العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 27

ينكر عليه أحد من العرب ، ومن قومها ملاعب الاَسنّة أبو براء الذي لم يعرف العرب مثله في الشجاعة(1) ، فندبه الاِمام إلى خطبتها ، وانبرى عقيل إلى أبيها فعرض عليه الاَمر فأسرع فرحاً إليها فاستجابت باعتزاز وفخر ، وزفّت إلى الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وقد رأى فيها العقل الراجح ، والاِيمان الوثيق وسموّ الآداب ، ومحاسن الصفات ، فأعزّها ، وأخلص لها كأعظم ما يكون الاِخلاص.

رعايتها لسبطيّ النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) :

وقامت السيّدة أمّ البنين برعاية سبطي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وريحانتيه وسيّدي شباب أهل الجنّة الحسن والحسين ( عليهما السلام ) ، وقد وجدا عندها من العطف والحنان ما عوّضهما من الخسارة الاَليمة التي مُنيا بها بفقد أمّهما سيّدة نساء العالمين فقد توفّيت ، وعمرها كعمر الزهور فقد ترك فقدها اللوعة والحزن في نفسيهما.
لقد كانت السيدة أم البنين تكنّ في نفسها من المودّة والحبّ للحسن والحسين ( عليهما السلام ) ما لا تكّنه لاَولادها اللذين كانوا ملء العين في كمالهم وآدابهم.
لقد قدّمت أم البنين أبناء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، على أبنائها في الخدمة والرعاية ، ولم يعرف التاريخ أن ضرّة تخلص لاَبناء ضرّتها وتقدّمهم على أبنائها سوى هذه السيّدة الزكيّة ، فقد كانت ترى ذلك واجباً دينياً لاَن الله أمر بمودّتهما في كتابه الكريم ، وهما وديعة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وريحانتاه ، وقد عرفت أمّ البنين ذلك فوفت بحقّهما وقامت بخدمتهما خير قيام.

(1) تنقيح المقال 2/128.
العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 28

مكانتها عند أهل البيت .

ولهذه السيّدة الزكية مكانة متميّزة عند أهل البيت عليهم السلام ، فقد أكبروا إخلاصها وولاءها للاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، وأكبروا تضحيات أبنائها المكرمين في سبيل سيّد الشهداء ( عليه السلام ) ، يقول الشهيد الاَول وهو من كبار فقهاء الاِمامية:
كانت أمّ البنين من النساء الفاضلات ، العارفات بحقّ أهل البيت عليهم السلام ، مخلصة في ولائهم ، ممحضة في مودّتهم ، ولها عندهم الجاه الوجيه ، والمحلّ الرفيع ، وقد زارتها زينب الكبرى بعد وصولها المدينة تعزّيها بأولادها الاَربعة ، كما كانت تعزّيها أيام العيد.. »(1).
أنّ زيارة حفيدة الرسول ( صلى الله عليه وآله ) وشريكة الاِمام الحسين ( عليه السلام ) في نهضته زينب الكبرى ( عليها السلام ) لاَمّ البنين ، ومواساتها لها بمصابها الاَليم بفقد السادة الطيبين من أبنائها ، مما يدلّ على أهميّة أمّ البنين وسموّ مكانتها عند أهل البيت عليهم السلام .

مكانتها عند المسلمين:

وتحتلّ هذه السيّدة الجليلة مكانة مرموقة في نفوس المسلمين ، ويعتقد الكثيرون إلى أنّ لها منزلة عظيمة عند الله ، وانّه ما التجأ إليها مكروب ، وجعلها واسطة إلى الله تعالى إلاّ كشف عنه ما ألمّ به من المحن والخطوب ، وهم يفزعون إليها إن ألمّت بهم كارثة من كوارث الزمن أو محنة من محن الاَيّام ، ومن الطبيعي أن تكون لها هذه المنزلة الكريمة عند

(1) العباس للمقرّم : 72 ـ 73 نقلاً عن مجموعة الشهيد الاَول.
العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 29

الله ، فقد قدّمت في سبيله أفلاذ أكبادها ، وجعلتهم قرابين لدينه.

