الملهوف على قتلى الطفوف 75



صورة الغلاف من نسخة (ر)


الملهوف على قتلى الطفوف 76



صورة الصفحة الأولى من نسخة (ر)


الملهوف على قتلى الطفوف 77



صورة الصفحة الأخيرة من نسخة (ر)


ك الملهوف على قتلى الطفوف 78




الملهوف على قتلى الطفوف 79

متن الكتاب
الملهوف على قتلى الطفوف



الملهوف على قتلى الطفوف 80




الملهوف على قتلى الطفوف 81

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله المتجلي لعباده من أفق الألباب ، المجلي عن مراده بمنطق (1) السنة والكتاب ، الذي نزه أولياءه عن دار الغرور ، وسما بهم إلى أنوار السرور.
ولم يفعل ذلك محاباةً(2) لهم على الخلائق ، ولا إلجاءً لهم (3) إلى جميل الطرائق (4) .
بل عرف منهم قبولاً للألطاف ، واستحقاقاً لمحاسن الأوصاف ، فلم يرض لهم التعلق بحبال الإهمال ، بل وفقهم للتخلق بكمال الأعمال.
حتى عزفت (5)نفوسهم عمن سواه ، وعرفت أرواحهم شرف رضاه ، فصرفوا أعناق قلوبهم إلى ظله ، وعطفوا آمالهم نحو كرمه وفضله.
فترى لديهم فرحة المصدق بدار بقائه ، وتنظر عليهم مسحة المشفق من أخطار لقائه.

(1) ر : بنطق.
(2) ع : بهم محاباةً.
والمحاباة : العطاء بلا من ولاجزاء.
(3) ر : ولا إلجاءهم.
(4) ر : الطريق.
(5) ع : فرغت.
وعزفت بمعنى : سلت.
الملهوف على قتلى الطفوف 82

ولا تزال أشواقهم متضاعفة إلى ما قرب من مراده ، وأريحيتهم (6) مترادفه نحو إصداره وإيراده ، وأسماعهم مصغية إلى استماع (7) أسراره ، وقلوبهم مستبشرة بحلاوة تذكاره.
فحياهم منه بقدر ذلك التصديق ، وحباهم من لدنه حباء البر الشفيق.
فما أصغر عندهم كل ما شغل عن جلاله ، وما أتركهم لكل ما باعد من وصاله ، حتى أنهم ليتمتعون بأنس ذلك الكرم والكمال ، ويكسوهم أبداً حلل المهابة والجلال.
فإذا عرفوا أن حياتهم مانعة عن (8) متابعة مرامه ، وبقاءهم حائل بينهم وبين إكرامه ، خلعوا أثواب البقاء ، وقرعوا أبواب اللقاء ، وتلذذوا في طلب ذلك النجاح ، ببذل النفوس والأرواح ، وعرضوها لخطر السيوف والرماح.
وإلى ذلك التشريف الموصوف سمت نفوس أهل الطفوف ، حتى تنافسوا في التقدم إلى الحتوف ، وأصبحوا (9) نهب الرماح والسيوف.
فما أحقهم بوصف السيد المرتضى علم الهدى (10) رضوان الله عليه ، وقد مدح

(6) ر : وأريحتهم.
والأريحي : الواسع الخلق النشيط إلى المعروف ، وهو أيضاً : السخي الذي يرتاح للندى ، وراح لذلك الأمر رواحاً وأريحية ورياحةً : أشرق له وفرح به وأخذته له خفة وأريحية ، لسان العرب 5|359 روح.
(7) ر : اسماع.
(8) ر : من.
(9) ع : وأضحوا.
(10) أبو القاسم علي بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم ابن الإمام الكاظم (عليه السلام) ، نقيب الطالبيين ، وأحد الأئمة في علم الكلام والأدب والشعر ، مولده ووفاته ببغداد ، روى عن جماعة كالشيخ

