وقوائم فرسه في الماء , قال : ثم قام مغضباً يجرّ رداءه فتبعه أبو جعفر المنصور فقال له : أتدري ما قلت يا أباعبدالله ؟ قال : اي والله أدريه وإنه لكائن .
(1) وهذه من مغيبات الإمام الصادق عليه السلام .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 192


قال الراوي : حدّث من سمع من أبي جعفر المنصور إنه لما انصرفت صرت لوقتي فرتبت عمالي وميزت أموري تميّز مالك لها , قال لي : فلما ولي أبو جعفر الخلافة سمي جعفر الصادق عليه السلام وكان إذا ذكره يقول : قال لي الصادق جعفر بن محمد كذا وكذا , كان المنصور يتربض بإمامنا الصادق الدوائر حتى أشخصه من المدينة الى بغداد مرتين , وفي المرة الثانية أوفقه بين يديه حافياً حاسراً وكان الإمام قد جاوز السبعين سنة حتى صار يراوحه برجليه يرفع اليمنى ويضع اليسرى , ويضع اليمنى ويرفع اليسرى حتى رفع راسه وكلمه بكلام لا يطيق اللسان تردده فكان مما قال له : تكتب إلى أهل خراسان وتدعوهم الى نفسك , والإمام يتعذر له من ذلك .
قال الراوي : ثم إن المنصور مدّ يده تحت الفراش وأخرج كتباً إلى الصادق عليه السلام فنظر إليها وقال : والله يابن العم ليست هذه كتبي ولا هذا خطي ولا هذا توقيعي , صيرني الى بعض حبوسك حتى يأتيني الموت فإنه مني قريب , وأقسم بالله ما كان وقوف الصادق عليه السلام هذا بين يدي المنصور الدوانيقي إلا فرع من وقوف جدّه السجاد بين يدي يزيد بن معاوية غير أن هناك فرق عظيم : الصادق وقف بين يدي المنصور وحده ولكن جده السجاد وقف بين يدي يزيد بن معاوية معه عمّاته وأخواته :
فهـنّ عـلى أكـفائـهن نـوائح كما هتف فوق الغصون الوراشن
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 193



المطلب الثامن والأربعون

في مقتل محمد ذي النفس الزكية عليه السلام

لما توفي المنصور الدوانيقي الخلافة ولزم ازمة الأمور , صار يطلب العلويين وكان أشدّ الطلب على محمد وإبراهيم ابني عبدالله المحض , فلمّا اشتدّ الطلب بمحمد خرج قبل وقته الذي أوعد أخاه إبراهيم على الخروج فيه , وقيل : بل خرج محمد لميعاده مع أخيه , وإنما أخوه إبرهيم تأخر , وكان محمد بالمذار , وقد بلغ رياح والي المدينة إن محمداً يريد الخروج , فأرسل على جماعة من بني الحسن فحبسهم , فبينما هم عنده إذ سمعوا التكبير وقد ظهر محمد وأقبل من المذار الى المدينة في مائة وخمسين رجلاً , فأتى بني سلمة بهؤلاء تفاؤلاً بالسلامة وقصد السجن فكسر بابه وأخرج من فيه , وأتى دار الإمارة وهو يقول لأصابه : لا تقتلوا إلا أن يقتلوا , فامتنع منهم رياح والي المدينة , فدخولوا من باب المقصورة وأخذوا رياحاً أسيراً، ثم خرج محمد إلى المسجد فصعد المنبر وخطب الناس واستمالهم , واستولى محمد على المدينة .
قال الراوي : وسار رجل من بني عامر الى المنصور مجداً حتى وصل إليه بعد تسعة أيام فوصله ليلاً وإستأذن عليه ودخل , فقال له : يا أمير المؤمنين خرج محمد بن عبدالله بالمدينة . قال : أنت رأيته وعايته ؟ قال : أنا رأيته وعاينته وكلمته على منبر رسول الله جالساً , وتواترت الأخبار بذلك . فقال المنصور لأبي أيوب
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 194

