ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 175



المطلب الرابع والأربعون

في واقعة الزاب بين الامويين والعباسيين

لما نزل مروان بن محمد الحمار (1) بالزاب جرد من رجاله من اختاره من أهل الشام والجزيرة وغيرهما مائة ألف فارس على مائة ألف قارح , وقال : إنها عدة ولا تنفع العدة إذا انقضت المدة , ولما أقبل عبدالله بن علي بن العباس يوم الزاب بالمسودة من قبل السفاح وفي أولهم البنود السود تحملها رجال على جمال البخت , وقد جعل لها عوض القتاد خشب الصفصاف والغرب , فقال مروان : أما ترون رماحهم كأنها النخل غلظ ؟ أو ما ترون أعلامهم فوق هذه الإبل كأنها قطع الغمام السود ؟
فبينا مروان ينظرها ويعجب إذ طارت قطعة من الغربان السود فوقعت على عسكر عبدالله , واتصل سوادها بسواد تلك الرايات والبنود , فقال لمن يقرب منه , أما ترون السواد قد اتصل بالسواد حتى صار الكل كالسحب المتكاثفة ؟ ثم التفت الى رجل يقرب منه وقال له : ويلك ألا تخبرني من صاحب جيشهم ؟ قال :
(1) آخر خلفاء بني أمية ولقب بالحمار لأن العرب ـ وحسب ما جاء في ص 255 من كتاب تاريخ الخلفاء للسيوطي ـ تسمي كل مائة سنة حماراً ولما قارب ملك بني أمية مائة سنة لقبوا مروان هذا بالحمار لذلك .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 176

هو عبدالله بن علي , فقال مروان : من ولد العباس هو ؟ قال : نعم , قال مروان : وددت أن علي بن أبي طالب مكانه في هذا اليوم .
فقال : يا أمير المؤمنين أتقول هذا في علي بن أبي طالب عليه السلام وشجاعته التي ملأ الدنيا ذكرها ؟ قال : نعم إن علياً مع شجاعته صاحب دين , وإن الدين غير الملك , وإنا نروي عن قديمنا أن لا شيء لعلي ولولده في هذا الأمر ـ يعني الخلافة ـ ثم أرسل الى عبدالله سراً يقول له : يابن العم إن هذا الأمر صائر إليك , فاتقي الله واحفظني في دمي وحرمي , فأرسل إليه عبدالله أن لنا الحق عليك في دمك , وأن لك الحق علينا في حرمك , ثم حرك عبدالله أصحابه للقتال ونادى مروان في أهل الشام وأمر عبدالله أصحابه أن ينزلوا , ونادى : الأرض الأرض , فنزل الناس ورمت الرماة وأشرعت الرماح وجثوا على الركب .
فقال مروان لقضاعة : انزلوا , قال : ما ننزل حتى تنزل كندة , فقال لكندة : انزلوا , فقالوا : لا ننزل حتى تنزل سكاسك , فقال للسكاسك : انزلوا , فقال : لا ننزل حتى تنزل بنو سليم , فقال لبني سليم : انزلوا , فقالوا لا ننزل حتى تنزل بني عامر , فقال لعامر : انزلوا , فقالوا : لا ننزل حتى تنزل بني تميم , فقال لتميم : انزلوا , فقالوا : لا ننزل حتى تنزل بنو أسد , فقال لبني أسد : انزلوا , فقالوا لا ننزل حتى تنزل هوازن , فقال لهوازن : انزلوا , فقالوا : لا ننزل حتى تنزل غطفان , فقال لغطفان : انزلوا وقاتلوا , فقالوا : لا ننزل حتى تنزل الأزد , فقال للأزد : انزلوا : فقالوا لا ننزل حتى تنزل ربيعة , فقال لربيعة : انزلوا , فقالوا لا ننزل حتى تنزل بنو ليث , فقال لصاحب شرطته : ويلك احمل , قال : ما كنت لأجعل نفسي غرضاً للرماح , فقال مروان : أما والله لأسوءنك اليوم . فقال : وددت أن الأمير يقدر على إساءتي في مثل هذا اليوم .
ثم إن عسكر عبدالله حمل على عسكر مروان وفر عسكره , فلحقوا مروان
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 177

