الذنوب الكبيرة - 2 107


هذا كنزك الذي بخلت به) «تفسير الميزان».
والآيات والروايات الواردة في لزوم الإنفاق ، والثواب الذي لا يحصى في ذلك والتهديد بالعذاب على البخل وكنز المال وعدم إنفاقه، كثيرة وخارجة عن محل بحثنا هذا وقد نسمع بأن بعض الاثرياء الذين يعدون انفسهم مسلمين ، يضعون ملايين من اموالهم في البنوك الخارجية، والتي يشيع خبرها بعد موتهم ، مثل هؤلاء ماهو عذرهم امام الله ؟
اذا قالوا لا نعلم قيل لهم لماذا لم تتعلموا امور دينكم؟ ولماذا لم تحضروا مجالس الوعظ؟
وان كنتم تعلمون فلماذا لم تعملوا ، يا لها حسرة ابدية ، وندم دائمي، يكون نصيب هؤلاء الأثرياء.
ما اكثر اولئك الأغنياء الذين لا يعلمون ان الغرض والفائدة من المال إنما هي إنفاقه في سبيل الله .

الإسراف يختلف بإختلاف الأزمان:

كما ان الإسراف يختلف باختلاف الأشخاص كذلك بإختلاف الازمان، فربما لا يكون صرف مبلغ معين في معيشة شخص إسرافا، ولكن صرف نفس ذلك المبلغ في سنة القحط والفقر العمومي يكون إسرافا لنفس ذلك الشخص ، اذ يستطيع ان يعيش باقل من ذلك المقدار ويعطي ما زاد للآخرين.
يروي معتب خادم الإمام الصادق «عليه السلام» فيقول :
(وقد تزيد السعر بالمدينة، كم عندنا من طعام؟
قال قلت : عندنا ما يكفينا أشهرا كثيرة.
قال: أخرجه وبعه.
قال قلت له: وليس بالمدينة طعام!
قال: بعه

الذنوب الكبيرة - 2 108


فلما بعثه قال : إشتر مع الناس يوما بيوم، وقال: يا معتب إجعل قوت عيالي نصفاً شعيراً ونصفاً حنطة ، فإن ألله يعلم أني واجد ان اطعمهم الحنطة على وجهها ولكني أحب ان يراني الله قد احسنت تقدير المعيشة) «فروع الكافي ـ كتاب المعيشة» .
وهكذا بالنسبة الى اللباس ، فقد ورد فيمن اعترض على الإمام الصادق «عليه السلام» قائلا : يا ابا عبدالله انك من أهل بيت نبوة وكان ابوك وكان ، فما هذه الثياب المزينة عليك ؟
فقال «عليه السلام» في جواب هؤلاء المعترضين:
اخبرك ان رسول الله كان في زمان مقفر جذب ، فاما اذا أقبلت الدنيا فأحق أهلها بها أبراراها لا فجارها...
(وكان علي «عليه السلام» في زمان يستقيم له ما لبس فيه ، ولو لبست مثل ذلك اللباس في زماننا لقال الناس: هذا مراء) « وسائل الشيعةـ احكام الملابس».
وفي رواية اخرى انه «عليه السلام» إجتذب يد المعترض فجرها إليه ، ثم رفع الثوب الأعلى وأخرج ثوبا تحت ذلك على جلده غليظا، فقال: هذا لبسته لنفسي غليظا ، وما رأيته للناس.

الإسراف الحرام دائما:

يجب ان يعلم ان ثلاثة أقسام من الإسراف هي حرام في جميع الحالات ، والأشخاص ، وألأزمنة، والأمكنة.
الأول : تضييع المال وإتلافه مهما كان قليلا، مثل رمي نواة التمر في وقت يمكن الإستفادة منها، او إراقة المتبقي من الماء في الإناء في حال قلة الماء بحيث يمكن رفع الحاجة بذلك المقدار كما تقدم ذكر ذلك في الأحاديث السابقة . او تمزيق اللباس القابل للإستفادة منه ، او القاؤه بعيدا، او خزن الطعام وعدم دفعه للغير حتى يتلف ، ومثل إشعال المصباح مع وجود ضوء الشمس ، ومثل إعطاء المال للسفيه او الصغير الذي لا يعرف قدره فيتلفه، وأمثال ذلك.