وعبدالملك من الرجل تعرفنانه بالرأي يجمع رأيه إلينا ؟ قالا : بالكوفة بديل بن يحيى وكان السفاح يشاوره , فأرسل إليه وقال له : إن محمداً قد ظهر بالمدينة . قال : فأشحن الأهواز بالجنود . قال : إنه قد ظهر بالمدينة . قال : قد فهمت وإنما الأهواز الباب الذي تؤتون منه .
قال الراوي : ودعا المنصور ابن أخيه عيسى بن موسى وأمره بالمسير الى المدينة لقتال محمد وسيّر معه الجنود حتى إذا قرب من المدينة بلغ محمداً ذلك , فاستشار أصحابه بالخروج من المدينة أو المقام بها فاستشار بعضهم بالخروج عنها وأشار بعضهم بالمقام بها لقول رسول الله صلى الله عليه واله وسلم رأيتني في درع حصينة فأوّلتها المدينة , فأقام بها , ثم استشار أصحابه في حفر خندق رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فأشار بعضهم بتركه , فقال محمد : إنما اتبعنا في الخندق أثر رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فلا يردني أحد عنه فلست بتاركه , وأمر به فحفر وبدأ هو فحفر بنفسه الخندق الذي حفره رسول الله صلى الله عليه واله وسلم للأحزاب .
قال : وسار عيسى حتى نزل الأعوص , وكان محمد قد جمع الناس وأخذ عليهم الميثاق وحصرهم فلا يخرجون . قال : وأراد عيسى الى محمد يخبره أن المنصور قد أمنه وأهله , فأعاد الجواب , يا هذا إن لك برسول الله صلى الله عليه واله وسلم قرابة قريبة وأدعوك الى كتاب الله وسنة نبيه والعمل بطاعته واحذرك نقمته وعذابه , وإني والله ما أنا منصرف عن هذا الأمر حتى ألقى الله عليه وإياك أن يقتلك من يدعوك الى الله فتكون شر قبيل أو تقتله فيكون أعظم لوزرك , فلما بلغته الرسالة قال عيسى : ليس بيننا وبينه إلا قتال . وقال محمد للرسول : علام تقتلونني وإنما أنا رجل فر من أن يقتل ؟ قال : القوم يدعونك الى الأمان فإن أبيت إلا قتالهم قاتلوك .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 195


قال الراوي : وجاء عيسى بجيشه ونزل بالجرف ثم وقف على سلع (1) فنظر الى المدينة ومن فيها فنادى : يا أهل المدينة إن الله حرم دماء بعضنا على بعض فهلمّوا الى الأمان , فمن قام تحت راياتنا فهو آمن , ومن دخل داره فهو آمن , ومن دخل المسجد فهو آمن , ومن ألقى سلاحه فهو آمن , ومن خرج من المدينة فهو آمن , خلوا بيننا وبين صاحبنا فإما لنا وإما له : فشتموه وانصرف من يومه وعاد من الغد وقد فرّق القواد من سائر جهات المدينة وأخلى ناحية مسجد أبي الجراح , قال : ونشبت الحرب بينهم , وبرز محمد في أصحابه .
قال الراوي : وقاتل محمد يومئذ قتالاً عظيما فقتل بيده سبعين رجلاً , وأمر عيسى حميد بن قحطبة فتقدم في مائة كلهم راجل سواه , فزحفوا حتى بلغوا جداراً دون الخندق عليه ناس من أصحاب محمد , فهدم حميد الحائط وانتهى الى الخندق ونصب عليه أبواباً , وعبر هو وأصحابه فألقوا الحقائب , وغيرها في الخندق وجعل الأبواب عليها وجازت الخيل فاقتتلوا أصحاب محمد قتالاً شديداً , قال : وانصرف محمد قبل الظهر فاغتسل وتحنّط , ثم رجع فقال له عبدالله بن جعفر : بأبي أنت وأمي والله مالك بما ترى طاقة , فلو أتيت الحسن بن معاوية بمكة فإن معه جل أصحابك . فقال : لو خرجت لقتل أهل المدينة , والله لا أرجع حتى أقتل أو أقتل , وأنت مني في سعة فاذهب حيث شئت , فمشى معه قليلاً ثم رجع عنه جل أصحابه فلم يبق معه إلا ثلاثمائة أو يزيدون قليلاً .
قال الراوي : والتفت إلى بقية أصحابه وقال لهم : نحن اليوم بعدّة أهل بدر , قال : وصلى محمد الظهر , والعصر , ثم تقدم وقد عرقب فرسه وعرقب بنو شجاع الخميسيون دوابّهم , ولم يبق أحد إلا كسر جفن سيفه ودعا محمد في ذلك اليوم
(1) سلع جبل في المدينة المنورة .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 196

