النبي صلى الله عليه وآله وسلم واما النبوة فمبدؤها الرسول ومنتهاها الامة .
ولولا ان هذه الصفة اسمى الصفات التي يتصف بها العبد لما خص الله تعالى أنبياءه بها فقال سبحانه :
«وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله»(1) .
وقال تعالى : «سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام الى المسجد الاقصى»(2) .
وقال عزّ شأنه : «وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان»(3) .
وقال جلّ وعلا : «واذكر عبدنا داود ذا الايد انه أواب»(4) .
وقال تعالت أسماؤه : «ووهبنا لداود سليمان نعم العبد انه أواب» .(5)
(1) سورة البقرة ، آية : 23 .
(2) سورة الاسراء ، آية : 1 .
(3) سورة الانفال ، آية : 41 .
(4) سورة ص ، آية : 17 .
(5) سورة ص ، آية : 30 .
العباس عليه السلام
152
وقال عز سبحانه : «واذكر عبدنا ابراهيم واسحق ويعقوب اُولي الأيدي والأبصار»(1) .
وقال عظم ذكره : «واذكر عبدنا أيوب اذ نادى ربه اني مسّني الشيطان بنصب وعذاب»(2) .
وقد كان في وسع المولى تعالت أسماؤه ان يقول في خطاب نبيه الكريم : وان كنتم في ريب مما نزلنا على رسولنا ونحوه مما يدل على النبوة والرسالة ولكن حيث كان حبيب الله وصفيه متجرداً عما يحجبه عن مشاهدة المهيمن سبحانه فانياً في سبيل خدمة المولى لا يرى في الوجود غير منشئ الاكوان استحق أن يهبه البارئ تعالى أرقى صفة تليق بهذا المقام .
ومن هنا ترى الرسول المسيح قدم عبوديته على رسالته فقال :
«انّي عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيّاً»(3) .
وأنت لا تفتأ في جميع الفرائض والنوافل في اليوم
(1) سورة ص ، آية : 45 .
(2) سورة ص ، آية : 41 .
(3) سورة مريم ، آية : 30 .
العباس عليه السلام
153
والليل تشهد بأن محمداً عبده ورسوله ولم تقل خاتم الأنبياء أو علة الكائنات أو سرّ الموجودات أو حبيب الله وصفيه مع أنها صفات لا تليق الا بذات اشتقت من نور القدس ولكنك عرفت ان اسمى هذه الصفات واجل ما يليق بالعبد حال اتصاله بالمبدأ الاعلى هو وصفه بالعبودية لمولاه .
ومن هنا ظهر لنا ان من أجلى الحقائق وأرقى مراتب الفضل الذي لا يحلق إليه طائر الفكر ولا يدرك مداه أي تصور غير ان من الواجب التصديق به على الجملة هو وصف سيّدنا (العباس عليه السلام) بهذه الصفة الكاملة (العبد الصالح) التي أضافها الله تعالى الى أنبيائه ومبلغي شريعته وأمنائه على وحيه ومنحه بها الامام الصادق عليه السلام .
العباس عليه السلام
154
السقا
الماء حياة العالم وليست حاجة أي جزء من أجزائه امس من الآخر فلا جزء ولا جزيء في الكون الا وهو خاضع له في وجوده وفي نشوئه وبقائه وقد اعرب عنه سبحانه بقوله «وجعلنا من الماء كل شيء حيّ»(1) وإليه استند ابن عباس في حل لغز ملك الروم فانه وجه الى معاوية قارورة يطلب منه أن يضع فيها من كل شيء فتحير معاوية واستعان بابن عباس في كشف الرمز لعلمه بأنه يستقي من بحر أمير المؤمنين المتموج بالحكم والاسرار فقال ابن عباس لتملأ له ماء فان الله يقول «وجعلنا من الماء كل شيء حيّ» فأدهش ملك الروم وتعجب وقال لله أبـوه مـا أدهـاه(2) .
فلا يخالج اليقين بأهميته الكبرى في دور الحياة أي شك .