الذنوب الكبيرة - 2 109


عن الإمام الصادق«عليه السلام» أنه نظر الى فاكهة قد رميت من داره لم يستقص أكلها فغضب وقال: ما هذا ان كنتم شبعتم فان كثيرا من الناس لم يشبعوا فأطعموه من يحتاج إليه «المستدرك ـ كتاب الأطعمة والأشربة».
وأما بالنسبة الى إلقاء باقي الطعام خصوصا فتات الخبز فقد وردت روايات تهديد ـ إلا إذا كان ذلك في الصحراء لأجل الحيوانات ـ يطول الكلام بذكرها، وروي ان الناس في زمن النبي دانيال نتيجة دعائه «عليه السلام» لعدم احترامهم للخبز وإلقائهم إياه في الأيدي والأرجل ـ أصيبوا بالقحط حتى وصل بهم الأمر الى ان يأكل بعضهم الآخر.
روي عن الإمام الحسين «عليه السلام» أنه دخل المستراح فوجد لقمة ملقاة فدفعها الى غلام له وقال ياغلام أذكرني بهذه اللقمة إذا خرجت، فأكلها الغلام فلما خرج الحسين بن علي« عليه السلام» قال ياغلام اللقمة ! قال: أكلتها يا مولاي،قال أنت حر لوجه الله،فقال رجل اعتقته؟ قال: نعم سمعت رسول الله« صلى الله عليه واله» يقول من وجد لقمة ملقاة فمسح أو غسل منها ثم أكلها لم يستقر في جوفه إلا أعتقه ألله من النار«وسائل الشيعة ـ الطهاره باب 39».
ومن هذا القبيل لبس الملابس الفاخرة المعدة لحفظ الحرمة والكرامة في مكان يجعلها في معرض الضياع ، كما تقدم ذكر ذلك في حديث سابق عن الإمام الصادق «عليه السلام».
الثاني: صرف المال فيما يضر البدن من المأكل والمشرب ، مثل الأكل بعد الشبع فانه مضر، بخلاف صرف المال في نفع البدن وصلاحه فانه ليس إسرافا.
روي عن أبي عبدالله «عليه السلام» انه قال له بعض أصحابه انا نكون في طريق مكة فنريد الإحرام فنطلي فلا يكون معنا نخالة نتدلك بها من النورة فنتدلك بالدقيق وقد دخلني من ذلك ما الله أعلم به؟
قال«عليه السلام» أمخافة الإسراف؟ قلت :نعم قال «عليه السلام» ليس فيما أصلح

الذنوب الكبيرة - 2 110


البدن إسراف إني ربما أمرت بالنقي فيلت بالزيت فأتدلك به ، إنما الإسراف فيما أفسد المال وأضر البدن.
قلت : فما الإقتار ؟
قال«عليه السلام« أكل الخبز والملح ، وأنت تقدر على غيره.
قلت : فما القصد؟
قال «عليه السلام»: الخبز واللحم واللبن والخل والسمن مرة هذا ، ومرة هذا .«وسائل ـ النكاح ـ النفقات» .
الثالث: صرف المال في المحرمات شرعا مثل شراء الخمر، وآلات القمار، وإستئجار الفاحشة والمغنية، ودفع الرشوة للحاكم ، وصرف المال في أمر يجر إلى الظلم، وأمثال ذلك . وفي مثل هذه الموارد توجد معصيتان : الأولى حرمة أصل العمل والأخرى هي الإسراف وصرف المال فيها.
روي في تفسير العياشي عن عبدالرحمن بن الحجاج سألت أبا عبدالله «عليه السلام» عن قوله تعالى « ولا تُبذِر تَبذيرا» (1) قال «عليه السلام» من أنفق شيئا ًفي غير طاعة ألله فهو مبذر ، ومن أنفق في سبيل الخير فهو مقتصد.

هل يوجد في الخير إسراف؟

من الواضح ان إنفاق المال في سبيل ألله ليس إسرافا مهما كان صاحب المال محتاجا اليه، ومهما كانت كمية المال، وحتى لو كان جميع أمواله، بل ان ذلك مطلوب ومستحب، وذلك كما في قوله تعالى « ويُؤثِرونَ على أنفُسِهِم ولو كانَ بِهم خَصاصة ، ومَن يُوقَ شُحَ نَفسِهِ فأولئِكَ هُمُ المُفلِحون » «الحشرـ9 ».
والإيثار هو ان يعطي الشخص المحتاج أمواله إلى محتاج آخر يقول تعالى في

