كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 338


ألإمام يودع أهله ثانية :

ودع ألإمام عياله ثانية ، وأمرهم بالصبر ، وطلب منهم أن يستعدوا للبلاء ، وقال : «إعلموا أن ألله تعالى حاميكم وحافظكم ، وسينجيكم من شر ألأعداء ، ويجعل عاقبة أمركم إلى خير ، ويعوضكم عن هذه البلية بأنواع النعم والكرامة فلا تشكوا ، ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص من أقداركم».

عمر بن سعد يصدر أمراً عسكريا جديدا ودعاء للإمام :

قال عمر بن سعد : ويحكم اهجموا عليه ما دام مشغولا بنفسه وحرمه ، وألله إن فرغ لكم لا تمتاز ميمنتكم عن ميسرتكم ، فحملوا عليه يرمونه بالسهام حتى تخالفت السهام بين أطناب الخيم ، فحمل عليهم ألإمام كالليث الغضبان فلا يلحق أحدا إلا بعجه بسيفه ، فقتله ، والسهام تأخذ من كل ناحية وهو يتقيها بصدره ونحره ، ثم رجع إلى مركزه وأكثر من قول : «لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم» وطلب في هذه الحال ماءً ، فقال شمر بن ذي الجوشن : لا تذوقه حتى ترد النار !! وناداه رجل : يا حسين ألا ترى الفرات كأنه بطون الحيات ، فلا تشرب منه حتى تموت عطشا ، فقال الحسين : «اللهم أمته عطشا ، فكان ذلك الرجل يطلب الماء فيؤتى به حتى تخرج من فيه وما زال كذلك إلى أن مات عطشا».(1)
ورماه أبو الحتوف الجعفي بسهم في جبهته ، فنزعه وسالت الدماء على وجهه ، فقال ألإمام : «اللهم إنك ترى ما أنا فيه من عباد هؤلاء العصاة ، اللهم احصهم عددا ، واقتلهم بددا ، ولا تذر على وجه ألأرض منهم أحدا ولا تغفر لهم أبدا» .
وصاح الحسين بأعلى صوته : «يا أمة السوء بئسما خلفتم محمدا في عترته ، أما إنكم لا تقتلون رجلا بعدي فتهابون قتله بل يهون عليكم ذلك عند قتلكم إياي ، وأيم ألله إني لأرجو أن يكرمني الله بالشهادة ثم ينتقم لي منكم من

= ص46 باب «خصائص الحيوانات»، ومقتل المقرم ص347 .
(1) مقاتل الطالبيين لأبي الفرج ألأصفهاني ص47 .
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 339


حيث لا تشعرون . فقال الحصين : وبماذا ينتقم لك منا يا ابن فاطمة ؟ قال ألإمام : يلقي بأسكم بينكم ، ويسفك دماءكم ثم يصب عليكم العذاب صبا».(1)
ووقف ألإمام عن القتال ووقف يستريح ، فرماه رجل بحجر على جبهته فسال دمه ، فأخذ الثوب ليمسح دمه عن عينيه ، وجاءه سهم له ثلاث شعب فوقع على قلبه ، فقال ألإمام : «باسم ألله وبالله على ملة رسول ألله ، ورفع رأسه إلى السماء : إلهي إنك تعلم أنهم يقتلون رجلا ليس على وجه ألأرض ابن نبي غيره».
وجاءه سهم في قفاه فأخرجه ، وانبعث الدم كالميزاب (2)فوضع يده الشريفة تحت الجرح فلما امتلأت رمى بها نحو السماء وقال : «هوّن علي ما نزل بي أنه بعين ألله فلم يسقط من ذلك الدم قطرة إلى ألأرض»(3)ثم ملأ يده بالدم ولطخ به رأسه ووجهه ولحيته وقال : هكذا أكون حتى ألقى الله وجدي رسول الله وأنا مخضب بدمي . . . ».(4)

نداء ألحسين للأصحاب :

نظر ألإمام الحسين يمينا وشمالا فلم ير أحدا من اهله وأصحابه وأنصاره فنادى : يا مسلم بن عقيل ، ويا هاني بن عروة ، يا حبيب بن مظاهر ، يا زهير بن القين ، يا يزيد بن مظاهر . . . وسمى الكثير من أصحابه ثم قال : يا علي بن الحسين ، يا أبطال الصفا ويا فرسان الهيجاء ، مالي أناديكم فلا تجيبون وأدعوكم فلا تسمعون ، أنتم نيام ، أرجوكم تنتبهون ، أم حالت مودتكم عن إمامكم فلا تنصرونه ، فهذه نساء الرسول لفقدكم قد علاهن النحول ، فقوموا من نومتكم أيها الكرام ، وادفعوا عن حرم رسول الله الطغاة اللئام . . . ثم أنشأ يقول :
قوم إذا نودوا لدفع ملمة والخيل بين مدعس ومكردس