(1) سورة الأنبياء ، آية : 30 .
(2) كامل المبرد ج 1 ص 308 ط سنة 1355 هـ وتهذيبه ج 1 ص 299 .
العباس عليه السلام
155
وان من يكون معروفه الذي تندى به انامله وتوسقه اليه جبلته هذه المادة الحيوية لعلى جانب ممنع من الفضل وقد عرقت فيه شائج الرقة وتحلّى بغريزة العطف ونبض فيه عرق الحنان ولا يكون اسداء مثله الا عن لين ورأفة على الوجود وان تفاوتت المراتب بالنسبة الى الموجودات الشريفة وما دونها ولا يعدو الشرف والشهامة هذا المتفضل بسر الحياة فهو شريف يحب الابقاء على مثله أو عطوف لا يجد على الاغاثة منة ولا على قدرته في الاعانة لسائر الموجودات جهداً ولا عطبا .
وإذا كانت الشريعة المطهرة حثّت على السقاية ذلك الحثّ المتأكد فانما تلت على الناس أسطراً نورية مما جبلوا عليه وعرفت الامة بأن الدين يطابق تلك النفسيات البشرية والغرائز الطبيعية وارشدتهم الى ما يكون من الثواب المترتب على سقي الماء في الدار الآخرة ليكونوا على يقين من أن عملهم هذا موافق لرضوان الله وزلفى للمولى سبحانه يستتبع الاجر الجزيل وليس هو طبيعي محض وهذا ما جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته المعصومين عليهم السلام من فضل بذل الماء في محل الحاجة إليه وعدمها كان المحتاج إليه حيواناً أو بشراً مؤمناً كان أو كافراً .
العباس عليه السلام
156
ففي حديث النبي صلى الله عليه وآله أفضل الاعمال عند الله ابراد الكبد الحري من بهيمة وغيرها(1) ولو كان على الماء فانه يوجب تناثر الذنوب كما تنتثر الورق من الشجر(2) واعطاه الله بكل قطرة يبذلها قنطاراً في الجنة وسقاه من الرحيق المختوم وان كان في فلاة من الأرض ورد حياض القدس مع النبيين(3) .
وسأله رجل عن عمل يقربه من الجنة فقال اشتر سقاء جديداً ثم اسق فيها حتى تخرقها فتبلغ بها عمل الجنة(4) .
وقال الصادق عليه السلام من سقى الماء في موضع يوجد فيه الماء كان كمن اعتق رقبة ومن سقى الماء في موضع لا يوجد فيه الماء كان كمن أحيى نفساً ومن أحياها فكأنّما أحيى الناس أجمعين(5) .
وقد دلت هذه الآثار على فائدة السقي بما هو حياة العالم ونظام الوجود ومن هنا (كان الناس فيه شرع سواء
(1) دار السلام ج 3 ص 162 .
(2) الجامع الصغير للسيوطي ج 1 ص 33 .
(3) المستدرك للنوري ج 3 ص 130 .
(4) امالي ابن الشيخ الطوسي .
(5) مكارم الاخلاق ص 85 فصل 7 باب أول .
العباس عليه السلام
157
كالكلاء والنار) فلا يختص اللطف منه جل وعلا بطائفة دون طائفة وقد كشف الامام الصادق عليه السلام السر في جواب من قال له ما طعم الماء ؟ فقال عليه السلام طعم الحياة(1) .
فالسقاية أشرف شيء في الشريعة المطهرة تلك أهميتها عند الحقيقة ومكانتها من النفوس ولهذه الاهمية ضرب المثل «بكعب بن مامة الايادي»(2) .
وأضحت السقاية العامة لاينوء بعبئها الا من حل وسطاً من السؤدد والشرف وأعالي الامم لا ساقتها ولذا أذعنت قريش لقصي بسقاية الحاج فكان يطرح الزبيب في الماء ويسقيهم الماء المحلى كما كان يسقيهم اللبن(3) .