(1) (الإسراء 26 ) .
الذنوب الكبيرة - 2 111


سورة (الدهر) (1): « ويُطعِمُونَ الطعامَ على حُبِهِ مِسكيناً ويَتيماً وأَسيراً» وبإتفاق كل المفسرين نزلت هذه الآية في أمير المؤمنين «عليه السلام» وفاطمة والحسن والحسين «عليهم السلام» وخادمتهم فضة، حيث صاموا ثلاثة أيام أفطروا فيها على الماء، وتصدقوا بخبزهم في سبيل الله.
سأل شخص الإمام الصادق «عليه السلام» قائلاً أي الصدقة أفضل ؟ فقال «عليه السلام» : جُهدُ المُقّل «ألكافي» . وروي في الكافي عن سَماعَة قال (سألت أبا عبدالله «عليه السلام» عن الرجل ليس عنده إلا قوت يومه أيعطف من عنده قوت يومه على من ليس عنده شيء ، ويعطف من عنده قوت شهر على من دونه والسنة على نحو ذلك أم ان ذلك كله الكفاف الذي لا يلام عليه؟
فقال «عليه السلام»: هو أمران أفضلكم فيه أحرصكم على الرغبة والأثرة على نفسه فان ألله عز وجل يقول « ويؤثرون على أنفُسِهِم ولو كانَ بِهم خَصاصَة» (2) والأمر الآخر لا يلام على الكفاف واليد العليا خير من اليد السفلى وإبدأ بمن تعول.
وعن أمير المؤمنين «عليه السلام» ( الإيثار أعلى ألإيمان)« ـ غُرَر الحِكَمِ ودُرَِر الكَلِم ـ لعبد الواحد بن محمد ألآمدي».

يجب الإعتدال في كل مكان:

في مقابل تلك الآيات والروايات آيات وروايات تأمر بالإقتصاد في ألإنفاق ، مثل الآية الشريفة « ولا تَجعلْ يَدَكَ مَغلُولَةً إلى عُنُقِكَ ولا تَبْسُطها كُلّ البَسْط ِفَتَقْعُدَ مَلُوما ًمَحْسُوراً »«والسورة 17/الآية /29»
وقال تعالى في سورة الفرقان« والذينَ إذا أنفَقوا لَم يُسرِِِفوا ولَم يَقتِروا وكانَ بين

(1) (الدهر 8).
(2) (الحشر 9).
الذنوب الكبيرة - 2 112


ذلِك قَواما » « الآية 67».
وفي رواية إبن أبي عمير سأل رجل أبا عبدالله الصادق «عليه السلام» عن قول الله عز وجل « وآتوا حَقَهُ يَومَ حَصادِهِ، ولا تُسرِفوا إنهُ لا يُحبُ المُسْرفِينَ» (1).
قال«عليه السلام»: كان فلان الأنصاري ـ سماه ـ وكان له حرث وكان إذا أخذ يتصدق به ويبقي هو وعياله بغير شئ فجعل الله عز وجل ذلك سرفا «تفسير نور الثقلين».
وعنه «عليه السلام» أيضا أنه ( إن الرجل لينفق ماله في حق وإنه لمسرف) (2).

الجمع بين الطائفتين من الآيات والروايات:

ذكر العلماء وجوها للجميع بين هاتين الطائفتين من الآيات والروايات ورفع التعارض بينها.
فقد نقل عن الطبرسي في شرح الكافي انه من الممكن القول إن ادلة حسن الإيثار تتعلق بزمان الفقر العام كما كان في صدر الإسلام، وما ادلة الإقتصاد فهي تتعلق بزمان السعة .
او بإعتبار إختلاف حالات المستلم فبعضهم يناسب الإيثار معه نظرا لأنه صاحب جاه ومقام ، وبعضهم يناسب الإقتصاد معه.
وهكذا بالنسبة الى المنفقين، فاصحاب اليقين، والدرجات الإيمانية الكاملة وذوو النفوس المطمئنة يليق بشأنهم الايثار، وأما من ليس كذلك ، بحيث قد يضطرب بعد الإيثار ويندم فيليق بشأنه الإقتصاد، كما هو حال عموم المؤمنين غير الصديقين ، ورغم ان آية« ولا تَجْعَل يَدك مَغلُولةً الى عُنقِك» (3) هي خطاب للنبي «صلى الله عليه واله» إلا ان المراد منها تعليم المؤمنين.
ونقل عن الشهيد الأول القول بأن ادلة حسن الإيثار ناظرة الى الإيثار على نفسه،