=

الملهوف على قتلى الطفوف 83

من أشرنا إليه فقال :
لهم جســوم (11) على الرمضاء مهملة وأنـــفس في جوار الله يقريها
كـــأن قـــاصدها بالضر نافعها وأن (12) قــاتلها بالسيف محييها

ولولا امتثال أمر السنة والكتاب ، في لبس شعار الجزع والمصاب ، لأجل ما طمس من أعلام الهداية ، وأسس من أركان الغواية (13) ، وتأسفاً على ما فاتنا من تلك السعادة ، وتلهفاً على أمثال تلك الشهادة ، وإلا كنا قد لبسنا لتلك النعمة الكبرى أثواب المسرة والبشرى.
وحيث أن في الجزع رضىً لسلطان المعاد ، وغرضاً لأبرار العباد ، فها نحن قد لبسنا سربال الجزوع ، وآنسنا بإرسال الدموع ، وقلنا للعيون : جودي بتواتر البكاء ، وللقلوب : جدي جد ثواكل النساء.
فإن ودائع الرسول الرؤوف أضيعت (14) يوم الطفوف ، ورسوم وصيته بحرمه وأبنائه طمست بأيدي أمته وأعدائه.
فيالله من تلك الفوادح المقرحة للقلوب ، والجوائح المصرحة (15) بالكروب ،

=
المفيد والحسين بن علي بن بابويه ، وروى عنه جماعة كسلًار وأبي الصلاح الحلبي والخطيب البغدادي والقاضي ابن قدامة ، له عدة كتب ، منها : الشافي في الإمامة ، توفي سنة 433 هـ وقيل : 436 هـ.
رياض العلماء 4|14 ، وفيات الأعيان 3|313 ، الكنى والألقاب 2|439 ، ميزان الإعتدال 2|223 ، لسان الميزان 4|223 ، جمهرة الأنساب : 56 ، الأعلام 4|278.
(11) ع : نفوس ، بدلاً من : لهم جسوم.
(12) ر : أو أن.
(13) ر : الغراية.
(14) ع : أبيحت.
(15) ع : والجرائح المصرخة.
الملهوف على قتلى الطفوف 84

والمصائب المصغرة كل بلوى ، والنوائب المفرقة شمل التقوى ، والسهام التي أراقت دم الرسالة ، والأيدي التي ساقت سبي الجلالة ، والرزية التي نكست رؤوس الأبدال ، والبلية التي سلبت نفوس خير الآل ، والشماتة التي ركست (16) أسود الرجال (17) ، والفجيعة (18) التي بلغ رزؤها إلى جبرائيل ، والفظيعة التي عظمت على الرب الجليل.
وكيف لا يكون كذلك وقد أصبح لحم رسول الله مجرداً على الرمال ، ودمه الشريف مسفوكاً بسيوف الضلال ، ووجوه بناته مبذولة لعين السائق والشامت ، ومسلبهن بمنظر من الناطق والصامت ، وتلك الأبدان المعظمة عارية من الثياب ، والأجساد المكرمة جاثية على التراب ؟!!
مصائب بددت شمل النبي ففي قلب الهدى أسهم يطفن (19) بالتلف
ونــاعيات إذا ما مل ذو وله ســـرت عليه بنار الزن والأسف

فياليت لفاطمة وأبيها عيناً تنظر إلى بناتها وبنيها : ما بين مسلوب ، وجريح ، ومسحوب ، وذبيح ، وبنات النبوة : مشققات الجيوب ، ومفجوعات بفقد المحبوب ، وناشرات للشعور ، وبارزات من الخدور ، ولاطمات للخدود ، وعادمات للجدود ، ومبديات للنياحة والعويل ، وفاقدات للمحامي والكفيل.
فيا أهل البصائر من الأنام ، ويا ذوي النواظر والأفهام ، حدثوا نفوسكم

