كربلاء ـ الثورة والمأساة 1



كربلاء الثورة والمأساة


كربلاء ـ الثورة والمأساة 2


الطبعة الأولى 1418هـ ـ 1997م


كربلاء ـ الثورة والمأساة 3

كربلاء
الثورة والمأساة


المحامي أحمد حسين يعقوب
الغدير للدراسات الاسلامية
بيروت ـ لبنان

كربلاء ـ الثورة والمأساة 4


بسم الله الرحمن الرحيم


كربلاء ـ الثورة والمأساة 5

كلمة المركز


مثلت ثورة كربلاء ، في التاريخ الاسلامي ، منذ أن قامت ، ولا تزال تمثل ، نهجا في معرفة حقيقة النظام الخارج على تعاليم الاسلام ، وفي مواجهته والسعي الى تغييره ، فكانت تأسيسا لهجرة تتجدد ، في مسار الزمن ، كما ضوء الشمس ، هجرة تتبع خطى خاتم الأنبياء(ص) التي واصلها سبطه سيد الشهداء عليه السلام ، ويمضي في هديها المسلمون الأتقياء .
وللهجرة المتجددة دروب ، من بينها الكتابة تبيانا للحق وكشفا للزيف وهديا للحائرين ، الباحثين عن يقين .
ينتمي هذا الكتاب ( كربلاء : الثورة والمأساة ) إلى هذا النوع من الكتابة ، فهو يهدف إلى محاكمة نظام جائر انقلب على الاسلام وحكم باسمه ليفرغه من جوهره ويبقي على شكليات يتوسلها ليسوغ استبداده بالأمة ، فكانت كربلاء ثورة على هذا الارتداد المفضي الى الاستبداد .
يعود المؤلف في محاكمته الموضوعية ، إلى التاريخ ، ويستقي من كتبه ، حقائقه ، ويقدمها مجردة فيوضح عدة قضايا ، نشير ، في هذا المقام ، الى أهمها :
ـ تعريف الفئتين اللتين تواجهتا في كربلاء : قيادة وأركانا وعددا ومواقف وأهدافا .
ـ بيان دور الأمة الاسلامية في كربلاء ، ومواقفها من هذا الحدث ، وبدا لافتا سكوت الأكثرية ، وسعي المقاتلين في جيش يزيد الى الارتزاق ، الى الفضة والذهب والمناصب ، على الرغم من معرفتهم أن من يقاتلونه هو خير الناس ، ما

كربلاء ـ الثورة والمأساة 6


يجعل الضوء يتركز على امرين ، اولهما : موقف الاقلية ، الصفوة التي تبينت الحق وثانيهما : الحقائق التي كشفتها أخبار السماء .
ـ البحث في أسباب ثورة كربلاء ، وفي رؤية الإمام الحسين (ع) الى الواقع القائم وضرورة تغييره وسبل ذلك .
ـ تتبع مسار هذه السبل ، أو الهجرة / رحلة الشهادة والبحث في وقائعها ونتائجها .
وبهذا يمثل هذا الكتاب دراسة موضوعية تتحرى ، من خلال تبين الحقيقة وقائع ، مجردة جلية ، رضوان الله تعالى ، وهذا هو رجاء كل مسلم تقي في هذه الحياة .