(1) (الانعام 141 .)
(2) من لا يحضره الفقيه.
(3) (الاسراء 29).
الذنوب الكبيرة - 2 113


وادلة الإقتصاد ناظرة الى من كان ذا عيال لا ينبغي له ان يؤثر عليهم غيرهم، والخلاصة ان الإيثار على النفس مستحب لا الإيثار على العيال. وقال ايضا : يكره ان يتصدق الرجل بجميع ماله إلا إذا إطمأن.
كما قال المرحوم السيد اليزدي في كتاب (الغاية القصوى) لا إشكال في حرمة الإسراف الثابتة بالقرآن والسنة واجتماع العلماء ، والمراد من الإسراف صرف المال في مورد يعتبر لغوا في نظرالعقلاء، وان كان باعتبار زيادته عن المقدار المحتاج المناسب الحال.
وهل يتحقق الإسراف في وجوه الخير ام لا؟
نقل عن جماعة منهم العلامة في التذكرة إن صرف المال في طريق الخير إذا زاد عن الحد اللازم الذي يليق بحاله فهو اسراف، ونقل عن مشهور العلماء كما في كتاب المسالك ان لا إسراف في الخير كما ورد في الحديث الشريف (لا سرف في الخير كما لا خير في السرف) والقول الأول أحوط ، فهو المستفاد من مجموع الأخبار (وبعد ان نقل رواية ابن ابي عمير وصحيحة البزنطى، وروايات اخرى قال ان هذه الروايات والآيات التي تنهى ان الإسراف تنسخ آية الايثار بشهادة رواية مسعدة.. الى ان قال: اذن فإن بعض اشكال الضيافة والعطاء لبعض الأشخاص والذي يزيد عن اللائق بحالهم، بحيث يعتبر عند العقلاء تجاوزا ولغوا، وليس فيه غرض عقلائي من طرف المعطي ولا من طرف الآخذ محل إشكال ، وهكذا المصارف الأخرى اذا دخلت تحت هذه العنوان وان كانت بالذات امرا مطلوبا، نعم في بعض الاخبار استثنى نفقة الحج والعمرة ، وقد روي عن رسول «صلى الله عليه واله»:
(ما من نفقة أحب الى الله من نفقة قصد، ويبغض الإسراف إلا في حج وعمرة)«وسفينة البحار ـ المجلد/1/616».

الإسراف في الخير:

القول المشهور اقوى في نظر المؤلف، انه لا إسراف في الخير، بمعنى مهما يدفع

الذنوب الكبيرة - 2 114


الإنسان في سبيل الله ـ لا في سبيل هوى النفس ـ في مورد يعلم ان رضى الله في الإنفاق فانه لا إسراف في ذلك حتى لو دفع كل ما يملك ولا تعارض في تلك بين الآيات والروايات الدالة على حرمة الإسراف ووجوب الإقتصاد.
وحيث كان الإستطراد في الجواب عن تلك الأدلة يدعونا للخروج عن مستوى هذا الكتاب وحيث لم تكن كتابة هذا الكتاب بنحو إستدلالي ، وكنا نهدف الى ان تعم فائدته للجميع لذا فاننا بنحو الإجمال نشير الى ان النهي في قوله تعالى « ولا تجعل يَدكَ » هو نهي اشفاقي لا تحريمي ولا تنزبهي وذلك بقرينة كلمة «محسورا» واما قوله تعالى « والذينَ إذا أنفقوا لم يُسرِفوا.. » يحتمل ان يكون المراد منها الإنفاق في خصوص المعيشة ، لا الإنفاق في سبيل الله، وعلى تقدير العموم في الإنفاق فانه يمكن القول لعل المراد ان أولئك الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا هم من عباد الرحمن بمعنى ان ذلك المقدار كاف لوصفهم بهذا الوصف وأما آية « وآتو حَقهُ يومَ حَصادِه ِولا تُسرِفوا » فيحتمل ان تكون جملة « ولا تُسرِفوا إن اللهَ لا يُحبُ المُسرِفين » جملة مستقلة ، وأما بناءا على إرتباطها بما قبلها ـ بقرينة ما ورد في تفسيرها ـ فالمراد هوإنفاق تمام حاصل الزرع وحرمان العيال منه، ولا شك في ان هذا إسراف ، ذلك ان الإنفاق مستحب بينما تكفل العيال واجب ومن ينفق جميع ما لديه ويترك من تجب نفقته عليه فذلك عاص بلا شك ومرتكب لما فيه خلاف رضا ألله، نعم في صورة الإطمينان بأنه يستطيع توفير معيشة العيال من طريق آخر، أو أن العيال يسقطون حقهم عليه، فانه يصح له انفاق كل ما لديه في سبيل الله ، كما يحمل على ذلك عمل الأئمة «عليهم السلام» كما أنفق أمير المؤمنين «عليه السلام» أكثر من مرة كل ما لديه ، وأعطى بستانا ـ كان قد إشترها بمبلغ إثني عشر ألف درهم ـ للفقراء ولم يترك لعياله شيئا ، ولكنه « عليه السلام» لم يترك عياله وقتا ما بدون نفقة ، بل هو حين يؤثر مطمئن بأن معيشة عياله سوف تؤمن بطريق آخر.
ونظير ما ذكرناه حول الآيات الشريفة ما ورد عن رسول الله «صلى الله عليه واله» في

