تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 165

فقد تولى الزعامة الدينية من بعده تلميذه المبرز وتابعه ألأجل العالم الكبير والفقيه الرباني العظيم والمجدد الفحل الحاج السيد الميرزا محمد حسن الشيرازي الذي قويت وتدعمت الزعامة الدينية الشيعية في عهده وتوسعت إلى حد بعيد جدا حتى اصبح المرجع ألأوحد وألأقوى للشيعة على ألإطلاق ، وكان الناس وخاصة في العراق وإيران يمتثلون لأوامره ويطبقون فتاويه دون أي تردد أو تباطئ ، كانت مكانته الروحية في قلوب الشيعة بذلك المستوى الشامخ، بحيث أن الملوك وألأمراء والحكام في البلدان ألإسلامية كانوا يهابونه ويحترمونه ويطبقون أوامره ، فعندما اصدر فتواه الشهيرة بحرمة تدخين التبغ لأسباب تتعلق بصيانة بلاد إيران ألإسلامية أمام الهجمة ألإستعمارية البريطانية التي ارادت فرض نفوذها على هذه البلاد ألإسلامية الشيعية من وراء حصولها على إمتياز زرع التبغ في إيران ، وقد إمتثل الجميع بلا إستثناء لهذه الفتوى الخطيرة ، حيث أن الناس بضمنهم رجالات البلاط الملكي القاجاري في إيران إمتنعوا عن التدخين ، ويقال أن زوجة السلطان ناصر الدين شاه ملك إيران في ذلك الحين ، إمتنعت هي ألأخرى عن التدخين وقامت بكسر ألأرجيلة التي كانت تستعملها في تدخين التبغ العجمي، وأمام رد الفعل العنيف والواسع النطاق الذي احدثته هذه الفتوى ، لم يكن أمام السلطان ناصر الدين إلا الرضوخ لمطلب الجماهير المسلمة وزعيمها الروحي ألأوحد ألإمام الشيرازي الكبير ، فبادر على التو بإلغاء التبغ الذي كانت حكومته قد منحته لشركة بريطاني'
كان للمجدد الشيرازي عبقرية علمية فريدة من نوعها ، إذ كان قد أنهى دراسة مقدمات العلوم الدينية وإستوعبها جيدا ، وهو في سن السادسة من العمر، كما كان يقوم بتدريس كتاب شرح اللمعة وهو من أمهات الكتب الفقهية الدراسية المتعمقة وصعبة الفهم لتلميذيه وهو شاب في الخامسة عشر من عمره ، وكان عندما غادر أصفهان بعد فترة من الدراسة بحوزتها العلمية على قدر كبير من العلم والفضل بما يؤهله لكي يكون تلميذا مبرزا وفطنا جدا للشيخ ألأنصاري.

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 166

وإلى جانب هذا الزعيم الروحي ألأوحد الذي إتخذت زعامته الطابع السياسي إلى جانب طابعها الديني ، كان زميله العالم الزاهد الورع الشيخ حبيب ألله الرشتي ، الذي كان بحق مربيا لجيل من كبار العلماء والفقهاء وكان حلقة درسه تزخر بمئات الطلاب الذين كان الواحد منهم عالما وفقيها نابها في حد ذاته، وقد اسهم هو ألاخر في تطوير وتنشيط الحركة العلمية والتدريسية بحوزة النجف.
وكان من نتاج هذين الزميلين الشيرازي والرشتي ، نخبة من العقول وألأدمغة العلمية العظيمة أمثال الفيلسوف ألإسلامي الكبير والعالم ألأصولي المتميز المولى محمد كاظم الخراساني ، والفقيه العظيم السيد محمد كاظم اليزدي ، اللذين إزدهرت بهما حوزة النجف بشكل غير عادي حيث إكتظت بالمئات بل بالآلاف من العلماء وألأساتذة البارعين.
وحينما نقل المرحوم الميرزا محمد حسن الشيرزاي حوزة درسه ومقر زعامته إلى مدينة سامراء لأسباب راى فيها المصلحة الإسلامية ، بقيت حوزة النجف على حركتها الناشطة ، لتواجد تلك الصفوة من رعيل العلماء على ساحتها ، وإن كان ثقل المرجعية الدينية قد إنتقل منها إلى مدينة سامراء.

الحوزة العلمية في سامراء:

إن مما لا شك فيه هو أن للشخصيات الكبيرة دورها في صنع التاريخ وإن هذا الدور بما له من قوة أو ضعف يتوقف على مدى مكانة الشخص وما يحظى به من نفوذ وتأثير معنوي في نفوس أتباعه وأنصاره ومقلديه ، واينما يحل هذا الشخص يصبح ذاك المكان في مركز دائرة إهتمام أتباعه وانصاره وهذا شيء طبيعي جدا.
من هذا المنطلق ، فحينما نقل المرحوم الشيرزاي الكبير مقر زعامته وحلقة درسه إلى مدينة سامراء ، كان لابد من أن تزدهر الحركة العلمية في هذه المدينة وأن يتوفر لها جاذب قوي لكبار العلماء وأساتذة أجلاء ، الذين بدأوا يتوجهون إلى سامراء تباعا ويقيمون فيها حلقات دروسهم وأبحاثهم،