وقتلوه وقتلوا كلمن كان معه من أهل بيته وبطانته وهجموا على الكنيسة التي فيها بنات مروان ونساءه فوجدوا خادماً وبيده سيفاً مشهوراً وهو يسابقهم الدخول على الكنيسة فقبضوه وسألوه من أمره , فقال : نعم إن أمير المؤمنين مروان أمرني إذا قتل هو أن أهجم على بناته وعياله وكل نساءه وأقتلهن قبل أن يصل إليهم العدو , وهذا على زعمه أنه غيرة منه على بناته وهو والله لا يعرف الغيرة فكيف حال علي بن الحسين ... الخ (1) .
ولما قتل مروان ادخلت بناته ونساؤه على عم السفاح صالح بن علي , فتكلمت ابنة مروان الكبرى وقالت : يا عم أمير المؤمنين حفظ الله من أمرك ما تحب حفظه , وأسعدك في أحوالك كلها وعنك تخواص نعمه , وشملك بالعافية في الدنيا والآخرة , نحن بناتك وبنات أخيك فليسعنا من عدلكم ما وسعنا من جروكم . فقال لها : أولاً لا نستبقي أحداً لأنكم قتلتم زيد بن علي ويحيى بن زيد , ومسلم بن عقيل وقتلتم خير أهل الأرض حسيناً وقتلتم إخوته وأولاده وسبيتم عياله على نياق عجف . فقالت : يا عم أمير المؤمنين فليسعنا من عدلكم إذا , قال : أما هذا فنعم وإذا أحببت زوجتك من ابني الفضل بن صالح , فبكت وقالت : يا عم امير المؤمنين وأين ساعة عرس ترى ونحن بالحزن وبالكدر , بل تحملنا الى حران , فحملهن الى حران مكرمات , وقيل : قدم النياق العجف , فقالت ابنة مروان
(1) (فائدة) قال الأندلسي في العقد الفريد أنه : كان أشد الناس على بني أمية عبدالله بن علي , وأحناهم عليهم سليمان بن علي , وهو الذي كان يسميه أبو مسلم كنف الأمان , وكان يجير كل من استجار به . قال : ومات سليمان بن علي وعنده بضع وثمانون حرمة لبني أمية .
(فائدة) : ولما أتى الكتاب للسفاح بالهزيمة صلى ركعتين , وأمر لمن شهد الوقعة بخمسمائة دينار , ورفع أرزاقهم الى ثمانين , وكانت هزيمة مروان بالزاب يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادي الآخرة سنة اثنتين وثلاثين ومائة .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 178

الكبرى : يا عم امير المؤمنين ما تريد أن أصنع ؟ قال : كما صنعتم ببنات رسول الله صلى الله عليه واله وسلم . قالت : يا عم أمير المؤمنين أترى ذلك حسن أم قبيح , قالت : إذاً أنت لا ترتكب القبيح (1) .
قال : ودخلت إحدى نساء بني أمية على سليمان بن علي وهو يومئذ بالبصرة يقتلهم ويصلبهم على جذوع النخل ويسقيهم الخل والصبر والرماد , فقال : أيها الأمير إن العدل ليمل من الإكثار والإصرار فيه , فكيف أنت لا تمل من الجور وقطيعة الرحم , فأجابها شعراً :
سننتم علينا القتل لا تنكرونه فذوقوا كما ذقنا على سالف الدهر

ثم قال : يا أمة الله أنتم أول من سنها بين الناس , ألم تحاربوا علياً وتدفعوه عن حقه ؟ ألم تسموا حسناً وتنقضوا شرطه , ألم تقتلوا حسيناً وتسيروا رأسه ؟ ألم تسبّوا علياً على منابركم ؟ ثم قال لها : هل من حاجة فتقضى لك ؟ قالت : نعم قبض
(1) (فائدة) قال ابن الأثير : وفي هذه السنة قتل مروان بن محمد وكان قتله ببوصير , من أعمال مصر في كنيسة من كنائس النصارى وكان مختفيا بها لثلاث مضين من ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائة و عمره تسعاً وستين سنة , قتل بعد أن نازل عسكرالعباسيين , قال الراوي : وكان قد حمل رجل على مروان فطعنه وهو لا يعرفه , وصاح صائح : صرح أمير المؤمنين فابتدروه , فسبق إليه رجل من الكفوفة , كان يبيع الرمان فاحتز رأسه وبعث به الى صالح , فلما وصل إليه أمر أن يقص لسانه فقطع لسانه , وأخذه فقال صالح : ماذا ترينا الأيام من العجائب والعبر , هذا لسان مروان قد أخذه هر , قال الشاعر :
قد فتح الله مصر عنوة لكم وأهلك الفاجر الجعدي إذ ظلما
فلاك مـقوله هـرّ يجزره وكان ربك من ذي الكفر منتقما
قال الراوي : وأرسل الرأس الى أبي العباس بالكوفة فلما رآه سجد ثم رفع رأسه وقال : الحمدلله الذي أظهرني عليك وأظفرني بك ولم يبق لي ثاري قبلك وقبل رهطك أعداء الدين ثم تمثل :
لو يشربون دمي لم يرو شاربهم ولا دماؤهم للغيض ترويني
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 179

