تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 197

زميله علي المولى محمد كاظم الخراساني ، المغفور له آية الله العظمى الحاج السيد آقا حسين القمي ، الذي شهدت الحوزة العلمية في كربلاء على عهده وبألأخص في السنوات ألأخيرة من عمره نقلة نوعية ، لأن هذه الفترة كانت زاخرة ومليئة بعلماء أجلاء وأساتذة كبار ، إلتفوا حوله من المجاورين أو القادمين إلى كربلاء ، وشكلوا برئاسته حلقة بحث علمي متعمق للغاية ، عُرف في حينه ببحث «الكمباني» وكان يشترك في هذا البحث إلى جانبه : السيد الميرزا مهدي الشيرازي والسيد محمد هادي الميلاني والشيخ يوسف الخراساني البيارجمندي والشيخ محمد رضا ألأصفهاني والسيد زين العابدين الكاشاني والمرجع الكبير وألآية العظمى السيد أبو القاسم الخوئي الذي هبط كربلاء آنذاك لفترة قصيرة من الوقت ، دارسا ومدرسا في حوزتها العلمية.
لقد كان المرحوم القمي علما نحريرا إتسم بالعدل والزهد والتقوى وقد زامل علماء كبار أمثاله منذ أن كان يشارك دروس وأبحاث المولى ألأخوند الشيخ محمد كاظم الخراساني في النجف ، فبرز بين الصفوة من تلامذته كألأصفهاني والشاهرودي والنائيني والشيخ الكمباني «الغروي» والشيخ ضياء العراقي.
ومنذ أن نقل السيد القمي حوزة درسه إلى كربلاء وجدت هذه الحوزة بشخصه عاملا إضافيا للحركة والنشاط ، ونظرا لأن عددا من خيرة أصحابه وتلامذته إنتقلوا معه إلى كربلاء وأسهموا بدورهم في تحريك النشاط التدريسي بحوزتها ، ولم يمر طويل وقت حتى برز كشخصية دينية لها وزن بمستوى وزن ألأصفهاني نداء ربه بتاريخ التاسع من شهر ذي الحجة سنة 1365 هـ ، حتى إتجهت ألأنظار صوب كربلاء ونحو بيت القمي ، إذ لم يكن بمقدور غيره في حينه من شغل الفراغ الكبير الذي خلفه موت ألأصفهاني (رحمه ألله).
وهكذا إنتقلت الرئاسة العامة للمسلمين الشيعة إليه ، وهو لا يزال في كربلاء ، وقد رأى سماحته أن من المصلحة أن ينقل حوزته إلى مدينة النجف ،

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 198

وأن يتولى من هناك مهام الرئاسة الكبرى ، غير أن فترة رئاسته لم تدم طويلا إذ بعد مرور 95 يوما على وفاة ألأصفهاني ، وافته المنية بتاريخ 14 ربيع ألأول سنة 1366 هـ .
لقد إشتهر القمي (رحمه ألله) إلى جانب علمه وفضله وعدله وتقواه بتحمسه الشديد لإصلاح حالةالمسلمين والنهوض بشجاعة في وجه أي مجرى منحرف أو مسار يراه فاسدا ، وفي هذا المجال عرف عنه سفره التاريخي إلى إيران بصحبة عدد من أبرز أصحابه منهم المرحوم السيد الميرزا مهدي الشيرازي حيث قام بتعبأة الرأي العام ألإسلامي ضد الخطوات وألإجراءات الحكومية في ذلك الوقت ، والتي رأى فيها ما يخالف شرعة الدين ألإسلامي الحنيف.
وقد سافر إلى إيران وهو عازم مصمم على ألإصلاح والنهوض في سبيل ذلك حتى الموت ، وقد طالب السلطة الرسمية الحاكمة في حينه بإصلاح ما أفسدته السلطة السابقة ، وحينما رأى الفتور وعدم ألإستجابة الكافية ، قرر الوقوف موقف التحدي بوجه السلطة الحكومية ، وقد ساعده وأيده في ذلك علماء إيران ألأجلاء وعلى رأسهم المغفور له آية الله العظمى الحاج السيد آغا حسين البورجردي ، الذي أعلن هو ألآخر بأنه يريد التحرك على رأس عشائر «ألألوار» القاطنة في محافظة لُرستان والزحف نحو طهران العاصمة لدعم مطالب السيد القمي المشروعة وألإسلامية ، وهنا شعرت السلطة الحاكمة بخطورة الموقف والمضاعفات السياسية التي قد تنجم عن صلفها وتعنتها ، ولذا أبدت تنازلات أمام مطالب السيد القمي ، وقد اصدر مجلس الوزراء برئاسة علي سهيلي رئيس الحكومة ألإيرانية آنذاك بتاريخ3 / 9/ 1943 م بيانا رسميا أعلن فيه موافقة الحكومة على كل ما طالب به السيد القمي من إجراءات وخطوات إصلاحية ترتبط بحجاب النساء ، والموقوفات ألإسلامية في إيران ، وتدريس مبادئ الشرع ألإسلامي في المدارس والمعاهد الحكومية ، ومنع أي إختلاط بين الفتيات والفتيان خاصة في المؤسسات التعليمية ، وإعادة بناء البقاع الطاهرة في وادي البقيع بالمدينة