وكان ينقل الماء الى مكة من آبار خارجها ثم حفر بئراً إسمها العجول في الموضع الذي كانت دار ام هاني فيه وهي أول سقاية حفرت بمكة وكانت العرب إذا استقوا منها ارتجزوا :
نروي على العجول ثم ننطلق
ان قصيا قد وفى وقد صدق
(1) تهذيب الكامل ج 1 ص 299 .
(2) امثال الميداني ج 1 ص 167 .
(3) السيرة الحلبية ج 1 ص 15 .
العباس عليه السلام
158
ثم حفر قصي بئراً سماها سجلة وقال فيها(1) .
أنا قصي وحفرت سجلة
تروي الحجيج زغلة فزغلة
وكان هاشم أيام الموسم يجعل حياضاً من آدم في موضع زمزم لسقاية الحاج ويحمل الماء الى منى لسقايتهم وهو يومئذ قليل(2) .
ثم أنه حفر بئراً سمّاها البندر(3) وقال انها بلاغ للناس فلا يمنع منها احداً(4) .
وأما عبد المطلب فقد قام بما كان آباؤه يفعلونه من سقاية الحاج وزاد على ذلك انه لما حفر زمزم وكثر ماؤها أباحها للناس فتركوا الآبار التي كانت خارج مكة لمكانها من المسجد الحرام وفضلها على من سواها لأنها بئر اسماعيل(5) وبنى عليها حوضاً فكان هو وابنه الحرث ينزعان الماء ويملأن
(1) الروض الآنف ج 1 ص 101 .
(2) شرح النهج الحديدي ج 3 ص 457 .
(3) في الروض الآنف ج 1 ص 101 بذر كبقم سميت بذلك لخروج مائها من غير مكان واحد .
(4) المصدر السابق ج 1 ص 101 .
(5) سيرة ابن دحلان بهامش السرة الحلبية ج 1ص 26 .
العباس عليه السلام
159
الحوض فحسدته قريش على ذلك وعمدوا الى الحوض بالليل فكسروه فكان عبد المطلب يصلحه بالنهار وهم يكسرونه بالليل فلما أكثروا عليه افساده دعا عبد المطلب ربه سبحانه وتعالى فرأى في المنام قائلاً يقول «قل لقريش اني لا احلها لمغتسل وهي لشارب حل وبل» فنادى في المسجد بما رأى فلم يفسد أحد من قريش حوضه الا رمي بداء بجسده حتى تركوا حوضه وسقايته(1) وفي ذلك يقول خويلد بن اسد(2) :
أقول وما قولي عليهـم بسبة
إليك ابن سلمى انت حافر زمزم
حفيرة ابراهيم يوم ابن هاجر
و ركضة جبرئيل على عهد آدم
ولما وافق قريشاً على المحاكمة عند كاهنة بني سعد بن هذيم وكان بمشارف الشام وسار عبد المطلب بمن معه من قومه حيث إذا كانوا بمفازة لا ماء فيها ونفد ماؤهم استسقوا ممن كان معهم من قريش فأبوا أن يسقوهم حفظاً على الماء فأمر عبد المطلب أصحابه أن يحفروا قبوراً لهم
(1) شرح النهج الحديدي ج 3 ص 460 وابن دحلان ج 1 ص 26 .
(2) شرح النهج الحديدي ج 3 ص 460 .
العباس عليه السلام
160
ويدفن من يموت منهم عطشاً في حفرته وبقى واحد فضيعة واحد أيسر من ضيعة جماعة وبعد أن فرغوا من الحفر قال عبد المطلب ان هذا منّا لعجز لنضربن في الأرض عسى الله أن يرزقنا ماء فركب راحلته فلما انبعث نبع من تحت خفها ماء عذب فكبّر عبد المطلب وشرب أصحابه وملؤا أسقيتهم ودعا قريشاً ان يستقوا من الماء فأكثروا منه ثم قالوا ان الله قد قضى لك علينا ولا نخاصمك في زمزم ان الذي سقاك في هذه الفلاة هو الذي سقاك زمزم فارجع راشداً .
