مأساة الحسين (ع) بين السائل والمجيب 166

استنتاج العبر من ثورة الحسين (ع)

أجبنا في الفصول السابقة قدر الإمكان عن أهم النقاط التي يقع التساؤل حولها في ثورة الحسين (ع) .
يبقى علينا أن نعرف ما هي أهم العبر والدروس التي يمكن أن نستخلصها من تلك الحادثة الفريدة في بابها المليئة بالعظاة . والتي منها :
أولا : صدق القول المأثور «ما ضاع حق ورائه مطالب» يعني أن الحق . أي حق لا يضيع بالاغتصاب ولا يذهب إلى الأبد بالعدوان . إذا كان وراء ذلك الحق صوت يرتفع بالمطالبة به وإن كان الصوت ضعيفاًَ . ودعوة مستمرة لاسترجاعه ولو كانت الدعوة فردية . المهم عدم السكوت عنه واليأس من حصوله هذه هي سنة الحياة وقانون الطبيعة في كل زمان .
وكمثال على ذلك نذكر حق أهل البيت (ع) عامة وحق علي بن أبي طالب (ع) خاصة الذي اغتصب بعد وفاة رسول الله (ص) مباشرة وأنكر نكاراً كلياً . ولكن ما استطاع الغاصبون لحقه محو ذلك الحق واقتلاع الايمان به من الرأي العام والضمير الانساني . فبعد مرور خمس وعشرين عاماً على اغتصاب حقه عليه السلام قامت ثورة شعبية ضد الغاصبين واكتسحتهم عن طريق الإمام عليه السلام وحمله الثائرون على الأكتاف حتى أجلسوه في مجلسه الشرعي وأحلوه مقامه الطبيعي وسلموه حقه المغتصب .

مأساة الحسين (ع) بين السائل والمجيب 167

ومن الجدير بالملاحظة أن الأمويين حاولوا بكل الوسائل اخراج علي عليه السلام من قلوب الناس وأفكارهم وتحويله عن قمة المجد والعظمة والمثالية باعلان سبه وشتمه ولعنه على المنابر والمنع من ذكر فضائله ومكارم أخلاقة ثم بنشر الأكاذيب في الطعن به وتشويه سمعته وبمطاردة شيعته ومواليه ومحبيه بالارهاب والقتل والسجن والتشريد والحرمان مدة نصف قرن أو أكثر من عهدهم المشئوم . ولكن ما استطاعوا وباءوا بالفشل الذريع وانتجت محاولاتهم تلك عكس مطلوبهم . فما أن زال كابوس ارهابهم عن الناس حتى ظهر علي عليه السلام على شاشة القلوب والأفكار كأعظم انسان مثالي واظهر شخصية متكاملة بين مجموعة الأنبياء والصديقين والأوصياء والقديسين من الأولين والآخرين ولقد أجمعت كلمة البشرية جمعاء على حبه وتقديسه والاعتراف بفضله وفضائله .
ويذكر بهذه المناسبة أنه سأل أحد الخبراء فقيل له ما تقول في علي بن أبي طالب ؟ قال : ما أقول في رجل كتم فضائله الأعداء بغضاً وحسداً وكتم فضائله الأولياء خوفاً وحذراً وقد ظهر من بين ذين من فضائله ما ملأ الخافقين . وقد قامت باسمه وعلى مبدأ الولاية له دول كثيرة في التاريخ . منها مثلاً الدولة الحمدانية والبويهية والفاطمية والصفوية والقاجارية وغيرها . حتى جعلت من اسمه عليه السلام شعاراً لها ترفعه على المآذن في كل يوم وليلة في خلال الأذان والاقامة . وذلك بالشهادة له بالولاية والإمامة بعد الشهادتين الواجبتين . ثم تستمر هذه الشهادة الثالثة في الأذان كرمز للتشيع في العالم الشيعي إلى يومنا هذا .
وفي ذات الحسين (ع) دليل واضح على صدق مدلول هذه الكلمة . ما ضاع حق ورائه مطالب . أجل ما ضاع ثأر الحسين (ع) ولا ذهبت تلك الدماء الزكية هدراً . فلقد ظهر المختار بن أبي عبيدة الثقفي في الكوفة البلد الذي قتل الحسين (ع) وأخذ يتتبع الذين خرجوا الى حرب الحسين (ع) اين ما كانوا حتى قتل منهم حوالي الثمانية عشر ألفاً من أصل الثلاثين ألف رجل الذين