عمالك أموالي بردّها وقضى حاجتها لا قضى الله حاجته .
ومن يصنع المعروف في غير أهله يجد حمده ذمّاً عليه فيندم

ويله أما بلغه أن ام كلثوم قالت للشمر بن ذي الجوشن : لي إليك حاجة . قال لها : وما حاجتك يا بنت علي ؟ حاجتي إذا دخلت بنا الشام فاسلك بنا طريقاً قليلاً نظّاره , وقل لحامل الرؤس أن يخرجها من أوساط المحامل فلقد خزينا من كثرة النظر إلينا .
قال الراوي : فأمر اللعين بعكس سؤالها وسلك بهم كثير النظّارة !
يقنعها بالسوط شمر وإن شكت يؤنبها زجر ويوسعها زجرا
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 180



المطلب الخامس والأربعون

في ترجمة عيسى بن زيد وتخفيه

قال أبو الفرج الأصبهاني (1) : ولد عيسى بن زيد بن علي بن الحسين عليهم السلام في الوقت الذي أشخص فيه أبوه زيد بن علي الى هشام بن عبدالملك , وكانت ام عيسى بن زيد معه في طريقه فنزل ديراً ووافق نزوله إياه ليلاً وضربها المخاض فولدت تلك الليلة , فسماه أبوه عيسى باسم عيسى المسيح , وكان على ميمنة إبراهيم بن عبدالله بن الحسن المثنى , واختفى بعد مقتل محمد وإبراهيم , فتوارى بالكوفة , في دار علي بن صالح بن حي أخو الحسن بن صالح وتزوج ابنة له , فولدت منه بنتاً ماتت في حياته , وكان يقال له موتم الأشبال .
حدث ابن أبي شيبة عن أبي منعم , قال : حدثني من شهد عيسى بن زيد أنه لما انصرف من واقعة باخمرى , وقد خرجت عليه لبوة معها أشبالها , فعرضت للطريق وجعلت تحمل على الناس , فنزل عيسى فأخذ سيفه وترسه ثم تقدم إليها فقتلها فقيل له : أيتمت أشبالها يا سيدي , فصمد وقال : نعم أنا موتم الأشبال , فكان يقال : كذا فعل موتم الأشبال , وكذا موتم الأشبال .
قال يحيى بن الحسين بن زيد : قلت لأبي : يا أبه إني أشتهي أن أرى عمّي
(1) في ص 343 من كتابه مقاتل الطالبين .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 181