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 167
فالعلماء الذين رحلوا لهذه المدينة كانوا يهدفون أولا ألإستفادة من دروس الشيرازي والتمتع بصحبته المباركة، لكنهم بدورهم أوجدوا حلقات درس على هامش حلقة درس معلمهم ألأكبر الشيرازي ، ومن هنا إزدهرت الحوزة العلمية في سامراء ،وأصبحت جامعة علمية تستهوي طلاب العلم وتجذبهم من كل مكان.
وفي الحقيقة أن سامراء لم تحو بين ظهرانيها منذ أن أنشأها الخليفة العباسي المعتصم بالله عاصمة لملكه ، عالما مجتهدا يشار له بالبنان ويطاع في أوامره وفتاويه على أوسع نطاق مثل هذه الشخصية التاريخية الفذة ، ولم تشهد مثلها فيما بعد ، إلا لفترات قصيرة جدا، حينما كان المراجع الدينيون العظام ، أمثال المرحوم العلامة السيد ابوالحسن ألأصفهاني رحمه الله وغيره، يمضون شهور الصيف فيها. وقد باتت هذه الحوزة العلمية بوجود الشيرازي الكبير من الرسوخ والثبات ، بحيث أنها حافظت على إستمراريتها لفترة عقد أو عقدين بعد وفاة الشيرازي سنة 1312 هـ ، وإنتقال جثمانه الطاهر إلى النجف ألأشرف ، بدليل أن العلماء الكبار الذن إنجذبوا إلى سامراء لم يرحلوا عنها فجأة، بل ظلوا فيها إلى حين آخر منشغلين بالدرس والبحث ، وظلت معهم حلقات دروسهم التي كانت من عوامل الجذب لهذه المدينة المقدسة ، حيث يقبع المرقدان الطاهران للإمامين الهمامين علي الهادي والحسن العسكري (عليهما السلام) إلى فترة أخرى إضافية في اعقاب وفاة الشيرازي الكبير رحمه ألله.

عودة إلى حوزة النجف:

بعد موت المجدد الشيرازي الكبير ، إنتقل ثقل الزعامة الدينية من جديد إلى النجف ألأشرف ، وكان طبيعيا أن تعقد الرئاسة والمرجعية الكبرى لزميله ألأجل، العالم الزاهد الورع، الشيخ حبيب ألله الرشتي، لكنه هو ألاخر توفى في نفس السنة التي توفى فيها العلامة الشيرازي الكبير ، من هنا تحولت الرئاسة العلمية ومرجعية التقليد لجملة من العلماء المجتهدين الكبار ، منهم العلامة المولى محمد الشربياني، والعلامة الشيخ حسن المامقاني ، والعلامة

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 168

الشيخ محمد طه نجف والعلامة المولى علي النهاوندي ، والعلامة الميرزا حسين الميرزا خليل الطهراني، وألآيتان الكاظمان : السيد محمد الكاظم اليزدي ، وألأخوند المولى محمد كاظم الخراساني،وغيرهم ممن كانوا يشكلون مجموعة من العلماء ألأتقياء الثقات الذين قلما يجود الزمن بهم مرة واحدة ومتزامنة ، وهؤلاء كانوا يتصدرون قائمة كبيرة من رواد العلم والفكر ، حيث النجف في هذا الوقت كانت مزدحمة بألأدمغة العظيمة والعقول النيرة، غير أن الكاظمين السيد اليزدي والشيخ الخراساني كان يبزان ألآخرين ويتفوقان على الجميع، فألأول وأعني به السيد محمد كاظم اليزدي كان حجة وعلما خفاقا في الفقه ، حتى أن كتابه القيم «العروة الوثقى » اصبح مرجعا اساسيا لتعليقات العلماء والمراجع اللاحقين ، وقلما وجد عالم مجتهد بارز لم يعلق عليه ، ومن بين الذين علقوا على كتابه «العروة الوثقى» : السيد أبو الحسن ألأصفهاني، الشيخ علي الشاهرودي، السيد محسن الحكيم في كتابه المعروف «مستمسك العروة الوثقى» ، السيد مهدي الشيرازي، وكان الثاني واقصد به ألأخوند محمد كاظم الخراساني ، عالما مجددا ومنظما لقواعد علم الأصول ، بحيث أوجد مدرسة أصولية خاصة به لا تزال تفرض نفسها على الحوزات العلمية في الوقت الحاضر ، بفضل كتابه «كفاية ألأصول» الذي يعتبر كتابا تدريسيا رئيسيا من كتب ألأصول التي يدرسها طلاب العلوم الدينية ، والذي أصبح بدوره مرجعا لشروحات الكثير من العلماء المجتهدين المتأخرين . وبسبب تفوق هذين العالمين المرجعين على سائر المراجع ، فقد توزعت الرئاسة الدينية والعلمية بينهما وتحددت بهما تقريبا ، فالأول كان يمسك بناصية الحركة الفقهية بوصفه فقيها فحلا لا يقهر ، فيما كان الثاني يمسك بناصية الحركة ألأصولية بوصفه العالم الأصولي الذي يسبق الجميع على صعيد هذا العلم ، وذلك بفضل إبداعاته الكلامية ، تقريراته ألأصولية ، والفلسفية الزاخرة بكل جديد ومبتكر وبديع.
وفي هذا الوقت كانت الساحة السياسية في إيران مسرحا لمواجهة تيارين متصارعين ، هما ألإستبداد والمشروطة أي الديمقراطية، ثم إشتدت