مركز الغديرللدراسات الاسلامية ـ بيروت


كربلاء ـ الثورة والمأساة 7


بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة :
نحمد الله ونشكره كما يستحقه وكما هو أهله ، ونصلي ونسلم ونبارك على محمد رسول رب العالمين وخاتم النبيين وعلى آله الطيبين الطاهرين الذين اصطفى من عباده . أما بعد ..
فقبل بضع سنين دعيت لحضور مؤتمر في طهران ، كنت يومذاك قد استوعبت المقاطع والكليات الأساسية لقضية أهل بيت النبوة العادلة ، ولم أكن قد تعرفت بعد على تفاصيلها الدقيقة ، وكنت أعرف بالضرورة أن مذبحة كربلاء هي جرح غائر في قلوب أهل بيت النبوة واوليائهم ، وان تلك المذبحة قد اصابت من الإسلام ومن أهل بيت النبوة مقتلا ، وانها قد فضحت نظام الخلافة السياسي التاريخي وأظهرته على حقيقته ، ولكني كنت أجهل تفاصيل تلك المذبحة ، ومقدمتها ، ودقائقها .
كان من برنامج الدعوة زيارة ضريح الإمام الخميني بمناسبة الذكرى السنوية لوفاته ، وفي صبيحة هذا اليوم ذهبنا لزيارة الضريح ، فوجئت بعدد لا يقل عن ثلث مليون رجل وامرأة متحلقين حول ذلك الضريح ، وهم يرفعون قبضات أيديهم في الهواء ويرددون باللغة الفارسية شعارات لها نغم يشق طريقه بيسر إلى القلب . قلت لمرافقي : ترجم لي حرفيا ما يقوله هذا الجمع ، فقال الفتى : إنهم يقولون «لن نكون كالذين تركوا إمامهم وحيدا ، نحن معك يا إمام» فانفجرت بالبكاء وعرفت أن الامام الذي ترك وحيدا ليقاتل جيش الخلافة وحده هو الامام الحسين !! في ذلك اليوم بالذات نبتت في ذهني وقلبي فكرة الكتابة عن مذبحة

كربلاء ـ الثورة والمأساة 8


كربلاء ، وتكونت لدي القناعة بضرورة الوقوف على تفاصيل تلك المذبحة ، ونذرت جزءا من وقتي لهذا الموضوع ، وبدأت أقرأ ، وأجمع ، واخزن ، لهذه الغاية ، وكلما زرت مقام السيدة زينب في ضواحي مدينة دمشق ، كنت استعرض صور المأساة ، وتتعمق وتتأصل وتتجدد فكرة الكتابة عن كربلاء ، وكلما طرحت الفكرة امام بعض العلماء الأفاضل الذين احبهم واثق بدينهم وعمق ولائهم لأهل بيت النبوة ، والذين عرفوني ، واطلعوا على مؤلفاتي ، وجدت التشجيع على ذلك ، وقالوا : إن ثقافتي في مجال الفكر السياسي ستجعل من كتابتي ، في هذا الموضوع عملا فريدا مميزا .
وعندما طبع كتابي التاسع (مساحة للحوار) (1) استعنت بالله ، وشمرت عن ساعدي ، وبدأت كتابة هذا البحث ، بلغة العصر وروحه ، وكانت فترة كتابته من اقسى واكثر فترات عمري حزنا على الأطلاق ، فقد كنت انفعل مع الاحداث وأبكي مرات عديدة يوميا ، وأي انسان لا تبكيه فصول مأساة كربلاء !! .
وقد دخلت إلى البحث من أربعة جهات ، وسميت كل جهة بابا ، ثم فتحت من كل جهة مجموعة من المسارب والطرق سميتها فصولا .
ففي الباب الأول : حشدت بمنهجية علمية كل المعلومات التي تعرف القارىء الكريم بالفئتين اللتين تواجهتا في كربلاء ، من هما ، عددهما ، قادتهما ، آركان قيادتهما ، والمواقف النهائية لكل فئة وذلك من خلال أربعة فصول .
في الباب الثاني : فقد بينت دور الأمة وموقفها من مذبحة كربلاء من خلال أربعة فصول ، غطت بالكامل كل ما يتعلق بهذا الموضوع .
وفي الباب الثالث : عالجت الأسباب التي أدت لانتفاضة الإمام الحسين وثورته وقادت لمذبحة كربلاء ، وذلك عبر خمسة فصول .
أما الباب الرابع : فتحدثت فيه عن المواجهة العسكرية في كربلاء والنتائج

(1) مساحة للحوار من أجل الوفاق ومعرفة الحقيقة . ط . مركز الغدير للدراسات الإسلامية ـ بيروت : 1418هـ/1997م .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 9