عيسى بن زيد , فإنه يقبح لمثلي أن لا يلقى مثله من أشياخه , فدافعني عن ذلك مدة , وقال : إن هذا يثقل عليه , وأخشى أن ينتقل عن منزله كراهية للقائك إياه فتزعجه , قال : فلم إزل به اداريه وألطف له حتى طابت نفسه لي بذلك فجهزني الى الكوفة , وقال لي : إذا صرت إليها فاسئل عن دور بني حي , فإذا دللت عليها فاقصدها في السكة الفلانية وسترى في السكة دار لها باب صفته كذا وكذا فاعرفه واجلس بعيداً منها إلى أول السكة , فإنه سيقبل عليك من المغرب كهل طويل مسنون الوجه , قد أثر السجود في جبهته , عليه جبة صوف يستقي الماء على جمل لا يضع قدماً ولا يرفعها إلا ذكر الله عزوجل ودموعه تنحدر , فقم وسلم عليه وعانقه , فإنه سيذعر منك كما يذعر الوحش , فعرفه نفسك وانتسب له يسكن إليك ويحدثك طويلاً , ويسألك عنا جميعاً , ويخبرك بشأنه ولا يضجر بجلوسك معه , ولا تطل عليه وودعه فإنه سوف يستعفيك من العود إليه , فافعل ما يأمرك به ,فإنك إن عدت إليه توارى عنك واستوحش منك وانتقل عن موضعه , وعليه في ذلك مشقّة , فقلت : أفعل كما أمرتني , ثم جهزني الى الكوفة , وودعته وخرجت .
لما وردت الكوفة قصدت سكة بني حي بعد العصر , وجلست خارجها بعد أن عرفت الباب الذي نعته لي , فلما غربت الشمس إذا أنا به قد أقبل يسوق الجمل وهو كما وصفه لي أبي , لا يرفع قدماً ولا يضعها إلا حرك شفتيه بذكر الله عزوجل ودموعه ترقرق في عينيه وتذرف أحياناً , فقمت إليه وعانقته فذعر مني كما يذعر الوحش من الإنس , فقلت : يا عم أنا يحيى بن الحسين بن زيد بن أخيك , فضمني إليه وبكى حتى قلت قد جاءت نفسه , ثم أناخ جمله وجلس معي فجعل يسألني عن أهله رجلا رجلا وامرأة امرأة وصبيا صبيا وأنا أشرح لهم أخبارهم وهو يبكي , قال : يا بني استقي على هذا الجمل الماء فاصرف ما اكتسب , يعني من أجرة الجمل الى صاحبه واتقوّت باقيه , وربما عاقني عن استقاء
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 182

الماء فأخرج إلى البرية يعني بظهر الكوفة فألتقط ما يرمي الناس من البقول فأتقوّت به , وتزوجت ابنته وهو لا يعلم من أنا إلى وقتي هذا فولدت مني بنتاً فنشأت وبلغت وهو لا تعرفني أيضاً ولا تدري من أنا , فقالت لي امها : زوّج ابنتك بابن فلان السقاء لرجل من جيراننا يسقي الماء , فإنه أيسر حالاً منا وقد خطبها وألحّت عليّ فلم أقدر على إخبارهم بأن ذلك غير جائز ولا هو بكفؤ لها , فيشيع خبري , وجعلت تلح عليّ فلم أزل استكفي الله أمرها , حتى ماتت بعد أيام فما أحد آسى على شيء من الدنيا آساي على إنها ماتت ولم تعلم بموضعها من رسول الله صلى الله عليه واله وسلم , ثم أقسم عليّ انصرف ولا أعود إليه , وودعني .
فلما كان بعد ذلك صرت الى الموضع الذي أنتظره فيه فلم أره , وكان هذا آخر عهدي به , ولما طالب تخفيه وتواريه , وأمر المهدي العباسي أن ينادى في الكوفة بالأمان لعيسى , فسمع منادياً ينادي : ليبلّغ الشاهد الغائب أن عيسى بن زيد آمن في ظهوره وتواريه , فرأى عندئذ عيسى بن زيد بن الحسن بن صالح وقد ظهر فيه سرور بذلك , فقال له : كأنك قد سررت بما سمعت ؟ فقال : نعم , قال له عيسى : والله لإخفاتي إياهم ساعة واحدة أحبّ إليّ من كذا وكذا .
وحدث يعقوب بن داود قال : دخلت مع المهدي في قبة في بعض الخانات في طريق خراسان , فإذا حايطها عليه أسطر مكتوب , فدنا ودنوت منه فإذا هي هذه الأبيات :
والله ما أطعم طعـم الرقاد خوفاً إذا نامت عيون العباد
شـردني أهل اعتـداء وما أذنبت ذنباً غير ذكر المعاد
آمنـت بـالله ولم يـؤمنوا فكان زادي عندهم شر زاد
أقول قـولاً قـالـه خائف مطرد قلبي كثـير الـسهاد
منخرق الخفّين يشكو الوجا تنكبه أطراف سـمر حـداد
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 183

شـرده الـخوف فأزرى به كذاك من يـكره حر الجلاد
قد كان في الموت له راحة والموت حتم في رقاب العباد

