لقد شيعني الحسين (ع) 261

شر قتلة . ويذكر صاحب أسد الغابة ، إنه قتل ، بعد أن أحرق في جوف حمار ، كان الذي تولى قتله معاوية بن حديج ، طلب منه محمد بن أبي بكر ماء ، فأبى عليه ، وقال له : لأقتلنك حتى يسقيك الله من الحميم والغساق! .
فقال له محمد : يا ابن اليهودية النساجة ليس ذلك إليك إنما ذلك إلى الله ، يسقي أولياءه ويظمئ أعداءه أنت وأمثالك ، أما والله لو كان سيفي بيدي ما بلغتم مني هذا ، ثم قال له :
أتدري ما أصنع بك؟ أدخلك جوف حمار ثم أحرقه عليك بالنار . قال محمد :
إن فعلت بي ذلك فلطالما فعلتم ذلك بأولياء الله ، وإني لأرجو أن يجعلها عليك وعلى أوليائك ومعاوية وعمرو نارا تلظى كلما خبت زادها الله سعيرا فغضب منه وقتله ثم ألقاه في جيفة حمار ثم أحرقه بالنار (195) . وكانت عائشة قد جزعت عليه بشدة ودعت في قنوتها على معاوية وعمرو وضمت إليها عيال محمد ، ويقال أنها لم تأكل من ذلك شواء حتى ماتت
كان أخوه عبد الرحمن قد اعترض على عمرو بن العاص وكان في جنده .
في تلك الأثناء ، حزن الإمام علي (ع) على محمد بن أبي بكر حزنا شديدا ، وتمنى لو يفرق الله بينه وبين قومه الذين لا يطيعونه في رأي ، ويسمعون له كلمة ، ولم يكن أمامه (ع) سوى الكلمة التي يفجر بها أحزانه ، ويوجه فيها عتابه لأتباعه المتهالكين ، وود سلام الله عليه ، لو يجهز على معاوية بمصر ، فيرده عنها ردا عزيزا بل ولود إن لن يبقى في أرض الإسلام لوثة أموية على الاطلاق فيما لو أطاعه قومه . وكانت خطبته الشهيرة يومها :
ألا إن مصر قد افتتحها الفجرة أولو الجور والظلمة الذين صدوا عن سبيل الله وبغوا الإسلام عوجا ، ألا وإن محمد بن أبي بكر استشهد فعند الله نحتسبه! أما والله إن كان كما علمت لممن ينتظر القضاء ويعمل للجزاء ويبغض شكل الفاجر ويحب هدى المؤمن ، إني والله ما ألوم نفسي على تقصير ، وإني لمقاساة الحروب

(195) ابن الأثير / التاريخ .
لقد شيعني الحسين (ع) 262

لجدير خبير ، وإني لأتقدم على الأمر وأعرف وجه الحزم وأقوم فيكم بالرأي المصيب وأستصرخكم معلنا وأناديكم نداء المستغيث فلا تسمعون لي قولا ولا تطيعون لي أمرا حتى تصير بي الأمور إلى عواقب المساءة ، فأنتم القوم لا يدرك بكم الثأر ، ولا تنقض بكم الأوتار ، دعوتكم إلى غياث إخوانكم منذ بضع وخمسين ليلة فتجرجرتم جرجرة الجمل الأشدق ، وتثاقلتم إلى الأرض تثاقل من ليست له نية في جهاد العدو ولا اكتساب الأجر ، ثم خرج إلي منكم جنيد متذانب كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ، فأف لكم! ثم نزل (196) .
هذه الخطبة تلخص ، الظرف الذي عاناه أمير المؤمنين ، إنه أسد الله الذي ابتلاه الله بأغلبية أجبن من بنات آوى ، ومدينة العلم التي سكنها الجهلة الرعاع ، وذلك هو السقوط ، وتلك هي معاناة أبي الحسن (ع) .
بقي الأمر كذلك ، علي بالعراق ومعاوية بالشام ، حكومة منشطرة ، وأمة تحكمها المتناقضات ، معاوية منعته شدة علي (ع) وبأسه في الحروب ، وعلي (ع) منعه من الخروج تثاقل أصحابه ، وعصيانهم له .
في تلك الأجواء ، من التهدئة النسبية ، اجتمع فريق من الخوارج ، ينعون قتلاهم بالنهروان ، وتبادلوا وجهات النظر فيما بينهم . وأسفر الاجتماع على مخطط للاغتيال ، بزعامة ثلاثة من الخوارج : عبد الرحمن بن ملجم ، والبرك بن عبد الله وعمرو بن بكر التميمي . وقضى المخطط أن يتولى ابن ملجم قتل علي (ع) والبرك بن عبد الله معاوية فيما قال عمرو بن بكر (أنا أكفيكم عمرو بن العاص) (197) .
غير أن برك و (عمرو بن بكر) لم يتوفقا في قتل معاوية وعمرو .
فأما الأول ، فقد قعد لمعاوية ، فلما خرج إلى الصلاة ضربه بالسيف فلم يصب إلا أليته ، فأخذه معاوية فأمر فضرب عنقه . أما الثاني فقد قعد لعمرو غير

