العباس عليه السلام229

الثمينة (ولا يعرف الفضل الا أهله) .
ولا يذهب بك الظن أيها القارئ الفطن الى عدم الاهمية في هذه الكلمة بعد القول في زيارة الشهداء من زيارة وارث «بأبي أنتم وامي طبتم وطابت الارض التي فيها دفنتم» فان الامام في هذه الزيارة لم يكن هو المخاطب لهم وانما هو عليه السلام في مقام تعليم صفوان الجمال عند زيارتهم ان يخاطبهم بذلك الخطاب فان الرواية جاءت كما في مصباح المتهجد للشيخ الطوسي ان صفوان قال استأذنت الصادق عليه السلام لزيارة الحسين وسألته ان يعرفني ما أعمل عليه فقال له يا صفوان صم قبل خروجك ثلاثة أيام الى ان قال ثم اذا اتيت الحائر فقل الله أكبر كبيرا ثم ساق الزيارة الى ان قال ثم اخرج من الباب الذي يلي رجلي علي بن الحسين وتوجه الى الشهداء وقل السلام عليكم يا أولياء الله الى آخرها فالصادق في مقام تعليم صفوان ان يقول في السلام على الشهداء وذلك وليس في الرواية ما يدل على ان الصادق ماذا يقول لو أراد السلام عليهم .
وهنا ظاهرة اخرى دلّت على منزلة كبرى للعباس عند سيد الشهداء ذلك ان الامام الشهيد لما اجتمع بعمر بن سعد ليلاً وسط العسكرين لارشاده الى سبيل الحق وتعريفه طغيان

العباس عليه السلام230

ابن ميسون وتذكيره بقول الرسول في حقه امر عليه السلام من كان معه بالتنحّي الا العباس وابنه علياً وهكذا صنع ابن سعد فبقي معه ابنه وغلامه .
وأنت تعلم ان ميزة أبي الفضل على الصحب الاكارم وسروات المجد من آل الرسول الذي شهد لهم الحسين باليقين والصدق في النية والوفاء غير أنه عليه السلام أراد أن يوعز الى الملأ من بعده ما لابي الفضل وعلي الأكبر من الصفات التي لا تحدها العقول .
ومن هذا الباب لما خطب يوم العاشر وعلا صراخ النساء وعويل الاطفال حتى كان بمسامع الحسين وهو ماثل أمام العسكر أمر اخاه العباس ان يسكتهن حذار شماتة القوم اذا سمعوا ذلك العويل وغيره على نواميس حرم النبوة ان يسمع اصواتهن الاجانب .
ولو رمت تحليلاً لتأخر شهادة العباس عن جميع الشهداء وهو حامل تلك النفس النزاعة الى المفادات والتهلكة دون الدين فلا يمكنه حينئذ التأخر آناماً فكيف بطيلة تلك المدة وبمرأى منه مصارع آل الله ونشيج الفواطم واقبال الشر من جميع نواحيه واضطهاد حجة الوقت بما يراه من المناظر الشبحية والواحدة من ذلك لا تترك (لحامل اللواء)

العباس عليه السلام231

مساغاً عن اخذ التراث آناماً .
لكن أهمية موقفه عند اخيه السبط هو الذي أرجأ تأخيره عن الاقدام فان سيد الشهداء يعد بقاءه من ذخائر الامامة وان موتته تفتّ في العضد فيقول له (اذا مضيت تفرق عسكري) حتى انه في الساعة الأخيرة لم يأذن له الا بعد أخذ وردّ .
وان حديث (الإيقاد) لسيدنا المتتبع الحجة السيد محمد علي الشاه عبد العظيم قدس سره يوقفناعلى مرتبة تضاهي مرتبة المعصومين ذلك لما حضر السجاد عليه السلام لدفن الاجساد الطاهرة ترك مساغاً لبني أسد في نقل الجثث الزواكي الى محلها الأخير عدى جسد الحسين وجثة عمه العباس فتولى وحده انزالهما الى مقرهما أو اصعادهما الى حضيرة القدس وقال (ان معي من يعينني) اما الامام فالامر فيه واضح لأنه لا يلي أمره الا امام مثله ولكن الامر الذي لا نكاد نصل الى حقيقته وكنهه فعله بعمه الصديق الشهيد مثل ما فعل بأبيه الوصي وليس ذلك الا لأن ذلك الهيكل المطهر لا يمسه الا ذوات طاهرة في ساعة هي أقرب حالاته الى المولى سبحانه ولا يدنو منه من ليس من أهل ذلك المحل الأرفع .