(1) مقتل العوالم ص98، ونفس المهموم ص189 ومقتل الحسين للخوارزمي ج2 ص24 .
(2) نفس المهموم ص189 ومقتل الحسين للخوارزمي ج2 ص24 واللهوف ص18 .
(3) تهذيب ابن عساكر .
(4) مقتل الحسين للخوارزمي ص34، واللهوف ص70 .
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 340


(1)
لبسوا القلوب على الدروع وأقبلوا يتهافتـون على ذهـاب ألأنفس
نصروا الحسين فيـا لهم من فتية عافوا الحياة و ألبسوا من سندس

قبل أن يقتل ألإمام :

قال أبو مخنف : إن حميد بن مسلم ، قال : سمعته يقول قبل ان يقتل وهو يقاتل على رجليه قتال الفارس الشجاع ، يتقي الرمية ، ويفترص العورة ويشد على الخيل وهو يقول : أَعلى قتلي تحاثون ، أما والله لا تقتلون بعدي عبدا من عباد ألله اسخط عليكم لقتله مني ، وأيم الله إني لأرجو أن يكرمني ألله بهوانكم ثم ينتقم لي منكم .

أوامر قيادة جيش بني أمية:

صاح شمر بن ذي الجوشن بجيش بني أمية ، ويحكم ماذا تنتظرون بالرجل اقتلوه ، ثكلتكم أمهاتكم ، فحمل عليه جيش الخلافة من كل جانب فضربت كفه اليسرى ضربة ضربها شريك التميمي ، وضرب على عاتقه ، ثم انصرفوا عنه ، وحمل عليه في تلك الحال سنان بن أنس بن عمرو النخعي فطعنه بالرمح حتى وقع ، ونادت زينب بنت علي بن ابي طالب : «وا اخاه وا سيداه ، وا أهل بيتاه ، ليت السماء انطبقت على ألأرض ، وليت الجبال تدكدكت على السهل »(2)وانتهت نحو الحسين ، وقد دنا منه عمر بن سعد في جماعة من أصحابه والحسين يجود بروحه الطاهرة فصاحت زينب : «أي عمر ، ايقتل أبو عبدالله وأنت تنظر إليه ، فصرف بوجهه عنها ودموعه تسيل على لحيته».(3)
وقالت السيدة زينب : ويحكم ، أما فيكم مسلم ؟ فلم يجبها أحد .(4)

(1) ناسخ التواريخ ج2 ص277، ومعالي السبطين ج2 ص19، ومقتل الحسين لأبي مخنف ص223 والموسوعة ص483 ـ 484 .
(2) اللهوف ص73 .
(3) الكامل لابن ألأثير ج4 ص32 ز
(4) ألإرشاد للمفيد ص6 ومقتل العوالم ص10 ومقتل الحسين للخوارزمي ج2 ص37 وراجع معالم المدرستين ج3 ص132 وما فوق ومقتل الحسين للمقرم ص350 وما فوق .
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 341



ثم صاح ابن سعد بجيش بني أمية ، إنزلوا إليه وأريحوه ، فبدر إليه شمر بن ذي الجوشن ، وضربه بالسيف إثني عشرة ضربة ، وإحتزّ رأسه المقدس .

سلب ألإمام بعد موته !! :

وأقبل جيش بني أمية ليسلبوا ألإمام القتيل ، فأخذ إسحاق بن حويه قميصه ، وأخذ ألأخنص بن مرثد بن علقمة الحضرمي عمامته وأخذ ألأسود بن خالد نعليه ، وأخذ سيفه جميع بن الخلق ألأوردي ويقال إن الذي أخذ السيف رجل من بني تميم إسمه ألأسود بن حنظلة ورأى أحدهم الخاتم في إصبع ألإمام والدماء عليه فقطع إصبعه ، وأخذ قيس بن ألأشعث قطيفته (1)وسمي لذلك بقيس قطيفة .(2)
وحاول جيش الخلافة أن ينهب سروال ألإمام ويتركوه عاريا ولكنهم فشلوا بمعجزة ! .(3)

قاتل ألإمام يطلب الجائزة !! :

