ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 88



المطلب الرابع والعشرون

في ذكر التوابين

قال ابن جرير الطبري (1) , وابن الأثير، وابن كثير في البداية والنهاية : لما قتل الحسين عليه السلام رأى الشيعة بالكوفة أنهم أخطأوا خطأ كبيراً , وارتكبوا ذنباً عظيماً بعدائهم الحسين عليه السلام وتركهم نصرته , وان لا كفارة في ذلك إلا الاستماتة دون ثاره , وسموا أنفسهم التوابين لتوبتهم من عظيم ذنبهم , فكانوا أول ما ابتدأوا به أمرهم سنة إحدى وستين جمع آلة الحرب والإستعداد , ودعاء الناس في السر الى الطلب بدم الحسين عليه السلام , ولم يزالوا على ذلك إلى أن هلك يزيد بن معاوية لأربع عشرة ليلة مضت من ربيع الأول سنة أربع وستين , وكان بين قتل الحسين عليه السلام وهلاك يزيد ثلاث سنين وشهران وأربعة أيام , وأمير العراق يومئذ عبيدالله بن زياد , وهو بالبصرة , وخليفته بالكوفة عمرو بن حريث المخزومي .
وكان من عيون الشيعة فيها سليمان بن صرد الخزاعي (2) والمسيب بن نجبة
(1) في ج 4 ص 426 من كتابه تأريخ الأمم والملوك .
(2) كان سليمان بن صرد الخزاعي صحابيا كبيرا جليلا عابدا روى عن النبي صلى الله عليه واله وسلم أحاديث في الصحيحين وغيرهما , وشهد مع علي عليه السلام صفين , وكان أحد من يجتمع الشيعة في داره لبيعة الحسين عليه السلام وكتب إليه في من كتب للقدوم الى العراق .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 89

الفزاري , وعبدالله بن سعد بن نفيل الأزدي , ورفاعة بن شداد البجلي , وعبدالله بن وال تميمي, فاجتمع هؤلاء في دار سليمان بن صرد الخزاعي ومعهم اناس كثير , فبدأ سليمان بالكلام , فحمد الله وأثنى عليه , وقال : اما بعد فقد ابتلينا بطول العمر والتعرض للفتن , وقد قال علي عليه السلام : العمر الذي أعذر الله فيه ابن آدم ستون سنة , وليس فينا إلا من بلغها , وكنا مغرمين بتذكية أنفسنا ومدح شيعتنا , حتى أبلى الله خيارنا فوجدنا كذابين في نصرة ابن بنت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم , ولا عذر دون أن تقتلوا قاتليه , فعسى ربنا أن يعفوا عنا .
فقام رفاعة بن شداد وقال : قد هداك الله الى صواب القول , ودعوت الى رشد الأمور جهاد الفاسقين , والى التوبة من الذنب , فمسموع منك مستجاب لك مقبول منك , ثم التفت الى الحاضرين وقال : فإن رأيتم ولينا هذا شيخ الشيعة وصاحب رسول الله صلى الله عليه واله وسلم سليمان بن صرد . فقال المسيب : أصبتم ووفقتم , وأنا أرى الذي رأيتم , فاستعدوا للحرب , فقاموا وبايعوا سليمان بن صرد .
قال الراوي : وكتب سليمان كتابا الى من مكان بالمدائن من الشيعة من أهل الكوفة , وبعثه مع عبدالله بن مالك الطائي , الى سعد بن حذيفة بن اليمان , يدعوهم الى أخذ الثار , فلما وقفوا على الكتاب قالوا: رأينا مثل رأيهم , فكتب سعد بن حذيفة الجواب بذلك ، وكتب سليمان ايضاً إلى المثنى بن محزمة العبدي كتاباً ، فكتب المثنى الجواب، أما بعد فقد قرأت كتابك وأقرأته إخونك فحمدوا رأيك واستجابوا لك , فنحن موافوك للأجل الذي ضربت والسلام عليك , وكتب في أسفل كتابه :
تبصر كأني قد أتيتك معلما على أبلغ الهادي أجش هزيم
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 90

طويل الـقرى نهداً أشق مقلـص ملح عـلى قـاري اللجام رؤم
بكـل فتى لا يـملأ الـدرع نحره محث لنار الحـرب غير سؤم
أخـي ثقة يـتغي الإله بـسعـيه ضروب بنعل السيف غير أثيم