العباس عليه السلام232

ولم تزل هذه العظمة محفوظة له عند أهل البيت دنياً وآخرة حتى ان الصديقة (الزهراء) لا تبتدأ بالشكاية بأي ظلامة من ظلامات آل محمد وهي لا تحصى الا بكفي أبي الفضل المقطوعتين كما في الاسرار ص 325 وجواهر الايقان ص 194 وقد ادخرتهما من أهم أسباب الشفاعة يوم يقوم الناس لرب العالمين .



العباس عليه السلام233

العصمة

ان من الممكن جداً وليس بمحال على الله تعالى أن ينشئ كياناً لا تقترب منه العيوب او يخلق انساناً لا يقترف الذنوب ولقد أوجد جل شأنه ذواتاً مقدسة ونفوساً طاهرة وجبت فيهم العصمة من الآثام وتنزّهوا عن كل رجس «إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا»(1) .
وقد اتفق أرباب الحديث والتراجم على حصر هؤلاء المنزهين بالخمسة أصحاب الكساء وهم محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين .
ثم أثبت أصحاب السيرة ما يضحك الثكلى ويلحق بالخرافات (فكان للغير مجال الطعن والمناقشة ذكروا ان النبي صلى الله عليه وآله لما بلغ من العمر سنتين وكان خلف البيوت عند بني سعد مع أتراب له أتاه رجلان عليهما ثياب

(1) سورة الأحزاب ، آية : 33 .
العباس عليه السلام234

بيض مع احدهما طست من ذهب مملوء ثلجاً فشقا بطنه وقلبه واستخرجا منه علقة سوداء هي مغمز الشيطان .
وطربوا لذلك حيث ان الله بلطفه وكرمه قدس نبيه الكريم من هذه العلقة ولكن ما أدري لماذا صنع به هذه العملية الدامية وهو طفل صغير لا يقوى على تحمل الآلام ومعانات الجروح الدامية ألم يكن في وسع القدرة الالهية إيجاد ذات مقدسة طاهرة من الارجاس حتى عن هذه العلقة المفسرة بمغمز الشيطان كيف لا وقد خلقه الله من نور قدسه وبرأه من جلال عظمته واصطفاه من بين رسله وفضله على العالمين وفي الحديث عنه صلى الله عليه وآله ان الله خلقني من صفوة نوره ودعاني فاطعته وحينئذ فهل يتصور نقص في النور الاقدس تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .
تلك نفـس عزت على الله قدراً فارتضـاها لنفسه واصطفـاها
حاز مـن جوهر التقديس ذاتـاً تاهـت الانبيـاء فـي معناهـا
لا تجل في صفـات احمد فكراً فهـي الصورة التي لن تراهـا

واغرب من ذلك جواب السبكي عن هذه المشكلة بأن

العباس عليه السلام235

الله أراد أن يخلق نبيه أولاً كاملاً لا نقصان فيه عن سائر الناس حتى في مثل هذه العلقة لكونها من الاجزاء ثم بعد ذلك طهره منها .
والعجب عد هذه العلقة من اجزاء بدن الانسان التي يوجب فقدها نقصان الخلقة وقد تنزه عنها جلال النبوة .
على انه اثبت ولادة النبي مختوناً وهذا اظهر في النقصان عما وجد عليه البشر من العلقة لكونها غير مرئية وجواب الحلبي في السيرة ج 1 ص 115 بأنه انما ولد مختوناً لئلا يطلع عليه المحرم وتنكشف عورته لا يرفع اشكال النقصان عما عليه الناس .
وكيف كان فقد ثبت امكان ان يخلق الله تعالى ذواتاً مقدسة منزهة عن الارجاس معصومة عن الخطأ وقد يجب ذلك كما في الهداة المعصومين لكي يهدي بهم الناس واما في غيرهم من الاطهار فلا يجب ولكنه غير ممتنع فمن الممكن ان يمنح الباري سبحانه افذاذاً من البشر فيكونوا قدوة لمن هم دونهم وتكون بهم الاسوة في عمل الصالحات وان كان في مرتبة نازلة عن منزلة الأنبياء المعصومين فانهم وان بلغوا بسبب التفكير والذكر المتواصل والتصفية والرياضة الى حيث لا يبارحون طريق الطاعة ولا يسلكون الى المعصية