قال الناس لسنان بن أنس : قتلت الحسين بن علي وابن فاطمة بنت رسول ألله أعظم العرب خطرا ، جاء إلى هؤلاء يريد أن يزيلهم عن ملكهم ، فإت أمراءك فاطلب ثوابك منهم ، إنهم لو أعطوك بيوت أموالهم في قتل الحسين كان قليلا ، فأقبل على فرسه ، وكان شجاعا وبه لوثة حتى وقف على باب فسطاط عمر بن سعد ثم نادى بأعلى صوته :
أوقر ركابي فضة أو ذهبا أنا قتلت الملك المحجبا
قتلت خير النـاس أما وأبا وخيرهم إذينسبون نسبا

فقال عمر بن سعد : أشهد أنك لمجنون ، ما صححت قط ، أدخلوه علي،

(1) اللهوف ص73 .
(2) مقتل الحسين ج2 ص38 ،والكامل لابن ألأثير ج4 ص32 .
(3) مقتل الحسين للخوارزمي ج2 ص102 .
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 342


فلما أُدخل حذفه بالقضيب ثم قال : يا مجنون أتتكلم بهذا الكلام ! أما وألله لو سمعك ابن زياد لضرب عنقك .(1)
لقد انصب اعتراض ابن سعد على مدح القاتل للحسين !!!.

جيش بني أمية يسلب وينهب ذرية الرسول :

لما قتل ألإمام الحسين مال الجيش على ثقله ومتاعه وانتهبوا ما في الخيام(2)وأضرموا النار فيها ، وتسابق القوم على سلب حرائر الرسول ، ففرت حرائر الزهراء حواسر ، مسلبات ، باكيات (3)وإن المرأة لتسلب مقنعتها من رأسها وخاتمها من اصبعها ، وقرطها من أذنها ، والخلخال من رجلها .(4)
وساق رجال جيش بني أمية النساء بأكعاب رماحهم وهن يلذن بعضهن ببعض ،(5)وأقبل ابن سعد ، فبكت النساء ، وكان القوم قد أخذوا كل ما معهن ولم يردوا عليهن شيئا .(6)

الخيل توطىء صدر ألإمام وظهره وهو ميت :
نادى ابن سعد : ألا من ينتدب إلى الحسين فيوطىء الخيل صدره وظهره ؟ ! فقام من الجيش عشرة(7)فداسوا بخيولهم جسد ألإمام ، وأقبل العشرة على ابن زياد يرتجزون :
نحن رضضنا الصدر بعد الظهر بكـل يعبـوب شديـد ألأسـر


(1) راجع معالم المدرستين ج3 ص135ـ136 نقلا عن أبي مخنف .
(2) الكامل لابن ألأثير ج4 ص32 .
(3) تاريخ الطبري ج6 ص160 .
(4) مثير ألأحزان لابن نما ص40 .
(5) سير أعلام النبلاء للذهبي ج3 ص204 .
(6) الكامل لابن ألأثير ج4 ص32 .
(7) تاريخ الطبري ج6 ص161 والكامل لابن كثير ج4 ص33، ومروج الذهب للمسعودي ج2 ص91 والخطط للمقريزي ج2 ص281 والبداية والنهاية لابن ألأثير ج8 ص189 وتاريخ الخميس ج3 ص333، ومناقب أبن شهر آشوب ج2 ص224 .
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 343



فأمر لهم بجائزة .(1)

قطع رؤوس الشهداء وإقتسام قبائل العرب لهذا الشرف !!! :

بعد ذلك أمر ابن سعد بقطع رأس ألإمام الحسين ورؤوس الشهداء من أهل بيته وأصحابه ،(2)وأخذت كل قبيلة من قبائل العرب رؤوس ضحاياها ، قال أبو مخنف : فجاءت كندة بثلاثة عشر رأسا وصاحبهم قيس بن ألأشعث ، وجاءت هوازن بعشرين رأسا وصاحبهم شمر بن ذي الجوشن ، وجاءت تميم بسبعة عشر رأسا ، وجاءت بنو أسد بستة رؤوس ، وجاءت مذحج بسبعة رؤوس ، وجاء ساير الجيش بسبعة رؤوس.(3)
وحمل جيش بني أمية المنتصر الرؤوس على أطراف الرماح .(4)

وساقوا حرم الرسول كما تساق ألأسارى :

قال ابن أعثم في الفتوح والخوارزمي في مقتل الحسين وغيرهما : وساق القوم حرم رسول ألله كما تساق ألأسارى ، حتى إذا بلغوا الكوفة ، خرج الناس ينظرون إليهم وجعلوا يبكون ويتوجعون ، وعلي بن الحسين مريض ، مغلول ، مكبل بالحديد ، قد نهكته العلة فقال : ألا إن هؤلاء يبكون ويتوجعون من أجلنا فمن قتلنا إذا ؟ !.