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 199

المنورة والعمل على توفير أرزاق الناس ، وإحتياجاتهم ألأساسية.
ولما فرغ القمي من مهمته ألإصلاحية الموفقة عاد إلى مقره في كربلاء وبقي على رأس حوزتها العلمية حتى تاريخ وفاة العلامة ألأصفهاني ومن ثم هاجر إلى النجف ألأشرف رئيسا وزعيما دينيا مطلقا للعالم الشيعي، لكن المنية وافته بعد فترة وجيزة وهو يعالج في احد مستشفيات بغداد.
وقد أطرى عليه صاحب كتاب «نقباء البشر في القرن الرابع عشر» الشيخ آغا بزرك الطهراني فترجمه بأحسن وجه ، إذ قال عنه : هو السيد آقا حسين بن السيد محمود بن محمد بن علي الطباطبائي القمي الحائري من أجلاء العلماء ومشاهير المراجع ، ولد في قم في سنة 1282 هـ ، وشب فقرا العلوم العربية ، ولما بلغ الحلم تشرف إلى العتبات المقدسة بالعراق زائرا، ثم عاد إلى قم فتوقف مدة ، ثم هبط طهران وقرأ بها المقدمات والسطوح ، وفي سنة 1202 هـ حج بيت ألله الحرام ، وعاد من طريق العراق فبقي في النجف ثم ذهب برهة إلى سامراء حضر بها بحث السيد المجدد الشيرازي ، وفي حدود سنة 1306 هـ عاد إلى طهران فجد في ألإشتغال في العلوم العقلية والعرفان والرياضي على فلاسفة وقته كالسيد الميرزا أبي الحسن جلوه والشيخ علي المدرس النوري والميرزا حسن الكرمنشاهي والميرزا هاشم الرشتي والميرزا علي أكبر اليزدي والميرزا محمود القمي وغيرهم . وقرأ الفقه وألأصول أيضا على الميرزا محمد حسن ألآشتياني والشيخ فضل ألله النوري وغيرهم ، لازم أبحاث هؤلاء ألأعاظم مدة غير قصيرة حاز فيها درجة سامية ،وفي سنة 1321 هـ تشرف إلى سامراء فحضر بحث شيخنا الميرزا محمد تقي الشيرازي عشر سنين ، حتى إرتوى من معين فضله ، وكنت شريك بحثه في أواخر تلك المدة ، حيث هاجرت إلى سامراء في السنة التي توفى فيها شيخنا الخراساني في النجف سنة 1329 هـ ، كما كانت لي معه مودة في النجف

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 200

على عهد الخراساني وفي معهد تدريسه ، وكان منذ ذلك الحين معروفا بالصلاح والتقى والنسك والزهد وكثرة العبادة أما هو في الفقه وألأصول فقد كان فاضلا للغاية وخبيرا جدا ، له سلطة وإستحضار وتضلع وبراعة ، وفي سنة 1331 هـ هبط مشهد الرضا عليه السلام في خراسان وإشتغل بالتدريس وألإمامة ونشر ألأحكام ، فكانت له مكانة كبيرة في نفوس الجمهور نظرا لقدسيته وورعه وإجتنابه الموارد التي ليس من شأنه خوضها ، وحصل على رياسة وزعامة هناك ، لكنه مع ما إتفقه له من الوجهة والتقدير كان بعيدا عن كل ذلك لا يطلبه ولا يقيم له وزنا ، وكان كيسا حليما ، كثير الرزانة والوقار والتروي في ألأمور ، رجع إليه الناس في التقليد ونشرت رسائله العملية وكثرت الرغبة به ، ومالت القلوب إليه وتقدم على غيره حتى كان أوجه واجل علماء خراسان ، إشتهر فكانت ألإستفتاءات ترد عليه من سائر أطراف إيران . .
وقال فيه صاحب «نقباء البشر» أيضا: وسكن كربلاء واقبل عليه الناس تمام ألإقبال ، وكان له مَدرَس آهل وتلامذة أفاضل ، قضى على ذلك زمنا، وهو أحد المراجع المرموقة والشخصيات العلمية الفذة ، وفي الحقيقة لم يركزه ذلك التركيز ولم يحظ بذلك القبول التام لدى الخاصة والعامة ، إلا لسلامة باطنه وحسن طويته وقدسية نفسه وذلك التقوى والورع اللذين يضرب بهما المثل ، وكان مطبوعا على ذلك من أول أمره كما ذكرته ، ولما توفى السيد أبوالحسن في سنة 1365 هـ رُشّح للزعامة العامة وزادت وجاهته وعظم شأنه ومال الناس إليه في إيران والعراق وغيرهما ، إلا أن ألأجل لم يمهله حيث مرض وحمل غلى بغداد ، فتوفى بها في المستشفى يوم ألأربعاء 13 ربيع ألأول سنة 1366 هـ ، ونقل إلى النجف بتشييع مهيب ودفن في الصحن الشريف في مقبرة أستاذنا شيخ الشريعة ألأصفهاني ، عصر الجمعة 15 ربيع ألأول وعُطلت من أجله الدروس ، أُغلقت أسواق البلدة وأقيمت عشرات الفواتح.
له تسع رسائل عملية فتوائية هي : 1 ـ مجمع المسائل 2 ـ الذخيرة الباقية في العبادات والمعاملات 3 ـ مختصر ألأحكام 4 ـ طريق النجاة