الذنوب الكبيرة - 2 115


مذمة من ينفق جميع أمواله قبل الموت ولا يبقي لأولاده الصغار ،فليس المقصود ان إنفاق جميع المال قبيح ، بل المقصود انه في هذا المورد خطأ ، ذلك ان من كان لديه أطفال، وهو يعلم بأنهم بعده معوزون ، فإن ترك المال لأجلهم هو نفسه عمل في سبيل الله.
ونظير ذلك ما جاء في النهي عن الوصية بما زاد على الثلث، بل ان من ليس له مال كثير، وله ورثة ضعفاء أمر بالوصية بأقل من الثلث.
وخلاصة هذه الروايات الإرشاد لما هو الأهم في الإنفاق لا النهي عن ألإنفاق بنحو كلي ،و مما ذكر في معنى الآية يظهر جواب رواية إبن أبي عمير.
أما جواب صحيحة البزنطي فيحتمل ان الإمام «عليه السلام» إنما نهى عن الإنفاق الأكثر لأجل عدم إستحقاق المورد للأكثر.
وأما رواية الفقيه فيمكن أن تكون إشارة لأشخاص معينين يقومون بألإنفاق المستحب ويتركون الواجب .
وجواب رواية مسعدة حيث إعترض المتصوفة على ألإمام بأنه يجب عليك الإيثار قال «عليه السلام» في توضيح فكرة ان الإيثار ليس بواجب ان ألإنفاق على العيال وألأرحام هو من موارد الإنفاق في سبيل الله ، وقوله « لو كان نهى الله منه رحمة منه للمؤمنين» في نفس الرواية شاهد على ان ألأمر بالإقتصاد والنهي عن الإسراف في الإنفاق إنما هو نهي ترحمي وإشفاقي.
وكيف يمكن القول بان الإيثار مذموم ؟ والحال ان عمل رسول الله «صلى الله عليه واله» والأئمة «عليهم السلام» كان كذلك والآيات التي نزلت في إيثارهم «عليهم السلام» مثل سورة الدهر ، وآية ألإيثار ، وآية النجوى وغيرها أكبر شاهد على ذلك ، والروايات الواردة في حالات ألأئمة كثيرة ، مثل تقسيم الإمام الحسن«عليه السلام» تمام أمواله مع الفقراء ولثلاث مرات بالمناصفة وإنفاق الإمام الحسين «عليه السلام» وسائر ألأئمة مشهور ، من ذلك إنفاق الإمام الرضا «عليه السلام» يوم عرفة في خراسان أمواله حتى قال له الفضل