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 169

المواجهة بين أنصاري هذين التيارين ، وإتخذت شكلا عنيفا وخطيرا على عهد السلطان محمد علي شاه القاجار ،الذي دخل في مواجهة دموية ضد أنصار ودعاة الدستور في إيران ، أو ما عرف في حينه «بالمشروطة» وأمر بقصف مبنى المجلس النيابي بالمدفعية ، فيما كان والده السلطان مظفر الدين الشاه قد رضخ لمطالب دعاة الديمقراطية والدستور، ووافق على إقرار الحياة النيابية في البلاد بفترة ما قبل وفاته في سنة 1326 هـ .
وأمام هذه الظاهرة السياسية التي كانت إفرازات وتأثيرات في العالم الإسلامي ، برز على ساحة الحوزة العلمية في النجف رأيان مختلفان، رأي للسيد كاظم اليزدي الذي كان يرى أن مصلحة الدولة الإسلامية العليا في تلك الظروف المحاطة بملابسات معقدة تكمن في تركيز السلطة الزمنية في يد شخص مؤمن نزيه مبرهنا رأيه، هذا بالعديد من ألأدلة وألإستنتاجات التي كان قد توصل إليها عن قناعة وإجتهاد ، إضافة إلى انه كان يكره بشدة رجال الدين في السياسة معتبرا مثل هذا التدخل مفسدة لا تخدم الدين وأهله ، وكان يرى أن رجل الدين عليه أن يتفرغ كليا لشؤون وأحكام الدين من حلال وحرام وأن يترك السياسة لأهلها ، بينما كان ألأخوند الخراساني يرى أن الدولة الحقة (الشرعية) هي التي تقوم على رأس رفض ألإستبداد ، من حيث أنه قوة يتمسك بها الجبابرة والطواغيت ، وإن ألإستشارة وإشراك الرعية في الرأي هما ما نص عليه القرآن الكريم ، وأيدتهما سيرة الني الأكرم وقام عليهما أمر أكثر من جاء بعده من أولياء ألأمر العادلين ، وكان لكل من اليزدي والخراساني أتباع وأنصار متحمسون لرأي هذا أوذاك ، فكان من نتيجة ذلك أن إنقسم أهل العلم والثقافة إلى فريقين ، كل يتبع واحدا من هذين الزعيمين.
وكان الخراساني متحمسا في رأيه لدرجة أنه أفتى بوجوب خلع السلطان محمد علي شاه القاجار وتنحيته من عرش إيران ، وبضرورة أتباع الدولة ألإيرانية للنظام الديمقراطي في حكم الشعب وتأليف المجالس النيابية وإصدار الصحف وفتح المدارس وغيرها من المظاهر الديمقراطية ، كما أنه حكم

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 170

بمحاربة السلطة الإستبدادية في إيران والجهاد ضدها ، فكان أن إستعد الناس من أتباعه ومريديه للخروج إلى الجهاد وأستعد هو كذلك لقيادة المسيرة الجهادية الزاحفة من النجف بإتجاه إيران، غير أنه توفى فجأة فجر نفس اليوم الذي كان قد عينه موعدا لخروج الجماهير المؤمنة في المسيرة الجهادية وهو يوم الثلاثاء الخامس عشر من شهر ذي الحجة سنة 1329 هـ .
وروى أن المرحوم ألأخوند الخراساني ، قد غير رأيه في مصداقية دعاة الدستور والديمقراطية في إيران ، حينما أقدم هؤلاء على إعدام العالم الديني الشهير الشيخ فضل الله النوري، بتاريخ الثامن عشر من شهر ذي الحجة سنة 1327 هـ ، بسبب رفضه للمشروطة (النظام الملكي المشروط بالدستور والحياة النيابية) ، مطالبته بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية أو ما كان يسميه بالمشروعة مقابل المشروطة ، وقد غضب الخراساني من هذه الجريمة أشد الغضب وإعتبره تصرفا لا مبرر له إطلاقا ، كون ان مخالفة الرأي في قضية سياسية لا تستوجب القتل بالمرة .
وفي أعقاب وفاة الخراساني ، اصبحت المرجعية الدينية الكبرى معقودة على السيد محمد كاظم اليزدي وحده لا ينافسه فيها احد ، وظل ماسكا بناصية الزعامة المطلقة لفترة ثماني سنوات حتى توفى في سنة 1337 هـ .
لقد كان السيد اليزدي (رحمه ألله) موضع إحترام الجميع لعلمه وورعه وزهده وتقواه ، كان الناس يحبونه ويجلونه إلى اقصى حد، وكان كلامه حجة لهم لا يتوانون عن ألإمتثال لأوامره وتعليماته ، وقد وصل ألأمر في محبة الناس له إلى حد أن عرب البادية في العراق كانوا يأتون بحفنات من التراب ويضعونها تحت قدميه ثم يأخذونها معهم إلى ديارهم ليحلفوا بها فيما بعد، فكانوا أثناء منازعاتهم يأتون بهذه الحفنات ويقسمون بها قائلين : قسما بتراب قدم السيد «اليزدي».
وفي هذه ألأثناء كان نجم عالم جليل وفقيه زاهد ومجاهد شجاع هو الشيخ الميرزا محمد تقي الشيرازي يسطع ويلمع في سماء الحوزة العلمية

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 171

في كربلاء، خاصة وأنه إنبرى لقيادة الثورة العراقية الكبرى ضد ألإحتلال البريطاني لأرض العراق ألإسلامية وتزعم الحركة الجهادية للمسلمين العراقيين ، فبعد وفاة السيد اليزدي إنتقلت الزعامة الدينية العظمى إلى الشيخ الميرزا محمد تقي الشيرازي في كربلاء.