الوليد العظيم:

وكان أوّل مولود زكيّ للسيّدة أمّ البنين هو سيّدنا المعظّم أبو الفضل العباس ( عليه السلام ) ، وقد ازدهرت يثرب ، وأشرقت الدنيا بولادته وسرت موجات من الفرح والسرور بين أفراد الاَسرة العلوية ، فقد ولد قمرهم المشرق الذي أضاء سماء الدنيا بفضائله ومآثره ، وأضاف إلى الهاشميين مجداً خالداً وذكراً نديّاً عاطراً.
وحينما بُشِّر الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بهذا المولود المبارك سارع إلى الدار فتناوله ، وأوسعه تقبيلاً ، وأجرى عليه مراسيم الولادة الشرعية فأذّن في أُذنه اليمنى ، وأقام في اليسرى ، لقد كان أوّل صوت قد اخترق سمعه صوت أبيه رائد الاِيمان والتقوى في الاَرض ، وأنشودة ذلك الصوت.
« الله أكبر... ».
« لا إله إلاّ الله ».
وارتسمت هذه الكلمات العظيمة التي هي رسالة الاَنبياء ، وأنشودة المتّقين في أعماق أبي الفضل ، وانطبعت في دخائل ذاته ، حتى صارت من أبرز عناصره ، فتبنى الدعوة إليها في مستقبل حياته ، وتقطّعت أوصاله في سبيلها.
وفي اليوم السابع من ولادة أبي الفضل ( عليه السلام ) ، قام الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بحلق شعره ، والتصدّق بزنته ذهباً أو فضّة على المساكين وعقّ عنه بكبش ، كما فعل ذلك مع الحسن والحسين ( عليهما السلام ) عملاً بالسنّة الاِسلامية.


العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 30

سنة ولادته:

أفاد بعض المحقّقين أن أبا الفضل العباس ( عليه السلام ) وُلد سنة (26 هـ) في اليوم الرابع من شهر شعبان(1).

تسميته:

سمّى الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وليده المبارك (بالعباس) وقد استشفّ من وراء الغيب انه سيكون بطلاً من أبطال الاِسلام ، وسيكون عبوساً في وجه المنكر والباطل ، ومنطلق البسمات في وجه الخير ، وكان كما تنبّأ فقد كان عبوساً في ميادين الحروب التي أثارتها القوى المعادية لاَهل البيت عليهم السلام ، فقد دمّر كتائبها وجندل أبطالها ، وخيّم الموت على جميع قطعات الجيش في يوم كربلاء ، ويقول الشاعر فيه:
عبست وجوه القوم خوف الموت والعبّاس فيهـم ضاحـك متبسّم

كنيته:

وكُنِّي سيّدنا العبّاس ( عليه السلام ) بما يلي :

1 ـ أبو الفضل:


كُنّي بذلك لاَنّ له ولداً اسمه الفضل ، ويقول في ذلك بعض من رثاه:
أبا الفضل يا من أسّس الفضل والاِبا أبى الفضـل إلاّ أن تكـون له أبا

وطابقت هذه الكنية حقيقة ذاته العظيمة فلو لم يكن له ولد يُسمّى

(1) قمر بني هاشم 2: 5.
العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 31

بهذا الاِسم ، فهو ـ حقّاً ـ أبو الفضل ، ومصدره الفياض فقد أفاض في حياته ببرّه وعطائه على القاصدين لنبله وجوده ، وبعد شهادته كان موئلاً وملجأً لكل ملهوف ، فما استجار به أحد بنيّة صادقة إلاّ كشف الله ما ألمّ به من المحن والبلوى.

2 ـ أبو القاسم:


كُنّي بذلك لاَنّ له ولداً اسمه (القاسم) وذكر بعض المؤرّخين أنّه استشهد معه يوم الطفّ ، وقدّمه قرباناً لدين الله ، وفداءً لريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .

ألقابه:

أمّا الاَلقاب التي تُضفى على الشخص فهي تحكي صفاته النفسية حسنة كانت أو سيّئة ، وقد أضيفت على أبي الفضل ( عليه السلام ) عدّة ألقاب رفيعة تنمّ عن نزعاته النفسية الطيبة ، وما اتصف به من مكارم الاَخلاق وهي :

1 ـ قمر بني هاشم:


كان العبّاس ( عليه السلام ) في روعة بهائه ، وجميل صورته آية من آيات الجمال ، ولذلك لقّب بقمر بني هاشم ، وكما كان قمراً لاَسرته العلوية الكريمة ، فقد كان قمراً في دنيا الاِسلام ، فقد أضاء طريق الشهادة ، وأنار مقاصدها لجميع المسلمين .

العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 32

2 ـ السقّاء:


وهو من أجلّ ألقابه ، وأحبّها إليه ، أما السبب في امضاء هذا اللقب الكريم عليه فهو لقيامه بسقاية عطاشى أهل البيت عليهم السلام حينما فرض الاِرهابي المجرم ابن مرجانة الحصار على الماء ، وأقام جيوشه على الفرات لتموت عطشاً ذرية النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) ، محرّر الاِنسانية ومنقذها من ويلات الجاهلية... وقد قام بطل الاِسلام أبو الفضل باقتحام الفرات عدّة مرّات ، وسقى عطاشى أهل البيت ، ومن كان معهم من الاَنصار ، وسنذكر تفصيل ذلك عند التعرّض لشهادته.

3 ـ بطل العلقمي:


أمّا العلقمي فهو اسم للنهر الذي استشهد على ضفافه أبو الفضل العباس ( عليه السلام ) ، وكان محاطاً بقوى مكثّفة من قبل ابن مرجانة لمنع ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وسيّد شباب أهل الجنّة ، ومن كان معه من نساء وأطفال من شرب الماء ، وقد استطاع أبو الفضل بعزمه الجبّار ، وبطولته النادرة أن يجندل الاَبطال ، ويهزم أقزام ذلك الجيش المنحطّ ، ويحتلّ ذلك النهر ، وقد قام بذلك عدّة مرّات ، وفي المرّة الاَخيرة استشهد على ضفافه ومن ثمّ لُقِّب ببطل العلقمي.

4 ـ حامل اللواء:


ومن ألقابه المشهورة (حامل اللواء) وهو أشرف لواء انّه لواء أبي الاَحرار الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، وقد خصّه به دون أهل بيته وأصحابه ، وذلك لما تتوفر فيه من القابليات العسكرية ، ويعتبر منح اللواء في ذلك العصر من أهمّ المناصب الحسّاسة في الجيش وقد كان اللواء الذي تقلّده

العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 33

أبو الفضل يرفرف على رأس الاِمام الحسين ( عليه السلام ) منذ أن خرج من يثرب حتّى انتهى إلى كربلاء ، وقد قبضه بيد من حديد ، فلم يسقط منه حتى قطعت يداه ، وهوى صريعاً بجنب العلقمي.

5 ـ كبش الكتيبة:


وهو من الاَلقاب الكريمة التي تُمنح الى القائد الاَعلى في الجيش ، الذي يقوم بحماية كتائب جيشه بحسن تدبير ، وقوّة بأس ، وقد اضفي هذا الوسام الرفيع على سيّدنا أبي الفضل ، وذلك لما أبداه يوم الطفّ من الشجاعة والبسالة في الذبّ والدفاع عن معسكر الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، فقد كان قوّة ضاربة في معسكر أخيه ، وصاعقة مرعبة ومدمّرة لجيوش الباطل.

6 ـ العميد:


وهو من الاَلقاب الجليلة في الجيش التي تُمنح لاَبرز الاَعضاء في القيادة العسكرية ، وقد قُلّد أبو الفضل ( عليه السلام ) بهذا الوسام لاَنّه كان عميد جيش أخيه أبي عبدالله ، وقائد قوّاته المسلّحة في يوم الطفّ.

7 ـ حامي الظعينة:


ومن الاَلقاب المشهورة لاَبي الفضل ( عليه السلام ) (حامي الظعينة).
يقول السيّد جعفر الحلّي في قصيدته العصماء التي رثاه بها :
حامى الظعينة أين منه ربيعة أم أين من عليـاً أبيـه مكرم

العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 34

وانّما اضفي عليه هذا اللقب الكريم لقيامه بدور مشرّف في رعاية مخدرات النبوة وعقائل الوحي ، فقد بذل قصارى جهوده في حمايتهنّ وحراستهنّ وخدمتهنّ ، فكان هو الذي يقوم بترحيلهنّ ، وانزالهنّ من المحامل طيلة انتقالهنّ من يثرب إلى كربلاء.
ومن الجدير بالذكر أن هذا اللقب اطلق على بطل من شجعان العرب وفرسانهم وهو ربيعة بن مكرم ، فقد قام بحماية ظعنه ، وأبلى في ذلك بلاءً حسناً(1).