وكتب أيضاً كتاباً إلى البصرة:
قال الراوي : وقوي أمرهم واشتدت شوكتهم , وصادف أن دخل المختار الى الكوفة في تلك الأيام راجعاً من مكة , فجعل الناس يقولون : هذا المختار ما قدم إلا لأمر , ونرجوا به الفرج , ثم إنه جعل يبعث الى وجوه الشيعة ويدعوهم لنفسه , فقالوا له : أنت أهل لذلك غير الناس قد بايعوا سليمان بن صرد الخزاعي , فهو شيخ الشيعة اليوم فلا تعجل في أمرك , فسكت المختار وأقام ينتظر ما يكون من أمر سليمان والشيعة حينئذ يريدون أمرهم خوفا من عبدالملك بن مروان وعبدالله بن الزبير , وكان خوف الشيعة من أهل الكوفة أكثر , لأن أكثرهم قتلة الحسين عليه السلام .
وصار المختار يخذل الناس عن سليمان ويدعوهم الى نفسه حتى بايعه جماعة , وكان عبدالله بن الزبير قد جعل من قبله عبدالله بن يزيد وإبراهيم ين محمد بن طلحة , فقال لهما عمر بن سعد وشبث بن ربعي : إن المختار أشد عليكما , لأن سليمان إنما خرج يقاتل عدوكما , والمختار إنما يريد أن يثبت عليكما , فسيروا إليه وأوثقوه بالحديد وخلدوه في السجن , فما شعر المختار إلا وقد أحاطوه بداره واستخرجوه , فقال إبراهيم بن محمد بن طلحة لعبدالله بن يزيد : أوثقه كتافاً ومشه حافياً , فقال له : لم أفعل هذا برجل لم يظهر لنا عداوة ولا حرباً , إنما أخذناه على الظن , فأتى ببلغة له دهماء فركبها وادخلوه السجن .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 91

قال : وخرج سليمان بن صرد ليرحل , فرأى عسكره , فاستقبله فبعث الى حكيم بن منقذ الكندي , والوليد بن حصين الكناني , في جماعة وأمرهما بالنداء في الكوفة وفي الجامع الكبير : يا لثارات الحسين عليه السلام , فخرج جمع كثير الى سليمان , وكان معه ستة عشر ألف مثبتة أسماؤهم في ديوانه , فلم يحضر منهم سوى أربعة آلاف , فخرج بهم وسار لمحاربة عبيدالله بن زياد (لعنه الله) , فقال له عبدالله بن سعد : إن قتلة الحسين كلهم بالكوفة , منهم عمر بن سعد ورؤوس الأرباع والأشراف والقبائل , وليس بالشام سوى عبيدالله بن زياد , فلم يعبأ برأيه دون أن سار بالرجال عشية الجمعة لخمس مضين من شهر ربيع الثاني , فباتوا ليلتهم بدير الأعور , ثم ساروا فنزلوا على أقساس مالك على شاطئ الفرات وأصبحوا عند قبر الحسين عليه السلام , فأقاموا يوماُ وليلة يصلون , ويستغفرون , وينوحون , ويضجون ضجة واحدة بالبكاء والعويل , فلم ير يوماً أكثر بكاء , وازدحموا عند الوداع على قبره كازدحام الناس على الحجر الأسود , وقام وهب بن زمعة الجعفي باكيا على القبر وأنشد أبيات عبدالله بن الحر الجعفي حيث يقول :
يبيت النـشاوي مـن أمـية نوماً وبالـطف قتـلى لا ينـام حميمها
وأضحت قناة الدين في كف ظالم وإذا أعوج منهـا جانـب لا يقيمها
فأقـسمت لا تـنفك نفسي حزينة وعيني تبكـي لا يـجف سجومها
حـياتي أو تلـقى أمـية خـزية يذل بها حتى الـممات قــرومها

أقول : فليت هؤلاء الصفوة حضروا إمامهم يوم عاشوراء وقد أحاطت به أعداؤه وهم سبعون ألف , وهو وحيد فريد بلا ناصر ولا معين , قال الشاعر :
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 92