حوزة كربلاءعلى عهد الشيخ الشيرازي:

كان مقر الزعيم الروحي والمجاهد ألإسلامي الكبير ، الشيخ الميرزا محمد تقي الشيرازي في مدينة كربلاء ، وحينما إنتقلت إليه الرئاسة العلمية والزعامة الدينية الكبرى ، تبوأت حوزة كربلاء العلمية مكانة الرئاسة من جديد، فإندفعت الحركة العلمية والتدريسية فيها بقوة أكبر وأعظم ، لما توفر لها من عامل جذب إضافي إلى جانب كونها حوزة عريقة تربط بأرض طاهرة مقدسة.
وخلال فترة مرجعية الشيخ الشيرازي باتت هذه الحوزة تعج وتزخر بالعلماء الكبار وألأساتذة المحققين ألأجلاء، الذين جاؤوا إليها من كل حدب وصوب وخاصة من النجف ألأشرف ، أمثال المرحوم العالم المحقق الشيخ علي الشاهرودي وآية ألله العظمى السيد ألأقا حسين القمي وآية الله العظمى الميرزا هادي الخراساني وغيرهم كثيرون ممن أسهموا بجانب علماءها وأساتذتها المجاورين في خلق حركة علمية نشطة جدا. والذين فضلوا البقاء في رحاب كربلاء حتى لما بعد وفاة الشيخ الشيرازي ، وبوجود هؤلاء كثرت وتنوعت حلقات الدرس والبحث في ارجاء الحائر الشريف، وتربى جيل من العلماء والمجتهدين الكبار ، امثال العالم الأصولي المحقق السيد هادي الميلاني والعالم الزاهد الثقة السيد الميرزا مهدي الشيرازي وألأستاذ المربي الشيخ محمد رضا ألأصفهاني والعلامة الفهامة الشيخ يوسف الخراساني البيارجمندي والمحقق الجليل والعالم النحرير وألأستاذ البارع السيد حسن القزويني المعروف بأغا مير ، وغيرهم.
ويمكن القول أن قوة الدفع التي إكتسبتها حوزة كربلاء في عهد رئاسة

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 172

الشيخ الشيرازي ، بقيت على طاقتها الهائلة حتى لوقت قريب لأن جيلا آخر من العلماء والمجتهدين تربى وأمسك بناصية الحركة العلمية والتدريسية فيها أمثال آية ألله السيد محمد الحسيني الشيرازي والعلامة الكبير وألأستاذ المحقق الشيخ محمد الشاهرودي والمفكر ألإسلامي النيّر السيد أحمد الفالي صاحب المصنفات العديدة والمفكر الإسلامي المجاهد السيد حسن الشيرازي والسيد صادق القزويني وغيرهم كثيرون. وإضافة إلى كل ما ذكر فإن مدينة كربلاء اصبحت في عهد الشيخ الشيرازي المركز السياسي ألأوحد للعراق نظرا لأنه تولى إلى جانب مهامه الدينية قيادة الثورة العراقية الكبرى التي عرفت بثورة العشرين ، مما أضفي على الحوزة العلمية في كربلاء الطابع الديني والسياسي معا، إذ أن الثقل السياسي الثوري والجماهيري لكل العراق إنتقل إلى كربلاء، حيث كانت البلاغات الثورية تصدر عنها أولا بأول.
ولد المرحوم الشيخ الميرزا محمد تقي الشيرازي في مدينة شيراز سنة 1256 هـ ،وحينما كان في السابعة عشر من عمره هاجر إلى مدينة كربلاء للإغتراف من معين العلم والفضيلة في حوزتها ، فقرأ بدايات العلوم الدينية وتتلمذ على العلامة المولى الشيخ حسين ألأردكاني المتوفى سنة 1305 هـ ، ثم رحل إلى مدينة سامراء وتتلمذ لدى المجاهد الكبير السيد الميرزا محمد حسن الشيرازي حتى أصبح من أجلاء تلامذته ، وحينما إحتلت العساكر البريطانية مدينة سامراء قفل راجعا إلى كربلاء وسعى لبعث الروح الجهادية بين المسلمين ، فطالب بالحقوق المغدورة والمهضومة للمسلمين ، وأصدر فتواه التاريخية التي أثارت الحماس والغيرة الإسلامية في صفوف العراقيين ـ وإكتسب شهرة وصيتا ذائعا تخطى الحدود العراقية وشاع إسمه وعرفت مكانته كزعيم روحي وسياسي فذ في بلدان إيران ولبنان وسوريا ومصر ، وبالرغم من إنشغاله بشؤون الزعامة الدينية وقيادة الثورة العراقية بقي على إتصال وثيق بطلاب العلوم الدينية والعلماء وظل مهتما وراعيا لشؤون وشجون الحوزة العلمية في كربلاء والحوزات ألأخرى ، كما خصص قسما من أوقات فراغه