(1) جاء في العقد الفريد 3/331 ان دريد بن الصمة خرج ومعه جماعة من فرسان بني جشم حتى اذا كانوا في واد لبني كنانة يقال له الاَخرم ، وهم يريدون الغارة على بني كنانة فرأوا رجلاً معه ظعينة في ناحية الوادي فقال دريد لفارس من أصحابه امض واستولِ على الظعينة ، وانتهى الفارس إلى الرجل فصاح به خلّ عن الظعينة وانج بنفسك ، فألقى زمام الناقة ، وقال للظعينة:
سيري على رسلك سير الآمن سير دراج ذات جاش طامـن
ان التـأني دون قرني شائني ابلى بلائي فاخبري وعاينـي

ثم حمل على الرجل فصرعه ، وأخذ فرسه وأعطاها للظعينة ، وبعث دريد فارساً آخر لينظر ما صنع صاحبه فلما انتهى إليه رآه صريعاً فصاح بالرجل فألقى زمام الظعينة ، فلما انتهى إليه حمل عليه وهو يقول:
خل سبيل الحـرة المنيعة انك لاق دونهـا ربيعـة
في كفـه خطيـة منيعة أولا فخذها طعنة سريعة

وحمل عليه فصرعه ، ولما أبطأ بعث دريد فارساً آخر لينظر ما صنع الرجلان ولما انتهى إليهما وجدهما صريعين ، والرجل يجر رمحه ، فلما نظر إليه قال للظعينة اقصدي قصد البيوت ثم أقبل عليه وقال:
ماذا ترى من شيئم عابـس أما ترى الفارس بعد الفارس
أرداهما عامل رمح يابس

ثم حمل عليه فصرعه ، وانكسر رمحه ، وارتاب دريد في امر جماعته وظن أنهم أخذوا الظعينة وقتلوا الرجل فلحقهم ، وقد دنا ربيعة من الحي ، فوجدهم دريد قد

=

العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 35

8 ـ باب الحوائج:


وهذا من أكثر ألقابه شيوعاً ، وانتشاراً بين الناس ، فقد آمنوا وأيقنوا أنه ما قصده ذو حاجة بنية خالصة إلاّ قضى الله حاجته ، وما قصده مكروب إلاّ كشف الله ما ألمّ به من محن الاَيام ، وكوارث الزمان ، وكان ولدي محمد الحسين ممن التجأ إليه حينما دهمته كارثة ففرّج الله عنه.
إنّ أبا الفضل نفحة من رحمات الله ، وباب من أبوابه ، ووسيلة من وسائله ، وله عنده الجاه العظيم ، وذلك لجهاده المقدّس في نصرة الاسلام ، والذبّ عن أهدافه ومبادئه ، وقيامه بنصرة ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى استشهد في سبيله هذه بعض ألقاب أبي الفضل ، وهي تحكي بعض معالم شخصيته العظيمة وما انطوت عليه من محاسن الصفات ومكارم الاَخلاق(1).

ملامحه:

أمّا ملامحه فقد كان صورة بارعة من صور الجمال ، وقد لُقّب بقمر بني هاشم لروعة بهائه ، وجمال طلعته ، وكان متكامل الجسم قد بدت عليه

قتلوا جميعاً ، فقال لربيعة: ان مثلك لا يقتل ، ولا أرى معك رمحك ، والخيل ثائرة بأصحابها فدونك هذا الرمح فاني منصرف عنك إلى أصحابي ، ومثبطهم عنك ، فانصرف إلى أصحابه وقال لهم: ان فارس الظعينة قد حماها وقتل أصحابكم وانتزع رمحي فلا مطمع لكم فيه فانصرف القوم فقال دريد في ذلك :
ما ان رأيت و لا سمعت بمثله حامي الظعينة فارسـاً لم يقتل
أردى فوارس لم يكونـوا نهزة ثم استمـر كأنّـه لـم يفعـل
فتهللت تبـدو أسـرة وجهـه مثل الحسام جلته كفّ الصيقل
يزجى طعينته ويسحب رمحه مثل البغاث خشين وقع الجندل

(1) جاء في تنقيح المقال 2/128 أن تحدث للعباس ستة عشر لقباً.
العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 36

آثار البطولة والشجاعة ، ووصفه الرواة بأنه كان وسيماً جميلاً ، يركب الفرس المطهم(1)ورجلاه يخطان في الاَرض(2).