يرى قومه صرعى وينظر نسوة تجلببن جلباب البكاء والمآتم

وقال الآخر :
وأضحى يدير السبط عينيه لا يرى سوى جثث منهم على الترب ركد (1)
(1) (فائدة) : قال ابن جرير الطبري : لما انتهى سليمان بن صرد وأصحابه الى قبر الحسين عليه السلام نادوا صيحة واحدة : يا رب إنا قد خذلنا ابن بنت نبينا فاغفر لنا ما مضى , وتب عيلنا إنك أنت التواب الرحيم , وارحم حسينا وأصحابه الشهداء والصديقين , وإنا نشهدك يا رب أنا على مثل ما قتلوه عليه فإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين .
(فائدة) : كان دخول المختار بن أبي عبيدة الثقفي الكوفة في النصف من شهر رمضان , وقدم عبدالله بن يزيد الأنصاري أميراً على الكوفة من قبل ابن الزبير لثمان بقين من شهر رمضان , وقدم ابراهيم بن محمد بن طلحة ومعه على خراج الكوفة الكوفة فأخذ المختار يبكي الحسين عليه السلام ويذكر مصابه فأحبه الناس وصار يدعوهم الى قتال قتلة الحسين عليه السلام ويقول : جئتكم من عند المهدي محمد بن الحنفية , فرجع إليه طائفة من الشيعة ثم حبسه عبدالله بن يزيد وإبراهيم بن محمد بن طلحة .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 93



المطلب الخامس والعشرون

في تتمة قضية التوابين

لما خرج سليمان بن صرد الخزاعي من الكوفة بالرجال والعدة قاصدين الشام , كان مع الناس عبدالله بن عوف الأحمر على فرس كميت يتأكل تأكلا وهو يقول :
خرجـن يلمعن بنا إرسالا عوابسا وتحـمل الأبطالا
نريد أن نلـقى بها الإقبالا الفاسقين الغـدر الضلال
وقد رفضنا الأهل والأموالا والخفرات البيض والحجالا
نرجوا به التـحفة والنوالا لنرضي المهيمن المفضالا

قال : فساروا حتى أتو هيت ثم خرجوا منها حتى أتوا قرقيسيا , وبلغهم أن أهل الشام في عدد كثير , فساروا سيراً مغذا حتى وردوا عين الوردة عن يوم وليلة , ثم قام سليمان بن صرد فوعظهم وذكرهم دار الآخرة , وقال : إن قتلت فأميركم المسيب بن نجبة , فإن اصيب فالأمير عبدالله بن سعد بن نفيل، فإن اصيب فأخوه خالد بن سعد ، فإن قتل فالأمير عبدالله بن وال ، فإن قتل فأميركم رفاعة بن شداد , ثم بعث سليمان المسيب بن نجبة في اربعة آلاف فارس وأمره أن يشن عيلهم الغارة .
قال حميد بن مسلم : كنت معهم فسرنا يومنا كله وليلتنا حتى إذا كان السحر
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 94

نزلنا وهومنا , ثم ركبنا وصلينا الصبح ففرق العسكر , وبقي معه مائة فارس , فلقي اعرابيا فقال له : كم بيننا وبين القوم ؟ قال : ميل (1) وهذا عسكر شراحبيل بن ذي الكلاع من قبل عبيدالله بن زياد في أربعة آلاف , ومن ورائهم الحصين بن نمير السكوني في أربعة آلاف , ومن ورائهم الصلب بن ناجية الغلابي وأربعة آلاف وجمهور العسكر مع عبيدالله بن زياد بالرقة .
قال : فساروا حتى أشرفوا على عسكر الشام , فقال المسيب لأصحابه : كروا عليهم , فحمل عليهم عسكر العراق فانهزموا وقتل منهم خلق كثير وغنموا منهم غنيمة عظيمة .
قال : وأمرهم المسيب بالعودة فرجعوا الى سليمان ووصل الخبر الى عبيدالله بن زياد فسرح إليهم الحصين بن نمير وأتبعه بالعساكر حتى نزل في عشرين ألف , وعسكر العراق يومئذ ثلاثة آلاف ومائة لا غير , ثم تهيأت العساكر للحرب , فكان على ميمنة أهل الشام عبدالله بن الضحاك بن قيس الفهري , وعلى ميسرتهم مخارق بن ربيعة الغنوي , وعلى الجناح شراحبيل بن ذي الكلاع الحميري , وفي القلب الحصين بن نمير السكوني , ثم جعل أهل العراق على ميمنتهم المسيب بن نجبة الفزاري , وعلى ميسرتهم عبدالله بن سعد بن نفيل الأزدي , وعلى الجناح رفاعة بن شداد البجلي , وعلى القلب الأمير سليمان بن صرد الخزاعي , ووقف العسكر فنادى أهل الشام: ادخلوا في طاعة عبدالملك بن مروان , ونادى أهل العراق : سلموا لنا عبيدالله بن زياد , وأن يخرج الناس من طاعة عبدالملك وآل الزبير , ويسلم الأمر الى أهل بيت نبينا , فأبى الفريقان وحمل بعضهم الى بعض وجعل سليمان بن صرد يحرضهم على القتال , ويبشرهم
(1) الميل أربعة آلاف ذراع وكل ثلاثة أميال فرسخ .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 95