المؤلمة لهذه المواجهة من خلال ستة فصول .
فجاء الكتاب جديدا بشكله ، ومضمونه ، ومنهجيته ، ومميزا بتفرده بالشكل ، والمضمون ، والمنهجية .
فهو ليس مقتلا من المقاتل المألوفة ، ولا تاريخا من التواريخ المخطوطة ، ولا وصفا أدبيا حزينا لمأساة من أكثر المآسي البشرية إيلاما للنفس ، وإنما كان محاكمة موضوعية وعادلة وبلغة العصر ، لنظام حكم همجي جائر ، جاء بالقوة والقهر ، وحكم باسم الإسلام ، ثم أنقلب على الإسلام ، ورفعه عمليا من واقع الحياة ، بعد أن أنتهك حرماته كلها ، وقتل رموزه المقدسة ، وأباد المخلصين للإسلام إبادة تامة ، ثم جرد الإسلام من مضمونه ومحتواه ، وأبقى على القشور التي تخدم ذلك النظام وتظهره بمظهر الحكم الديني وشكله .
«ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء» وتعلم أنا ما قصدنا إلا رضوانك ووجهك الكريم ، أسألك يا مولاي بجد الحسين ، ووالد الحسين ، ووالدة الحسين ، وأهل بيت الحسين ، وأصحابه أن تجعل عملي هذا خالصا لوجهك الكريم ، وهدية خالصة لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ولأهل بيته الطاهرين ، تجلب لي بها الخير والنعمة ، وصدقة تطفىء بها خطاياي ، إنك أنت الودود الرحيم ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .

المحامي
احمد حسين يعقوب
الأردن جرش ص . ب 363
10 / محرم الحرام / 1418 هـ
16 / آيار / 1997 م



كربلاء ـ الثورة والمأساة 10




كربلاء ـ الثورة والمأساة 11


الباب الاول

الفئتان المتواجهتان في كربلاء

الفصل الاول : قائدا الفئتين
الفصل الثاني : أركان قيادة الفئتين
الفصل الثالث : عدد الفئتين
الفصل الرابع : المواقف والأهداف النهائية لقيادتي الفئتين

كربلاء ـ الثورة والمأساة 12




كربلاء ـ الثورة والمأساة 13


الفصل الأول
قائدا الفئتين

لا خلاف بين أثنين من المسلمين على الإطلاق بأن مواجهة ضارية ودموية قد حدثت بين فئتين من «المسلمين» في كربلاء .
الفئة الأولى : وتتألف من آل محمد رسول الله وذوي قرباه الذين لا تجوز صلاة المسلم بغير الصلاة عليهم (1) ، والذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا (2) ، وافترض مودتهم ومحبتهم على كل مسلم (3) ، ومن أولئك الذين نصروهم ووقفوا معهم حتى نهاية المجابهة (4) .
الفئة الثانية : وتتألف من أركان دولة الخلافة الإسلامية وجيشها الجرار الذي أشترك فعليا بالقتال وصنع بسيوفه ، وسهامه ، وسنابك خيله مذبحة كربلاء بصورتها المأساوية الدامية .

قائدا الفئتين

قائد الفئة الأولى : الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب .
قائد الفئة الثانية : « خليفة المسلمين » يزيد بن معاوية بن أبي سفيان .

(1) راجع على سبيل المثال مسند الإمام أحمد ج 6 ص 327 ، وكنز العمال للمتقي الهندي ج 7 ص 103 والمستدرك على الصحيحين للحاكم ج 7 ص 143، والدر المنثور للسيوطي في تفسير آية التطهير .
(2) راجع فضائل الخمسة من الصحاح الستة ج 1 ص 270 وقد أورد أكثر من 60 مرجعا من المراجع المعتمدة عند أهل السنة .
(3) راجع على سبيل المثال تفسير الطبري ج 25 ص 16 ـ 17 وحلية الأولياء ج 3 ص 201 والدر المنثور للسيوطي في تفسير آية المودة في القربى ، والمستدرك على الصحيحين ج 3 ص 172 ، ومجمع الزوائد للهيثمي ج 9 ص 146 ، وأسد الغابة لابن الأثير ج 5 ص 367 ، والصواعق المحرقة لابن حجر ص 101 ـ 102 .
(4) هم الذين قاتلوا مع الامام الحسين حتى استشهدوا أو جعل الله لهم مخرجا .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 14


قائد الفئة الاولى :