(196) نفس المصدر .
(197) تجارب الأمم .
لقد شيعني الحسين (ع) 263

أن هذا الأخير كان قد اشتكى بطنه فأمر خارجة بن أبي حبيبة ، ليصلي بالناس ، فخرج فوثب عليه ابن بكر ، ظانا أنه عمرو ، فضربه فقتله ، فأخذه الناس إلى عمرو فأمر بقتله .
أما ابن ملجم ، فإنه اتجه صوب الكوفة ، وكان قد التقى بامرأة اسمها (قطام) وأحبها ، وكان علي (ع) قتل أباها وأخاها يوم النهروان ، وافتقد بجمالها ابن ملجم توازنه ، فخطبها ، فرفضت ذلك إلا بشرط قتل علي (ع) وقيل اشترطت عليه (ثلاثة آلاف وعبد وقينة وقتل علي!) .
فقال لها هو لك ، ووالله ما وردت إلا لقتل علي .
فذهب وجلس مقابل الشدة التي يخرج منها علي للصلاة ، وتمت العملية وقتل ابن ملجم عليا .
وتصايح الناس ، فقبض عليه ، وجيئ به إلى علي (ع) فقال له :
- أي عدو الله ، ألم أحسن إليك .
- قال : بلى .
- قال : فما حملك على هذا .
قال : شحذته أربعين صباحا ، فسألت الله أن يقتل به شر خلقه .
فقال علي (ع) لا أرك إلا مقتولا به ، ولا أراك إلى شر خلق الله .
ومات علي (ع) في جو دراماتيكي ، معكسه تفاصيل المشهد ، مات سلام الله عليه بشهر رمضان سنة أربعين .
وأقيم الحد على ابن ملجم ، طبقا لوصية الإمام علي (ع) الذي منع أن يقتل إلا إذا مات ، خضوعا لحكم الشريعة في القتل . مات (ع) فارتاحت القلوب الحاقدة ، ويومها وصل الخبر إلى عائشة (198) فقالت :

(198) مسكويه : تجارب الأمم / ج 1 - ص 383 .
لقد شيعني الحسين (ع) 264

فألقت عصاها واستقرت بها النوى كما قر عينا بالإياب المسافر

وسألت عمن قتله؟ فقيل : رجل من مراد ، قالت :
فإن يك نائيا ، فلقد نعاه نعاة ليس في فيها التراب