بكرامة الله , ثم كسر جفن سيفه وتقدم نحو أهل الشام وهو يقول :
إليك ربي تبت من ذنوبي وقد علاني في الورى مشيبي
فارحم عبيدا غرما تكذيب واغفر ذنوبي سيدي وحوبي

قال حميد بن مسلم : حملت ميمنتنا على ميسرتهم , وحملت ميسرتنا على ميمنتهم , وحمل سليمان القلب فهزمناهم , وظفرنا بهم , وحجز الليل بيننا وبينهم , ثم قاتلناهم في الغد وبعده حتى مضت ثلاثة أيام , ثم أمر الحصين بن نمير أهل الشام برمي النبل , فأتت السهام كالشرار المتطاير , فقتل سليمان بن صرد , ثم أخذ الراية المسيب بن نجبة , فجعل يقاتل ويقول :
قد عـلمت ميالة الذوائب واضحة الخدين والترائب
إني غداة الروع والتغالب أشجع من ذي لبدة مواثب
قطاع أقران مخوف الجوانب
* * *

فلم يزل يقاتل حتى تكاثروا عليه فقتلوه , ثم أخذ الراية عبدالله بن سعد بن نفيل , فحمل على القوم وهو يقول :
ارحم الهي عبدالله التوابا ولا تؤاخـذه فـقد أنابا
وفارق الأهلين والأحبابا يرجو بلك الفوز والثوابا

فلم يزل يقاتل حتى قتل , ثم تقدم أخوه خالد بن سعيد بالراية , وحرض أصحابه على القتال , وقاتل حتى قتل , وتقدم عبدالله بن وال , فأخذ الراية وقاتل حتى قطعت يده اليسرى , ثم استند الى أصحابه ويده تشخب دما , ثم كر عليهم وهو يقول :
نفـسي فداكم اذكروا الميثاقا وصابروهم واحـذرو النفاقا
لا كـوفة نـبغي ولا عراقا لا بل نريـد الـموت والعناقا
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 96


قاتل حتى قتل , فبينا هم كذلك إذ جائتهم النجدة مع المثنى بن مخرمة العبدي من البصرة , ومن المدائن مع كثير بن عمرو الحنفي , فاشتدت قلوب أهل العراق بهم , واجتمعوا وكبروا وأشتد القال حتى بان في أهل العراق الضعف والقلة وتحدثوا في ترك القتال , فبعضهم وافق وبعضهم قال : إن ولينا ركبنا السيف فلا نمشي فرسخا حتى لا يبقى منا واحد , وإنما نقاتل حتى يأتي الليل ونمضي , ثم تقدم عبدالله بن عوف الى الراية فرفعها واقتتلوا أشد قتال فقتل جماعة من أهل العراق , وجاء أدهم بن محرز الباهلي في نحو عشرة آلاف مددا من ابن زياد , فاقتتلوا يوم الجمعة الى ارتفاع الضحى , ثم إن أهل الشام كثروا أصحاب سليمان وتعطفوا عليهم من كل جانب , وانفلت الجموع وافترق الناس , وبان الإنكسار بأهل العراق فتراجعوا حتى وصلوا قرقيسا في جانب البر , وجاء سعد بن حذيفة الى هيت , فلقيه الأعراب فأخبروه بما لقي الناس , ثم عاد أهل المدائن وأهل الكوفة الى بلادهم , وقد أدوا ما عليهم , فمن استشهد منهم سعد في الدارين ومن لم يقتل منهم فقد أدى ما عليه (1) لكنهم لم يصلوا الى ما وصل إليه أصحاب أبي عبدالله الحسين عليه السلام يوم عاشوراء فإنهم جاهدوا دونه حتى جزروا على الأرض فوقف عليهم الحسين عليه السلام وجعل يناديهم بأسمائهم ولسان حاله يقول :
أحباي لو غير الحمام أصابكم عتبت ولكن ما على الموت معتب
(1) قتل سليمان بن صرد ومن قتل معه من التوابين بعين الوردة في ربيع الآخر سنة خمس وستين .
(فائدة) : قال السبط ابن الجوزي في التذكرة : كان سليمان بن صرد له شرف في قومه , ولما قبض رسول الله صلى الله عليه واله وسلم تحول فنزل الكوفة وشهد مع علي عليه السلام الجمل وصفين , وكان في الذين كتبوا الى الحسين عليه السلام أن يقدم الى الكوفة غير أنه لم يقاتل معه حيث سجنه ابن زياد وكان سن سليمان بن صرد يوم قتل ثلاثاً وتسعين سنة .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 97