تعويذ أمّ البنين له:

واستوعب حب العباس قلب أمّه الزكّية ، فكان عندها أعزّ من الحياة ، وكانت تخاف عليه ، وتخشى من أعين الحسّاد من أن تصيبه بأذى أو مكروه ، وكانت تعوذه بالله ، وتقول هذه الاَبيات:
أعيـذه بالواحـد من عين كلّ حاسد
قائمهـم والقاعد مسلمهـم والجاحد
صادرهم والوارد مولدهم والوالد(3)

مع أبيه:

كان الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يرعى ولده أبا الفضل في طفولته ، ويعنى به كأشدّ ما تكون العناية فأفاض عليه مكوّنات نفسه العظيمة العامرة بالاِيمان والمثل العليا ، وقد توسّم فيه أنه سيكون بطلاً من أبطال الاِسلام ، وسيسجّل للمسلمين صفحات مشرقة من العزّة والكرامة.
كان الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يوسع العباس تقبيلاً ، وقد احتلّ عواطفه وقلبه ، ويقول المؤرّخون: إنّه أجلسه في حجره فشمّر العبّاس عن

(1) الفرس المطهم: هو السمين الفاحش في السمن كما في القاموس وفي المنجد أنه التام الحسن.
(2) مقاتل الطالبيين : 56.
(3) المنمق في أخبار قريش : 437.
العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 37

ساعديه ، فجعل الاِمام يقبّلهما ، وهو غارق في البكاء ، فبهرت أمّ البنين ، وراحت تقول للاِمام:
« ما يبكيك ؟ »
فأجابها الاِمام بصوت خافت حزين النبرات:
« نظرت إلى هذين الكفّين ، وتذكّرت ما يجري عليهما.. »
وسارعت أمّ البنين بلهفة قائلة:
« ماذا يجري عليهما »..
فأجابها الاِمام بنبرات مليئة بالاَسى والحزن قائلاً:
« إنّهما يقطعان من الزند.. »
وكانت هذه الكلمات كصاعقة على أمّ البنين ، فقد ذاب قلبها ، وسارعت وهي مذهولة قائلة:
« لماذا يقطعان »..
وأخبرها الاِمام ( عليه السلام ) بأنّهما انّما يقطعان في نصرة الاِسلام والذبّ عن أخيه حامي شريعة الله ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فأجهشت أمّ البنين في البكاء ، وشاركنها من كان معها من النساء لوعتها وحزنها(1).
وخلدت أمّ البنين إلى الصبر ، وحمدت الله تعالى في أن يكون ولدها فداءً لسبط رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وريحانته.

نشأته:

نشأ أبو الفضل العبّاس ( عليه السلام ) نشأة صالحة كريمة ، قلّما يظفر بها إنسان فقد نشأ في ظلال أبيه رائد العدالة الاجتماعية في الاَرض ، فغذاه بعلومه
(1) قمر بني هاشم 1: 19
العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 38

فقد نشأ في ظلال أبيه رائد العدالة الاجتماعية في الأرض ، فغذِّاه بعلومه وتقواه ، وأشاع في نفسه النزعات الشريفة ، والعادات الطيّبة ليكون مثالاً عنه ، وانموذجاً لمثله ، كما غرست أمّه السيّدة فاطمة في نفسه ، جميع صفات الفضيلة والكمال ، وغذّته بحبّ الخالق العظيم فجعلته في أيّام طفولته يتطلّع إلى مرضاته وطاعته ، وظلّ ذلك ملازماً له طوال حياته.
ولازم أبو الفضل أخويه السبطين ريحانتي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الحسن والحسين سيّدي شباب أهل الجنّة فكان يتلقّى منهما قواعد الفضيلة ، وأسس الآداب الرفيعة ، وقد لازم بصورة خاصة أخاه أبا الشهداء الاِمام الحسين ( عليه السلام ) فكان لا يفارقه في حله وترحاله ، وقد تأثّر بسلوكه ، وانطبعت في قرارة نفسه مُثُله الكريمة وسجاياه الحميدة حتى صار صورة صادقة عنه يحكيه في مثله واتجاهاته ، وقد أخلص له الاِمام الحسين كأعظم ما يكون الاِخلاص وقدّمه على جميع أهل بيته لما رأى منه من الودّ الصادق له حتى فداه بنفسه.
انّ المكونات التربوية الصالحة التي ظفر بها سيّدنا أبو الفضل العبّاس ( عليه السلام ) قد رفعته إلى مستوى العظماء والمصلحين الذين غيّروا مجرى تاريخ البشرية بما قدّموه لها من التضحيات الهائلة في سبيل قضاياها المصيرية ، وانقاذها من ظلمات الذلّ والعبودية.
لقد نشأ أبو الفضل على التضحية والفداء من أجل إعلاء كلمة الحقّ ، ورفع رسالة الاِسلام الهادفة إلى تحرير إرادة الاِنسان ، وبناء مجتمع أفضل تسوده العدالة والمحبة ، والاِيثار ، وقد تأثر العباس بهذه المبادىَ العظيمة وناضل في سبيلها كأشدّ ما يكون النضال ، فقد غرسها في أعماق نفسه ، ودخائل ذاته ، أبوه الاِمام أمير المؤمنين وأخواه الحسن والحسين عليهم السلام ، هؤلاء العظام الذين حملوا مشعل الحرية والكرامة ، وفتحوا الآفاق المشرقة لجميع

العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 39

هؤلاء العظام الذين حملوا مشعل الحرية والكرامة ، وفتحوا الآفاق المشرقة لجميع شعوب العالم وأُمم الاَرض من أجل كرامتهم وحرّيتهم ، ومن أجل أن تسود العدالة والقيم الكريمة بين الناس .
* * *


العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 40

انطباعات عن شخصيّته

واحتلّ أبو الفضل ( عليه السلام ) قلوب العظماء ومشاعرهم ، وصار أنشودة الاَحرار في كلّ زمان ومكان ، وذلك لما قام به من عظيم التضحية تجاه أخيه سيّد الشهداء ، الذي ثار في وجه الظلم والطغيان ، وبنى للمسلمين عزّاً شامخاً ، ومجداً خالداً.
وفيما يلي بعض الكلمات القيّمة التي أدلى بها بعض الشخصيات الرفيعة في حقّ أبي الفضل ( عليه السلام ) .

1 ـ الاِمام زين العابدين:

أمّا الاِمام زين العابدين فهو من المؤسسين للتقوى والفضيلة في الاِسلام ، وكان هذا الاِمام العظيم يترحّم ـ دوماً ـ على عمّه العبّاس ويذكر بمزيد من الاِجلال والاِكبار تضحياته الهائلة لاَخيه الحسين وكان مما قاله في حقّه هذه الكلمات القيّمة:
رحم الله عمّي العباس ، فلقد آثر وأبلى ، وفدى أخاه بنفسه ، حتى قُطعت يداه ، فأبدله الله بجناحين ، يطير بهما مع الملائكة في الجنّة ، كما جعل لجعفر بن أبي طالب ، وان للعبّاس عند الله تبارك وتعالى منزلة يغبطه عليها جميع الشهداء يوم القيامة.. »(1).
وألمّت هذه الكلمات بأبرز ما قام به أبو الفضل من التضحيات تجاه

(1) الخصال 1: 35.
العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 41

أخيه أبي الاَحرار الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، فقد أبدى في سبيله من ضروب الاِيثار وصنوف التضحية ما يفوق حدّ الوصف ، وما كان به مضرب المثل على امتداد التاريخ ، فقد قطعت يداه الكريمتان يوم الطفّ في سبيله ، وظلّ يقاوم عنه حتى هوى إلى الاَرض صريعاً ، وان لهذه التضحيات الهائلة عند الله منزلة كريمة ، فقد منحه من الثواب العظيم ، والاَجر الجزيل ما يغبطه عليه جميع شهداء الحقّ والفضيلة في دنيا الاِسلام وغيره.

2 ـ الاِمام الصادق:

أمّا الاِمام الصادق ( عليه السلام ) فهو العقل المبدع والمفكّر في الاِسلام فقد كان هذا العملاق العظيم يشيد دوماً بعمّه العبّاس ، ويثني ثناءً عاطراً ونديّاً على مواقفه البطولية يوم الطفّ ، وكان مما قاله في حقّه:
« كان عمّي العبّاس بن علي ( عليه السلام ) نافذ البصيرة ، صُلب الاِيمان ، جاهد مع أخيه الحسين ، وأبلى بلاءً حسناً ، ومضى شهيداً.. »(1).
وتحدّث الاِمام الصادق ( عليه السلام ) عن أنبل الصفات الماثلة عند عمّه العبّاس والتي كانت موضع إعجابه وهي:

أ ـ نفاذ البصيرة:


أمّا نفاذ البصيرة ، فانها منبعثة من سداد الرأي ، وأصالة الفكر ، ولا يتّصف بها إلاّ من صفت ذاته ، وخلصت سريرته ، ولم يكن لدواعي الهوى والغرور أي سلطان عليه ، وكانت هذه الصفة الكريمة من أبرز صفات أبي الفضل فقد كان من نفاذ بصيرته ، وعمق تفكيره مناصرته ومتابعته لاِمام

(1) ذخيرة الدارين : 123 نقلاً عن عمدة الطالب.

السابق السابق الفهرس التالي التالي