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 201

5 ـ منتخب ألأحكام 6 ـ مناسك الحج 7 ـ ذخيرة العباد 8 ـ هداية ألأنام 9 ـ مناسك الحج، وله ايضا تعليقات على العروة الوثقى للسيد محمد كاظم اليزدي ورسائل المولى هاشم الخراساني صاحب «منتخب التواريخ» ، وهذه الرسائل هي : 1 ـ مجمع المسائل 2 ـ الرسالة الرضاعية 3 ت الرسالة ألإرثية 4 ـ صحة المعاملات 5 ـ الرسالة الربائية.
ذكره الشيخ عباس القمي في كتابه «الفوائد الرضوية في علماء ألإمامية» فقال: السيد ألأجل الذي هو في ألأصول والماهر في المعقول والمنقول حسن ألأخلاق طيب ألأعراق ، لم ار في قدسية الذات ثانيه ولا في حُسن الصفات مدانيه ، كأنه ما جبل إلا بالرضا والتسليم وما اتى ألله إلا بقلب سليم . . . الخ . وقال عنه العلامة السيد محسن أمين العاملي في كتابه «أعيان الشيعة» : وكان عالما فاضلا فقيها اصوليا متكلما حكيما مدرسا مقلَّدا تقيا نقيا مقبولا عند العامة والخاصة سليم الباطن حسن الطوية ، رأيته في دمشق في سفره إلى الحج . . . الخ.
خلف أنجالا عدة ، أكثرهم علما وفضلا وشهرة الفقيه المجتهد السيد الحاج آغا حسن القمي وهو ألآن نزيل مدينة مشهد المقدسة ، ونجله ألآخر هو السيد الحاج آغا مهدي القمي المتوفى سنة 1407 هـ وكان من العلماء ألأفاضل وأئمة الجماعة المعروفين في كربلاء.

رئاسة السيد البروجردي:

بوفاة العلامة والمرجع الكبير أبو الحسن ألأصفهاني ، ومن بعده وفاة العلامة السيد القمي ، طرأ في تاريخ الحوزات العلمية في العراق حادث فريد من نوعه ، وهو أن هذه الحوزات فقدت لأول مرة موقع الزعامة الدينية الكبرى ، وذلك حينما إنتقلت هذه الزعامة إلى مدينة قم المقدسة في إيران ، حيث إنعقدت مرجعية التقليد ألأولى لدى الشيعة للمغفور له آية ألله العظمى السيد ألآغا حسين البروجردي ، الذي كان بدوره من أجل وأنبه تلامذة المرحوم المولى الشيخ محمد كاظم الخراساني.
ويقينا أن هذا التحول التاريخي لم يكن ليحصل في حينه لولا

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 202

الشخصية العلمية والدينية المتميزة ، والصفات الحميدة ، والسجايا الرفيعة التي كان يتحلى بها السيد البروجردي ، فقد كان (رحمه ألله) قدوة في الزهد والورع وألإباء والتعفف ورائدا في العلم والفضيلة أي أنه كان يمتلك كل المؤهلات والقابليات الذاتية ، بما يجعله جديرا بالرئاسة والزعامة الشيعية ، بحيث أن بُعده عن الحوزات العلمية العريقة في العراق مثل حوزة النجف وحوزة كربلاء ، لم يحل دون أن يتبوأ مقام الزعامة الروحية الكبرى للمسلمين الشيعة في العالم.
لقد تصرف سماحته حينما أتته الزعامة والرئاسة من موقع المسؤولية وبتدبر وتبصر وحكمة وكياسة وعقل نير بما يشبه تصرف زميله الراحل العلامة ألأصفهاني ، حيث إنه نشط في تسيير دفة الحوزات العلمية والمراكز الدينية وحركة التوعية ألإسلامية الشيعية ، حتى إستطاع أن يملأ الفراغ الكبير الذي خلفه موت السيد ألأصفهاني وموت السيد القمي ، كما برز وتجلى كمرجع ديني أوحد للمسلمين الشيعة ، الذين قلدوه وتابعوه بما يشبه ألإجماع ، وإن كان هذا ألإجماع علة مستوى أقل من ألإجماع الذي حظي به السيد أبو الحسن ألأصفهاني في مرجعينه التقليدية.
وإن السبب في ذلك يرجع إلى ظهور زعامات دينية محدودة النطاق إلى جانب زعامته العظمى ، ألأمر الذي لم يكن واردا أو بالأحرى باديا للعيان بوضوح في عهد زعامة العلامة ألأصفهاني الذي تفرد بمرجعية التقليد بشكل منقطع النظير.
ففي النجف كانت الزعامة الدينية والعلمية موزعة بين ألآيات العظام السيد محسن الحكيم والسيد عبدالهادي الشيرازي والسيد محمود الشاهرودي والسيد الحمامي والسيد الجلبايجاني والسيد ألأصطهباناتي ، وإن كانت زعامة السيد الحكيم تفوق ألآخرين ، وأما في كربلاء فقد كانت الرئاسة الدينيةوالعلمية موزعة على اليد الميرزا مهدي الشيرازي والسيد الميرزا هادي الخراساني والسيد هادي الميلاني ،وإن كانت زعامة السيد الشيرازي تبدو للعيان أكثر من غيره.