الذنوب الكبيرة - 2 116


بن سهل: ان هذا لمغرم ، فقال«عليه السلام» بل هو المغنم ، لا تعُدن مغرما ما ابتغيت به أجرا وكرما « مناقب ابن شهر آشوب ».
وفي يوم نوروز حيث طلب منه المأمون ان يجلس للناس ووضع بين يديه أموالا طائلة ، اعطاها «عليه السلام» لشخص واحد من الشعراء حيث أنشد قصيدة في مدح اهل البيت «عليهم السلام» .
وعن الإمام العسكري «عليه السلام» : (لوجعلت الدنيا وما فيها لقمة واعطيتها عالما مؤمنا لخفت ان اكون مقصرا في حقه، ولو منعت الدنيا وما فيها كلها من جاهل فاسق إلا جرعة ماء اعطيته في حال عطشه لخفت الإسراف) « تفسير القمى».
وعنه «عليه السلام» : (لو جعلت الدنيا كلها لقمة واحدة ولقمتها من يعبد الله خالصا لرأيت اني مقصر في حقه ، ولو منعت الكافر منها حتى يموت جوعا ثم اذقته شربة من الماء لرأيت اني قد أسرفت) «سفينة البحار حـ 1/408».
وخلاصة هذين الحديثين الشريفين ان الدنيا كلها إذا أعطيت لمؤمن مخلص لم يكن ذلك اسرافا لان الإحسان اليه احسان في محله.
وكثيرا ما ينقل عن اكابر العلماء حالات من الايثار، وبعضهم وصل الى آثاره الدنيوية العظيمة، كالمحقق الأردبيلي كما جاء في كتاب روضات الجنات حيث يقول : ان من جملة كراماته انه كان في عام الغلاء يقاسم الفقراء ماعنده من الأطعمة ويبقي لنفسه سهما واحدا منها، وقد أتفق انه فعل في بعض السنين الغالية ذلك فغضبت زوجته وقالت : تركت أولادنا في مثل هذا السنة يتكففون الناس؟ فتركها ومضى الى مسجد الكوفة للإعتكاف، فلما كان اليوم الثاني جاء رجل بدواب محملة حنطة من الحنطة الطيبة الصافية والطحين الجيد الناعم ، فقال:هذا بعثه لكم صاحب المنزل وهو معتكف في مسجد الكوفة ، فلما ان جاء المولى من الإعتكاف اخبرته الزوجة بان الطعام الذي بعثه مع الإعرابي كان طعاما حسنا، فحمد الله تعالى ولم يكن له خبر منه .

الذنوب الكبيرة - 2 117


(وتكرر ان يهدي إليه شي من العمائم الغالية التي تعادل قيمتها ما يكون من الذهب الخالص فيخرج به الى الزيارة، ثم اذا طلب احد من السائلين شيئا منه يخرق قطعة منه لأجله ، هكذا الى ان يبقي على رأسه ذراعا من ذلك الثواب النفيس عند وروده الى بيته).
وبالجملة فان حسن الإنفاق في سبيل الله بديهي مهما كان وبأي مقدار كان ، ولا إسراف فيه ، اللهم إلا اذا كان مستلزما لترك النفقة الواجبة او ترك مورد أهم، او لم يكن المنفق عليه مستحقا لذلك المقدار كما تقدم تفصيله في صفحات سابقة.

الإسراف في العقائد والأعمال:

ما ذكر راجع للإسراف في المال، ولكن حيث ان الإسراف في اللغة معناه تجاوز الحد فهو متصور اذن في الأمور الإعتقادية ، وهكذا في تمام أعمال الإنسان.
الإسراف في العقيدة هو ان يعتقد بنفسه اوبغيره ما لا صحة له، وما لا يلق الاعتقاد به ، مثل اعتقاد فرعون بربوبيته حيث قال« ما علِمتُ لَكُم مِن إلهٍ غَيري» (1) وعدّه الله تعالى من المسرفين حيث قال تعالى « وإنّ فِرعَونَ لَعالٍ في الأرضِ وإنه لَمِنَ المُسرِفين» (2).
وهكذا اذا لم يعتقد بما ينبغي الإعتقاد به كالاعتقاد بالله، والنبوة ، والإمامة، والمعاد وغير ذلك ، كما يقول تعالى في القرآن المجيد « وكذلك نَجزي مَن أسَرَفَ ولَمْ يؤمِن بآياتِ ربهِ ولَعذابُ الآخرةِ أشدّ وأبقى » «السورة 20 ـ 127».
وأما الإسراف في الأعمال فهو ان يأتي بما لا ينبغي الإتيان به، او يترك ما ينبغي الإتيان به، كما عَدّ تعالى قوم لوط الذين يرتكبون عمل اللواط القبيح مسرفين ،حيث قال « إنكُم لَتأتون الرجالَ شَهوةً مِن دونِ النِساءِ بَلْ أنتُمْ قَومٌ مُسرِفون » «سورة

(1) القصص ـ 38
(2) يونس ـ 83.
الذنوب الكبيرة - 2 118


الأعراف ـ 81».
حيث يضعون البذور في غير محل زراعتها.
بل ان اي ذنب فعلي او قولي يصدر من الإنسان هو إسراف ، وكل مذنب مسرف كما يقول تعالى في سورة الزمر « قُل يا عباديَ الذينَ أسرَفوا على أنْفُسِهِم لا تَقنَطوا مِن رَحمَةِ الله » (1).
وينبغي للمؤمن ان يحاول ترك الإسراف حتى في الأمور المباحة ، في النوم او اليقظة ، او الكلام ، او الطعام ، كما ورد في الحديث الشريف (ان الله يبغض كل أكول نؤوم).
وبنحو عام عليه ان يجهد في أن لا يتجاوز الحد في اي عمل من أعماله، ومن اجل التعرف على شرح وتفصيل هذه المطاليب راجع كتاب معراج السعادة ، وحلية المتقين ، وسراج الشيعة ، وغير ذلك من الكتب التي تتناول الآداب والمعاشرة.