مأساة الحسين (ع) بين السائل والمجيب 168

قاتلوا الحسين (ع) بكربلاء وفيهم عبيد الله بن زياد أمير الكوفة أنذاك وعمر بن سعد قائد الجيش الذي خرج إلى حرب الحسين (ع) والشمر بن ذي الجوشن وخولى بن يزيد وحرملة بن كاهل وغيرهم من قادة ذاك الجيش ونكل بهم أشد تنكيل وبعث برؤوس بعضهم إلى المدينة إلى الإمام زين العابدين (ع) ومحمد بن الحنفية .
وأما الذين أفلتوا من يد المختار وهربوا من الكوفة استولى المختار على أموالهم وممتلكاتهم وقسمها بين الفقراء والمنكوبين من بني هاشم وشيعتهم . وهؤلاء الذين هربوا أيضاً لم يفلتوا من العقاب والانتقام فقد سلط عليهم أينما حلوا من قتلهم وأبادهم حتى لم يمض على قتل الحسين (ع) سوى بضع سنوات إلا وقد فنوا عن آخرهم وقطع دابر الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين .
يقول العقاد في (أبو الشهداء) ص 181 وتلك جريرة يوم واحد هو يوم كربلاء وإذا بالدولة العريضة تذهب في عمر رجل واحد مديد وإذا بالغالب في يوم كربلاء أخسر من المغلوب .
كل ذلك بفضل المطالبة المستمرة التي كانت قائمة من قبل أهل البيت وشيعتهم بشتى الصور والوسائل .
ثانياً : ومن تلك العبر والدروس التي تستخلص من ثورة الحسين (ع) أيضاً صدق القول المأثور الآخر ... «الظلم لا يدوم» وأن تراه أحياناً يستمر عشرات الأعوام فإنها قليلة وضئيلة بالنسبة إلى عمر الزمن ولو قدر لدولة ظالمة أن تدوم وتستقر على الظلم والعدوان لدامت الدولة السفيانية التي أسسها معاوية بن أبي سفيان في الشام مئآت من الأعوام . ولكنها زالت بعد هلاك مؤسسها بأربع سنوات فقط وقامت على أنقاضها دولة مروانية بعد فترة من الفوضى والانحلال . والدولة المروانية تختلف عن سابقتها الدولة السفيانية . وإن الجهود التي بذلها معاوية بن أبي سفيان كانت تستهدف بقاء الملك في أسرته آل أبي سفيان عبر مئآت السنين . ولكن ربَّ ساع لقاعد ...