وشاء القدر أن يموت يعسوب المؤمنين ، وقائد الغر المحجلين ، بتلك الطريقة النكراء ، لينجو منها الأنذال ، وتمنح لهم الحياة .
شاء الله أن يبقى علي (ع) - علما بشهادته ، ويبقى مناوئاه خبرا في التاريخ غيبته الأحداث . بقيت النجف الأشرف تستمد نورها من جثمانه الطاهر ، على مدى الأجيال ، وبقي قبر معاوية ، كوخا ، وضيعا ، أشبه بمزبلة ، في أحد أزقة دمشق ، والتاريخ يأبى الاحتفال بالأنذال ، ولا يبخس العظماء حقهم وإن كره المؤرخون! .
وبموت علي (ع) سوف تنسل تلك البنة الأساس ، في بناء الأمة ، ستدفع هذه الأخيرة الثمن غاليا ، لأنها تهاونت في الحفاظ عليها .
كان على (ع) قد اشتاقت إليه السماء . فأهل الأرض ضاقوا به . والملأ الأعلى ينظر إلى هذه المعارك التي قدر لعلي (ع) أن يخوضها ، ولعل ذلك يعز عليهم ، لكن الله ، قضى أن يضحي علي (ع) بنفسه ، ليعلم الله المؤمنين من الكافرين ، وليمحص به أمر الأمة .
« ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله » (199) ، وعلي هو أمير هذه الآية ، وموضوعها . ولكن عليا (ع) لم يشأ أن يبرح الدنيا ، حتى يطمئن على أمة محمد صلى الله عليه وآله فأرسى بعده ابنه الحسن (ع) وهذا لم يكن سنة بسنة الخلفاء ، ولا رأيا تلقائيا له مبرراته في هوى جامح ورأي خداج . إنه الرأي الحصيف؟ ، والنص المحكم البواح .

(199) ذكر المفسرون إنها نزلت في علي (ع) يوم نام في فراش الرسول صلى الله عليه وآله عندما عزم على الهجرة ، تمويها على المشركين .
لقد شيعني الحسين (ع) 265

وبويع الحسن (ع) بالخلافة في سنة أربعين حسب الطبري وابن الأثير .
وبايعه قيس بن سعد . وهو مقدمة أهل العراق في جمع مؤلف من أربعين ألفا ، كان قد بايعوا عليا على الموت .
هذا هو المنعطف الآخر ، الذي ينفتح فيه التاريخ على أخطر المآسي . ليكسب بذلك آل البيت النبوي (ع) دنيا العذابات الدامية الشنيعة .



لقد شيعني الحسين (ع) 266




لقد شيعني الحسين (ع) 267

ما حدث في خلافة الحسن (ع)

ذكر المسعودي في إثبات الوصية ، إن الإمام عليا (ع) لم يبرح حتى قال :
اخلوني وأهل بيتي أعهد إليهم فقام الناس إلا اليسير ، فجمع أهل بيته وهم اثنا عشر ذكرا وبقي قوم من شيعته ، حتى قال : وأوصي إلى ابني الحسن (200) .
وبذلك تسلم الإمام الحسن (ع) مسؤولية الخلافة ، في شوطها الأخطر . لقد كان عليه أن يضطلع بأمر ، كان سببا في قتل أبيه . وأي إنسان يتصور ذلك .
فهذا ابن الأنبياء وورعه يحول دونه وتلذذ الملك . كيف يلهث وراء خلافة أبيه والخطب خطر ، والمصاب جلل . لقد انشغل بدفن جده وهو صغير ، ورأى أن القوم قد تسابقوا إلى السقيفة (يتناهشون) الخلافة . وشهد المؤامرة منذ نشأتها ، ورأى بيت أمه يهدد بالحرق ، واستضعفوا حتى كادت الجبال تندك لهول المأساة ، ورأى أمه وهي تموت بالآلام التي تركتها التحرشات ، وهي تبكي أباها ، وتتلقى التهديد من ابن الخطاب ، وتحرم إرث أبيها ، وتندك أضلاعها من خلف الباب ، يوم اقتحموا عليها البيت ، وهي حبلى بمحسن . لقد شاهد كل هذا .
شاهد أباه ، وهو يعاني الأمرين من عصيان أصحابه . ورأى كل ذلك ، فقبل رغم اليأس ، بخلافة أبيه لأنها المسؤولية ، فالإسلام يواجه خطر (الأموية) وهي

(200) المسعودي إثبات الوصية للإمام علي بن أبي طالب ، ص 164 - 165 دار الأضواء - بيروت . الطبعة الثانية .
لقد شيعني الحسين (ع) 268