=
والجوائح جمع جائحة ، وهي : الشدة والنازلة العظيمة التي تجتاح المال ، وتستعمل مجازاً لكل شدة.
(16) الركس : قلب الشيء ورده مقلوباً.
(17) من قوله : والشماتة ، إلى هنا ، لم يرد في ر.
(18) ر : والنجيعة.
(19) ر : ينطق.
الملهوف على قتلى الطفوف 85

بمصائب هاتيك العترة ، ونوحوا بالله لتلك الوحدة والكثرة ، وساعدوهم بموالاة الوجد والعبرة ، وتأسفوا على فوات تلك النصرة.
فإن نفوس أولئك الأقوام ودائع سلطان الأنام ، وثمرة فؤاد الرسول ، وقرة عين الزهراء البتول ، ومن كان يرشف بفمه الشريف ثناياهم ، ويفضل على أمته أمهم وأباهم.
إن كنت في شــك فسل عن حالهم سنـــن الرسول ومحكم التنزيل
فهنــاك أعدل شاهدٍ لذوي الحـجى وبيان فضلهـم على التفصيل (20)
ووصيـــةٌ سبقت لأحمـــد فيهم جــاءت إليـه على يدي جبريل

وكيف طابت النفوس (21) مع تداني الأزمان بمقابلة إحسان جدهم (22) بالكفران ، وتكدير عيشه بتعذيب ثمرة فؤاده ، وتصغير قدره بإراقة دماء أولاده ؟!
وأين موضع القبول لوصاياه بعترته وآله ؟ وما الجواب عند لقائه وسؤاله ؟ وقد هدم القوم ما بناه ! ونادى الاسلام واكرباه !
فيالله من قلبٍ لا يتصدع لتذكار تلك الأمور ! ويا عجباه من غفلة أهل الدهور ! وما عذر أهل الاسلام والإيمان في إضاعة أقسام الاحزان !
ألم يعلموا أن محمدأً موتورٌ وجيع ؟ وحبيبه مقهورٌ صريعٌ ؟ والملائكة يعزونه على جليل مصابه ؟ والأنبياء يشاركونه في أحزانه وأوصابه ؟
فيا أهل الوفاء لخاتم الأنبياء ، علام لا تواسونه في البكاء ؟!

(20) ع : الفصيل.
(21) ع : فكيف طابت للنفوس.
(22) ع : مقابلة احسان أبيهم.
الملهوف على قتلى الطفوف 86

بالله عليك أيها المحب لولد الزهراء ، نح معها على المنبوذين بالعراء ، وجد ويحك بالدموع السجام ، وابك على ملوك الاسلام ، لعلك تحوز ثواب المواسي لهم في المصاب ، وتفوز بالسعادة يوم الحساب.
فقد روي عن مولانا الباقر (عليه السلام) أنه قال : « كان زين العابدين (عليه السلام) يقول : أيما مؤمن ذرفت (23) عيناه لقتل الحسين (عليه السلام) حتى تسيل على خده بوأه الله بها في الجنة غرفاً يسكنها أحقاباً(24) ، وأيما مؤمن ذرفت عيناه حتى تسيل على خده فيما مسنا من الأذى من عدونا في الدنيا بوأه الله منزل صدقٍ ، وأيما مؤمن مسه أذىً فينا صرف الله عن وجهه الأذى وآمنه من سخط النار يوم القيامة ».
وروى عن مولانا الصادق (عليه السلام) أنه قال : « من ذكرنا عنده ففاضت عيناه ولو مثل جناح الذبابة غفر الله له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر ».
وروي أيضاً عن آل الرسول عليهم السلام أنهم قالوا : « من بكى وأبكى فينا مائة فله الجنة (25) ، ومن بكى وأبكى خمسين فله الجنة ، ومن بكى وأبكى ثلاثين فله الجنة ، ومن بكى وأبكى عشرين فله الجنة (26) ، ومن بكى وأبكى عشرة فله الجنة ، ومن بكى وأبكى واحداً فله الجنة ، ومن تباكى فله الجنة ».
قال علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن طاووس الحسيني ـ جامع هذا الكتاب ـ : إن من أجل البواعث لنا على سلوك هذا الكتاب (27) أنني (28) لما