مأساة الحسين (ع) بين السائل والمجيب 169

ولكي تعرف مدى قوة ذلك الملك الذي أقامه معاوية لأسرته وبنيه هاك استمع إلى فقرات من وصيته ساعة موته إلى ولده وخليفته يزيد لعنه الله .
(... وأعلم يا بني اني قد كفيتك الرحلة والترحال ووطأت لك الأمور وذللت لك الصعاب وأخضعت لك رقاب العرب وجعلت الملك وما فيه طعمة لك واني لا أتخوف عليك فيما استتب لك إلا من أربعة ...) .
والخلاصة التي لا خلاف حولها هي : أن الدولة والحكومة التي خلفها معاوية ابن أبي سفيان كانت حصينة وقوية إلى أقصى ما يمكن قد توفرت فيها كل عناصر البقاء والدوام ما عدى عنصر واحد فقط وهوالعدل والحق . وهذا العنصر هو الأصل والأساس لدوام كل شيء في هذه الحياة خاصة الدولة «العدل أساس الملك الدائم» لذا فلقد انهارت تلك الدولة بأسرع وقت كما سبق . وذلك عندما تنازل معاوية الثاني ابن يزيد عن العرش دون أن ينصب أحداً مكانه ومات بعد ثلاثة أيام . ومما يذكر أنه رقي المنبر قبل اعلان تنازله عن العرش وألقى خطبة بليغة تعرض فيها لمظالم جده معاوية بن ابي سفيان ولجرائم أبيه يزيد بن معاوية ومآثم آل أبي سفيان وأكد أن آل محمد (ص) أجدر وأحق بالخلافة والسلطان .
ومما قاله في تلك الخطبة :
أيها الناس إنا بلينا بكم وبليتم بنا فما نجهل كراهتكم لنا وطعنكم علينا ألا وأن جدي معاوية بن أبي سفيان نازع الأمر من كان أولى به منه في القرابة من رسول الله (ص) وأحق في الإسلام . سابق المسلمين وأول المؤمنين وابن عم رسول رب العالمين وأبا بقية خاتم المرسلين فركب منكم ما تعلمون وركبتم منه ما لا تنكرون حتى أتته منيته وصار رهناً بعمله . ثم قلد أبي وكان غير خليق للخير فركب هواه واستحسن خطئه وعظم رجائه فأخلفه الأمل وقصر عنه الأجل فقلت منعته وانقطعت مدته وصار في حفرته رهناً بذنبه وأسيراً بجرمه . ثم بكى وقال :

مأساة الحسين (ع) بين السائل والمجيب 170

إن أعظم الأمور علينا علمنا بسوء مصرعه وقبح منقلبه وقد قتل عترة الرسول (ص) وأباح حرمة المدينة . وأحرق الكعبة المشرفة وما أنا المتقلد أموركم ولا المتحمل تبعاتكم فشأنكم أمركم فو الله لئن كانت الدنيا مغنماً فلقد نلنا منها حظاً وان تكن شراً فحسب آل أبي سفيان ما أصابوا منها ... ثم نزل من على المنبر ودخل داره ومات بعد ثلاثة أيام رحمة الله عليه .
وأخيراً وليس آخراً فإن العبر والدروس التي نستفيدها بكل وضوح من شهادة الحسين (ع) كثيرة ونضيف إلى ما قدمنا منها .
(ما كان لله ينمو) هذا القول المأثور والحكمة البالغة تتجسد بصورة واضحة في ثورة الحسين (ع) . فانها رغم بساطتها وصغر حجمها وقصر مدتها لكنها قد اتسعت أصدائها وانعكاساتها ونمت ردود فعلها على مرور الأيام حتى أصبحت تعتبر في طليعة الثورات الكبرى التي حولت سير التاريخ وأثرت في تحرر المجتمع وحفظ كيان الأمة أثراً كبيراً بل ولقد صار الخبراء والباحثون يؤمنون بانها أي ثورة الحسين (ع) هي الثورة المثالية في باب الثورات الانسانية والاصلاحية والشعبية مطلقاً وأصبحت ثارات الحسين (ع) نداء كل ثورة ودولة تريد أن تفتح لها طريقاً إلى اسماع الجماهير وقلوبهم . وفعلاً لقد تأثر بها أكثر الثائرين في العالم بعد الحسين (ع) وجعلوا من ثورته وثباته وصلابة عزيمته وصبره وشجاعته جعلوا من كل تلك الأمور قدوة مثلى لثوراتهم . يقال عن مصعب بن الزبير مثلاً الذي ثار على عبد الملك بن مروان وبقي وحده في المعركة عرض عليه الأمان والسلام من قبل عبد الملك فرفض وهو يقول ما ترك الحسين (ع) لابن حرة عذراً . ثم تقدم إلى القتال وحده وقاتل حتى قتل وكان يتمثل بقول الشاعر :
وإن الأولى بالطف من آل هاشم تأسوا فسنـوا للكـرام التأسيـا

وكان من بعض أصدائها القريبة وردود فعلها المباشر ثورة أهل المدينة على سلطان يزيد وثورة عبد الله بن الزبير في مكة المكرمة وثورة المختار الثقفي