ما تبقى من تراث الشرك .
كان من الطبيعي للإمام الحسن (ع) فيما لو كان كباقي الرعية ، أن يستكين للراحة ، ويخلد لها ، فمثله يحتاج للاستقرار النفسي والسكينة والسكن . فيكفي بنو هاشم ما تجرعته من خطوب ومحن . ويكفي بنو هاشم ما نالته من الطغمة الأموية على مر السنين . ولكن الإمام الحسن (ع) هو إمام وليس رجلا كباقي الرجال . إنه روح الأمة التي ستتولى مسيرة التصحيح وسواء أزيح عن الخلافة الإدارية أم لا ، فأن إمامته لا تنفيها المصادرة والاغتصاب . فالحسن والحسين ، إمامان بشهادة الرسول صلى الله عليه وآله قاما أو قعدا . مارسا الخلافة أو لم يمارساها ، فهما إماما هذه الأمة . لذلك استجاب للوصية نزولا عند النص (201) .
وكان من أوائل المبايعين قيس بن سعد .
كان المشكل الأول الذي واجهه الإمام الحسن (ع) هو (الطاعة) إذ علم أن ا رأي لمن لا يطاع وأي سماء كان سيرفعهم إليها الإمام علي (ع) من قبل ، لو نهم أطاعوه . ولكن بعصيانهم ، عفروا وجوههم تحت جيوش الطلقاء ، فكانت بيعته واضحة ومشروطة بإشارة إلى الطاعة :
(تبايعون لي على السمع والطاعة ، وتحاربون من حاربت وتسالمون من سالمت) (202) .
كان الإمام (ع) يدرك أن الواقع يعج بالمتناقضات ، وأن جيشه ليس

(201) هناك من العامة من رفض أن يكون علي (ع) قد أوصى إلى الحسن (ع) وما هي إلا بلبلات أموية والمعروف عن علي (ع) تاريخيا إنه أوصى . واعتمد بعضهم حديث شعيب بن ميمون الواسطي ، أن عليا قيل له إلا تتخاوف فقال : إن يرد الله بالأمة خيرا يجمعهم على خيرهم . أقول إن هذه الرواية فضلا عن أنها من الموضوعات فهي تحتوي على نزعة (جبرية تخالف منطق الإسلام ، وذكر ابن حجدر في تهذيب التهذيب إن من مناكيد عن حصين عن الشعبي عن أبي وائل قال : قيل لعلي ألا تستخلف الحديث وشعيب هذا قال عنه البخاري : فيه نظر . وذكر ابن حيان أنه يروي المناكيد . أما أبو حاتم فقال عنه : مجهول .
(202) ابن قتيبة .
لقد شيعني الحسين (ع) 269

منسجما . ففيه من المندسين ما قد يبرز في الربع الأخير ، ليمنى القوم هزيمة - كما وقع - وأمامه تجربة أبيه وجده من قبله ، وله ما عهد به علي (ع) له سرا . كانت وظيفة الإمام الحسن (ع) أن ينتشل الأمة من مواتها ، ويردها بكاريزمية إلى الطريق السليم إلى الوجهة المباركة ، لكن الأمر اليوم ، يحتاج إلى تحقيق القدر الضروري من مصالح الإسلام والمسلمين ، وتجنب الدمار الشامل لمكتسبات سنين من الكفاح الرسالي .
ولما سمع القوم منه ذلك ، أحجموا عن البيعة ، وراحوا إلى أخيه الحسين (ع) قائلين له :
(ابسط يدك نبايعك على ما بايعنا عليه أباك ، وعلى حرب المحلين الضالين أهل الشام) .
فردهم الحسين (ع) قائلا : معاذ الله أن أبايعكم ما كان الحسن حيا .
ولما أبى الحسين ، عادوا إلى الحسن ، فبايعوه وهم مكرهون (203) .
وكانت وراء هذا الحدث أسباب جديرة باستلفات النظر . فالحسين لا يقبل الخلافة ، ما دام أخوه الحسن أمامه . ذلك أن الوصية الشرعية لأخيه من قبله .
وكان من المفروض أن يستجيب الإمام الحسين (ع) للبيعة فيما لو لم يكن حائل شرعي .
ولما عادوا للإمام الحسن (ع) كان من الضروري أن يستجيب لاكتمال النصرة . بايعهم الإمام الحسن (ع) وقلبه زاهد فيهم ، لولا حرصه على مستقبل الأمة .
كان أصحابه مصرين على قتال أهل الشام . فهم يريدون إماما يسير على هواهم وهذا ما جعل الإمام الحسن (ع) لا يغامر بعيدا .
والجيش العراقي الذي كان يتكئ عليه الإمام الحسن (ع) لم يكن منسجما