حميد بن قحطبة , وقال له : يا حميد بن قحطبة ابرز إلي فأنا محمد بن عبدالله . فقال حميد : قد عرفتك وأنت الشريف بن الشريف الكريم ابن الكريم لا والله لا ابرز إليك و بين يدي من هؤلاء الأغمار أحد , فإذا فرغت منهم فسأبرز إليك , وكان محمد إذا حمل هدّ الناس هدّا وكان أشبه الناس بقتال حمزة , فبينما هو يقاتل إذ رماه أحدهم بسهم فوقف الى جدار , فتحاماه الناس , فلما وجد الموت تحامل على سيفه فكسره وطعنه ابن قحطبة في صدره فصرعه , ونزل إليه واحتزّ رأسه , وجاء به الى عيسى , فلما أتي عيسى برأس محمد , قال لأصحابه : ما تقولون فيه فوقعوا فيه , فقال بعضهم : كذبتم ما لهذا قاتلناه , ولكنه خالف أمير المؤمنين وشق عصى المسلمين , وإن كان لصوّاماً قوّاماً فسكتوا . قال : وأرسل عيسى الرأس الى المنصور فأمر به فطيف به بالكوفة , وسيّره إلى الآفاق (1) .
قال ابن الأثير : ولما قتل محمد أخذ عيسى بني موسى أصحاب محمد وصلبهم ما بين ثنية الوداع الى دار عمر بن العزيز صفّين وبقي محمد مصلوباً ثلاثاً (2) .
قال الراوي : وأرسلت زينت بنت عبدالله أخت محمد وابنته فاطمة الى عيسى أنكم قتلتموه وقضيتم حاجتكم منه فلو أذنتم لنا في دفنه , فإذن لها فدفن بالبقيع .
(1) (فائدة) : ذكر ابن الأثير في تاريخه وغيره : أن محمداً بن عبدالله لما قتل وبلغ أخاه إبراهيم قتله يومئذ قد ظهر بالبصرة وتابعه الناس , وكان ذلك اليوم يوم عيد , فخرج الى الصلاة بالناس ونعاه على المنبر وأظهر الجزع عليه وتمثل قائلاً :
أبا المنازل يا خير الـفوارس من يفجع بمثـلك فـي الدنيا فقد فجعا
الله يـعلم أنـي لـو خـشيـتهم وأوجس القلب من خوف لهم جزعا
لم يقتلوه ولم أسـلم أخـي أحداً حتى نموت جميـعاً أو نـعيش معا
(2) كان قتل محمد وأصحابه يوم الإثنين بعد العصر لأربع عشر خلت من شهر رمضان .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 197