(1) الزمر ـ53.
الذنوب الكبيرة - 2 119


33
ألكِبَرْ

الثالث والثلاثون من الكبائر المنصوصة (الكبر) فقد ذكر في رواية الفضل بن شاذان عن الإمام الرضا «عليه السلام» وقد عد الشيخ الأنصاري في كتاب المكاسب هذه الرواية معتبرة وان عتبار سندها ليس باقل من الرواية الصحيحة ، وكذلك جاء عن الإمام الصادق «عليه السلام» في رواية الأعمش حيث عد التكبر من الذنوب الكبائر فقال «عليه اسلام» (واستعمال التكبر والتجبر) كما انه من الذنوب التي جاء في القرآن المجيد الوعيد عليها بالعذاب ، حيث قال تعالى في سورة الزمر « أليسَ في جَهنّمَ مثوىً للمُتكبّرين » (1) وقال تعالى « فأدخُلوا أبوابَ جهنمَ خالدينَ فيها فلبِئسَ مَثوى المُتَكبّرين » (2)وقال تعالى في سورة غافر ألآية: 35« كذلكَ يَطبعُ اللهُ على كُلِ قلبٍ مُتكبّر ٍجَبّار » والآيات الواردة في موضوع التكبر كثيرة ، يكفي منها ما جاء في تكبر الشيطان ، وإن ذلك كان هو السبب في ان يصبح الشيطان ملعونا ، ومحكوما بالعذاب

(1) (الزمر 60).
(2) (النحل 29).
الذنوب الكبيرة - 2 120


الأبدي كما قال تعالى في سورة البقرة « أبى وإسْتَكْبَرَ وكانَ مِنَ الكافِرين » (1).
قال امير المؤمنين «عليه السلام» ضمن خطبته (القاصعة):
(ألحمد لله الذي لبس العز والكبرياء وإختارهما لنفسه دون خلقه وجعلهما حمى وحرما على غيره واصطفاهما لجلاله وجعل اللعنة على من نازعه فيهما من عباده .. إلى ان قال «عليه السلام» فإعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس إذ أحبط عمله الطويل وجهده الجهيد وكان قد عبدَ الله ستة آلاف سنة لا يُدرى من سِني الدنيا أم من سني الآخرة على كبر ساعة واحدة فمن ذا بعد إبليس يسلم على الله بمثل معصيته ، كلا ما كان الله سبحانه ليدخل الجنة بشرا بأمر أخرج به منها ملكا ، وما بين الله وبين أحد من خلقه هوادة في إباحة حمى حرمه على العالمين).
ثم قال «عليه السلام»وهو يتحدث عن قابيل الذي تكبر على أخيه هابيل :
ولا تكونوا كالمتكبر على ابن امه من غير ما فضل جعله الله فيه سوى ما الحقت العظمة بنفسه من عداوة الحسد ، وقدحت الحمية في قلبه من نار الغضب، ونفخ الشيطان في أنفه من ريح الكبر الذي أعقبه الله به الندامة ، وألزمة آثام القاتلين الى يوم القيامة).
ثم قال «عليه السلام» :
(فاعتبروا بما أصاب الأمم المستكبرين من قبلكم من بأس الله وصولاته ووقائعه ومثلاته ، وإتعظوا بمثاوي خدودهم ، ومصارع جنوبهم، واستعيذوا بالله من لواقح الكبر كما تستعيذونه من طوارق الدهر).
وقال رسول الله «صلى الله عليه واله»:
(ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم شيخ زان ، وملك جبار، ومقل مختال) «الكافي».