مأساة الحسين (ع) بين السائل والمجيب 171

في الكوفة ثم ثورة مصعب بن الزبير في البصرة وثورة زيد بن علي وابنه يحيى بن زيد في كل من الكوفة وخراسان .
وأما انعكاساتها البعيدة فكثيرة ايضاً وأهمها ثورة السفاح التي قضت على الدولة الأموية نهائياً وجاءت بالدولة العباسية إلى الوجود .
أجل ان ثورة الحسين (ع) رغم بساطتها كما ذكرنا فلقد باركها الله وبارك آثارها وثمراتها وتعلقت ارادته سبحانه بأن تبقى ذكراها خالدة متجددة متوسعة عاماً بعد عام . وها هي قد مضى عليها ما يقارب الألف وأربعمائة سنة وذكراها تتجدد بتزايد وتوسع في عدة أقطار إسلامية وتتعطل فيها الدوائر الرسمية والأعمال والأسواق يوم ذكرى ثورة الحسين (ع) وتحتفل بإحياء هذه الذكرى شعوب كثيرة وقوميات شتى وعناصر متعددة من البشر . مع العلم بأن هذا كله على الرغم من العقبات التي وضعها ويضعها المخالفون والمعارضون لتلك الشعائر في طريق اقامتها ورغم المحاولات المستمرة التي يبذلونها للقضاء عليها قضاء كلياً . ولكن «إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون» . نعم إنما هي ارادة الله سبحانه التي تبنت ذكرى ثورة الحسين (ع) وقدرت لها البقاء لأن في بقائها حجة بالغة ودعوة قائمة إلى طريق الخير والسعادة والشرف والكرامة تلك الحجة وذلك الطريق المتمثلين في العمل الذي قام به الحسين (ع) إيمان بالله وحب للإنسانية وتضحية في الدفاع عنها حتى النصر أو الموت .
والذي نقصده من معنى البساطة في ثورة الحسين (ع) هي البساطة من حيث الزمن بلحاظ أنها لم تستغرق سوى بضعة أيام منذ أن صمم الحسين (ع) على ملاقاة القوم وفشلت معهم كل الجهود السلمية التي بذلها لحقن الدماء ولأجل أن يفسحوا له المجال ليسير في ارض الله العريضة إلى حيث ينتهي به السير ويخرج من منطقة نفوذ ابن زياد أو ربما يجتمع بيزيد بن معاوية للتفاوض معه حول الخلافة ومصلحة الأمة . وقد جرت منه لهذا الغرض عدة اجتماعات بينه وبين قائد الجيش عمر بن سعد وقد كتب عمر بن سعد باقتراحات الحسين (ع) إلى

مأساة الحسين (ع) بين السائل والمجيب 172

عبيد الله بن زياد والي العراق وكاد ابن زياد أن يلين ويوافق على اقتراحات الحسين (ع) ولكن الشمر بن ذي الجوشن وآخرين من بطانته الذين كان لهم تأثيراً كبيراً عليه حولوا رأيه وحسنوا له الاستمرار على حصار الحسين (ع) حتى يستسلم له أو يقاتله . وكانت النهاية التي انهارت فيها كافة المحاولات السلمية هي يوم التاسع من المحرم لما ورد الشمر إلى كربلاء بآخر كتاب من ابن زياد إلى عمر بن سعد يأمره فيه بكل تأكيد بأن يغلق باب المحادثات مع الحسين (ع) ويعرض عليه أحد أمرين فقط فإما الاستسلام وإما الحرب ثم يأمره أيضاً أن لا يطيل المدة أكثر مما طالب وأن يعجل في أمر الحسين (ع) مهما أمكن حيث علم ابن زياد أن الزمن ليس في جانب مصلحته وكان الشمر بن ذي الجوشن يحمل أمراً سرياً خاصاً من ابن زياد بأنه إن امتنع عمر بن سعد من تنفيذ الأوامر الصادرة اليه ضد الحسين (ع) فليقتله ويتولى هو ـ أي الشمر ـ قيادة الجيش . ولكن عمر بن سعد لما قرأ كتاب عبيد الله بن زياد التفت إلى الشمر وقال له لعنك الله ياشمر ولعن ما قدمت به والله اني لأظن أنك أفسدت علينا ما كنا رجونا صلاحه ولن يستسلم الحسين (ع) أبداً إن نفس أبيه لبين جنبيه . فقال له الشمر أخبرني عما أنت فاعله أتمضي لأمر أميرك وتقاتل عدوه وإلا فاعتزل وخلي ذلك بيني وبين الجيش . فقال عمر بن سعد : لا . ولا كرامة لك أنا أتولى ذلك فدونك أنت فكن على الرجّالة ثم نهض لحرب الحسين (ع) وزحف بالجيش نحو معسكر الحسين (ع) عشية الخميس لتسعٍ مضين من المحرم سنة إحدى وستين من الهجرة . ولكن الحسين (ع) استمهلهم سواد تلك الليلة وانتهت بمصرع الحسين (ع) قبل غروبها بقليل من نفس ذلك اليوم .
فالثورة الحسينية من بدايتها إلى نهايتها لم تستغرق سوى بضعة أيام فقط هذا من حيث المدة والزمن وأما من حيث المكان فإن حدودها لم تتجاوز منطقة كربلاء ذلك الوادي على شاطئ الفرات المحاط بسلسلة من التلال المتصلة