وصاحت زينب بنت علي يوم عاشوراء بعمر بن سعد : يابن سعد أيقتل أبو عبدالله الحسين وأنت تنظر إليه ؟ ثم صاحت : يا قوم , أما فيكم مسلم يدفن هذا الغريب ؟ أما فيكم موحّد يواري هذا العاري السليب ؟
عريان يكسوه الصعيد ملابسا أفديه مسلوب اللباس مسربلا
ولصدره تطأ الخيول وطالما بسريره جبريل كان موكلا (1)
(1) من قصيدة جزلة لابي الحسن علاء الدين المعروف بالشفيهيني المتوفى في الربع الأول من القرن الثامن ومطلعها :
يا من إذا عدّت فضائل غيره رجحت فضائله وكان الأفضلا
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 198



المطلب التاسع والأربعون

في ترجمة إبراهيم ومقتله عليه السلام

كان إبراهيم بن عبدالله المحض عالماً عارفاً شاعراً شجاعاً مقداماً أيداً ـ أي قوياً ـ .
قال أبو الفرج بحذف السند : إن محمداً وإبراهيم كانا عند أبيهما فوردت إبل لمحمد فيها ناقة شرود , لا يرد رأسها شيء , فجعل إبراهيم يحدّ النظر إليها , فقال له محمد : كأن نفسك تحدّثك أنك رادّها ؟ قال : نعم , قال : فإن فعلت فهي لك , فوثب إبراهيم فجعل يتغير لها , ويتستر بالإبل حتى إذا مكنته هايجها , وأخذ بذنبها فاحتملت وأدبرت تمخض بذنبها حتى غاب عن أبيه , فأقبل على محمد , فقال : قد عرضت أخاك للهلكة فمكث قليلاً , ثم جاء مشتملاً بإزار حتى وقف عليها . فقال محمد : كيف رأيت , زعمت أنك وادّها وحابسها , فألقى إبراهيم ذنبها وقد انقطع في يده , فقال : ما أعذر من جاء بهذا !
قال ابن الأثير في تاريخه : كان ظهور محمد وإبراهيم ابني عبدالله المحض بعد أن كان لا يقر لهما قرار من شدة الطلب حتى حكت جارية لإبراهيم أنه لم تقرّهم أرض خمس سنين , مرة بفارس ومرة بكرمان ومرة بالجبل ومرة بالحجاز ومرة باليمين , ومرة بالشام , وربما كان إبراهيم يدخل جيش المنصور متخفياً ويجلس على مائدته ـ وهم لا يعرفونه ـ وجاء مرة الى بغداد ودخل عسكر
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 199

المنصور , وكان له مرآة ينظر فيها عدوه من صديقه , فنظر فيها فقال : يا مسّيب قد رأيت إبراهيم في عسكري وما في الأرض أعدى لي منه , فانظر أي رجل يكون .
فقدم البصرة واجتمع عليه أهلها , كان ذلك سنة خمس وأربعين ومائة بعد ظهور أخيه محمد بالمدينة , دعا الناس الى بيعة أخيه محمد فبايعه العلماء والوجهاء وسائر أهل البصرة حتى تاغ ديوانه أربعة آلاف وشهد أمره , فقالوا له : لو تحولت الى وسط البصرة أتاك الناس وهم مستريحون , فتحوّل فنزل في دار أبي مروان مولى بني سليم , وكان الوالي على البصرة يومئذ من قبل المنصور سفيان بن معاوية وقد مالا على أمره , وقام إبراهيم بأمره في أول شهر رمضان سنة خمس وأربعين ومائة فصلى بالناس صلاة الصبح في الجامع وقصد دار الإمارة وبها سفيان متحصناً في جماعة , فحضره وطلب سفيان منه الأمان فأمنه إبراهيم ودخل الدار ففرشوا له حصيراً فهبت الريح فقلّبته قبل أن يجلس , فتطيّر الناس بذلك , فقال إبراهيم : إنّا لا نتطيّر , وجلس عليه مقلوباً , وجلس القوّاد , وسفيان بن معاوية في القصر وقيّده بقيد خفيف ليعلم المنصور أنه محبوس .
قال : وبلغ جعفراً ومحمداً إبني سليمان بن علي ظهور إبراهيم , فأتيا في ستمائة رجل إليهما فأرسل إليهما إبراهيم خمسين رجلاً من أصحابه فهزمهما ونادى منادي إبراهيم : ألا لا يتبع مهزوم ولا يقضى على جريح , ولما استقرت له البصرة أرسل عماّله الى الأهواز وإلى اصطخر وإلى واسط ولم يزل إبراهيم في البصرة يفرق الجيوش والعمال حتى أتاه نعي أخيه محمد قبل عيد الفطر , فخرج بالناس يوم العيد وفيه الإنكسار , فصلى بهم وأخبرهم بقتل محمد , فازدادوا في قتال المنصور بصيرة , وأصبح من الغد فعسكر واستخلف على البصرة غيلة وخلف ابنه حسناً معه وسار من البصرة متوجهاُ الى الكوفة , ولما بلغ المنصور
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 200