العباس عليه السلام236

طريقاً لكنهم في حاجة الى من يسلك بهم السبيل الواضح ويميز لهم موارد الطاعة وموادها عن مساقط العصيان والتهلكة بخلاف الحجج المقيضين لانقاذ البشر المعنيون بالعصمة هاهنا فمن كانت عصمته واجبة كما في المعصومين سميت عصمته استكفائية لانه لا يحتاج في سلوكه الى الغير لكونه في غنىً عن أي حجة لتوفر ما افيض عليهم من العلم والبصائر ومن لم تكن فيه العصمة واجبة وكان محتاجاً إلى غيره في سلوكه وطاعته سميت عصمته غير استكفائية على تفاوت في مراتبهم من حيث المعرفة والعلم واليقين .
وحينئذ ليس من البدع اذا قلنا ان (قمر بني هاشم) كان متحلياً بهذه الحلية بعد أن يكون مصاغاً من نور القداسة الذي لا يمازجه أي شين وعلى هذا كان معتقد شيخ الطائفة وامامها الحجة الشيخ محمد طه نجف قدس سره فانه قال بترجمة العباس من كتاب (اتقان المقال) ص 75 (هو أجلّ من أن يذكر في المقام بل المناسب أن يذكر عند ذكر أهل بيته المعصومين عليه وعليهم السلام أفضل التحية والسلام) .
فتراه لم يقل عند ذكر رجالات أهل بيته الاعاظم بل اثبت المعصومين منهم وليس هذا العدول الا لأنه يرتأي أن يجعله في صفهم ويعده منهم .

العباس عليه السلام237

وتابعه على ذلك العلامة السيد ميرزا محمد علي الاوردبادي فقال من قصيدته المتقدمة في ص 110 :
اجل عباس الكتـاب و الهـدى والعلم والديـن واصحاب العبا
عن ان يطيش سهمـه فينثـني و الاثـم قد اثقل منـه منكبـا
لم نشترط في ابن النبي عصمة ولا نـقـول انـه قـد اذنبـا
ولا أقـول غيـر مـا قال به ( طه الامام) في الرجال النجبا
فالفعل منـه حجـة كقـولـه في الكل يروي عن ذويه النقبا

وهذه النظرية في أبي الفضل لم ينكرها عالم من علماء الشيعة نعرفه بالثقافة العلمية والتقدم بالافكار الناضجة وقد استضأنا من ارجوزة آية الله الحجة الشيخ محمد حسين الاصفهاني رحمه الله التي ستقرأها في فصل المديح حقائق راهنة وكرائم نفيسة سمت بأبي الفضل الى أوج العظمة واخذت به الى حظاير القدس وصعدت به الى أعلى مرتبة من العصمة .
ومما يزيدنا بصيرة في عصمته ما ذكرناه سابقاً في شرح

العباس عليه السلام238

قول الصادق «لعن الله أمة استحلت منك المحارم وانتهكت في قتلك حرمة الاسلام» .
فان حرمة الاسلام لا تنتهك بقتل أي مسلم مهما كان عظيماً ومهما كان أثره في الاسلام مشكوراً الا ان يكون هو الامام المعصوم فلو لم يبلغ العباس المراتب السماوية في العلم والعمل لمقام أهل البيت لما استحق هذا الخطاب وهذا معنى العصمة نعم هي غير واجبة ومما يستأنس منه العصمة له ما تقدم من قول السجاد :
«وان لعمي العباس منزلة يغبطه عليها جميع الشهداء يوم القيامة» .
ويدخل في عموم لفظ الشهداء صريحة بيت الوحي «أبو الحسن علي الأكبر» الذي أفضنا القول في عصمته واذا كان العباس غير معصوم كيف يغبطه المعصوم على ما اعطي من رفعة ومقام عالي لان المعصوم لا يغبط غيره فلا بد أن للعباس اعلى مرتبة من العصمة كما عرفت ومن هنا غبط منزلته التي اعدت له جميع الشهداء حتى من كان معصوماً كعلي الأكبر وامثاله غير الائمة صلوات الله عليهم اجمعين .