المطلب السادس والعشرون

في تتمة ذكر التوابين

ذكر الطبري (1) عن عبدالرحمن بن غزية قال : لما انتهينا الى قبر الحسين عليه السلام بكى الناس بأجمعهم وسمعت جل الناس يتمنون أنهم كانوا اصيبوا معه , فقال سليمان : اللهم ارحم حسينا الشهيد بن الشهيد , المهدي بن المهدي , الصديق بن الصديق , اللهم إنا نشهدك أنا على دينهم وسبيلهم وأعداء قاتليهم , وأولياء محبيهم .
قال : فأقاموا عنده يوم وليلة , يصلون عليه ويبكون ويتضرعون , فما انفك الناس من يومهم ذلك يترحمون عليه وعلى أصحابه حتى صلو الغداة عنده قبره وزاده ذلك حنقا , ثم ركبوا فأمر سليمان الناس بالمسير فجعل الرجل لا يمضي حتى يأتي قبر الحسين عليه السلام فيعول عليه ويترحم عليه , ويستغفر له .
قال الراوي : فوالله لرأيتهم ازدحموا على قبره أكثر من ازدحام الناس على الحجر الأسود .
قال : ووقف سليمان عند قبره فكلما دعا قوم وترحموا عليه قال لهم المسيب بن نجبة وسليمان بن صرد : الحقوا بإخوانكم رحمكم الله , فما زال
(1) انظر ج 4 ص 456 .
الميزان في تفسير القرآن 98

كذاك حتى بقي نحو من ثلاثين من أصحابه , فأحاط سليمان بالقبر , فقال سليمان : الحمدلله الذي لو شاء أكرمنا بالشهادة مع الحسين عليه السلام , اللهم إن حرمتناها معه , فلا تحرمناها فيه بعده .
قال : ثم إن سليمان سار من موضع قبر الحسين عليه السلام وسرنا معه فأخذنا على الجصاصة ثم على الأنبار , ثم على الصدود , ثم على القيارة وجاؤوا يجدون السير حتى وافوا هيت , وجاءهم كتاب من عبدالله بن يزيد من الكوفة يحذرهم المسير , ويدعوهم الى اتباع ابن الزبير , فكتب إليه سليمان :
بسم الله الرحمن الرحيم

للأمير عبدالله بن يزيد من سليمان بن صرد ومن معه من المؤمنين ؛ سلام عليكم
أما بعد ... فقد قرأنا كتابك وفهمنا ما نويت , فنعم والله الوالي ونعم الأمير , ونعم أخو العشيرة أنت , والله من نأمنه بالغيب ونستنصحه في المشورة , ونحمده على كل حال إنا سمعنا الله عزوجل يقول في كتبه : «ان الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة » الى قوله : «وبشر المؤمنين» (1) إن القوم قد استبشروا ببيعتهم التي بايعوا , أنهم قد تابوا من عظيم جرمهم الى الله وتوكلوا عليه , ورضوا بما قضى الله , «ربنا عليك توكنا وإليك أنبئنا وإليك المصير » (2) والسلام عليك .
فلما أتاه هذا الكتاب قال : استمات القوم أول خبر يأتيكم عنهم قتلهم , وأيم الله ليقتلن كراما مسلمين , لا والذي هو ربهم , لا يقتلهم عدوهم حتى تشتد شوكتهم وتكثر القتلى فيما بينهم .
(1) سورة التوبة : 111 .
(2) سورة الممتحنة : 4 .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 99