الإمام الحسين بن علي كالشمس المتألقة في رابعة السماء ، يعرفه أهل الأرض وأهل السماء ، وهو أبن رسول الله بالحكم الشرعي ، فقد أعلن الرسول بأمر من ربه بأنه لن تكون له ذرية من صلبه ، وأن ذريته ستكون من صلب أبن عمه وزوج أبنته البتول علي بن أبي طالب (1) وأعلن بالمقام نفسه أن كل بني أنثى ينتمون إلى عصبتهم إلا ولد فاطمة فهو أبوهم وهو عصبتهم (2) وأعلن الرسول بنشوة عارمة مرات ومرات أمام المسلمين « أن هذا إبني الحسن ، أو هذا ابني الحسين أو هذان ابناي ، لقد صارت أبوة النبي للحسن والحسين من المسلمات العامة التي لا يختلف فيها أثنان . وأعلن الرسول بأمر من ربه أن الحسن والحسين سبطا هذه الامة (3) وأنهما سيدا شباب أهل الجنة (4) وأنهما ريحانتاه من هذه الأمة (5) ولطالما قال لفاطمة الزهراء : « أدعي ابني فيشمهما ويضمهما » (6) ثم أعلن النبي : بأنهما عضوان من أعضائه (7) ، وأنهما أحب أهل بيته إليه (8) وأنه حرب لمن حاربوا وسلم لمن سالموا (9) ، لقد كانت هذه الإعلانات النبوية معلومة بالضرورة

(1) راجع على سبيل المثال كنز العمال ج6 ص 152 الحديث 5210 ، وكتابنا نظرية عدالة الصحابة ص 241 .
(2) راجع على سبيل المثال المستدرك للحاكم ج3 ص 164 ، والصواعق لابن حجر ص 12 وقد اخرجه الطبراني .
(3) راجع كنز العمال ج2 ص88 وج6 ص 221 وأخرجه الطبراني وأبو نعيم ، ومرقاة المفاتيح لعلي بن سلطان ج5 ص 602 ، وذخائر العقبى للطبري ص 44 و135 .
(4) راجع صحيح الترمذي ج2 ص 306 ـ 307 وصحيح ابن ماجة ج3 ص 167 ـ فضائل أصحاب النبي ـ ، والمستدرك على الصحيحين ج3 ص 167 ، ومسند أحمد ج3 ، ص 3 و 62 و 82 . وخصائص النسائي ص 36 .
(5) راجع مسند الإمام أحمد بن حنبل ج6 ص 399 .
(6) راجع صحيح الترمذي ج 2 ص 306 ، ومجمع الزوائد ج9 ص 175 .
(7) راجع كنز العمال ج6 ص 221 ، ومجمع الزوائد ج9 ص 184 .
(8) راجع صحيح الترمذي ج2 ص 306 وفيض القدير للمناوي ج1 ص 148 وقال في الشرح : أخرجه أبو يعلى ، وكنوز الحقائق ص 5 ، ومجمع الزوائد ج9 ص 175 ، والإصابة لابن حجر ج2 ص 11 .
(9) صحيح الترمذي ج2 ص 319 ، والمستدرك على الصحيحين للحاكم ج3 ص 149 ، ومسند أحمد ج2 ص 442 .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 15


من كل سكان الجزيرة العربية أو رعايا دولة النبي ، المسلم ، واليهودي ، والنصراني ، على السواء ، فقد سمع الجميع بواقعة المباهلة (1) ، وبواقعة التطهير (2) ، وبواقعة المودة في القربى (3) ، وبواقعة جعل الصلاة على آل محمد جزءأ من الصلاة المفروضة على العباد !! (4) ثم إن الحسين هو الإمام الشرعي فلم ينتقل الرسول الى جوار ربه إلا بعد أن ترك الأمة على المحجة البيضاء ، وبين لها الأئمة الشرعيين الذين أختارهم الله ليتعاقبوا تباعا على قيادة الأمة من بعده وحددهم بأثني عشر إماما ، أولهم علي ، وثانيهم الحسن ، وثالثهم الحسين ، وتسعة من ولد الحسين ، سماهم الرسول بأسمائهم قبل أن يولدوا ، كدليل على صدقه بتبليغ ما أوحي إليه من ربه (5) .