مأساة الحسين (ع) بين السائل والمجيب 173

على امتداد الصحراء وعرفت قديماً بإسم (كور بابل) ثم صحّفت إلى كربلاء وبالقرب منها منطقة تسمى (نينوى) وقيل أنها كربلاء بالذات ومن أسمائها أيضاً وادي الطفوف والغاضريات . ولم يكن لها شيء تذكر به من الوقائع أو التربة أو الموقع الجغرافي قبل وقعة عاشوراء عليها .
وأما من حيث عدد الثائرين فيها فإنه لم يتجاوز الثلاثماية والثلاثة عشر على أكثر الفروض بين رجل وصبي وطفل وشيخ وكهل .
فهي إذاً ثورة بسيطة كما وكيفاً وزماناً ومكاناً . ولكنها أعظم ثورة في العالم كله من حيث المفهوم والمضمون . من حيث التجرد والواقعية والاخلاص لله سبحانه وتعالى ومن حيث العطاء والفداء .
فبين عشية وضحاها وفي خلال نهار واحد فقط أبيدت واستئصلت بيوت وأسر من آل رسول الله (ص) أو كادت أن تستأصل . قال بعض الشعراء :
عينُ جودي بعبرةٍ و عويل واندبي إن ندبت آل الرسول
سبعة كلهم لصلـب علـي قد أصيبـوا وتسعة لعقيـل

أجل لقد استأصل ولد الحسين (ع) ولم ينج منهم سوى زين العابدين (ع) وذلك بأعجوبة . وأبيد ولد الحسن (ع) ولم يسلم منهم سوى طفلين صبيين والحسن المثنى الذي سقط جريحاً فحمله أخواله بنوا فزارة وتشفعوا فيه عند عمر بن سعد وابن زياد ثم حملوه إلى الكوفة وعالجوا جراحه حتى شفي وعاد إلى المدينة ولم يبق من أولاد عقيل بن ابي طالب وأولاد جعفر بن أبي طالب سوى الأحفاد الصغار حتى هؤلاء قتل بعضهم سحقاً تحت حوافر الخيول لما هجم القوم على الخيام . قالوا خرج صبي يدرج من مخيم الحسين (ع) وفي أذنيه درتان تتذبذبان على خديه وهو مدهوش مذعور من هجوم الأعداء على الخيام يتلفت يميناً ويساراً وأمه خلفه تلاحظه وتحرسه فدنا عنه رجل من القوم على فرس بيده عمود من حديد فضرب الصبي على رأسه وأرداه إلى الأرض قتيلاً .