ظهور إبراهيم في قلة من العسكر فقال : والله ما أدري كيف أصنع ما في عسكري إلا ألفا رجل والباقون مع عيسى بن موسى , والله لئن سلمت من هذه لا يفارق عسكري ثلاثون ألفاً , ثم كتب الى عيسى بن موسى يأمره بالعودة مسرعاً , فأتاه الكتاب وقد أحرم بعمرة فتركها وعاد إليه , فوجهه الى حرب إبراهيم وفي ذلك الحين اهديت امرأتان الى المنصور من المدينة , فلم ينظر إليهما , فقيل له في ذلك أنهما قد ساءت ظنونهما فقال : ليست هذه أيام نساء ولا سبيل إليهما , حتى أنظر إلى رأس إبراهيم لي أو رأسي له .
قال الراوي : وواصل إبراهيم سيره حتى نزل باخمرا وهي من الكوفة على ستة عشر فرسخاً فنزل مقابل عيسى بن موسى وتصافّوا , فصفّ إبراهيم صفاً واحداً واقتتل الناس قتالاً شديداً وانهزم حميد بن قحطبة وانهزم الناس معه فعرض لهم عيسى يناشدهم الله والطاعة فلا يلوون عليه , فأقبل حميد منهزماً , فقال له عيسى : الله الله والطاعة , فقال : لا طاعة في الهزيمة , ومر الناس فلم يبق مع عيسى إلا نفر يسير , وجاء جعفر ومحمد ابنا سليمان بن علي من ظهر أصحاب إبراهيم ولا يشعر بهما باقي أصحابه الذين يتبعون المنهزمين حتى نظر بعضهم فرأى القتال من ورائهم فعطفوا نحوه ورجع أصحابه الذين يتبعون المنهزمين ورجع أصحاب المنصور يتبعونهم , فكانت الهزيمة على أصحاب إبراهيم , فلو لا جعفر ومحمد لتمت الهزيمة لحميد .
قال الراوي : وفر أصحاب إبراهيم وثبت إبراهيم في نفر من أصحابه يبلغون ستمائة وقيل أربعمائة , وقاتلهم حميد وجعل يرسل بالرؤوس الى عيسى وجاء إبراهيم سهم غائر فوقع في حلقه فنحره فتنحى عن موقفه وقال : أنزلوني , فأنزلوه عن مركبه وهو يقول : (وكان أمر الله قدراً ومقدوراً) أردنا أمراً وأراد الله غيره , واجتمع عليه أصحابه وخاصته يحمونه ويقاتلون دونه , فقال حميد بن قحطبة
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 201