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 203

وفي ضوء ذلك ، فإن الحوزتين العلميتين في النجف وكربلاء لم تخسرا شيئا من زخم حركتهما العمية والتدريسية ، بعدما فقدتا موقع الزعامة الروحية العظمى ، إضافة إلى أن السيد البروجردي كان شديد الحرص على تطوير وتنشيط الحوزات العلمية في العراق ، إذ كان يمدها بالمساعدات وألأموال اللازمة ، وكا ما يعينها على النشاط والحركة ويؤمن مرتبات طلاب العلوم الدارسين والعلماء المدرسين فيها ،ألأمر الذي لم يبق هناك من سبب لفتور الحركة العلمية في مثل هذه الحوزات ، بل يمكن القول أيضا أنها إزدهرت أكثر فأكثر ، نظرا لإحتوائها على قيادات دينية محلية من جهة ، ولما كان يأتيها من دعم ومساندة وعون مادي ومعنوي من جانب حوزة قم المقدسة حيث مقر الزعيم الديني ألأكبر السيد البروجردي من جهة أخرى.
ويجدر بنا ونحن نتكلم عن مدينة قم ، أن نقول أن حوزتها إزدهرت ، ونشطت وتبوأت مكانة الذروة على عهد السيد البروجردي الذي جعل منها رحمه الله محط أنظار جميع المسلمين في العالم وعمل على تقوية وترسيخ هويتها العلمية والدينية ومنحها قدرا كبيرا من المرتبة والمكانة اللائقتين بالعلم والدين وروادهما ، حتى اصبحت مدينة قم في عهده العاصمة الروحية ألأولى للمسلمين الشيعة في العالم.

حوزة كربلاء على عهد السيد الشيرازي:

في هذا الوقت بدأت زعامة آية الله العظمى السيد الميرزا مهدي الشيرزاي في كربلاء تبرز وتظهر للعيان رويدا رويدا ، حتى أصبحت زعامة لا تنافس خاصة بعد وفاة العالم الكبير والمحقق ألإسلامي الجليل السيد الميرزا هادي الخراساني في الثاني عشر من ربيع ألأول سنة 1368 هـ .
ففي عهد رئاسة السيد الشيرازي إزدهرت الحوزة العلمية في كربلاء وخطت خطوات واسعة إلى ألأمام ، إذ كان سماحته حريصا أيما حرص على تطوير وتدعيم الحركة العلمية والتدريسية ، ومهمة الدعوة ألإسلامية على أوسع نطاق.

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 204

وكانت شخصيته العلمية والدينية والخلقية مبعث إعجاب وإحترام الجميع وكان بتقواه وزهده وأدبه الجم وتعامله ألإنساني النموذجي مع الناس ن كل الفئات والطبقات ، يضرب من نفسه المثل اللرفيع والقدوة الصالحة بالنسبة لطبيعة تعامل رجل الدين والفضيلة مع الناس ومع الحياة وألأحداث ، وهنا تكمن أهمية أو ميزة رجل الدين عن الرجال العلمانيين والزمنيين ،لأنه ليس بالعلم وحده يبرز ألإنسان الروحاني ، بل بأسلوبه وخلقه ومهجيته في الحياة، ويكفيه تعامله وتصرفه مع ألآخرين ، إذ عليه أن يكون القدوة والرمز ،وأن يضرب بنفسه المثل الحميد بالكيفية التي يجب ان يحيى الناس بها ، ويعيشوا أو يتعايشوا بهديها ، إنطلاقا من وحي تعاليم الدين الحنيف التي هي في مجملها دستور متكامل للحياة ، والتي بها تنتظم حركة المجتمعات البشرية تنظيما دقيقا وسليما في إطار من ألتىلف والتوادد والوعي النتبصر ، بما للفرد في الحياة من واجبات وفرائض فردية وجماعية ، وما له من حقوق ومزايا ومنافع.
إن رجل الدين تكمن مصداقيته في الربط الموضوعي الدقيق والسليم بين العلم والعمل ، فلا يكفي مثلا أن يتقدم في تحصيل العلم أشواطا بعيدة ، في الوقت الذي يتأخر فيه أشواطا إلى الوراء من الناحية ألإجتماعية والخلقية ـ والتعامل السليم مع الناس ، بزعم أنه عالم عارف ، وإن تصرفه مهما كان يجب أن لا يؤخذ في الحسبان لصالح علمه ومعرفته ، ولذلك فإن كثيرا من المراجع العظام الذين تولوا الرئاسة الدينية في فترات متعاقبة لم تؤتى لهم هذه الرئاسة بفضل علمهم فقط ، بل لما كان لهم من خلق رفيع وتصرف سليم وتعامل واع حكيم مع الناس ومن كياسة وتدبر صحيح في مواجهة ألأحداث ، فكانوا بأخلاقياتهم المثالية وتصرفاتهم العادلة وسلوكهم القويم ، يجذبون قلوب الناس ويتركون تأثيراتهم الروحية في نفوسهم.
إن الحايات الطريفة التي تروى عن أسلوب تصرف آية ألله ألأصفهاني وآية ألله البروجردي وآية ألله محمد تقي الشيرازي وغيرهم ، لا تبقي أدنى شك في أن العامل ألأهم في بروز وظهور هؤلاء على مسرح المرجعية