قال يعقوب بن داود : فجعل المهدي يكتب تحت كل بيت : لك الأمان من الله ومني فاظهر متى شئت , حتى كتب ذلك تحتها أجمع , فالفتف فإذا هو دموعه تجري على خديه , فقلت له : من ترى قائل هذا الشعر يا أمير المؤمنين ؟ قال : أتتجاهل عليّ من عسى قائل هذا الشعر إلا عيسى بن زيد .
وذكر أبو الفرج أن المنصور طلب عيسى طلباً ليس بالحثيث , وطلبه المهدي وجد في طلبه حيناً فلم يقدر عليه , فنادى بأمانه ليبلغه فيظهر , فبلغه فلم يظهر , وبلغه أن له دعاة ثلاثة , وهم : ابن علاق الصيرفي , وحاضر مولى لهم , وصباح الزعفراني , فظفر المهدي بحاضر فحبسه وعزره ورفق به وأشتد عليه ليعرفه موضع عيسى , فلم يفعله فقتله , ومكث طول حياة عيسى يطلب صباحاً وابن علاق , فلم يظفر بهما حتى إذا مات عيسى عليه الرحمة , قال صباح للحسن ابن صالح : أما ترى هذا العذاب والجهد الذي نحن فيه بغير معنى , قد مات عيسى ابن زيد ومضى لسبيله , وإنما نطلب خوفاً منه وإذا علم أنه قد مات آمننا فدعني آتي هذا الرجل ـ يعني المهدي ـ وأخبره بوفاته حتى نتخلص من طلبه لنا . فقال : لا والله لا نبشر عدو الله بموت ولي الله وابن نبي الله ولا تقر عينه فيه ونشمته , فوالله إن ليلة أبيتها خائفاً منه أحب إلي من جهاد السنة وعبادة بها .
قال أبو الفرج : ومات الحسن بن صالح بعد وفاة عيسى بشهرين , قال صباح الزعفراني : ولما مات الحسن بن صالح أخذت أحمد بن عيسى وأخاه زيداً وجئت بهما الى بغداد فجعلتهما في موضع أثق به عليهما , ثم لبست أطماراً وجئت الى دار المهدي , فسألت عن الربيع وأدخلت عليه وسألتي فقلت له : إن عندي بشارة تسر الخليفة وبعد السؤلات الكثيرة استأذن لي على المهدي , فأذن لي وأدخلت
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 184

عليه , فقال : أنت صباح الزعفراني ؟ قلت : نعم , قال : فلا حياك الله ولا بيّاك ولا قرب دارك يا عدو الله , أنت الساعي على دولتي والداعي على اعدائي , ثم تجيئني الآن ؟ فقلت : إني جئتك مبشراً ومعزياً . قال : مبشراً بماذا ومعزياً بماذا ؟ قلت : أما البشرى فبوفاة عيسى بن زيد , وأما التعزية فبه لأنه ابن عمك ولحمك ودمك .
قال : فحول وجهه الى المحراب وسجد ثم التفت إلي وقال : إلى منذ كم مات ؟ قلت : منذ شهرين . قال : أفلم تخبرني بوفاته إلى الآن , قلت : منعني الحسن بن صالح . فقال : وما فعل الحسن ؟ قلت : مات ولو لا ذلك ما وصل إليك الخبر , فسجد سجدة اخرى وقال : الحمدلله الذي كفاني أمره , فلقد كان أشد الناس علي ولعله لو عاش لأخرج على غير عيسى , قال : ثم التفت إلي وقال لي : سل حاجتك . قلت : والله لا أسألك شيئاً إلا حاجة واحدة . قال : وما هي ؟ قلت : ولد عيسى بن زيد , والله لو كنت أملك ما أعولهم به ما سألتك في أمرهم ولا جئتك بهم أطفال يموتون جوعاً وضراً وليس لهم الآن من يكفلهم غيري وأنا عاجز عن ذلك وهم عندي في ضنك وأنت أولى الناس بصيانتهم وأحق بحمل ثقلهم , فهم لحمك ودمك وأيتامك وأهلك , قال : فبكى حتى جرت دموعه ثم قال : إذاً يكونون والله عندي بمنزلة ولدي لا وأوثر عليهم أحداً .
قال : فجئت بهما إليه , فلما نظر إليهما جعل يبكي رقة لهما وليتمهما .
فهذا المهدي لما نظر إلى ولدي عيسى بن زيد وهما صبيين بكى رقة لهما وليتمهما .
أقول : لعن الله أهل الكوفة فإنهم ما رقوا لأيتام الحسين عليه السلام , قالت سكينة : كلما دمعت من أحدنا عين قرعوا رأسها بالرمح :
وإذا حن في السبايا يتيم جاوبـته أرامـل ويـتامـا
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 185