أبوه علي بن أبي طالب :

ووالد الإمام الحسين هو الإمام علي بن أبي طالب ، شمس المشارق والمغارب ، يعرفه الثقلان ، ولا يخفى على مبصر من أهل الأرض وأهل السماء ، أبن عم النبي الشقيق ، وأخوه ، ووالد سبطيه ، وعضده ، وفارس الإسلام الأوحد ، وحامي حماه . أعلنه الرسول بأمر من ربه سيدا للعرب ، وسيدا لكافة المسلمين (6)

(1) راجع صحيح مسلم ـ فضائل الصحابة / فضائل علي ـ وصحيح الترمذي ج 2 ص 166 ، وفضائل الخمسة ص 290 وما بعدها .
(2) راجع صحيح مسلم ـ فضائل أهل البيت ـ ، والمستدرك على الصحيحين للحاكم ج 2 ص 149 ، وصحيح الترمذي ج 2 ص 29 و 209 و 319 .
(3) راجع تفسير الطبري ج 5 ص 16 ـ 17 ، وحلية الأولياء ج 3 ص 20 ، والدر المنثور للسيوطي ـ تفسير آية المودة ـ .
(4) راجع مسند أحمد ج 6 ص 296 و 323 ، والمستدرك على الصحيحين ج 3 ص 108 و 147 ، وكنز العمال ج 7 ص 92 و 217 . (5) أكمال الدين للشيخ الصدوق : ج 1 ص 365 ، الزام الناصب للحائري ج 1 ص 55 ، ينابيع المودة للقندوزي ص 495 ، وأنظر أيضا : صحيح البخاري ج 4 ص 175 .
(6) راجع المعجم الصغير للطبراني ج 2 ص 88 والمناقب للخوارزمي الحنفي ، وشرح نهج البلاغة لعلامة المعتزلة إبن أبي الحديد ج 9 ص 170 ، وكتابنا نظرية عدالة الصحابة ص 231 حيث ستجد العشرات من المراجع .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 16


ووليا للمؤمنين (1) ، وهو صاحب التاريخ الشخصي الحافل بالأمجاد التي لا تضاهيها أمجاد ، والفضائل التي تتضائل دونها كل الفضائل إلا فضائل النبيين والرسل ، لقد كان جمعا بذاته ، وجيشا بمفرده ، وينبوع علم لدني بمكنونه .
وقد أعلن النبي أمام الأكثرية الساحقة من المسلمين التي أشتركت في غزوة تبوك : مكانة علي المميزة التي لا تدانيها مكانة ، فقال له أمام ذلك الجمع الحاشد : « أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي » لقد خصه الله تعالى بكافة المنازل التي كانت لهارون ولم يستثن من تلك المنازل والأختصاصات إلا منزلة النبوة ، وقد أجمعت الأمة على صحة هذا الحديث ، وعلى صحة صدوره من النبي (2) .

أبو طالب جد الحسين لأبيه :

وأبو طالب هو والد الإمام علي ، وهو عم النبي الشقيق لأبيه عبد الله ، فعبد الله والد الرسول وأبو طالب والد علي أخوة أشقاء ، فهو أقرب الناس لرسول الله ، ولما مات جد الرسول عبد المطلب كفله عمه أبو طالب وكان عمر الرسول آنذاك 8 سنوات ، وبقي الرسول في بيت عمه مدة 17 عاما يأكل مما يأكل منه أولاد أبي طالب ، ويشرب مما يشربون ويلبس مما يلبسون ، بل إن الرسول كان أحب إلى عمه أبي طالب وإلى زوجة عمه من أبنائهما !! وكان مفضلا عندهما على كل الأبناء ، ويوم ماتت فاطمة بنت أسد ، وصف النبي الكريم طبيعة علاقته بتلك الأم الصالحة ، فقال : « اليوم ماتت أمي ، إنها كانت أمي ، وإنها كانت لتجيع صبيانها وتشبعني ، وتشعثهم وتدهنني ، وكانت أمي » (3) وبقي الرسول في بيت عمه محاطا

(1) راجع كتاب نظرية عدالة الصحابة ص 247 وما بعدها ـ ستجد أكثر من 70 مرجعا من عيون المراجع المعتمدة عند أهل السنة ـ ، وكتاب المواجهة ص 350 وما بعدها ـ ستجد التأهيل التاريخي والشرعي لفكرة الولاية ـ ، وكتاب « الوجيز في الإمامة والولاية » .
(2) راجع على سبيل المثال صحيح البخاري ـ كتاب بدء الخلق ، غزوة تبوك ـ ، وصحيح مسلم ـ فضائل علي ـ ، وصحيح الترمذي ج 2 ص 30 ، ومسند أحمد بن حنبل ج 1 ص 185 و 309 ، وخصائص النسائي ص 14ـ 16 ، وفضائل الخمسة ج 1 ص 347 وما بعدها .
(3) راجع تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 14 .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 17