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 205

والرئاسة الدينية ، كان يكمن في تعاملهم الواعي وتصرفاتهم وممارساتهم ألإنسانية النبيلة مع الناس وألأحداث ، إلى جانب ما كانوا يتحلون به من علم ومعرفة وفضيلة وزهد وتقوى.
وخلاصة القول ، أن شخصية المرحوم السيد مهدي الشيرازي كانت محترمة ومحببة جدا بين أهالي كربلاء ، ألأمر الذي جعلهم يندفعون ويتحمسون لنصرته ومبايعته ومساندته بما يشبه ألإجماع التام ، وبفضل هذا الترابط الوثيق بينه وبين الناس ، إستطاع من عمل أشياء كثيرة لصالح الحوزة العلمية وحركة التوعية ألإسلامية ليس في كربلاء وحدها بل وفي مدن العراق ألأخرى وخارجه أيضا.
فبأإضافة إلى إنشغاله العلمي إهتم كثيرا بنشر تعاليم لدين الحنيف وترويج ألأحكام ، وأمر الوعاظ والخطباء واصحاب المنابر بتوضيح ألأحكام الشرعية ، وشرح المسائل الدينية ، والتلطف مع الشباب ، وجذبهم بالخلق الحسن وطسي المعشر والوجه البشوش إلى ظلال الدين ، فكان من نتيجة ذلك أن تربى جيل من الشباب الواعي والمتفهم لأحكام ألإسلام ، وقد تأثر بروحه وجهده الخير في ترويج ألإسلام ونشر تعاليمه الكثير من أهالي كربلاء بينهم الطلاب وألأساتذة ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ويعقدون المجالس الروحية ويشكلون الهيئات والجمعيات الدينية ، فإزدهرت من جراء ذلك مدينة كربلاء بدروس تفسير القرآن وبحوث ألأخلاق ، وأنشأت العديد من الجوامع والزوايا الدينية ، وتم إعادة بناء جوامع كانت في طور التخريب ، حيث اصبحت ملأى بالمصلين ، كما أقيمت فيها الحفلات الدينية ومجالس الوعظ والخطابة ، وإبتدعت حفلات ومهرجانات دينية عالمية ، بمشاركة وفود تمثل البلدان ألإسلامية ، عرفت في وقتها بالحفلات العالمية لإحياء ذكرى ألإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام ، وأخذت مدينة كربلاء تتزين بشكل بديع ورائع جدا في ألأعياد والمواسم الدينية المبهجة والمفرحة ، وايام مواليد أئمة الشيعة (عليهم السلام) وتلبس السواد وتبدو بمظاهر الحزن والحداد في شهري محرم وصفر من كل عام ، مثلما كانت تقام في يوم العاشر من محرم (عاشوراء)

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 206

الحفلة العزائية الكبرى التي كانت تخصص في مجملها لتلاوة السفر المعروف بالمقتل( حكاية قتل الحسين عليه السلام بشكل تفصيلي) من أوله إلىآخره، وكان الخطيب المعروف آنذاك المرحوم الحاج الشيخ عبدالزهراء الكعبي يقوم بهذه المهمة ، إذ كان يقرأ المقتل بصوته الحزين وبلحنه النغمي الجميل الذي إشتهر به، والذي قلده فيه من جيل الوعاظ الشبان الذين إشتهر الكثير منهم فيما بعد ، وبذلك كانت الحفلة العزائية الكبرى تلك ، تتحول إلى ماتم حقيقي ، وإلى تظاهرة بكاء ونحيب وتأفف عميق لمصاب سيدنا الحسين عليه السلام في يوم عاشوراء.
وإلى جانب كل ذلك ، إبتدع المرحوم الشيرازي أساليب جديدة في دراسة العلوم الدينية بهدف تشجيع وترغيب جيل الشباب لجذبهم إلى الحوزة العلمية والضلوع بدراسة هذه العلوم والتفقه بها، وقد أمر ألأساتذة في كل علم من العلوم الدينية بوضع إمتحان أو إختبار حر لأية مرحلة دراسية يجتازها طالب العلم ، ورصد الجوائز التقديرية والتشجيعية للطلبة المتفوقين في ألإمتحانات ، وهو أمر لم يكن واردا ومأنوسا في الحوزات العلمية من قبل ، وكان من نتيجة ذلك أن نشطت الحركة التدريسية في الحوزة العلمية بكربلاء على نحو غير عادي ، وإنجذب الكثير من الشبان إلى سلك الروحانية أو مزاولة مهمة الوعظ والإرشاد ، تمخض عن ذلك جيل ديني وعلمي متميز.
وفي يوم الثامن والعشرين من شهر شعبان المعظم سنة 1380 هـ ، توفى فجأة السيد الميرزا مهدي الشيرازي ، فخسرت كربلاء بموته أحد أبرز أعلامها ومراجعها وفقد العالم الشيعي في شخصه فقيها متبحرا ومجتهدا عادلا وإنسانا زاهدا ورعا مثاليا في خلقه وسلوكه وكان يوم وفاته يوما مشهودا فقد بكاه الجميع وبخاصة العلماء ألأعلام وبضمنهم آية الله العظمى السيد آغا حسين البروجردي (رضوان الله عليه) إذ حينما سمع نعي السيد الشيرازي أخذ يجهش بالبكاء وإستمر باكيا لعدة دقائق من فرط التأثر الشديد الذي شعر به من وفاة الشيرازي (رحمه ألله) .
ويجدر القول هنا أن السيد الشيرازي كان مؤهلا لتولي المرجعية