مأساة الحسين (ع) بين السائل والمجيب 174

وقد وجد عدة أطفال من آل الحسين (ع) يوم الحادي عشر من المحرم وهم موتى من العطش على وجه الرمال بعد أن فروا من المخيم عند هجوم الخيل يوم عاشوراء ولما صرع وهب بن حباب الكلبي يوم عاشوراء خرجت أمه من الخيمة حتى جلست عند مصرع ولدها تندبه وتبكيه فقال الشمر بن ذي الجوشن لغلامه ويلك أضرب رأسها فخدش الغلام رأسها وقتلها بمكانها . هذا بعض ما يمكن تصويره وبيانه من مآسي تلك الثورة البسيطة المتواضعة والتي ظهرت بعد انتهائها وبعد مرور بعض الزمن عليها كأعظم ثورة في الدنيا من حيث المثالية والقدسية . وذلك رغم محاولات الأمويين وغيرهم لإعفاء آثارها وطمس معالمها وجعلها كأنها لم تكن شيئاً مذكوراً «يريدون ليطفؤا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون» .
ونعود ثانية إلى القول المأثور . ما كان لله ينموا ... أجل إن الشواهد على صدق هذا القول كثيرة في التاريخ بل وفي حياتنا اليومية أيضاً ففي التاريخ أن موسى بن عمران (ع) مثلاً أعان ابنتي شعيب وسقى لهما من البئر التي ازدحم عليها الرجال وكان عمله هذا خالصاً لوجه الله تعالى ما كان ينتظر بل لا يتصور من ورائه ربحاً أو نفعاً في الدنيا فبارك الله له في ذلك العمل البسيط فوصل بسببه إلى شعيب نبي الله على تلك القرية ونال الأمن والزوجة والمال في كنفه . وبالتالي اختاره الله رسولاً إلى فرعون وملئه .
وهذا مثل آخر هو يوسف الصديق (ع) اتقى الله واستعصم وتورع عن الخيانة وكافح شهوته ساعة لوجه الله تعالى لا خوفاً من الناس وطمعاً فيهم . فبارك الله ذلك العمل والكفاح ضد نفسه الامارة فأوصله إلى ملك مصر مع النبوة وعظيم الزلفى .
ومن هذه الأمثلة ذلك الشاب البار بوالديه في عصر موسى بن عمران (ع) وكانت له بقرة وقع حادث القتل في بني إسرائيل ولم يعرف القاتل حتى اشتروا منه تلك البقرة بملء جلدها ذهباً وذبحوها وضربوا المقتول ببعض

مأساة الحسين (ع) بين السائل والمجيب 175

أعضائها فأحياه الله تعالى وأخبر بقاتله وبذلك كشفت عنهم تلك الفتنة التي كادت أن تقع فيهم ويذهب ضحيتها خلق كثير منهم .
وإلى أمثالها من الشواهد الكثيرة . إلا أن موقف الحسين (ع) في كربلاء أوضحها دلالة وأشدها تأكيداً على صدق هذا القول المأثور «ما كان لله ينموا» .
لقد وقف عليه السلام ومعه نفر قليل من الأعوان بدون عدة ولا مدد محصورين ممنوعين عن الماء وورائه جمع من النساء والأطفال وأمامه جيش من الأعداء وقد تجردوا من كل صفة انسانية وفقدوا الضمير والوجدان وبالاضافة إلى أن ذلك الجيش كان يفوق عدد أصحابه بمئات المرات حيث كان لا يقل عن الثلاثين ألفاً .
يقول المرحوم عباس محمود العقاد في كتابه (أبو الشهداء) يصف أعوان يزيد : «وإنما بقيت ليزيد شرذمة على غراره أصدق ما توصف به أنها شرذمة جلادين يقتلون من أمروا بقتله ويقبضون الأجر فرحين . ويقول أيضاً فكان أعوان يزيد جلادين وكلاب طراد في صيد كبير وكانوا في خلائقهم البدنية على المثال الذي يعهد في هذه الطغمة من الناس ونعني به مثال المسخاء المشوهين الذين تمتلئ صدورهم بالحقد على أبناء آدم ولا سيما من كان منهم على سواء الخلق وحسن الأحدوثة» .
أقول لقد وقف الحسين (ع) وأصحابه يوم عاشوراء ذلك الموقف الحرج الشاق الصعب مع أنه كان في وسع كل واحد منهم أن يتجنب القتل بكلمة يقولها أو بخطوة يخطوها . ولكنهم جميعاً آثروا الموت عطاشاً جياعاً مناضلين من دون أن يكون لهم أي أمل في النصر العاجل والانتصار العسكري ولكن وقفوا لوجه الله تعالى مخلصين له بالجهاد في سبيل دينه وشريعته مضحين بأنفسهم في سبيله .
وقفوا والمـوت فـي قارعـةٍ لـو بها أرسى ثهـلان لـزالا
فأبـوا إلا اتصـالاً بـالضبـا وعن الضيم من الروح انفصالا
أرخصوهـا للعوالـي مهجـاً قـد شراهـا منهـم الله فغـالا