(23) أي : صبت دمعاً وسالت.
(24) جمع حقب بضمتين أي : زماناً كثيراً ، أحقاباً لا انقطاع لها ، كلما مضى حقب جاء بعده حقب آخر.
(25) ع : فينا مائة ضمنا له على الله الجنة ، والمثبت من ر . ب.
(26) قوله : ومن بكى وأبكى عشرين فله الجنة ، لم يرد في ع . ر ، وأثبتناه من ب.
(27) ر : الباب.
(28) ر : أني
الملهوف على قتلى الطفوف 87

جمعت كتاب : مصباح الزائر وجناح المسافر (29) ، ورأيته قد احتوى على أقطار محاسن الزيارات ومختار أعمال تلك الأوقات ، فحامله مستغنٍ عن نقل مصباح لذلك الوقت الشريف ، أو حمل مزارٍ كبير أو لطيفٍ.
أحببت أيضاً أن يكون حامله مستغنياً عن نقل مقتلٍ في زيارة عاشوراء إلى مشهد(30) الحسين صلوات الله عليه.
فوضعت هذا الكتاب ليضم إليه ، وقد جمعت ها هنا ما يصلح لضيق وقت الزوار ، وعدلت عن الإطناب والإكثار ، وفيه غنية لفتح أبواب الأشجان ، وبغية لنجح أرباب الإيمان ، فإننا (31) وضعنا في أجساد معناه روح ما يليق بمعناه.
وقد ترجمته بكتاب : الملهوف على قتلى الطفوف (32) ، ووضعته على ثلاثة مسالك ، مستعيناً بالرؤوف المالك (33) .

(29) هو أول تصانيفه ، في عشرين فصلاً ، أوله في مقدمات السفر وآدابه ، والأخير في زيارة أولاد الأئمة والمؤمنين ، ونسخه شائعة.
(30) ر : زيارة مشهد.
(31) ر : فإنا.
(32) ع : اللهوف على قتلى الطفوف.
(33) قوله : مستعيناً بالرؤوف المالك ، لم يرد في ر.
الملهوف على قتلى الطفوف 88




الملهوف على قتلى الطفوف 89

المسلك الأول

فى الأمور المتقدمة على القتال (1)


(1) ر : المسلك الأول على سبيل الإجمال في الأمور المتقدمة على القتال.
الملهوف على قتلى الطفوف 91

كان مولد الحسين (عليه السلام) لخمس ليالٍ خلون من شعبان سنة أربع من الهجرة.
وقيل : اليوم (2) الثالث منه.
وقيل : في أواخر شهر ربيع الأول سنة ثلاث من الهجرة.
وروي غير ذلك.
قالت (3) أم الفضل (4) زوجة العباس (5) رضوان الله عنهما : رأيت في منامي

(2) ر : يوم.
(3) جاء في نسخة ع :
ولما ولد هبط جبرئيل (عليه السلام) ومعه ألف ملك يهنون النبي صلى الله عليه وآله بولادته ، وجاءت به فاطمة عليها السلام إلى النبي صلى الله عليه وآله ، فسر به وسماه حسيناً.
قال ابن عباس في الطبقات : أنبأنا عبدالله بن بكر بن حبيب السهمي ، قال : أنبأنا حاتم بن صنعة ، قالت ...
(4) لبابة بنت الحارث الهلالية ، الشهيرة بأم الفضل ، زوجة العباس بن عبد المطلب ، ولدت من العباس سبعة ، أسلمت بمكة بعد إسلام خديجة ، وكان رسول الله (ص) يزورها ويقيل في بيتها ، توفيت نحو سنة 30 هـ.
الإصابة ترجمة رقم 942 و1448 ، ذيل المذيل : 84 ، الجمع بين رجال الصحيحين : 612 ، الأعلام 5|239.
(5) العباس عبدالمطلب بن هاشم بن عبد مناف ، أبو الفضل ، من أكابر قريش في الجاهلية والإسلام ، كان محسناً لقومه سديد الرأي ، كانت له سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام ، أسلم قبل الهجرة وكتم إسلامه ، عمي في آخر عمره ، توفي بالمدينة سنة 32 هـ.
صفة الصفوة 1|203 ، المحبر : 63 ، ذيل المذيل : 10 ، الأعلام 3|262.
الملهوف على قتلى الطفوف 92