المطلب السادس والأربعون

في ترجمة يحيى بن زيد ومقتله عليه السلام

ذكر دعبل بن علي الخزاعي في قصيدته التائية قبور الأئمة وأولادهم عليهم السلام , فمن تلك القبور قبر يحيى بن زيد بن علي بن الحسين عليهم السلام , قال فيه :
واخرى بأرض الجوزجان محلها واخرى بباخمرا لدى الغربات

فالذي في جوزجان (1) هو قبر يحيى بن زيد عليه السلام الذي خرج في زمن الوليد بن يزيد الأموي عليه اللعنة .
ذكر أبو الفرج الأصبهاني في كتابه مقاتل الطالبيين قال : لما قتل زيد بن علي ابن الحسين عليه السلام ودفنه ابنه يحيى , رجع يحيى وأقام بجانبه السبيع وتفرق الناس عنه , فلم يبق معه إلا عشرة نفر , وقد خرج بهم بعد ذلك الى نينوى , ثم من نينوى الى المدائن وهي إذ ذاك طريق الناس الى خراسان , ولما بلغ ذلك يوسف بن عمر وسرح في طلبه ابن ابي الجهم الكلبي , فورد المدائن وقد فاته يحيى ومضى حتى أتى إلى الري ثم إلى سرخس , ثم خرج منها وسار الى بلخ , ونزل على الجريش ابن عبدالرحمن الشيباني , فلم يزل عنده حتى هلك هشام بن عبدالملك وولي بن
(1) الجوزجان اسم كورة واسعة من كور بلخ واقعة بين مروالروذ وبلخ , ويقال لقصبتها اليهودية .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 186

يزيد لعنه الله , وكتب يوسف بن عمرو الى نصر بن سيار , وهو عامل على خراسان يقول في الكتاب : ابعث إلي الجريش حتى يأخذ يحيى بن زيد أشد الأخذ .
فبعث نصر إلى عقيل بن معقل الليثي وهو عامل على بلخ أن يأخذ الجريش ولا يفارقه حتى تزهق نفسه أو يأتيه بيحيى بن زيد , فدعا به وضربه ستمائة سوط , وقال : والله لأزهقن نفسك أو تأتيني به , فقال : والله لو كان تحت قدمي ما رفعتهما عنه , فاصنع ما أنت صانع , فوثب قريش بن الجريش وقال لعقيل : لا تقتل أبي وأنا آتيك بيحيى ! فوجه جماعة فدلهم عليه وهو في بيت في جوف بيت فأخذ عقيل الى نصر بن سيار فحبسه وقيده وجعله في سلسلة من حديد وكتب الى يوسف بن عمر فأخبره بخبره وقال عبدالله بن معاوية بن عبدالله بن جعفر يهجوا بني ليث ويذكر ما صنع بيحيى بن زيد :
ألـيس بـعين الله ما تـفعلونه عشـية يحـيى موثـق بالسلاسل
ألم تر ليثاً ما الذي حـتمت به لها الويل في سلطـانها الـمتزايل
لقد كشف للناس ليث عن استها أخيراً وصارت ضحكة في القبائل
كلاب عوت لا قدّس الله أمرها فجـائت بـصيد لا يـحل لآكـل

قال أبو الفرج : وكتب يوسف بن عمرو الى الوليد (لعنه الله) يعلمه بذلك , فكتب إليه يأمره أن يؤمنه ويخلي سبيله وسبيل أصحابه , فكتب يوسف بذلك الى نصر بن سيار فدعا به نصر وكلمه وحذره الفتنة , فقال له يحيى : وهل في امّة محمد فتنة أعظم مما أنتم فيه , من سفك الدماء وأخذ ما لستم له بأهل ؟ فلم يجيبه نصر بشيء , وأمر له بألفي درهم ونعلين بعد أن فصل السلاسل منه .
قال الراوي : ولما اطلق يحيى بن زيد وفك حديده صار جماعة من مياسير الشيعة الى الحدّاد الذي فكّ قيده من رجله فسألوه أن يبيعهم الحديد , قال :
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 187