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 173

للتأليف والتصنيف ، حيث الف كتاب شرح «المكاسب» للشيخ مرتضى ألأنصاري و «القصائد الفاخرة في مدح العترة الطاهرة» وشرح على «منظومة الرضاعة» للسيد صدر الدين العاملي، وقد تتلمذ عليه وتربى في محضر درسه رعيل من الفقهاء والمجتهدين منهم : السيد الميرزا هادي الخراساني ، والشيخ محمد كاظم الشيرازي ، والشيخ محمد علي القمي والسيد محمد حسن القزويني المعروف بآغامير والعالم الرجالي النسابة الشيخ آغا بزرك الطهراني.
وترجمه عدد لابأس به من المؤلفين المعنيين بتراجم الرجال منهم صاحب «أعيان الشيعة» وصاحب «معارف الرجال» وصاحب «نقباء البشر في القرن الرابع عشر» ، فقد قال فيه الرجالي ألأخير مايلي:
هو الشيخ الميرزا محمد تقي بن الميرزا محب علي بن أبي الحسن الميرزا محمد علي المُتَخلص ب «جلشن» الحائري الشيرزاي ، زعيم الثورة العراقية وموري شرارتها الأولى ، من أكابر العلماء وأعاظم المجتهدين ومن أشهر مشاهير عصره في العلم والتقوى والغيرة الدينية.
ولد بشيراز ـ كما حدثني به ـ ونشأ في الحائر الشريف (كربلاء) ، فقرأ فيه ألأوليات ومقدمات العلوم وحضر على العلامة المولى محمد حسين الشهير بالفاضل ألأردكاني حتى برع وكمل ، فهاجر إلى سامراء في أوائل المهاجرين مع صديقه وشريكه في البحث العلامة السيد محمد الفشاركي ألأصفهاني، فحضر على المجدد الشيرازي حتى صار من أجلاء تلاميذه واركان بحثه وكان يومئذ مدرسا لجمع من أفاضل تلاميذ المجدد إلى أن توفى أستاذه الجليل فتعين للخلافة بالإستحقاق وألأولوية ، فقام بالوظائف من ألإفتاء والتدريس وتربية العلماء ، وقد خرج من مجلس بحثه الشريف جمع غفير من أجلاء العلماء وأفاضل المجتهدين البالغين رتبة ألإجتهاد ، وذلك لدقة نظره وفكره وكثرة غوره في المطالب الغامضة والمسائل المشكلة ، قال سيدنا في «التكملة»:
عاشرته عشرين عاما فما رأيت منه زلة ولا أنكرت عليه خلة ، وباحثته

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 174

إثنتي عشرة سنة فما سمعت منه إلا ألأنظار الدقيقة وألأفكار العميقة والتنبيهات الرشيقة.
«أقول» : وقد تلمذت عليه وحضرت بحثه ثمان سنين في سامراء ، فتأكدت لدي صحة كلام سيدنا الصدر وبانت لي حقيقته ، وصدق الخبر وتحققنا ذلك من طريقي السمع والبصر ،ولم تشغله مرجعيته العظمى واشغاله الكثيرة عن النظر في أمور الناس خاصهم وعامهم ، فقد كان ينتهز من وقته المستغرق بأشغاله فرصة يخلو فيها للتفكير في مصالح الناس وأمور العامة وحسبك من أعماله الجبارة موقفه الجليل في الثورة العراقية ومطالبته بالحقوق المغدورة وألأمر بالدفاع وإصداره تلك الفتوى الخطيرة التي أقامت العراق وأقعدته ، لما كان لها من الوقع العظيم في النفوس ، وحقا إنه بذل كل مل لديه وبوسعه من حول وطول وضحى بكل غال ونفيس حتى أولاده وماله ، وقضية إلقاء القبض على ولده الميرزا محمد رضا معروفة ، فقد فدى إستقلال العراق بنفسه وأولاده وكان أفتى قبلها بحرمة إنتخاب غير المسلم ، وذلك لما حمل ألإنجليز الشعب العراقي على إنتخاب معتمد الحكومة البريطانية «السير برسي كوكس» رئيسا للحكومة العراقية فإنه ـ أعلى ألله مقامه ـ شعر بالحيلة المدبرة من المستعمر وعرف المغزى وإنكشف له المخبأ فعند ذلك أصدر فتواه وابدى رأيه الصائب ، فلم يكن من أمر العراقيين إلا ألإمتثال لأمره فقد كانوا طوع إرادته لا يصدرون إلا عن رأيه ، وقد عقدت إجتماعاتهم في داره بكربلاء عدة مرات كان أحدها ـ ولعله آخرها ـ إجتماعهم ليلة نصف شعبان عام وفاته ، فقد عرضوا عليه بتلك الجلسة منوياتهم وتعهدوا بأن فيهم القوة الكاملة ، فلم يزد في أول مرة على قوله «إذا كانت هذه نواياكم وهذه تعهداتكم فألله في عونكم» ، ولما بدت أعمال الحكومة الشنيعة إستنكرها إستنكارا عظيما وإجتمع عليه العلماء والزعماء والرؤساء يستفتونه في القيام ضد السلطة ، راغبين بأن تكون فتواه بدء الشروع في الثورة فعند ذلك أصدر فتواه المشهورة وهذا نصها : «مطالبة الحقوق واجبة على العراقيين ويجب عليهم في ضمن مطالباتهم رعاية السلم وألأمن ويجوز لهم التوسل بالقوة الدفاعية إذا إمتنع ألإنجليز عن قبول مطالبهم . . . الخ»، فأصبح لهذه الفتوى مقامها الخطير