العباس عليه السلام239

الكرامات

من سنن الله الجارية في أوليائه «ولن تجد لسنّة الله تحويلا»(1) إكرامهم باظهار ما لهم من الكرامة عليه والزلفى منه وذلك غير ما ادّخره لهم من المثوبات الجزيلة في الآجلة تقديراً لعملهم واصحاراً بحقيقة أمرهم ومبلغ نفوسهم من القوة وحثاً للملأ على اقتفاء آثارهم في الطاعة ومهما كان العبد يخفي الصالحات من أعماله فالمولى سبحانه يراغم ذلك الاخفاء باشهار فضله كما يقتضيه لطفه الشامل ورحمته الواسعة وبره المتواصل وانه جلّت آلاؤه يظهر الجميل من افعال العباد ويزوي القبيح رأفة منه وحناناً عليهم .
ومن هذا الباب ما نجده على مشاهد المقربين وقباب المستشهدين في سبيل طاعته من آثار العظمة وآيات الجلالة من انجاح المتوسل بهم إليه تعالى شأنه واجابة الدعوات تحت قبابهم المقدسة وازالة المثلات ببركاتهم وتتأكد الحالة

(1) سورة فاطر ، آية : 43 .
العباس عليه السلام240

اذا كان المشهد لاحد رجالات البيت النبوي لأنه جلت حكمته ذرأ العالمين لاجلهم ولان يعرفوا مكانتهم فيحتذوا أمثالهم في الاحكام والاخلاق فكان من المحتم في باب لطفه وكرمه (عظمت نعمه) ان يصحر الناس بفضلهم الظاهر .
ومن سادات ذلك البيت الطاهر الذي أذن الله أن يرفع فيه اسمه أبو الفضل العباس فانه في الطليعة من اولئك السادات وقد بذل في الله ما عز لديه وهان حتى اتصلت النوبة الى نفسه الكريمة التي لفظها نصب عينه (عزّ ذكره) فأجرى سنته الجارية في الصديقين فيه بأجلى مظاهرها ولذلك تجد مشهده المقدس في اناء الليل واطراف النهار مزدلف أرباب الحوائج من عاف يستمنحه بره الى علن يتطلب عافيته الى مضطهد يتحرى كشف ما به من غم الى خائف ينضوي الى حمى أمنه الى انواع من أهل المقاصد المتنوعة فينكفأ ثلج الفؤاد بنجح طلبته قرير العين بكفاية امره الى متنجز باعطاء سؤله كل هذا ليس على الله بعزيز ولا من المقربين من عباده ببعيد .
ولكثرة كراماته وآيات مرقده التي لا يأتي عليها الحصر نذكر بعضاً منها تيمناً ولئلا يخلو الكتاب منها وتعريفاً للقراء

العباس عليه السلام241

بما جاد به قطب السخاء على من لاذ به واستجار بتربته .
الاولى : ما يحدث به الشيخ الجليل العلامة المتبحر الشيخ عبد الرحيم التستري المتوفى سنة 1313 هـ من تلامذة الشيخ الانصاري أعلى الله مقامه ، قال : زرت الامام الشهيد أبا عبد الله الحسين ثم قصدت أبا الفضل العباس وبينا أنا في الحرم الاقدس إذ رأيت زائراً من الاعراب ومعه غلام مشلول وربطه بالشباك وتوسل به وتضرع واذا الغلام قد نهض وليس به علة وهو يصيح شافاني العباس فاجتمع الناس عليه وخرقوا ثيابه للتبرك بها فلما ابصرت هذا بعيني تقدمت نحو الشباك وعاتبته عتاباً مقذعاً وقلت يغتنم المعيدي الجاهل منك المنى وينكفأ مسروراً وأنا مع ما احمله من العلم والمعرفة فيك والتأدب في المثول أمامك أرجع خائباً لا تقضي حاجتي فلا أزورك بعد هذا أبداً ثم راجعتني نفسي وتنبهت لجافي عتبي فاستغفرت ربي سبحانه مما أسأت مع (عباس اليقين والهداية) ولما عدت الى النجف الاشرف أتاني الشيخ المرتضى الانصاري قدس الله روحه الزاكية واخرج صرتين وقال هذا ما طلبته من أبي الفضل العباس اشتري داراً وحجّ البيت الحرام ولأجلهما كان توسلي بأبـي الفضل(1) .