قال عبد الرحمن بن غزية : وخرجنا من هيت وانتهينا الى قرقيسا , فلما دنونا منها وقف سليمان بن صرد فعبأنا تعبئة حسنة حتى مررنا بجانب قرقيسيا فنزلنا قريباً منها وبها زفر بن الحارث الكلابي قد تحصن بها من القوم , ولم يخرج إليهم فبعث سليمان المسيب بن نجبة , فقال : أئت ابن عمك هذا , فقل له : فليخرج إلينا سوقا فأنا لسنا إياه نريد , إنما صمدنا لهؤلاء المحلين فخرج المسيب بن نجبة حتى انتهى الى باب قرقيسيا , فقال : افتحوا الباب ممن تحصنون ! فقالوا : من أنت ؟ قال : أنا المسيب بن نجبة , فأتى الهذيل بن زفر إياه , فقال : هذا رجل حسن الهيأة يستأذن عليك وسألناه من هو , فقال : المسيب بن نجبة , قال : وأنا إذ ذلك لا علم لي بالناس ولا أعلم أي الناس هو , فقال لي أبي : أما تدري أي بني من هذا ؟ هذا فارس مضر الحمراء كلها , وإذا عد من أشرافها عشرة كان أحدهم , وهو بعد رجل ناسك له دين , إئذن له .
قال : فأذن له ودخل فأجلسه أبي الى جانبه وسأله ولا طفه في المسألة , فقال المسيب بن نجبة : ممن تحصن , إنا والله ما إياكم نريد , وما اعترينا الى شيء الا أن تعيننا على هؤلاء القوم الظلمة المحلين , فاخرج لنا سوقاً فإنا لا نقيم بساحتكم إلا يوما أو بعض يوم , فقال له زفر بن الحارث : إنا لم نغلق هذه الأبواب إلا لنعلم أيانا اعتريتم أم غيرنا , إنا والله ما بنا عجز من الناس ما لم تدهمنا حيلة , وما نحب أنا بلينا بقتالكم , وقد بلغنا عنكم صلاح وسيرة حسنة جميلة , ثم دعى ابنه فأمره أن يصنع لهم سوقاً , وأمر المسيب بألف درهم وفرس , فقال له المسيب : أما المال فلا حاجة لي فيه , والله ما له خرجنا ولا إياه طلبنا , وأما الفرس فإني أقبله لعلي أحتاج إليه إن ظلع فرسي أو غمز تحتي , فخرج به حتى أتى أصحابه , وأخرجت لهم السوق فتسوقوا .
وبعث زفر بن الحارث الى المسيب بن نجبة بعد اخراج السوق والأعلاف
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 100