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 175

بإعتبارها من ذلك الزعيم العظيم ، إذ لم يستطيعوا ألإقدام على أمر قبل حصول ألإذن منه ، وبعد الرخصة وتعيين التكليف إتجه العراقيون إلى العمل بواجب المدافعة ، وجرت أمور ليس هذا موضع ذكرها فصادف مرض المترجم ووفاته بعد أيام وذلك في ليلة ألأربعاء الثالث عشر من ذي الحجة سنة 1338 هـ ، فثلم ألإسلام بوفاته في امس أوقات الحاجة إليه ، وقد كادت ألأمور أن تتقهقهر لولا نهوض شيخنا ألأستاذ شيخ الشريعة ألأصفهاني بألأمر وقيامه بأعباء الخلافة ، ووقوفه موقف ألإصلاح بين الحكومة وألأهلين ، وقد عزاه الحاكم الملكي العام بوفاة الحجة الشيرازي إلى أن تم ألأمر على النحو المشهور الذي دونته كتب التاريخ العراقية.
دفن شيخنا المترجم في كربلاء ومقبرته في الصحن الشريف مشهورة ، وكان ـ أعلى الله مقامه ـ من بيت علم وفضل وشرف وتقوى فعمه : الحكيم الميرزا حبيب ألله من الشعراء الخالدين ، ووالده :العبد الصالح من العرفاء الكاملين، وجده جُلشن واخوه الميرزا محمد علي من أعاظم العلماء بشيراز، وللمترجم تصانيف كثيرة طبع منها حاشية «المكاسب» و «رسالة صلاة الجمعة» و «رسالة الخلل» ، وله ديوان شعر فارسي من القسم الرائق اكثره في مدائح أهل البيت ومراثيهم مطبوع ، وغير ذلك ، ترجمه جماعة من ألأعلام وله ذكر في أغلب كتب التاريخ العصرية حتى التي تدرس في ثانويات العراق. . . الخ .

الثورة العراقية الكبرى ودور كربلاء فيها:

في الحقيقة أن ثورة الشعب العراقي المسلم على ألإحتلال البريطاني إندلعت من مدينة كربلاء أولا ، ومن المدن المقدسة ألأخرى ثانيا ، وهذا يعني أن المدن المقدسة في العراق وعلى رأسها كربلاء هي التي اججت نار الثورة وفجرتها لتعم سائر المدن العراقية خاصة في منطقة الفرات ألأوسط، وذلك نظرا لأن العلماء ورجال الدين ألأفاضل كانوا يوجهون الموقف السياسي

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 176

في البلاد ، وكان الناس يطيعونهم وينفذون أوامرهم من منطلق وازعهم الديني أولا ،و لإنعدام السلطة السياسية الزمنية المسلمة في العراق التي كانت محتلة من قبل ألإنجليز ثانيا.
وعلى هذا الصعيد كانت كربلاء رائدة الثورة وقائدة لمسيرة الشعب لتواجد زعيم ديني وعالم فذ على ساحتها العلمية والدينية هو الشيخ الميرزا محمد تقي الشيرازي، الذي فجر الثورة العراقية بفتواه الشهيرة بالجهاد ضد المحتلين الغاصبين للأرض ألإسلامية ،وذلك قبل أن تنتقل إليه الرئاسة الدينية الشيعية التي كانت في ذلك الوقت معقودة للعالم الكبير السيد محمد كاظم اليزدي في النجف ، غير أن الحالة الصحية لهذا ألأخير ، وأعني به السيد اليزدي وكبر سنه وشيخوخته منعته من القيام بنشاط ملحوظ على صعيد تحريك الجماهير المسلمة بإتجاه مناهضة القوى ألإستعمارية المحتلة للأرض ألإسلامية ، إضافة إلى أنه كان يأخذ دوما جانب الحيطة والحذر في المسائل السياسية كي لا يتسبب في إزهاق أرواح المسلمين وإبتعادا عن مظان المقولة الشائعة بين العلماء وهي «دفع فاسد بأفسد».
ولكن مع ذلك كانت مدينة النجف تتعاطف وتؤيد كربلاء في حركتها الثورية ، وإنبرى العديد من علماءها بالوقوف صفا واحدا خلف الزعيم الديني الكبير الشيخ الشيرازي ومساندته بالروح والدم ، وعلى رأسهم شيخ الشريعة ألأصفهاني الذي قاد الثورة العراقية خلفا للشيخ الشيرازي بعد وفاة هذا ألأخير مباشرة.
ولتوضيح ألأمور نقول: عندما إحتلت بريطانيا أرض العراق بحجة تخليصها من ألإحتلال العثماني ، ثم نكثت بعهودها التي قطعتها على شعب العراق المسلم بمنحه ألإستقلال والحرية ، ومماطلتها في تحقيق إرادة الجماهير الحرة، حدثت تململات مستمرة وبرزت مظاهر السخط والغضب وألإحتجاج في صفوف الناس ، وأخذت هذه الفكرة تشاع وتنتشر على أوسع نطاق في الوسط الشعبي ومفادها هو أن الشعب العراقي خرج من دائرة إحتلال دولة ليدخل في دائرة إحتلال دولة أخرى ، وبات اليأس وألإحباط