وزاد عبد المطلب في سقاية الحاج بالماء ان طرح الزبيب فيه وكان يحلب الابل فيضع اللبن مع العسل في حوض من ادم عند زمزم لسقاية الحاج(1) .
ثم قام أبو طالب مقامه بسقي الحاج(2) وكان يجعل عند رأس كل جادة حوضاً فيه الماء ليستقي منه الحاج وأكثر من حمل الماء أيام الموسم ووفره في المشاعر فقيل له ساقي الحجيج .
أما أمير المؤمنين فقد حوى أكثر مما حواه والده الكريم
(1) السيرة الدحلانية ج 1 ص 26 .
(2) المصدر السابق ج 1 ص 17 .
العباس عليه السلام
161
من هذه المكرمة وكم له من موارد للسقاية لا يستطيع أحد على مثلها وذلك يوم بدر وقد اجهد المسلمين العطش واحجموا عن امتثال أمر الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله في طلب الماء فرقاً من قريش لكن نهضت بأبي الريحانتين غيرته الشماء وثار به كرمه المتدفق فلبّى دعاء الرسول وانحدر نحو القليب وجاء بالماء حتى أروى المسلمين(1) .
ولا ينسى يوم صفين وقد شاهد من عدوه ما تندى منه جبهة كل غيور فان معاوية لما نزل بجيشه على الفرات منع أهل العراق من الماء حتى كضهم الظمأ فأنفذ اليه أمير المؤمنين صعصعة بن صوحان وشبث بن ربعي يسألانه ان لا يمنع الماء الذي أباحه الله تعالى لجميع المخلوقات وكلهم فيه شرع سواء فأبى معاوية الا التردد في الغواية والجهل فعندها قال أمير المؤمنين ارووا السيوف من الدماء ترووا من الماء(2) ، ثم أمر اصحابه أن يحملوا على أهل الشام حملة واحدة فحمل الاشتر والاشعث في سبعة عشر ألفاً والاشتر يقول :
(1) مناقب ابن شهراشوب ج 1 ص 406 .
(2) نهج البلاغة ج 1 ص 109 .
العباس عليه السلام
162
ميعادنا اليوم بياض الصبح
هل يصلح الزاد بغير ملح ؟
والاشعث يقول :
لأوردن خيلـي الـفراتـا
شعث النواصي أو يقال ماتا
فلما أجلوهم أهل العراق عن الفرات ونزلوا عليه وملكوه أبى صاحب النفسية المقدسة التي لا تعدوها أي مأثرة أن يسير على نهج عدوه حتى أباح الماء لاعدائه ونادى بذلك في أصحابه(1) ولم يدعه كرم النفس أن يرتكب ما هو من سياسة الحرب من التضييق على العدو بأي صورة .
هذه جملة من موارد السقاية الصادرة من شرفاء سادة متبوئين على منصات المجد والخطر متكئين على أرائك العز والمنعة وما كانت تدعهم دماثة أخلاقهم وطهارة أعراقهم أن يكونوا أخلوا من هذه المكرمة وقد افتخر بذلك عبد مناف على غيرهم .
(1) مناقب ابن شهراشوب ج 1 ص 619 وذكر الخوارزمي في المناقب ص 132 مشاورة معاوية اصحابه في امر الماء وما اشار به ابن ابي معيط من منع أهل العراق من الورود ورأي ابن العاص بخلافه .
العباس عليه السلام
163
وأنت إذا استشففت الخصوصيات المكتنفة بكل منها فان الصراحة لا تدعك الا ان تقول بتفاوت المراتب فيها من ناحية الفضيلة .
كما لا تجد منتدحاً عن تفضيل الحسين على غيره يوم سقى الحر وأصحابه في «شراف» وهو عالم بحراجة الموقف ونفاذ الماء بسقي كتيبة فيها ألف رجل مع خيولهم ووخامة المستقبل وان الماء غدا دونه تسيل النفوس وتشق المرائر لكن العنصر النبوي والاصرة العلوية لم يتركا صاحبهما الا ان يحوز الفضل .