بأنبل العواطف من عمه وزوجته وأبناء عمه حتى بلغ الخامسة والعشرين ، عندئذ خطب له عمه خديجة بنت خويلد فتزوجها واستقل الرسول في بيت خاص به .
ولما شرف الله نبيه بالرسالة ، كان لأبي طالب الدور البارز في قيادة جبهة الإيمان ، فهو الذي أرسى قواعد التحالف بين بني هاشم وبني المطلب ، وكون من البطنين جبهة واحدة وقفت برجولة أمام بطون قريش الـ 23 التي اتحدت ضد محمد ودعوته ، وهو الذي رعى أول أجتماع للبطنين المتحالفين وتصدى لخصوم محمد في ذلك الإجتماع ولجمهم (1) وهو الذي أعلن أمام بطون قريش « بأنها إذا قتلت محمدا فإن الهاشميين والمطلبين سيقاتلونها حتى الفناء التام » (2) وهو نفسه الذي طالما خاطب النبي أمام بطون قريش « يا بن أخي إذا أردت أن تدعو إلى ربك فأعلمنا حتى نخرج معك بالسلاح » (3) وهو نفسه الذي كان يستقبل وفود بطون قريش ويسمع لمطالبها ، وينقل رد النبي عليها (4) وهو الذي شجع بنيه على التضحية بأرواحهم دفاعا عن أبن عمهم رسول الله (5) وهو الناطق الرسمي بأسم النبي عندما أكلت دابة الأرض صحيفة المقاطعة التي تعاقدت عليها بطون قريش ، وهو الذي قاد عملية رجوع الهاشميين والمطلبيين إلى مكة بعد ثلاث سنين من حصار بطون قريش لهم(6) وهو شاعر النبي وحامي حماه (7)ومن هنا نفهم معنى قول الرسول عندما مات أبو طالب : « ما نالت مني قريش حتى مات أبو طالب » (8) ولهذا سمى رسول الله العام الذي توفي فيه أبو طالب وماتت فيه زوجته بـ ( عام الحزن ) ، وعد موت الاثنين مصيبتين ، وعبر الرسول عن ذلك بقوله : « اجتمعت

(1) راجع كتابنا المواجهة ص 51 وما بعدها تجد التوثيق والمراجع .
(2) راجع كتابنا المواجهة ص 51 ، والطبقات لابن سعد ج 1 ص 186 .
(3) راجع تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 27 .
(4) راجع الغدير للعلامة الأميني ج 7 ص 400 .
(5) راجع سيرة ابن هشام ج 1 ص 215 ، وتاريخ الطبري ج 2 ص 214 ، وكتابنا المواجهة ص 52 .
(6) راجع كتابنا المواجهة ص 52 وما فيه من المراجع .
(7) راجع ( الغدير في الكتاب والسنة والأدب ) للأميني ج 7 ص 371 ـ 409 تجد بعض أشعاره التي تطفح بأنبل العواطف وبأصدق المشاعر الدينية نحو الإسلام ونبيه .
(8) راجع تاريخ أبن الأثير ج 2 ص 21 .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 18


مع هذه الأمة في هذه الأيام مصيبتان لا أدري بأيهما أنا أشد جزعا » (1) والخلاصة أن أبا طالب كان أحد أركان جبهة الإيمان ، وقد استغل مكانته الاجتماعية لصالح الرسول ولصالح الإسلام ، وكان ساعد النبي الأيمن طوال حياته المباركة ، ويوم مات أبو طالب لخص النبي هذه المواقف النبيلة بقوله : « يا عم ربيت صغيرا ، وكفلت يتيما ، ونصرت كبيرا ، فجزاك الله عني خيرا » (2) ومن المثير للدهشة حقا أن أعداء أهل بيت النبوة الذين استولوا على مقاليد الأمور بالقوة وسيطروا على مناهج التربية والتعليم عندما لم يقووا على إنكار هذه المواقف أشاعوا بأن أبا طالب مات على الشرك ، فهو في ضحضاح من النار على حد تعبير المغيرة بن شعبة المشهور بحقده على بني هاشم ، كما يقول علامة المعتزلة أبن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة عند مناقشته لإسلام أبي طالب .