قبل مولده كأن قطعةً من لحم رسول الله صلى الله عليه وآله قطعت فوضعت (6) في حجري ، فعبرت (7) ذلك على رسول الله صلى الله عليه وآله ، فقال « خيراً رأيت (8) ، إن صدقت رؤياك فإن فاطمة ستلد غلاماً فأدفعه إليك لترضعيه ».
قالت : فجرى الأمر على ذلك.
فجئت به يوماً ، فوضعته في حجره ، فبال (9) ، فقطرت من بوله قطرةٌ على ثوب النبي صلى الله عليه وآله ، فقرصته ، فبكى ، فقال النبي صلى الله عليه وآله (10) : « مهلاً يا أم الفضل ، فهذا ثوبي يغسل ، وقد أوجعت ابني ».
قالت : فتركته في حجره ، وقمت لآتيه بماء ، فجئت ، فوجدته صلوات الله عليه وآله يبكي.
فقلت : مم بكاؤك يا رسول الله ؟
فقال : « إن جبرئيل (عليه السلام) أتاني ، فأخبرني أن أمتي تقتل ولدي هذا ، لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة (11) ».
قال رواة الحديث : فلما أتت على الحسين (عليه السلام) من مولده سنة كاملة ، هبط على رسول الله صلى الله عليه وآله اثنا عشر ملكاً : أحدهم على صورة الأسد ، والثاني على صورة الثور ، والثالث على صورة التنين (12) ، والرابع على صورة ولد آدم ،

(6) لفظ : فوضعت ، لم يرد في ر.
(7) ع : ففسرت.
(8) ع : يا أم الفضل رأيت خيراً.
(9) ع : فجئت به يوماً إليه فوضعته في حجره فبينما هو يقبله فبال.
(10) ع : كالمغضب.
(11) قوله : لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة ، لم يرد في ر.
(12) التنين : ضربٌ من الحيات من أعظمها.
الملهوف على قتلى الطفوف 93

والثمانية الباقون على صور شتى ، محمرة وجوههم باكية عيونهم (13) ، قد نشروا أجنحتهم ، وهم يقولون : يا محمد سينزل بولدك الحسين بن فاطمة ما نزل بهابيل من قابيل ، وسيعطى مثل أجر هابيل ، ويحمل على قاتله مثل وزر قابيل.
ولم يبق في السموات ملك (14) إلا ونزل إلى النبي صلى الله عليه وآله ، كلٌ يقرؤه السلام ، ويعزيه في الحسين (عليه السلام) ، ويخبره بثواب ما يعطى ، ويعرض عليه تربته ، والنبي صلى الله عليه وآله يقول : « اللهم اخذل من خذله ، واقتل من قتله ، ولا تمتعه بما طلبه ».
قال : فلما أتى على الحسين (عليه السلام) سنتان من مولده خرج النبي صلى الله عليه وآله في سفرٍ له (15) ، فوقف في بعض الطريق ، فاسترجع ودمعت عيناه.
فسئل عن ذلك ، فقال : « هذا جبرئيل يخبرني عن أرضٍ بشط الفرات يقال لها كربلاء (16) ، يقتل بها ولدي الحسين بن فاطمة ».
فقيل له : من يقتله يا رسول الله ؟
فقال : « رجل اسمه يزيد ، وكأني أنظر إلى مصرعه ومدفنه ».
ثم رجع من سفره ذلك مغموماً ، فصعد المنبر فخطب (17) ووعظ ، والحسن والحسين عليهما السلام بين يديه.
فلما فرغ من خطبته وضع يده اليمنى على رأس الحسن واليسرى على رأس