وتنافسوا وتزايدوا حتى بلغ عشرين ألف درهم , فخاف الحداد أن يشيع خبره فيؤخذ منه المال , فقال لهم : أجمعوا ثمنه بينكم فرضوا بذلك وأعطوه المال فقطعه قطعة قطعة , وقسم بينهم فاتخذوا منه فصوصاً للخواتيم يتبركون به .
وخرج يحيى الى أبر شهر , وقد اجتمع عنده أصحابه وهم سبعون رجلاً , وكان بأبر شهر عمرو بن زرارة , فأعطى يحيى ألف درهم نفقة له , ثم أشخصه الى بيهق .
قال المسعودي : ولما رأى يحيى المنكر والظلم وما عم الناس من الجور أقبل يحيى من بيهق وهي أقصى عمل خراسان في سبعين رجلاً راجعاً إلى عمرو ابن زرارة , فبلغ نصر بن سيار ذلك فكتب الى عبدالله بن قيس بن عباد البكري عامله بسرخس والحسن بن زيد عامله بطوس أن يمضيا الى عمرو بن زرارة وهو عامله على أبر شهر وهو أمير عليهم , يقاتلون يحيى بن زيد .
قال الراوي : فأقبلوا الى يحيى فاجتمعوا عليه حتى صاروا زههاء عشرة آلاف وخرج يحيى بن زيد وما معه إلا سبعين فارساً , فقاتلهم يحيى فهزمهم وقتل عمرو بن زرارة واستباح عسكره وأصاب منه دواباً كثيرة , ثم أقبل حتى مر بهرات وعليها المعلس بن زياد , فلم يتعرض أحد منهما لصاحبه , وسار حتى نزل بأرض الجوزجان , فأسر إليه نصر بن سيار وسلم بن حور في ثمانية ألف فارس من أهل الشام وغيرهم , فلحقه بقرية يقال لها : ارغوي , وعلى الجوزجان يومئذ حماد بن عمرو السعيدي , ولحق يحيى بن زيد أبو العجاريم الحنفي , والخشخاش الأزدي (1) .
قال الراوي : وعبّأ سلم جيشه وعبّا يحيى جيشه واقتتل الفريقان ودام القتال
(1) الخشخاش الأزدي هو الذي أخذ نصر بن سيار بعد ذلك فقطع يديه ورجليه وقتله .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 188

ثلاثة أيام بلياليها أشد قتال حتى قتل أصحاب يحيى كلهم , وكان يحيى في ذلك اليوم يتمثل بقول الخنساء :
نهين النفوس وهول النفو س يوم الكريهة أوفى لها

قال الراوي : فكان يقاتل ويجالد أعداءه في ذلك اليوم . قال : وأتيت يحيى نشابة في جبهته فخرّ الى الأرض قتيلاً , وجاء إليه بعد ذلك سورة بن محمد فوجده قتيلاً فاحتزّ رأسه وبعثوا برأسه الى الشام الى الوليد بن زيد , وأخذ الذي رماه بالسهم سلبه وقميصه (1) وصلب يحيى بن زيد على باب مدينة جوزجان , حتى جاءت المسوّدة مع أبي مسلم الخراساني فأنزلوه وغسلوه وكفنوه وحنطوه ودفنوه , وأراد أن يتبع قتلة يحيى فقيل له : عليك بالديون فوضعه بين يديه , وكان إذا مر به اسم رجل ممن أعان على يحيى قتله , حتى لم يدع أحداً قدر عليه ممن شهد قتله إلا قتله, فكأن أهل البيت كما قال الشاعر :
هذا قضى قتلاً وذاك مغيبا خوف العدو وذا قضى مسموما
(1) وهذان أعني سورة بن محمد الذي قطع رأس يحيى والغزي الذي رماه بالسهم وقتله وسلب قميصه أخذهما بعد ذلك أبو مسلم بالخراساني وقطع أيديهما وأرجلهما وصلبها .

السابق السابق الفهرس التالي التالي