والطعام الكثير بعشرين جزورا , وبعث الى سليمان بن صرد مثل ذلك , وقد كان زفر أمر ابنه أن يسأل عن وجوه أهل العسكر , فسمي له عبدالله بن سعد بن نفيل وعبدالله بن وال , ورفاعة بن شداد , وسمي له امراء الأرباع , فبعث الى هؤلاء الرؤوس الثلاثة بعشر جزائر , وعلف كثير وطعام , وأخرج للعسكر عيراً عظيمة وشعيراً كثيرا , فقال غلمان زفر : هذه عير فاجتزروا منها ما أحببتم , وهذا شعير فاحتملوا منه ما أردتم , وهذا دقيق فتزودوا منه ما أطقتم , فظل القوم يومهم ذلك مخصبين , لن يحتاجوا الى شراء شيء من هذه الأسواق التي وضعت , وقد كفوا اللحم والدقيق والشعير الا أن يشتري الرجل ثوباً أو سوطا .
ثم ارتحلوا من الغد وبعث إليهم زفر أني خارج إليكم مشيعكم , فأتاهم وقد خرجوا على تعبئة حسنة فسايرهم , فقال زفر لسلمان : إنه قد بعث خمسة امراء , قد فصلوا من الرقة , فيهم الحصين بن نمير السكوني وشرحبيل بن ذي الكلاع , وأدهم بن محرز الباهلي , وأبو مالك بن أدهم , وربيعة بن المخارق الغنوي , وجبلة بن عبدالله الخثعمي , وقد جاءكم في مثل الشوك والشجر أتاكم عدد كثير وحد حديد , وأيم الله لقل ما رأيت رجلاً أحسن هيأة ولا عدة ولا أخلق لكل خير من رجال أراهم معك , ولكنه قد بلغني أنه قد أقبلت إليكم عدة لا تحصى , فقال ابن صرد : على الله توكلنا وعليه يتوكل المتوكلون .
ثم قال له زفر : فهل لكم في أمر أعرضه عليكم لعل الله أن يجعل لنا ولكم فيه خيراً , إن شئتم فتحنا لكم مدينتنا فدخلتموها , فكان أمرنا واحد وأيدينا واحدة , وإن شئتم نزلتم على باب مدينتنا وأخرجنا معسكرنا الى جانبكم فإذا جاءنا هذا العدو قاتلناهم جميعا , فقال سليمان لزفر : قد أرادنا أهل مصرنا على ما أرددنا عليه , وذركوا مثل الذي ذكرت , وكتبوا إلينا به بعد ما فصلنا , فلم يوفقنا ذلك فلسنا فاعلين . فقال زفر : فانظروا ما اشير به عليكم فاقبلوه وخذوا به فإني للقوم عدو وأحب أن يجعل الله عليهم الدائرة وأنا لكم واد , أحب ان يحوطكم الله
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 101

بالعافية , إن القوم قد فصلوا من الرقة فبادروهم الى عين الوردة , فاجعلوا المدينة في ظهوركم , ويكون الرستاق والماء والمادة في أيديكم , وما بين مدينتنا ومدينتكم , فأنتم له آمنون , والله لو أن خيولي كرجالي لأمددتكم أطووا المنازل الساعة الى عين الوردة , فإن القوم يسيرون سير العساكر , وأنتم على خيول , والله لقل ما رأيت جماعة خيل قط أكرم منها تأهبوا لها من يومكم هذا , فإني أرجوا أن تستبقوهم إليها , وإن بدرتموهم الى عين الوردة , فلا تقاتلوهم في فضاء ترامونهم وتطاعنونهم فإنهم أكثر منكم , فلا آمن أن يحيطوا بكم فإنه ليس لكم مثل عددهم , فإن استهدفتم لهم لم يلبثوا أن يصرعوكم ولا تصفوا لهم حين تقاتلوهم , فإني لا أرى معكم رجاله , ولا أراكم كلكم الا فرسانا , والقوم لاقوكم بالرجال والفرسان , فالفرسان تحمي رجالها , والرجال تحمي فرسانها , وأنتم ليس لكم رجال تحيي فرسانكم , فالقوهم في الكتائب والمقانب , ثم بثوها ما بين ميمنتهم وميسرتهم , واجعلوا مع كل كتيبة كتيبة الى جانبها فإن حمل على إحدى الكتيبتين ترجلت الأخرى فنفست عنها الخيل والرجال , ومتى ما شاءت كتيبة ارتفعت , ومتى ما شاءت كتيبة انحطت , ولو كنتم في صف واحد فزحفت إليكم الرجال فدفعتم عن الصف انتقض وكانت الهزيمة , ثم وقف فودعهم , وسأل الله أن يصحبهم وينصرهم , فأثنى الناس عليه ودعوا له . فقال له سليمان بن صرد : نعم المنزول به أنت , أكرمت النزول وأحسنت الضيافة ونصحت في المشورة .
وهذه سجايا العرب وأهل الشرف إذ حل بهم ضيف ونزل بساحتهم أجاروه وأكرموه ونصحوا له ـ لعن الله أهل الكوفة فلقد نزل بساحتهم سيد شباب أهل الجنة وحل بين ظهرانيهم فبدل أن يحسنوا له حلؤه هو وأطفاله عن ماء الفرات وأخذوا عليه الشرائع وتركوا أطفاله يتضاغون من العطش حتى قتلوه عطشانا ...
فعز أن تتلظى بينهم عطشنا والماء يصدر عنه الوحش ريانا

السابق السابق الفهرس التالي التالي