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 177

يسودان الجو السياسي في البلاد ، وتأكد على الطبيعة زيف إدعاء ألإنجليز المحتلين من أنهم جاءوا محررين لأرض العراق لا فاتحين لها. حتى أخذت موجة السخط والغضب الشعبي منحىً خطيرا جدا بالنسبة للغزاة المحتلين.
وتهدئة للخواطر والمشاعر الشعبية الغاضبة ، صدرت ألأوامر من لندن بأن يقوم الحاكم البريطاني العام في بغداد بالتعرف على آراء العراقيين بشأن طبيعة نظام الحكم الذي يرتأونه ، وذلك بإجراء إستفتاء عام حول البنود التالية:
ـ هل يرغب العراقيون في إنشاء دولة عربية واحدة تسترشد ببريطانيا وتكون حدودها ممتدة من ولاية الموصل في الشمال إلى الخليج في الجنوب.
ـ وفي هذه الحالة هل يريدون أن تكون الدولة الجديدة برئاسة أمير عربي.
ـ وإذا كان ألأمر هكذا فمن هو الشخص الذي يريدونه رئيسا لبلادهم.
غير أن المحتلين ألإنجليز وبضمنهم «أرنولد ويلسون» وكيل الحاكم البريطاني العام ، كانوا يرفضون فكرة إقامة أي شكل من اشكال الحكم الوطني في العراق ، ولذلك سعوا إلى تدبير عملية إستفتاء عام مزيفة تتفق نتائجها مع ما يرتأونه هم لا كما يريده الشعب العراقي، وذلك بالتأثير على الناس وتضليلهم في كل منطقة من مناطق العراق مستخدمين لعملية تزييف آراء الشعب الحكام المحليين ألإنجليز وجواسيسهم وعملاءهم.
وبالنظر إلى ان العتبات المقدسة في العراق كان لها دور قيادي في تسيير وجهة الشعب المسلم ، لتواجد العلماء ورجال الدين على ساحتها السياسية الدينية ،وللوعي المتزايد في صفوف شبانها ، فقد صدرت تعليمات سرية تقضي بإستحصال نتائج مرضية لصالح ألإنجليز من ألإستفتاء العام وخاصة في المدن المقدسة ، غير أن إستحصال نتائج كهذه لم يكن أمرا سهلا وميسورا في مدن العتبات المقدسة ، وبهذا الصدد تقول الكاتبة الغربية «مس

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 178

بيل » التي تعتبر من أهم الكتاب الغربيين الذين دونوا التقارير الوثائقية عن مدينة كربلاء في هذه الفترة المصيرية:
«إن العلماء المجتهدين في كربلاء والكاظمية حرّموا على المسلمين أن يصوتوا لغير تشكيل حكومة إسلامية فبلغ ألإختلاف حدا أوقف سير عملية ألإستفتاء ، ففي كربلاء أصدر العلامة ألأكبر الميرزا محمد تقي الشيرازي فتواه التي تنص على هذا القول «ليس لأحد من المسلمين أن ينتخب ويختار غير المسلم للإمارة والسلطنة على المسلمين » وعلى ضوء هذه الفتوى نشط الكربلائيون في إعداد وتوزيع منشورات وبلاغات تعبر عن واقع رأي الشعب ، وحقيقة ما يريدونه بشأن نظام الحكم في بلادهم بما يتفق مع مصلحتها الوطنية ، ولما أيقنت السلطات ألإنجليزية من أنها غير قادرة على تحقيق ما تريد ، بادرت إلى إلقاء القبض على ستة من وجهاء كربلاء وابعدتهم وهم : عمر الحاج علوان وعبدالكريم العواد والسيد محمد علي الطباطبائي ومحمد علي أبو الحب والسيد محمد مهدي المولوي وطليفح الحسون ، وعلى أثر هذا ألإعتقال إحتج الميرزا محمد تقي ووجه خطابا عنيف اللهجة.
وتقول الكاتبة «المس بيل» في تقريرها عن دور كربلاء في إحباط عملية ألإستفتاء المدبرة من قبل ألإنجليز : وكان أبرز شخصية على ألإطلاق في حركة كربلاء هو نجل الميرزا محمد تقي الشيرازي المتقدم في العمر ، وكانت منزلة الشيخ محمد تقي في العالم الشيعي لا تفوقها إلا منزلة محمد كاظم اليزيدي.
ثم تضيف بالقول: إن سير الأستفتاء في المناطق ألأخرى ولا سيما في المدن المقدسة مثل كربلاء والنجف والكاظمية وفي بغداد أيضا لم يكن سهلا ، كما أن نتائجه لم تكن مرضية على الوجه المطلوب ، وأما في مدينة كربلاء بادر المجتهدين إلى إصدار فتاوى تجعل من كل فرد يميل لدولة غير مسلمة شخصا مارقا عن الدين ، وبفعل هذه الفتاوى تردد سكان المدينة في إعطاء اي رأي محدد ، وبذلك لم يحصل أي تقدم على صعيد ألإستفتاء في كربلاء ، ولم يفصح أحد عن ألآراء التي تكونت فيها رسميا».