وأني أحسب ان ما ناء به أبو الفضل عليه السلام في أمر السقاية لا يوازيه شيء من ذلك يوم ناطح جبالاً من الحديد ببأسه الشديد حتى اخترق الصفوف وزعزع هاتيك الالوف وليس له هم في ذلك المأزق الحرج الا اغاثة شخصية الرسالة المنتشرة في تلك الامثال القدسية من الذرية الطيبة ولم تقثعه هذه الفضيلة حتى أبت نفسيته الكريمة أن يلتذ بشيء من الماء قبل أن يلتذ به اخوه الامام وصبيته الازكياء .
هنالك حداه إيمانه المشفوع باليقين وحنانه المرتبط بالكرم الى أن ينكفأ إلى المخيم ولا يحمل الا مزادة من ماء
العباس عليه السلام
164
يدافع عنها بصارمه الذكر ويزينه المثقف ولواء الحمد يرف على رأسه غير أن ما يحمله هو انفس عنده من نفسه الكريمة بلحاظ ما يريده من المحافظة على تلك المزادة الملأى .
وراقه أن تكون هي الذخيرة الثمينة مشفوعة بما هو أعظم عند الله تعالى فسمح بيمينه وشماله «وكلتاهما يمن» أن تقطعا بعين الله في كلاءة ما يتهالك دونه لينال الامينة قبل المنية وما خارت عزيمة العباس عليه السلام الا حين أحب أن لو كانت المراقة نفسه لا القربة فيا أبعد الله سهماً أسال ماءها ولم يكن «سعد العشيرة» طالباً للحياة بعده لو لم يأته العمود الطائش ألا لعنة الله على الظالمين .
ومن أجل مجيئه بالماء الى عيال أخيه وصحبه في الايام العشرة سمي «السقا» نصّ عليه أبو الحسن في المجدي والداودي في عمدة الطالب وابن إدريس في مزار السرائر وابو الحسن الديار بكري في تاريخ الخميس ج 2 ص 317 والنويري في نهاية الارب ج 2 ص 341 والشبلنجي في نور الابصار ص 93 والعلامة الحجة محمد باقر القايني في الكبريت الاحمر ج 2 ص 34 .
ولصاحب هذا اللقب فيوضات على الامة لا تحد وبركات لا تحصر :
العباس عليه السلام
165
هو البحر من أي النواحي أتيته
فلجته المعروف والجود ساحله
ومن ذلك ما ذكره العلامة السند السيد محمد بن آية الله السيد مهدي القزويني قدس الله سره في كتاب «طروس الانشاء» قال في سنة 1306 هـ انقطع نهر الحسينية وعاد أهل كربلاء يقاسون شحة الماء وكضة الظمأ فأمرت الحكومة العثمانية بحفر نهر في أراضي السيد النقيب السيد سلمان فمنع النقيب ذلك واتفق أن زرت كربلاء فطلب أهلها ان اكتب الى النقيب فكتبت اليه ما يشجيه وعلى حالهم يبكيه :
في كربلا لك عصبة تشكوا الظما
من فيـض كفـك تستمد رواءها
واراك يا ساقي عطـاشى كربلا
وأبوك ساقي الحوض تمنع ماءها
فاجاز النقيب حفر النهر وانتفع أهل كربلاء ببركة هذا اللقب الشريف (السقا) .
العباس عليه السلام
166
نشأته
مما لا شك فيه ان لنفسيات الآباء ونزعاتهم وكمياتهم من العلم والخطر أو الانحطاط والضعة دخلاً تاماً في نشأة الأولاد وتربيتهم ان لم نقل ان مقتضاهما هو العامل الوحيد في تكيف نفسيات الناشئة بكيفيات فاضلة أو رذيلة فلا يكاد يرتأي صاحب أي خطة الا ان يكون خلفه على خطته ولا ان الخلف يتحرى غير ما وجد عليه سلفه ولذلك تجد في الغالب مشاكلة بين الجيل الأول والثاني في العادات والاهواء والمعارف والعلوم اللهم الا أن يسود هناك تطور يكبح ذلك الاقتضاء .