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 207

الدينية العظمى للمسلمين الشيعة فيما لوبقي على قيد الحياة إى ما بعد وفاة المرجع الأكبر السيد البروجردي ،وذلك حسن توقعات أصحاب الرأيوالخبرة ، ويقال إن الشيرازي نفسه كان يرى ألأمور على هذا المنحى ، ولذا كان يتمنى أن يأتيه ألأجل قبل السيد البروجردي لكي لا يحمل العبء الثقيل والخطير جدا ، إذ أنحمله يثقل وزر ألإنسان ، ويزيد من إحتمالات تعرضه لأقل زلل كان يخافه ويتوجس منه دائما ، لأنه كان يخشى ألله سبحانه وتعالى ويرتجف بشدة مسخطه وغضبه.
أنجب الفقيد أربعة انجال هم : العالم الجليل والفقيه المتبحر آية ألله السيد محمد الحسيني الشيرازي ، والمفكر ألإسلامي الكبير وصاحب المصنفات الكثيرة اليد حسن الشيرازي الذي إغتيل في بيروت سنة 1400 هـ ، والعلامة المحقق السيد صادق الشيرازي ، والعلامة المؤلف السيد مجتبى الشيرازي.
تطرق إلى ترجمته عدد من المؤلفين ورجال السير والتراجم منهم : السيد صادق محمد رضا الطعمة في كتابه «ذكرى فقيد ألإسلام الخالد» والشيخ حسين البيضاني في كتابه «عام الثمانين» كما ترجمه العلامة محسن العاملي في كتابه «أعيان الشيعة» فقال: السيد مهدي الحسيني الشريازي الحائري إبن السيد حبيب ألله ، ولد في كربلاء سنة 1304 هـ ،وتوفى فيها في 28 شعبان سنة 1380 هـ ، توفى والد المترجم وهو صغير فربي برعاية أمه واخيه ألأكبر السيد عبدالله ، ولقد تلقى دراسته ألأولى في كربلاء حيث درس العلوم ألأولية من النحو والصرف والحساب وما إليها ، ثم إنتقل إلى سامراء وإشتغل بالبحث والدرس والتدريس هناك مدة طويلة من الزمن ، ثم سافر إلى الكاظمية وبقي هناك مشتغلا بالبحث والدرس ما يقرب من سنتين ، ثم سافر إلى كربلاء وبقي مدة قصيرة وإنتقل بعدها إلى النجف وبقي هناك ما يقرب من عشرين سنة ، ثم إنتقل إلى كربلاء وبقي فيها إلى حين وفاته ، تلمذ على الشيخ محمد تقي الشيرازي ، وآغا رضا همداني صاحب «مصباح الفقيه» والسيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي صاحب العروة

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 208

الوثقى ، والشيخ محمد حسين النائيني والسيد حسين القمي وغيرهم ، وبعد وفاة السيد القمي إستقل بالبحث والتدريس ، له من المؤلافت 1 ـ شرح لم يتم على العروة الوثقى 2 ـ رسالات في مباحث أصولية 3 ـ رسالة في التجويد 4 ـ رسالة حول فقه الرضا عليه السلام 5 ـ كشكول في مختلف العلوم 6 ـ الدعوات المجزيات 7 ـ هدية المستعين في أقسام الصلوات المندوبة 8 ـ رسالة في الجفر 9 ـ أجوبة المسائل ألإستدلالية . أما ما برز من آثاره إلى الطبع فهو 10 ـ ذخيرة العباد 11 ـ ذخيرة الصلحاء 12 ـ الوجيزة 13 ـ تعليقة على العروة الوثقى 14 ـ تعليقة على وسيلة السيد أبو الحسن ألأصفهاني 15 ـ بداية ألأحكام.

حوزة كربلاء بعد وفاة السيد الشرازي:

في أعقاب وفاة العالم الجليل والمرجع الكبير السيد الميرزا مهدي الحسيني الشيرازي ، وفي نفس السنة التي إنتقل بها إلى جوار ربه (1380 هـ) ، لقي المرجع الديني ألأكبر آية الله العظمى السيد ألآغا حسين البروجردي وجه ربه ، وبوفاة هذين المرجعين الكبيرين خسر العالم ألإسلامي وجهين ربانيين نيرين ودعامتين إسلاميتين عظيمتين ومرجعين كبيرين خسرتهما دنيا الشيعة دفعة واحدة تقريبا.
وبعد وفاة السيد البروجردي إنتقلت الرئاسة الدينية من جديد إلى النجف ، حيث كان آية ألله العظمى السيد محسن الحكيم المتوفى سنة 1390 هـ أكثر حظا بها ، فأصبح المرجع الديني ألأكثر شهرة ومقلدا في العالم ألإسلامي ، لكن مرجعيته التقليدية كانت أقل نطاقا من آية ألله العظمى البروجردي ، نظرا لتواجد آيات عظام آخرين ، كان لهم مقلدوهم وتابعوهم الكثيرون هنا وهناك من بلاد ألإسلام المترامية ألأطراف.
وفي هذا الوقت كان العلامة الكبير السيد محمد الحسيني الشريازي نجل آية ألله العظمى السيد الميرزا مهدي الشيرازي يملأ الفراغ الذي خلفه موت والده بحوزة كربلاء ،إذ واصل ألأعمال والخطوات الدينية والتوعوية التي كان والده الراحل قد شعها لتطوير الحركة العلمية بكربلاء ، وتنشيط الدعوة