لأصحابه : شدّوا على تلك الجماعة حتى تزيلوهم عن موضعهم وتعلموا ما اجتمعوا عليه فشدّوا عليه فقاتلوهم أشدّ قتالاً حتى أفرجوا عن إبراهيم ووصلوا إليه وحزّوا رأسه فأتوا به عيسى فأراه ابن أبي الكرام الجعفري , فقال : نعم هذا رأسه فنزل عيسى الى الأرض وسجد , ولما بلغ المنصور خبر قتل إبراهيم تمثّل قائلاً
فألقت عصاها واستقر بها النوى كما قرّ عيناً بالإياب المسافر

قال الراوي : وأرسل عيسى رأس إبراهيم إلى المنصور بالكوفة فقال المنصور : احملوه إلى من في السجن من قومه , وكان في السجن أبو عبدالله بن الحسن بن الحسن وستة من أهله (1) فجاء به الربيع إليهم فوضع الرأس بين أيديهم , فأخذه أحدهم ووضعه في حجره وقال : أهلاً وسهلاً يا أبا القاسم، والله لقد كنت من الذين قال الله عزوجل فيهم : «الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم » (2) إلى آخر الآية .
فقال الربيع : كيف أبو القاسم في نفسه ؟ قال أحدهم : هو كما قال الشاعر :
فتى كان تحميه عن الضيم نفسه ويكفيه من دار الهوان اجتنابها (3)
(1) قال أرباب السير : حج المنصور سنة مائة وأربع وأربعين وقبض على عبدالله بن الحسن ومعه ستة من ابناء الحسن وأحفاده وسيرهم الى العراق ومر المنصور بالربذة وهم على المحامل المكشفة فصاح به عبدالله بن الحسن : يا أبا جعفر , ما هكذا فعلنا بكم يوم بدر , يشير الى جدهم العباس بن عبدالمطلب , فجاء بهم الى الكوفة وحبسهم بالهاشمية في طامورة تحت الأرض حتى ماتوا ومواضعهم الآن تزار , يقال لها : قبور السبعة , في قضاء الهاشمية من لواء الحلة اليوم .
(2) سورة الرعد .
(3) (فائدة) : كان قتل إبراهيم يوم الإثنين لخمس ليال بقين من ذي القعدة سنة خمس
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 202


فكأنما القم الربيع بحجر , فليته حضر حين جاؤا برأس الحسين عليه السلام الى يزيد ليلقم يزيد بن معاوية بحجر وذلك لما أدخلوا رأس الحسين عليه السلام على يزيد وأخذه بيده وجاء به الى الرباب وقال : أتعرفين هذا الرأس ؟ فبكت وكأن لسان حالها يقول :
عليّ عزيز أن تراه كما أرى علـيه عزيز أن يراك تراني
وإني لأستحييه والترب بيننا كما كنت استحييه وهو يراني (1)
وأربعين ومائة , وكان عمره ثمانية وأربعين سنة .
(فائدة) : ذكر المسعودي أن المنصور قال لجلسائه بعد قتل محمد وإبراهيم : تالله ما رأيت رجلاً أنصح منالحجاج بني مروان , فقام المسيب بن زهرة الضبي فقال : يا أمير المؤمنين ما سبقنا الحجاج بأمر تخلفنا عنه , والله ما خلق الله على جديد الأرض خلقاً أعزّ عيلنا من نبينا صلى الله عليه واله وسلم وقد أمرتنا بقتل أولاده فأطعناك , وفعلنا ذلك فهل نصحناك أم لا ؟ فقال له المنصور : أجلس لا جلست !
(1) (فائدة) : هذه هي الرباب إحدى الوفيات لأزواجهن , ذكر أرباب التواريخ قالوا : لما رجعت الرباب من الأسر الى المدينة أمرت بسقف البيت فقلع , وجعلت تجلس هي وإبنتها سكينة تحت حرارة الشمس , وكانت زينب تأتي إليها وتقول لها : قومي يا رباب عن حرارة الشمس , فتقول لها : سيدتي لا تلوميني إني رأيت جسد سيدي الحسين تصهره الشمس في كربلاء !

السابق السابق الفهرس التالي التالي