مأساة الحسين (ع) بين السائل والمجيب 176

ونختم هذا الفصل بكلمة للعقاد (في أبو الشهداء) ص 194 :
«وباء الحسين في ذلك الموقف بالفخر الذي لا فخر مثله في تواريخ بني الانسان غير مستثنى منهم عربي ولا عجمي ولا قديم ولا حديث» وجميل جداً ما شبه به بعض الكتاب موقف الحسين (ع) وموقف خصومه يوم كربلاء فقال ما مضمونه :
ان ساحة الصراع في كربلاء كان أشبه بمعرض عالمي أقيم على تلك البقعة وكان لذلك المعرض جناحان فقط جناح الحسين (ع) وأصحابه وجناح أعدائه ومقاتليه وقد عرض كل من الجانبين في جناحه الخاص نماذج وصور عن هذا الجنس البشري في طرفي صعوده وسقوطه فعرض الحسين (ع) وأصحابه للعالم نماذج مثالية خالدة عن أقصى مراحل التكامل البشري والكمال الانساني من مصنع الاسلام وصناعة القرآن . كما عرض أعدائه في الجانب الآخر نماذج خالدة للعالم عن أسفل درك المسخ والسقوط والانتكاس البشري من مصنع الجهل وصناعة الحكم الأموي . فكربلاء إذاً معرض بشري عالمي قائم ومفتوح حتى يومنا هذا دون منافس ولا نظير .
والخلاصة هي : أن الحسين (ع) وان خسر المعركة العسكرية والحرب المسلحة بسبب غدر أهل العراق . ولكنه وبلا شك ... قد ربح المعركة السياسية بكل أبعادها وكسب الحرب الدعائية بأوسع حدودها وانتصر على أعدائه الأمويين على صعيد الرأي العام العالمي . فخلده التاريخ رمزاً للشهادة والتضحية في سبيل العقيدة والكرامة الانسانية . وخلد الأمويين أيضاًً رمزاً للانتهازية والنفعية والسقوط الانساني . فلا تجد في العالم غالباً أشبه بمغلوب من الأمويين في موقفهم من الحسين (ع) ولا تجد مغلوباً أشبه بغالب ومنتصر من الحسين (ع) في ثورته ضد الأمويين وهذا ما قصده الحسين (ع) بموقفه يوم

مأساة الحسين (ع) بين السائل والمجيب 177

عاشوراء وعبر عنه تعبيراً صريحاً في كتابه إلى من تخلف عنه بقوله : أما بعد فمن لحق بي منكم استشهد ومن لم يحق لم يبلغ الفتح ... والسلام ... ولقد أجاد بعض الأدباء حيث قال :
ياشهيد الطفوف تفديك روحي كنـت والله ضيغماً هـدّارا
كلما كرروا عليك هجوماً ... زادك الكر نجدة و اصطبارا
ان تكن كربلا رأتك وحيـداً و تنادي فلـم تجد أنصـارا
وابن هند يسوق جيشاً كثيفـاً يملأ البحـر جلبة والقفـارا
فطواه الزمـان ملكاً غريـراً سيئ الذكر ماجنـاً خمّـارا
وبنا من علاك مجداً طريفـاً خالد الذكر كالنهار اشتهـارا

السابق السابق الفهرس التالي التالي