وعلى هذا الناموس يسعنا أن نعرف مقدار ما عليه أبو الفضل عليه السلام من العلم والمعرفة وحسن التربية بنشوئه في البيت العلوي منبثق أنوار العلم ومحط أسرار اللاهوت ومختبأ نواميس الغيب فهو بيت العلم والعمل بيت الجهاد
العباس عليه السلام
167
والورع بيت المعرفة والايمان :
بيت عـلا سمك الضراح رفعة
فكان أعلا شـرفـاً وامنعـا
اعـزه الله فمـا تهـبـط فـي
كعبته الامـلاك الا خضعـاً
بيت مـن القـدس ونـاهيك به
محط اسرار الهدى و موضعا
وكان مأوى المرتجي و الملتجى
فما اعـز شأنـه وارفـعـا(1)
وبسيف صاحب هذا البيت المنيع انجلت غواشي الالحاد وببيانه تقشعت غيوم الشُبه والاوهام .
إذن فطبع الحال يدلنا على ان سيد الأوصياء لم يبغ بابنه بدلاً في حسن التربية الالهية ولا ان شظية الخلافة يروقه غير اقتصاص أثر أبيه الاقدس فلك هاهنا ان تحدث عن بقية أمير المؤمنين في أي ناحية من نواحي الفضيلة ولا حرج .
لم تكن كل البصائر في أبي الفضل عليه السلام اكتسابية بل كان مجتبلاً من طينة القداسة التي مزيجها النور
(1) من قصيدة للعلامة السيد محمد حسين الكيشوان رحمه الله .
العباس عليه السلام
168
الالهي حتى تكونت في صلب من هو مثال الحق ذلك الذي لو كشف عنه الغطاء ما ازداد الا يقيناً فلم يصل أبو الفضل عليه السلام الى عالم الوجود الا وهو معدن الذكاء والفطنة واذن واعية للمعارف الالهية ومادة قابلة لصور الفضائل كلها فاحتضنه حجر العلم والعمل حجر اليقين والايمان وعادت ارومته الطيبة هيكلاً للتوحيد يغذيه أبوه بالمعرفة فتشرق عليه أنوار الملكوت واسرار اللاهوت وتهب عليه نسمات الغيب فيستنشق منها الحقائق .
دعا أبوه عليه السلام في عهد الصبا واجلسه في حجره وقال له :
«قل واحد فقال واحد فقال له قل اثنين فامتنع وقال اني استحي أن أقول اثنين بلسان قلت به واحداً»(1) . واذا أمعنّا النظر في هذه الكلمة وهو على عهد نعومة من أظفاره في حين ان نظراءه في السن لا يبلغون الى ما هو دون ذلك الشأو البعيد فلا نجد بداً من البخوع بأنها من أشعة تلك الاشراقات الالهية فما ظنك اذن حينما يلتقي مع المبادئ الفياضة من أبيه سيد الوصيين واخويه الإمامين سيّدي شباب
(1) خاتمة المستدرك للعلامة النوري ج 3 ص 815 عن مجموعة الشهيد الأول ورواه الخوارزمي في الفصل السادس من مقتل الحسين مخطوط .
العباس عليه السلام
169
أهل الجنة فلا يقتتى من خزائن معارفهم الا كل در ثمين ودري لامع .
وغير خفي ما أراده سيدنا العباس فانه أشار الى ان الوحدانية لا تليق الا بفاطر السموات والأرضين ويجل مثله المتفرع من دوح الامامة ان يجري على لسانه الناطق بالوحدانية لباري الأشياء صفة تنزه عنها سبحانه وتعالى وعنها ينطق كتابه المجيد« لو كان فيها آلهة إلا الله لفسدتا»(1) .