(1) طبعت هذه الكرامة مع صلاة الشيخ الانصاري وذكرها في الكبريت
=
العباس عليه السلام242

وما عجبـت من أبي الفضل كما عجبت مـن استاذنا اذ علما
لان شبل المرتضـى لـم يغرب اذا أتى بمعجـز أو معجـب
بكل يـوم بـل بكـل سـاعـة لمن أتـاه قاصـداً ربـاعه
وهو من الشيـخ عجيـب بيـّن لكن نور الله يرنو المـؤمن(1)

الثانية : ما في أسرار الشهادة ص 325 قال حدّثني السيد الأجل العلامة الخبير السيد أحمد بن الحجة المتتبع السيد نصر الله المدرس الحائري قال بينا أنا في جمع من الخدام في صحن أبي الفضل إذ رأينا رجلاً خارجاً من الحرم مسرعاً واضعاً يده على أصل خنصره والدم يسيل منها فأوقفناه نتعرف خبره فأعلمنا بأن العباس قطعها فرجعنا الى الحرم فاذا الخنصر معلق بالشباك ولم يقطر منه دم كأنه قطع من ميت ومات الرجل من الغد وذلك لصدور اهانة منه في الحرم المقدس .

= الاحمر ج 3 ص 50 قال وذكرها عنه جماعة من أكابر العلماء والثقات المتدينين .
(1) للعلامة الشيخ محمد السماوي .
العباس عليه السلام243

الثالثة : ما حدّثني به العلامة البارع الشيخ حسن دخيل حفظه الله عما شاهده بنفسه في حرم أبي الفضل عليه السلام قال : زرت الحسين في غير أيام الزيارة وذلك في أواخر أيام الدولة العثمانية في العراق في فصل الصيف وبعد أن فرغت من زيارة الحسين توجهت الى زيارة العباس عليه السلام قرب الزوال فلم أجد في الصحن الشريف والحرم المطهر احداً لحرارة الهواء غير رجل من الخدمة واقف عند الباب الأول يقدر عمره بالستين سنة كأنه مراقب للحرم وبعد ان زرت صليت الظهر والعصر ثم جلست عند الرأس المقدس مفكراً في الابهة والعظمة التي نالها قمر بني هاشم عن تلك التضحية الشريفة وبينا أنا في هذا اذ رايت امرأة محجبة من القرن الى القدم عليها آثار الجلالة وخلفها غلام يقدر بالستة عشر سنة بزي اشراف الاكراد جميل الصورة فطافت بالقبر والولد تابع ثم دخل بعدهما رجل طويل القامة أبيض اللون مشرباً بحمرة ذو لحية شعره أشقر يخالطه شعرات بيض جميل البزة كردي اللباس والزي فلم يأت بما تصنعه الشيعة من الزيارة أو السنة من الفاتحة فاستدبر القبر المطهر واخذ ينظر الى السيوف والخناجر والدرق المعلقة في الحضرة غير مكترث بعظمة صاحب الحرم المنيع فتعجبت منه أشد العجب ولم أعرف الملة التي ينتحلها غير اني اعتقدت انه من

العباس عليه السلام244

متعلقي المرأة والولد وظهر لي من المرأة عند وصولها في الطواف الى جهة الرأس الشريف التعجب مما عليه الرجل من الغواية ومن صبر أبي الفضل عليه السلام عنه فما رأيت الا ذلك الرجل الطويل القامة قد ارتفع عن الأرض ولم أر من رفعه وضرب به الشباك المطهر وأخذ ينبح ويدور حول القبر وهو يقفز فلا هو بملتصق بالقبر ولا بمبتعد عنه كأنه متكهرب به وقد تشنجت اصابع يديه واحمر وجهه حمرة شديدة ثم صار ازرقاً وكانت عنده ساعة علقها برقبته بزنجيل فضة فكلما يقفز تضرب بالقبر حتى تكسرت وحيث انه اخرج يده من عباءته لم تسقط الى الأرض نعم سقط الطرف الآخر الى الأرض وبتلك القفزات تخرقت .
أما المرأة فحينما شاهدت هذه الكرامة من أبي الفضل قبضت على الولد واسندت ظهرها الى الجدار وهي تتوسل به بهذه اللهجة (أبو الفضل دخيلك أنا وولدي) .
فأدهشني هذا الحال وبقيت واقفاً لا أدري ما أصنع والرجل قوي البدن وليس في الحرم احد يقبض عليه فدار حول القبر مرتين وهو ينبح ويقفز فرأيت ذلك السيد الخادم الذي كان واقفاً عند الباب الأول دخل الروضة الشريفة فشاهد الحال فرجع وسمعته ينادي رجلاً اسمه جعفر من