خطبة السيدة زينب في أهل الكوفة :

لما وصلت ركب أسارى آل محمد إلى الكوفة ، خرج أهل الكوفة يتفرجون ويبكون فوقفت السيدة زينب وألقت كلمة جاء فيها :

«يا أهل الكوفة ، يا أهل الختل والخذل والغدر أتبكون !! . . . . أتدرون أي

(1) اللهوف ص75 ومثير ألأحزان ص41 ومقتل الخوارزمي ج2 ص39 .
(2) راجع تاريخ الطبري ج5 ص455 ـ 456 ، ومثير ألأحزان ص65 ، وألأخبار الطوال ص259 ، وألإرشاد للمفيد ص43 ، وبحار ألأنوار ج45 ص62 وأللهوف ص60 .
(3) تاريخ الطبري ج5 ص 467 ـ 468 .
(4) ألأخبار الطوال ص259 .
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 344


كبد لرسول الله فريتم ، وأي دم له سفكتم ، وأي كريمة له أبرزتم ، واي حريم له أصبتم ، وأي حرمة له انتهكتم ، لقد جئتم شيئا إدا ، تكاد السماوات يتفطرن منه ، وتنشق منه ألأرض ، وتخر الجبال هدا ، أفعجبتم ان مطرت السماء دما ، ولعذاب ألآخرة أشد وأخزى وأنتم لا تنصرون . . . قال بشير : فوالله لقد رأيت الناس يومئذ حيارى كأنهم كانوا سكارى ، يبكون ويحزنون ويتفجعون ، ويتأسفون ، ونظرت إلى شيخ من أهل الكوفة كان واقفا إلى جانبي قد بكى حتى أخضلت لحيته بدموعه وهو يقول : صدقت بأبي وأمي ، كهولكم خير الكهول ، وشبانكم خير الشبان ونساؤكم خير النساء ، ونسلكم خير نسل»(1)

خطبة فاطمة بنت الحسين :

ثم وقفت فاطمة بنت الحسين وألقت كلمة في أهل الكوفة جاء فيها : «فكذبتمونا ورأيتم قتالنا حلالا ، وأموالنا نهبا ، كأنا أولاد ترك أو كابل ، فلا تدعونكم أنفسكم إلى الجذل بما أصبتم من دمائنا ، ونالت أيديكم من أموالنا فكأن العذاب قد حل بكم ، الا لعنة الله على الظالمين ».(2)

إرسال ألأسارى إلى خليفة المسلمين !! بغير وطاء :

روى الطبري : إن عبيدالله أمر بنساء الحسين وصبيانه فجهزن ، وأمر بعلي ابن الحسين ، فغل بغل إلى عنقه ، ثم سرح بهم .
وقال ابن أعثم : دعا ابن زياد زحر بن قيس الجعفي ، فسلم إليه رأس الحسين بن علي ، ورؤوس أخوته ، ورأس علي بن الحسين ، ورؤوس أهل بيت النبوة ورؤوس شيعة ألإمام الحسين ، ودعا علي بن الحسين فحمله وحمل أخوته وعماته وجميع نسائهم إلى يزيد بن معاوية ، وسار القوم بحرم رسول ألله من

(1) الفتوح لابن أعثم ج5 ص221 ـ 226 ومقتل الخوارزمي ج2 ص40 ـ 41 .
(2) مثير ألأحزان ص66 ـ 69 .
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 345


الكوفة إلى بلاد الشام على محامل بغير وطاء من بلد إلى بلد ومن منزل إلى منزل كما تساق أسارى الترك والديلم .(1)

ووضعت الرؤوس بين يدي أمير المؤمنين !!! :

ولما وضعت رؤوس الشهداء بين يدي «أمير المؤمنين وخليفة رسول رب العالمين» يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ، جعل يتمثل بأبيات ابن الزبعرى :
ليت أشياخي ببدر شهدوا . . . إلخ(2)
وظهر يزيد بن معاوية على حقيقته ، وتجاهلت الجموع الذليلة عفوية يزيد بإظهار حقيقة مشاعره ، وتابعت سيرها على درب الطاعة لتضمن استمرار العطاء والرزق الشهري الذي يصلها من خزائن دولة الخلافة . واستجيبت دعوة ألإمام ، وسقط نظام الخلافة ، وصارت ألأمة أذل أمم ألأرض .

(1) الفتوح لابن اعثم ج5 ص236 .
(2) تقدم ذكر هذه ألأبيات في الفصل الخامس من الباب الثالث .

السابق السابق الفهرس