(13) باكية عيونهم ، لم يرد في ر.
(14) ع : ملك مقرب.
(15) له ، لم يرد في ر.
(16) كربلاء بالمد : الموضع الذي قتل فيه الحسين (عليه السلام) ، في طرف البرية عند الكوفة.
روي : أنه (عليه السلام) اشترى النواحي التي فيها قبره من أهل نينوى والغاضرية بستين ألف درهم ، وتصدق بها عليهم ، وشرط عليهم أن يرشدوا إلى قبره ويضيفوا من زاره ثلاثة أيام.
معجم البلدان 4|249 ، مجمع البحرين 5|641 ـ 642.
(17) فخطب ، لم يرد في ر.
الملهوف على قتلى الطفوف 94

الحسين ، ثم رفع رأسه إلى السماء وقال : « اللهم إن محمداً عبدك ورسولك ، وهذان أطائب عترتي وخيار ذريتي وأرومتي (18) ومن أخلفهما في أمتي ، وقد أخبرني جبرئيل (عليه السلام) أن ولدي هذا مقتول مخذول ، اللهم فبارك له في قتله واجعله من سادات الشهداء ، اللهم ولا تبارك (19) في قاتله وخاذله ».
قال : فضج الناس في المسجد بالبكاء والنحيب (20) .
فقال النبي صلى الله عليه وآله : « أتبكون ولا تنصرونه ».
ثم رجع صلوات الله عليه وهو متغير اللون محمر الوجه ، فخطب خطبةً أخرى موجزة وعيناه تهملان دموعاً ، قال :
« أيها الناس إني قد خلفت فيكم الثقلين : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي وأرومتي (21) ومزاج مائي وثمرتي ، وأنهما لن (22) يفترقا حتى يردا علي الحوض ، ألا وأني أنتظرهما ، وأني لا أسألكم في ذلك إلا ما أمرني ربي أن أسألكم (23) المودة في القربى ، وفانظروا ألا تلقوني غداً على الحوض وقد أبغضتم عترتي وظلمتموهم وقتلتموهم.
ألا وإنه سترد علي يوم القيامة ثلاث رايات من هذه الأمة :
راية (24) سوداء مظلمة قد فزعت لها الملائكة ، فتقف علي ، فأقول : من أنتم ؟

(18) الأرومة : الأصل.
(19) ر : اللهم لا تبارك.
(20) والنحيب ، لم يرد في ر.
(21) ر : وعترتي وأرومتي.
(22) ع : وثمرة فؤادي ومهجتي لن.
(23) ع : إلا ما أمرني ربي أمرني ربي أن اسألكم.
(24) ع : الأولى.
الملهوف على قتلى الطفوف 95

فينسون ذكري ويقولون : نحن أهل التوحيد من العرب.
فأقول لهم (25) : أنا أحمد نبي العرب والعجم.
فيقولون : نحن من أمتك يا أحمد.
فأقول لهم : كيف خلفتموني من بعدي في أهلي وعترتي وكتاب ربي ؟
فيقولون : أما الكتاب فضيعناه ، وأما عترتك فحرصنا على أن نبيدهم عن جديد الأرض (26) .
فأولي وجهي عنهم ، فيصدرون ظماءً عطاشاَ مسودة وجوههم.
ثم ترد علي رايةٌ أخرى أشد سواداً من الأولى ، فأقول لهم : كيف خلفتموني في الثقلين الأكبر والأصغر : كتاب ربي (27) ، وعترتي ؟
فيقولون : أما الأكبر فخالفنا ، وأما الأصغر فخذلناهم ومزقناهم كل ممزق.
فأقول : إليكم عني ، فيصدرون ظماءً عطاشاً مسودة وجوههم.
ثم ترد علي راية أخرى تلمع نوراً (28) ، فأقول لهم : من أنتم ؟
فيقولون : نحن أهل كلمة التوحيد والتقوى ، نحن أمة محمد صلى الله عليه وآله ، ونحن بقية أهل الحق ، حملنا كتاب ربنا فأحللنا حلاله وحرمنا حرامه ، وأحببنا ذرية نبينا محمد صلى الله عليه وآله ، فنصرناهم في كل ما نصرنا منه أنفسنا ، وقاتلنا معهم من ناواهم.
فأقول لهم : أبشروا فأنا نبيكم محمد ، ولقد كنتم في دار الدنيا كما وصفتم ، ثم أسقيهم من حوضي ، فيصدرون مرويين مستبشرين ، ثم يدخلون الجنة