ومما زاد في سرور أبيه أمير المؤمنين ان زينب العقيلة كانت حاضرة حينذاك وهي صغيرة فقالت لابيها اتحبنا ؟ قال بلى فقالت لا يجتمع حبان في قلب مؤمن حبّ الله وحب الأولاد وان كان ولا بد فالحب لله تعالى والشفقة للاولاد فاعجبه كلامها وزاد في حبه وعطفه عليهما(1) .
أما العلم فهو رضيع لبانه وناهيك في حجر أبيه مدرسة يتخرج منها مثل أبي الفضل عليه السلام وما ظنك بهذا التلميذ المصاغ من جوهر الاستعداد وذلك الاستاذ الذي هو عيبة العلم الالهي وعلبة اسرار النبوة وهو المقيض لنشر
(1) سورة الأنبياء ، آية : 22 .
(2) مقتل الخوارزمي في الفصل السادس مخطوط .
العباس عليه السلام
170
المعارف الربوبية وتعليم الاخلاق الفاضلة ونشر احكام الاسلام ودحض الاوهام والوساوس .
واذا كان الامام عليه السلام يربي البعداء الاجانب بتلك التربية الصحيحة المأثورة حتى استفادوا منه اسار التكوين ووقفوا على غامض ما في النشأتين وكان عندهم بواسطة تلك التربية علم المنايا والبلايا كحبيب بن مظاهر وميثم التمار ورشيد الهجري وكميل بن زياد وأمثالهم .
فهل من المعقول ان يذر قرة عينه وفلذة كبده خلواً من أي علم ؟ أو ان قابلية المحل تربى بأولئك الافراد دون سيدنا العباس عليه السلام ؟ ـ لا والله ـ ما كان سيد الأوصياء يضن بشيء من علومه لا سيما على قطعة فؤاده ولا ان غيره ممن انضوى الى أبيه علم الهداية يشق له غباراً في القابلية والاستعداد .
فهنالك التقى مبدأ فياض ومحل قابل للافاضة وقد ارتفعت عامة الموانع فذلك برهان على ان (عباس اليقين) من أوعية العلم ومن الراسخين فيه .
ثم هلم معي الى جامعتين للعلوم الالهية ملازمتين للجامعة الأولى في نشر المعارف وتقيضهما لافاضة التعاليم الحقة لكل تلميذ والرقي به الى أوج العظمة في العلم
العباس عليه السلام
171
والعمل الا وهما «كليتا» السبطين الحسن والحسين عليهما السلام وانظر الى ملازمته لاخويه بعد أبيه سيد الأوصياء ملازمة الظل لديه فهناك يتجلى لك ان سماء علمهما لم تهطل وبالاً الا وعاد لؤلؤاً رطباً في نفسه ولا انفقا شيئاً من ذلك الكنز الخالد الا واتخذه ثروة علمية لا تنفد .
أضف الى ذلك ما كان يرويه عن عقيلة بيت الوحي زينب الكبرى وهي العالمة غير المعلمة بنص الامام زين العابدين(1) .
وبعد هذا كله فقد حوى أبو الفضل من صفاء النفس والجبلة الطيبة والعنصر الزاكي والاخلاص في العمل والدؤوب على العبادة ما يفتح له أبواباً من العلم ويوقفه على كنوز المعرفة فيتفرع من كل أصل فرع وتنحل عنده المشكلات .
وإذا كان الحديث ينص على ان من أخلص لله أربعين صباحاً انفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه اذن فما ظنك بمن اخلص لله سبحانه طيلة عمره وهو متخل عن كل رذيلة ومتحل بكل فضيلة فهل يبقى الا ان تكون ذاته المقدسة
(1) الكبريت الاحمر .
العباس عليه السلام
172
متجلية بأنوار العلوم والفضائل والا ان يكون علمه تحققاً لا تعلقاً .
وبعد ذلك فما أوشك أن يكون علمه وجدانياً وان برع في البرهنة وتنسيق القياس ومن هنا جاء المأثور عن المعصومين عليهم السلام «ان العباس بن علي زق العلم زقا»(1) .