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 209

ألإسلامية فيها مبتكرا لها أساليب ومناهج حديثة إضافية .
والجدير بالذكر أن الميزة التي يتحلى بها السيد محمد الشرازي هي معرفته الدقيقة بشؤون ألأعلام ، واهميته بالنسبة للدعوة ألإسلامية والتبليغ المذهبي ، فهو يعرف جيدا كيف يتعامل أعداء ألإسلام مع وسائل ألإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية لتشويه سمعة ألإسلام ، وكيف يجب أن يتعامل المسلمون مع هذه الوسائل خدمة لدينهم الحنيف وقضاياهم العادلة.
وإنطلاقا من وعيه ألإعلامي ، سعى لتنشيط حركة التأليف والطبع مبتدئا من نفسه ، حيث كان مكبا على التأليف والتصنيف ، ومؤلفاته المطبوعة وغير المطبوعة تقدر بالمئات من أهمها: موسوعة الفقه الذي طبع منه إلى ألآن مائة وعشرة مجلدات ، وهي أكبر موسوعة فقهية في تاريخ الشيعة ، وكتاب ألأصول ، وكتاب الوصول إلى كفاية ألأصول في شرح الكفاية وكتاب ألإيصال الطالب في شرح المكاسب ومئات الكتب في شتى العلوم.
وللسيد محمد الشيرازي رؤيته التفصيلية تجاه الحكم ألإسلامي الموحد ومراحل إقامته المتدرجة في كل بلد يتكاثر فيه المسلمون وصولا إلى الحكومة ألإسلامية العالمية الموحدة التي يسميها بحكومة ألألف مليون مسلم ، وقد شرح أطروحته هذه بإسهاب في كتابه المطبوع المسمى «السبيل إلى إنهاض المسلمين».
وفي إعتقادي أنها أطروحة مثالية للغاية تعوزها عناصر تطبيق ، خاصة في الظروف وألأحوال السائدة في عالمنا الراهن ، حيث العلاقات ألإجتماعية وألإقتصادية والسياسية معقدة ومتشابكة ومتداخلة ،وأن قوى عالمية متعددة ألإتجاهات والنزعات تفرض ميولها وتوجهاتها على كثير من دول العالم بضمنها الدول ألإسلامية ، إلى جانب أن أرض ألإسلام والمسلمين غير موحدة وغير متصلة في بعضها البعض، وأن النزعات القومية والوطنية تتحكم بالشعوب ألإسلامية ، وأن التغلب على كل هذه العقبات يحتاج لأعمال خارقة

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 210

بما يشبه المعجزات ولمرور زمن طويل.
بيد أن ألأطروحة بمجملها يمكن أن تكون مثار بحث ومناقشة ومقارنة بتجارب الحكم ألإسلامي الماضية والحاضرة ، الفاشلة منها أو الناجحة.

الحالة الراهنة في حوزتي النجف وكربلاء:

بعد وفاة آية ألله العظمى السيد عبدالهادي الشيرازي في سنة 1382 هـ ووفاة آية الله العظمى السيد محسن الحكيم في سنة 1390 هـ ، ووفاة آية ألله العظمى اليسد محمود الشاهرودي في سنة 1395 هـ ومن قبلهم وفاة آية ألله العظمى السيد جمال الكلبايكاني في سنة 1377 هـ ، تفرغت حوزة النجف ألأشرف من المراجع ,ألآيات العظام القدامى والمعروفين جدا، ولم يبق منهم فيها على قيد الحياة سوى آية ألله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي الذي توفر له فيما بعد النصيب ألأكبر من المرجعية التقليدية الكبرى للشعة ورئاسة الحركة العلمية بالنجف ، وهو لا يزال حتى كتابة هذه السطور محتفظا بمقامه الرفيع وحافظا للحوزة العلمية العريقة في النجف ، حيث إن تواجده على رأس هذه الحوزة هو من أهم العوامل في تماسكها وديمومتها وبقاءها متصلة بتاريخها العريق الذي يقرب ألآن من ألألفية ألأولى.
أما في كربلاء فقد وقعت حوادث غيرت كثيرا من طبيعة حوزتها العلمية إذ قامت السلطات العراقية في عام 1972 للميلاد بإبعاد مجموعة كبيرة من المواطنين ألإيرانيين أو من هم من أصل إيراني عن أرض العراق وحتى العراقيين الذين لم يوالوا النظامالعراقي ، وكان ذلك بسبب التوترات التي طرأت في العلاقات ألإيرانية العراقية أيام حكم الشاه ، وكان من بين هؤلاء العديد من العلماء ورجال الدين وألأسر العلمية المعروفة في كربلاء ، كما أن آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي بوصفه أهم دعامة في الحركة العلمية والحوزوية في كربلاء كان قد غادرها هو ألاخر قسرا في سنة