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 179

وفي الحقيقة أن علمية ألإستفتاء والمضاعفات التي خلفتها كانت عاملا قويا في إذكاء نار الثورة الشعبية ضد السلطات ألأنجليزية المحتلة ولا سيما في كربلاء التي إضطرت هذه السلطات إلى إبعاد عدد من رجالاتها البارزين ، فقد تطورت الحالة في هذه المدينة المقدسة حتى إستقطبت الكفاح الوطني على مستوى العراق ، خاصة بعد أن اصبح العلامة الكبير الشيخ الميرزا محمد تقي الشيرازي المقيم في كربلاء المرجع ألأعلى والأوحد للشيعة في العالم في أعقاب وفاة السيد محمد كاظم اليزدي سنة 1337 هـ ، وهكذا أصبحت كربلاء مركز إستقطاب سياسي وديني في آن واحد.
ثم تطور الموقف السياسي على هذا النحو حتى إندلعت نار الثورة العراقية الكبرى بتاريخ الثلاثين من شهر حزيران ـ يونيو عام 1920 الميلادي ، وهي الثورة التي عرفت بالثورة العشرينية التي إضطلع بالعمليات المسلحة فيها رجال القبائل القاطنة في منطقة الفرات والذين شنوا حربا لا هوادة فيها على جنود ألأنجليز ومواقعهم ومنشآتهم في مختلف أرجاء العراق ، وكان هؤلاء الفدائيون المحاربون يتلقون المشورة والرأي وألإرشادات من كربلاء وسائر المدن المقدسة.
وبهذا الصدد تقول «المس بيل» : إن القلاقل والإضطرابات العلنية قبل أن تحدث في بغداد ، كان العامل الديني الشيعي في المدن المقدسة يسعى جاهدا لتدبيرها والتخطيط المبرمج لها بهدف تعكير الجو السياسي العام ضد السلطات البريطانية الحاكمة ، وإن وفاة السيد محمد كاظم اليزدي قد أدت إلى إنتقال السلطة الدينية في العالم الشيعي إلى ايدي الميرزا محمد تقي الشيرازي المتقدم في اسن ، والذي كان يقوده في جميع شؤونه نجله الشيخ محمد رضا وكان هذا ألأخير رجلا سياسيا نشطا وديناميكيا لا يستقر على حال ومعارضا عنيفا للإتفاقية الإيرانية البريطانية ، ولذلك كرس كل جهوده ومساعيه من أجل توجيه الرأي العام لمناوئة الحكم البريطاني في العراق ، فقد كان يتمتع بالإحترام الذي كانت تعامل به أسرة المجتهد ألأكبر في البلاد ، وقد

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 180

جعله تأثيره على أبيه مرجعا أعلى في الرأي أيضا.
وتقول الكاتبة «المس بيل» أيضا : إن الدعاية الشديدة للثورة ، كانت تبث من كربلاء وبغداد لتنتشر في الديوانية عن طريق الشامية ، ثم تورد كمثل على ذلك نص الكتاب الذي وجهه الزعيم الشيرازي إلى إخوانه المسلمين العراقيين هكذا:
إلى إخواننا العراقيين:
السلام عليكم جميعا ورحمة ألله وبركاته
أما بعد فإن إخوانكم المسلمين في بغداد وألكاظمية والنجف وكربلاء وغيرها من أنحاء العراق قد إتفقوا فيما بينهم بمظاهرات سلمية وقد قام جماعة كثيرة بتلك المظاهرات مع المحافظة على ألأمنية بوجه واحد ، طالبين حقوقهم المشروعة المنتجة لإستقلال العراق إن شاء ألله تعالى بحكومة إسلامية ، ولقد بلغتنا إحساساتكم ألإسلامية وتنبهاتكم الوطنية ، والواجب عليكم ،بل على جميع المسلمين ألإتفاق مع إخوانهم بهذا القصد الشريف ، وأن يرسل كل قطر وناحية بمقصده إلى عاصمة العراق ((بغداد) للطلب بحقه مع الذين سيتوجهون من أنحاء العراق عن قريب إلى بغداد ، وإياكم وألإخلال بألأمن والتخالف والتشاجر بعضكم مع بعض ، فإن ذلك مضر بمقاصدكم ألإسلامية ومضيع لحقوقكم التي صار ألآن أو أن حصولها بأيديكم ، وأوصيكم بالمحافظة على جميع الملل والنحل التي في بلادكم ، في نفوسهم وأموالهم وأعراضهم ، ولا تنالوا واحدا منهم بسوء ، وفقكم الله جميعا لمراضيه ، والسلام عليكم جميعا ورحمة ألله وبركاته . كربلاء في 9 ـ 10 رمضان 1338 هـ ، ألأحقر محمد تقي الحائري الشيرازي.
وعلى أية حال بقي العلماء ألأعلام وعلى رأسهم الشيخ الشيرازي قائمين بما يتطلبه منهم الواجب الديني المقدس يبثون روح الوحدة وألإئتلاف بين طبقات الشعب على إختلاف ملله ونحله، وذلك بإرشاداتهم النافعة التي كانوا يسدونها إلى الناس ، وقد جاءت هذه ألإرشادات ونفث الروح الوطنية والغيرة ألإسلامية في الخطابات الكثيرة التي كانوا يوجهونها إلى أفراد الشعب,

السابق السابق الفهرس التالي التالي