العباس عليه السلام245

السادة الخدام في الروضة فجاءا معاً فقال السيد الكبير لجعفر اقبض على الطرف الآخر من الحزام وكان طول الحزام يبلغ ثلاثة أذرع فوقفا عند القبر حتى إذا وصل إليهما وضعا الحزام في عنقه وأداره عليه فوقف طيعاً لكنه ينبح فأخرجاه من حرم العباس وقالا للمرأة اتبعينا الى (مشهد الحسين) فخرجوا جميعاً وأنا معهم ولم يكن أحد في الصحن الشريف فلما صرنا في السوق بين (الحرمين) تبعنا الواحد والاثنان من الناس لان الرجل كان على حالته من النبح والاضطراب مكشوف الرأس ثم تكاثر الناس .
فأدخلوه (المشهد الحسيني) وربطوه بشباك (عليّ الأكبر) فهدأت حالته ونام وقد عرق عرقاً شديداً فما مضى إلا ربع ساعة فإذا به قد انتبه مرعوباً وهو يقول أشهد أن لا إله إلا الله واشهد ان محمداً عبده ورسوله وان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب خليفة رسول الله بلا فصل وان الخليفة من بعده ولده الحسن ثم اخوه الحسين ثم علي بن الحسين وعد الأئمة الى الحجة المهدي عجّل الله فرجه .
فسئل عن ذلك قال اني رأيت رسول الله الآن وهو يقول لي اعترف بهؤلاء وعدهم علي وان لم تفعل يهلكك العباس فانا اشهد بهم واتبرأ من غيرهم .

العباس عليه السلام246

ثم سئل عما شاهده هناك فقال بينا أنا في حرم العباس اذ رأيت رجلاً طويل القامة قبض علي وقال لي يا كلب الى الآن بعدك على الضلال ثم ضرب بي القبر ولم يزل يضربني بالعصا في قفاي وانا أفرّ منه .
ثم سألت المرأة عن قصّة الرجل فقالت انها شيعية من أهل بغداد والرجل سنّي من أهل السليمانية ساكن في بغداد متدين بمذهبه لا يعمل الفسوق والمعاصي يحب الخصال الحميدة ويتنزّه عن الذميمة وهو بندرجي تتن وللمرأة اخوان حرفتهما بيع التتن ومعاملتهما مع الرجل فبلغ دينه عليهما ماءتا (ليرة عثمانية) فاستقر رأيهما على بيع الدار منه والمهاجرة من بغداد فأحضراه في دارهما (ظهراً) واطلعاه على رأيهما وعرفاه انه لم يكن دين عليهما لغيره فعندها ابدى من الشهامة شيئاً عجيباً فأخرج الاوراق وخرقها ثم احرقها وطمنهما على الاعانة مهما يحتاجان .
فطارا فرحاً وأرادا مجازاته في الحال فذاكرا المرأة على التزويج منه فوجدا منه الرغبة فيه لوقوفها على هذا الفضل مع ما فيه من التمسك بالدين واجتناب الدنايا وقد طلب منهما مراراً اختيار المرأة الصالحة له فلما ذكرا له ذلك زاد سروره وانشرح صدره بحصول امنيته فعقدا له من المرأة وتزوج منها .

العباس عليه السلام247

ولما حصلت عنده طلبت منه زيارة الكاظمين اذ لم تزرهما مدة كونها بلا زوج فلم يجبها مدعياً انه من الخرافات ولما ظهر عليها الحمل سألته أن ينذر الزيارة ان رزق ولداً ففعل ولما جاءت بالولد طالبته بالزيارة فقال لا أف بالنذر حتى يبلغ الولد فأيست المرأة ولما بلغ الولد السنة الخامسة عشر طلب منها اختيار الزوجة فأبت ما دام لم يف بالنذر فعندها وافقها على الزيارة مكرهاً وطلبت من الجوادين الكرامة الباهرة ليعتقد بإمامتهما فلم ترّ منهما ما يسرها بل اساءها سخريته واستهزاؤه .
ثم ذهب الرجل بالمرأة والولد الى العسكريين وتوسلت بهما وذكرت قصة الرجل فلم تشرق عليه انوارهما وزادت السخرية منه .
ولما وصلا كربلا قالت المرأة نقدم زيارة العباس عليه السلام واذا لم تظهر منه الكرامة وهو أبو الفضل وباب الحوائج لا أزور أخاه الشهيد ولا أباه أمير المؤمنين وارجع الى بغداد وقصت على أبي الفضل قصة الرجل وعرفته حال الرجل وسخريته بالأئمة الطاهرين وانها لا تزور اخاه ولا أباه اذا لم يتلطف عليه بالهداية وينقذه من الغواية فانجح سؤلها وفاز الرجل بالسعادة .

السابق السابق الفهرس التالي التالي