(2) (البقرة 34).
الذنوب الكبيرة - 2 121


ومعنى ذلك عقوبة هؤلاء الثلاثة اكثر من عقوبة الشباب الزاني ، والجبار غير الملك ، والمتكبر غير الفقير، والوجه في ذلك ظاهر حيث ان مقتضي المعصية في هؤلاء الثلاثة غير موجود، فالشيخ الهرم الذي انطفات فيه حرارة الشهوة حينما يزني يعرف من ذلك انه فاقد للحياء وانه لا يعتني باحكام الله، ولذا نجد ان العقوبة في معظم الذنوب هي للشيخ اشد مما هي للشباب.
واما بالنسبة للحاكم فحيث ان الله تعالى قد اعطاه سلطة وقوة لأجل بسط العدل فان ممارسته للظلم هي كفران بالنعمة فضلا عن انها معصية ، بل هو في الحقيقة منكر لعبوديته لله ، واما الفقير المتكبر فمن المعلوم ان المال هو احد اسباب التكبر ، اما من لا مال له ومع ذلك يتكبر فيعلم من ذلك انه خبيث معاند لخالقه.
عن حكيم قال سالت أبا عبدالله «عليه السلام »عن أدنى ألإلحاد فقال«عليه السلام»:( إن ألكبر أدناه) «الكافي».
وقال الإمام الباقر «عليه السلام» : (العز رداء ألله والكبر أزراره فمن تناول شيئا منه أكبه ألله في جهنم ) «الكافي» .
وقال «عليه السلام» ايضا (الكبر رداء الله والمتكبر ينازع الله رداءه) «الكافي» >
ذلك ان المتكبر في حال تكبره ينسى عبوديته لله، وان كل ما لديه هو من الله ويظن انه هو العلة المستقلة بالتأثير، ويقول بمقولة فرعون انا الأكبر والأعلى انا كذا وكذا ، وبذلك يضع نفسه في قبال الله، ويدعي الربوبية.
وخلاصة الكلام ان الإنسان يستطيع ان يتصف بصفات الله مثل العفو، والرحمة ، والجود، والإحسان ، والكرم، والحلم ، والعلم ، والمحبة والرأفة ، بل ان القرب من الله تعالى هو على مقدار وضوح الإتصاف بهذه الصفات وضعفه ، واما صفة العزة والعظمة والكبرياء فهي من الصفات الإلهية المختصة ، ولا يستطيع أحد من العباد ان يتصف بها.
يقول تعالى في القرآن المجيد « ولهُ الكبرياء في السماواتِ والأرضِ » ويقول

الذنوب الكبيرة - 2 122


الإمام الصادق «عليه السلام» (إن في جهنم لواديا للمتكبرين يقال له سقر شكا الى الله عز وجل شدة حره وسأله ان يأذن له ان يتنفس فتنفس فأحرق جهنم) « الكافي»
وقال «عليه السلام» أيضا (إن المتكبرين يُجعلون في صور الذر يتوطأهم الناس حتى يفرغ الله من الحساب) «الكافي» .
يقول العلامة المجلسي في شرح هذا الحديث :
انه (يدل على انه يمكن أن يخلق ألإنسان يوم القيامة أصغر مما كان مع بقاء ألأجزاء ألأصلية أو بعضها فيه، ثم يضاف اليه سائر الأجزاء فيكبر اذ يبعد التكاثف الى هذا الحد ، ويمكن ان يكون المراد انهم يخلقون كبارا بهذه الصورة فإنها احقر الصور في الدنيا معاملة معهم بنقيض مقصودهم ، او يكون المراد بالصورة الصفة اي يطأهم الناس كما يطأون الذر في الدنيا )«مرآة العقول» .

الكبر والتكبر وأقسامه:

الكبر هو حالة يرى الإنسان فيها نفسه افضل وأعظم من الآخرين وانعكاس هذه الحالة على القول والعمل يعبر عنه بالتكبر، وهوعلى ثلاثة أقسام:
الكبر على الله ، والكبر على الرسول «صلى الله عليه واله» والأئمة «عليهم السلام» والكبر على الناس.
(1) الكِـبَرُ على اللهِ:


اما الكبر على الله فله انواع، فأحيانا تصيب الإنسان الجاهل والمغرور حالة يرى فيها انه مستقل في التأثير ويعقد ان كل شؤونه هي منه شخصا ، ولا يكون مستعدا لإعتبار نفسه مخلوقا بين يدي الله وتحت تدبيره وتربيته ، بل لسان حاله ومقاله هو (انا فعلت كذا) و(سوف افعل كذا) ونتيجة قدرته المحدوة الظاهرية في المال والجاه لا يكون مصدقا وخالقه، وتسيطر ظلمة الكفر على تمام قلبه.

السابق السابق الفهرس التالي التالي