قائد الفئة الثانية :

القائد الفعلي لجيش الخلافة الجرار في كربلاء ، هو يزيد بن معاوية بن صخر المكنى بأبي سفيان ، فهو المهندس الفعلي لمجزرة كربلاء ، وصانعها ، وما كان عبيد الله بن زياد ، ولا عمر بن سعد بن أبي وقاص ، ولا بقية أركان القتل والإجرام في كربلاء إلا مجرد جلاوزة ، أو عبيد ، يأتمرون بأمر سيدهم يزيد بن معاوية وينفذون توجيهاته العسكرية بدقة كاملة ، أو مجرد أدوات أو دمى يحركها حيثما يشاء ، وكيفما يشاء ، ومتى يشاء !! ولم لا ؟ ! فهو « أمير المؤمنين وخليفة رسول الله على المسلمين » !!!! بيده مفاتيح خزائن الدولة « الإسلامية » وتحت أمرته تعمل كافة جيوشها الجرارة ، والأكثرية الساحقة من رعايا دولته تصفق له رغبة أو رهبة !! متأملة باستمرار وصول « الأرزاق » إليها من خليفتها ، ووجلها من أن يغضب فيقطع عنها «ألأرزاق» فتموت جوعا !!!

(1) راجع تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 35 .
(2) المصدر نفسه .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 19


ضرورات البحث العلمي :
قبل قليل عرفنا القارىء الكريم بشخصية الإمام الحسين بن علي الذي قاد الفئة الأولى في كربلاء ، وبشخصية أبيه علي ، وجده عبد مناف بن عبد المطلب المكنى بأبي طالب ، ونزولا عند ضرورات البحث العلمي سنعرف القارىء بشخصية يزيد بن معاوية بن صخر المكنى بأبي سفيان بوصفة قائد الفئة الثانية في كربلاء .

فمن هو يزيد ؟ :
هو يزيد بن معاوية بن صخر المكنى بأبي سفيان ، جدته لأبيه هند التي لاكت كبد حمزة عم النبي في معركة أحد ، نشأ نشأة مترفة في بيت أبيه معاوية الذي تربع على ولاية الشام قرابة عشرين عاما وعاش حياة الملوك المترفين ، وهيأ معاوية لابنه كل أسباب التعليم للمعارف المشهورة في عصره ، لان معاوية كان يعد العدة للإنقضاض على منصب الخلافة ، ويهيىء الأسباب لتمويل الخلافة إلى ملك ينحصر في ذرية أبي سفيان أو البيت الأموي ، وكان يرجو أن يكون أبنه يزيد هو الملك الثاني بعد أبيه !!! إلا أن الولد يزيد نشأ جانحا ، ميالا للعبث واللهو ، مستهترا ، وخليعا ، مدمنا على الصيد ، وشرب الخمر ، مولعا بالكلاب والقرود ، ملحدا في قرارة نفسه ، حاقدا على النبي محمد وعلى آله وأهل بيته خاصة وعلى الهاشميين عامة بعد أن عرف طبيعة الصراع الدامي الذي جرى بين رسول الله وآله والهاشميين من جهة وبين أبيه وجده وآل أبي سفيان والبيت الأموي من جهة أخرى ، وبعد أن عرف أن عليا وحمزة والهاشميين قتلوا أعمامه وأجداده وأقاربه ، !! ولكن يزيد كان من الذكاء بحيث إنه قد عرف بأن النبوة قد صارت طريقا للملك ، وأن الدين قد صار وسيلة لاستقرار هذا الملك ، فجاهر بعصيانه وعبثه واستهتاره وأدعائه بأنه مسلم ، وكتم إلحاده وكفره ، ثم أنكشفت حقيقته من زلات لسانه !!! لما شاهد الرؤوس تحمل إليه ، قال :
نعب الغراب فقلت قل أو لا تقل فقد اقتضيت من الحسين ديوني


الفهرس التالي التالي