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 211

1391 هـ مستوطنا الكويت ، حيث أنشأ حوزةعلمية نشطة هناك وبقي لسنوات عديدة يمسك بناصية المرجعية الدينية فيها حتى تاريخ إنتصار الثورة ألإسلامية في إيران ، وعندئذ هاجرها إلى إيران في سنة 1400 هـ ، واقام بمدينة قم المقدسة.
ثم حصلت في أعقاب تغيير نظام الحكم الملكي في إيران توترات جديدة معروفة في العلاقات الإيرانية العراقية ، تبعتها عمليات تهجير أخرى شملت المواطنين ألإيرانيين ومن هم من أصل إيراني في كربلاء والنجف بوجه خاص ، ألأمر الذي أفرغ الحوزتين العلميتين فيهما من دعاماتها وركائزها أكثر فأكثر.
غير أن الشيء المؤكد في الوقت الحاضر ، هو أن حوزة النجف هي كعهدها السابق ناشطة وقائمة بثبات على قدميها ، وذلك بفضل تواجد مرجع تقليد كبير ،وأستاذ قدير ومبرز في الفقه وألأصول على رأسها ، هو آية ألله العظمى السيد الخوئي ، الذي يعتبر البقية الباقية من جيل الصفوة من ألآيات والمراجع العظام ، الذين تألقت وإزدهرت بهم الحوزتان العلميتان في النجف وكربلاء ، والذي له مقلدوه وتابعوه الكثيرون جدا في مختلف البلدان ألإسلامية ،والذي يترك ألآن بصماته على سائر الحوزات العلمية من خلال تلامذته الكثيرين والمنتشرين هنا وهناك من بلاد ألإسلام الواسعة.
وإلى جانب ألإمام الخوئي تبرز أسماء متألقة في سماء العلم والفضيلة في حوزة النجف ألأشرف ، وبذلك تبقى النجف محط أنظار المسلمين الشيعة في العالم تماما مثلما كانت في الماضي ، ولقد حصلت هجرة مماثلة في صفوف العلماء وألأساتذة بحوزة النجف خلال الفترة ذاتها لأسباب سياسية معروفة للجميع ، لكن وجود رمز على رأسها يتمثل بالدرجة ألأولى في زعامة السيد الخوئي ، قد حافظ على تماسكها وديمومة نشاطها العلمي والتدريسي ، بيد أن مثل هذا الشيء لم يحصل بالنسبة لمدينة كربلاء ، بسبب أن دعامات حوزتها وحركتها العلمية إضطرت ، لأن تغادرها أو أن تغيب عن ساحتها ، فكان

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 212

طبيعيا أن يحدث تخلخل فيها.
وقد يكون من اسباب ذلك ، هو أن الزعماء الروحيين في كربلاء سعوا بشكل أو بآخر إلى ممارسة دور سياسي إلى جانب دورهم الديني ، أو بتعبير أصح ، كانت لهم مواقف سياسية معلنة إزاء ألأحداث والتطورات على الساحة السياسية في العراق، خاصة تلك التي لها إرتباط بالشعائر المذهبية ذات الطابع العاطفي.
ولذلك كانت تقع بين فترة وأخرى تصادمات وتوترات بين كربلاء وحوزتها العلمية من جهة وبين السلطات الزمنية في العراق من جهة أخرى، إضافة إلى ما ذكرناه سابقا من أن مدينة كربلاء كانت على مر التاريخ معرضة لغارات وهجمات تركت تأثيرات سلبية على مسيرة الحركة العلمية والتدريسية فيها ، بينما النجف لم تتعرض لمثل هذه الغارات والهجمات إلا في حالات قليلة ، بفضل ما كان لها من دفاعات وسياجات قوية في الماضي ، والتي مكنتها على سبيل المثال من الصمود والمقاومة لأكثر من شهر أمام طوق الحصار الذي كانت قوات الإحتلال البريطانية قد فرضته حولها ، في محاولة للقبض على عدد من المجاهدين العراقيين المتحدّين لسلطة ألإحتلال والفارين من قبضتها ، والذين كانوا قد إلتجأوا لهذه المدينة المقدسة طالبين من أهلها ألأمان.
ولعل من جملة ألأسباب ألأخرى في ديمومة الحوزة العلمية في النجف وبقاءها راسخة وثابة على قدميها حتى اليوم طاقاتها الهائلة التي تراكمت وتدعمت عبر الف سنة متواصلة من تاريخها العريق ، فقد بقيت كل هذه الفترة الطويلة الحوزة العلمية ألأم تقريبا.
وطبيعي أنه من غير الممكن لأية سلطة زمنية في العراق تجاهل هذه الحقيقة المتمثلة في المركزية الدينية ألأولى للنجف ألأشرف ، ومدى تعلقها الروحي والعاطفي بالشيعة وعلماءهم اينما كانوا ، فيما الحوزة العلمية في كربلاء كانت إمتدادا أو رديفا داعما لحوزة النجف ، بإستثناء فترات كان السبق

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 213

العلمي والتجديدي فيها من نصيب كربلاء وحدها ، غير أن تابعيتها لحوزة النجف اصبحت مكرسة بشكل ملحوظ ومشهود منذ النصف الثاني من القرن الرابع عشر الهجري ، اي إبتداءا من عهد رئاسة المرجع الديني ألأكبر السيد أبي الحسن الموسوي ألأصفهاني المتوفى سنة 1365 هـ وإنتهاءا برئاسة السيد الخوئي .
ويبقى القول أخيرا: إن في كربلاء ايضا طاقة علمية هائلة تراكمت عن نتاج أجيال متعاقبة من العلماء والفقهاء وألأساتذة المحققين الذين طفحت صفحات كتب التاريخ والسير بمآثرهم ومعطياتهم العلمية ،وأن مثل هذا التراث الزاخر يمكنه أن يشكل أرضية مناسبة لأية حركة علمية متجددة مستقبلية خاصة إذا ما اخذنا في إعتبارنا تلك العوامل الروحية الجاذبة التي تمتلكها مدينة كربلاء المقدسة أكثر من أية مدينة مقدسة اخرى ، وأن هذه العوامل لا بد وأن تترك تاثيراتها ألإيجابية فيما لو حصل إنفراج في الموقف السياسي ، وما يرتبط منه بالعلاقات ألإيرانية العراقية.

السابق السابق الفهرس التالي التالي