وهذا من أبدع التشبيه والاستعارة فان الزق يستعمل في تغذية الطائر فرخه حين لم يقو على الغذاء بنفسه وحيث استعمل الامام عليه السلام وهو العارف بأساليب الكلام هذه اللفظة هنا نعرف ان أبا الفضل عليه السلام كان محل القابلية لتلقي العلوم والمعارف منذ كان طفلاً ورضيعاً كما هو كذلك بلا ريب .
فلم يكن أبو الفضل بدعا من أهل هذا البيت الطاهر الذي حوى العلم المتدفق منذ الصغر كما شهد بذلك اعداؤهم ففي الحديث عن الصادق عليه السلام ان رجلاً مرّ بعثمان بن عفان وهو قاعد على باب المسجد فسأله فأمر له بخمسة دراهم فقال له الرجل أرشدني قال عثمان دونك الفتية الذين تراهم وأومى بيده الى ناحية من المسجد فيها الحسن
(1) أسرار الشهادة ص 324 .
العباس عليه السلام
173
والحسين وعبد الله بن جعفر فمضى الرجل نحوهم وسألهم فقال له الحسن يا هذا المسألة لا تحل الا في ثلاث دم مفجع أو دين مقرح أو فقر مدقع أيتها تسأل فقال في واحدة من هذه الثلاث فأمر له الحسن بخمسين ديناراً والحسين بتسعة وأربعين ديناراً وعبد الله بن جعفر بثمانية وأربعين فانصرف الرجل ومرّ بعثمان فحكى له القصة وما اعطوه فقال له ومن لك بمثل هؤلاء الفتية اولئك فطموا العلم فطماً وحازوا الخير والحكمة .
قال الصدوق بعد الخبر معنى فطموا العلم أي قطعوه عن غيرهـم وجمعـوه لأنفسهـم(1) وجاء في الأثر ان يزيد بن معاوية قال في حق السجاد انه من أهل بيت زقوا العلم زقا .
ومن أجل ذلك قال العلامة المحقق الفقيه المولى محمد باقر بن المولى محمد حسن بن المولى أسد الله بن الحاج عبد الله بن الحاج علي محمد القايني نزيل برجند في كتاب الكبريت الاحمر ج 3 ص 45 أن العباس من أكابر وأفاضل فقهاء أهل البيت بل انه عالم غير متعلم وليس في ذلك منافاة لتعليم أبيه عليه السلام إياه .
وكان هذا الشيخ الجليل ثبتاً في النقل منقباً في
(1) الخصال ج 1 ص 67 في باب لا تصلح المسألة الا في ثلاث .
العباس عليه السلام
174
الحديث يشهد بذلك كبريته تتلمذ رحمه الله في العراق على الفاضل الايرواني وميرزا حبيب الله الرشتي والسيد الشيرازي وفي خراسان على السيد مرتضى القايني والعلامة محمد تقي البجنردي وكان له أربع وثلاثون مؤلفاً .
ومن مستطرف الاحاديث ما حدّثني به الشيخ العلامة ميرزا محمد علي الأردبادي عن حجة الاسلام السيد ميرزا عبد الهادي آل سيد الامة الميرزا الشيرازي قدس الله سره عن العالم البارع السيد ميرزا عبد الحميد البجنردي انه شاهد في كربلاء المشرفة رجلاً من الافاضل قد اغتر بعلمه وبلغ من غلوائه في ذلك انه كان في منتدى من أصحابه وجرى ذكر أبي الفضل وما حمله من المعارف الإلهية التي امتاز بها على سائر الشهداء فصارح الرجل بأفضليته على العباس واستغرب من حضر هذه الجرأة وانكروا عليه ولاموه على هذه البادرة فطفق الرجل يبرهن على تهيئته بتعداد مآثره وعلومه وما ينوء به من تهجد وتنفل وزهادة وقال ان كان أبو الفضل العباس يفضل بامثال هذه فعنده مثلها والشهادة يوم الطف لا تقابل ما تحمله من العلوم الدينية وأصولها ونواميسها .
فقام الجماعة من المجلس والرجل على ذلك الغرور والغلواء غير نادم ولا متهيب .