(25) لهم ، لم يرد في ر.
(26) ع : عن آخرهم عن جديد الأرض.
(27) ر : كتاب الله.
(28) ع : تلمع وجوçهم نوراً.
الملهوف على قتلى الطفوف 96

خالدين فيها أبد الآبدين » (29) .
قال : وكان الناس يتعاودون ذكر قتل الحسين (عليه السلام) ، ويستعظمونه ويرتقبون قدومه.
فلما توفي معاوية بن أبي سفيان (30) ـ وذلك في رجب سنة (31) ستين من الهجرة ـ كتب يزيد بن معاوية (32) إلى الوليد بن عتبة (33) وكان أميراً بالمدينة

(29) من قوله : مستبشرين ، إلى هنا لم يرد في ر.
(30) معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ، مؤسس الدولة الأموية في الشام ، ولد بمكة وأسلم يوم فتحها ، ولي قيادة جيش تحت إمرة أخيه في خلافة أبي بكر ، وصار والياً على الأردن في خلافة عمر ، ثم ولاه دمشق ، وجاء عثمان فجمع له الديار الشامية كلها وجعل ولاة أمصارها تابعين له ، وبعد قتل عثمان وولاية علي (عليه السلام) وجه له لفوره بعزله ن وعلم معاوية قبل وصول البريد ، فنادى بثأر عثمان واتهم علياً بدمه ونشبت الحروب الطاحنة واستعمل معاوية الخديعة والمكر ، مات معاوية في دمشق سنة 60 هـ ، وعهد بالخلافة إلى ابنه يزيد.
تاريخ ابن الأثير 4|2 ، تاريخ الطبري 6|180 ، البدء والتاريخ 6|5 ، الأعلام 7|261 ـ 262.
(31) ر : من سنة.
(32) يزيد بن معاوية ابن أبي سفيان الأموي ، ثاني ملوك الدولة الأموية في الشام ، ولد بالماطرون ونشأ في دمشق وولي الخلافة بعد وفاة أبيه سنة 60 هـ ، ولم يبايعه جماعة وعلى رأسهم الحسين (عليه السلام) لفسقه وفجوره ولهوه ولعبه ، خلع أهل المدينة طاعته سنة 63 هـ ، فأرسل إليهم مسلم بن عقبة وأمره أن يستبيحها ثلاثة أيام وأن يبايع أهلها على أنهم عبيد ليزيد ، ففعل بها مسلم الأفاعيل القبيحة ، وقتل فيها كثيراً من الصحابة والتابعين ، مات يزيد سنة 64 هـ.
تاريخ الطبري حوادث سنة 64 ، تاريخ الخميس 2|300 ، تاريخ ابن الأثير 4|49 ، جمهرة الأنساب : 103 ، الأعلام 8|189.
(33) الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ابن حرب الأموي ، أمير من رجالات بني أمية ، ولي المدينة سنة 57 هـ أيام معاوية ، ومات معاوية فكتب إليه يزيد أن يأخذ له البيعة ، عزله يزيد سنة 60 هـ واستقدمه إليه ، فكان من رجال مشورته بدمشق ، ثم أعاده سنة 61 هـ وثورة عبدالله بن الزبير في

=


السابق السابق الفهرس التالي التالي