(203) نفس المصدر .
لقد شيعني الحسين (ع) 270

كما قلنا ، ولا خالصا من المندسين والانتهازيين . فهناك قسم من الخوارج لا يزال يتربص بمعاوية ، ليس له هدف غير ذلك ، بعد أن قتل الإمام علي (ع) وهنالك الرعاع الذين فهموا الإسلام بوعي الصحراء وهناك القلة القليلة من الصحابة الشيعة الذين عانوا مع الإمام الحسن (ع) نفس الأزمات .
وما أن شرع الإمام الحسن في ممارسة دوره كإمام ، حتى بدأت تحرشات الأمويين تتحرك ضده من كل الأطراف . وقام معاوية بتطويق الخلافة الحسنية ، بسلوك أنماط من الأساليب الديماغوجية وكذا الدعائية . فبثوا عيونهم بالبصرة والكوفة وباقي البلدان التي انقادت لإمامة الحسن ونشروا عناصرهم وعمالهم الجواسيس لنشر البلبلة ، وخلط الأوراق ، وتجميع المعلومات . وكان الرجلان اللذان بعثهما معاوية هما : رجل من حمير بعثه إلى الكوفة ، والآخر من بني القين بعثه إلى البصرة ، وما أن وصلا إلى البلدين ، حتى انتشر أمرهما وألقي القبض عليهما . وقدم الحميري إلى الإمام الحسن فقضى بقتله . وقدم القيني إلى عبد الله بن عباس ، وكان عاملا للإمام على البصرة ، فقتله كانت هنالك إذا ، تحرشات بين الحسن ومعاوية . ومناوشات قد تسفر عن معركة حقيقة . ولذلك كتب الإمام الحسن إلى معاوية كتابا ، يحذره فيه من مغبة مغامراته وينذره من خطرالمواجهة قائلا : أما بعد : فإنك دسست إلى الرجال ، كأنك تحب اللقاء ، لا شك في ذلك فتوقعه إن شاء الله ، وبلغني إنك شمت بما لم يشمت به ذوو الحجى وإنما مثلك في ذلك كما قال الأول :
فأنـا ومن قد مـات منا لكـالذي يروح فيمسي في المبيت ليغتدي
فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى تجهز لأخرى مثلهـا فكـأن قد

وحاول معاوية أن يجيبه بنفس منضبطة تصنع فيها الهدوء وسعة الصدر ، يريد من خلالها استمالة الإمام الحسن ، فهو لا يزال يضرب له حسابا ، لأنه بقية أبيه ووارث بصيرته وشجاعته فقال له :
أما بعد : فقد وصل كتابك وفهمت ما ذكرت فيه ، ولقد علمت بما حدث ، فلم أفرح ، ولم أحزن ، ولم أشمت ، ولم آس وإن عليا أباك لكما قال أعشى بني

لقد شيعني الحسين (ع) 271

قيس بن ثعلبة :
فـأنت الجـواد وأنت الـذي إذا ما القلـوب ملآن الصدورا
جديـر بطعنـة يـوم اللقـا يضرب منها النسـاء النحورا
و ما مزبد مـن خليج البحار يعلو الآكـام ويعلـو الجسورا
بأجـود مـنـه بمـا عنـده فيعطي الآلوف ويعطي البدورا

ثم يذكر صاحب الأغاني وشرح النهج ، إن ابن عباس بعث بكتاب إلى معاوية ، يحذره من الأعمال التي يقوم بها وبث الجواسيس في البصرة :
أما بعد : فإنك ودسك أخا بني القين إلى البصرة تلتمس من غفلات قريش بمثل ما ظفرت به من يماينتك لكما قال أمية بن أبي الصلت :
لعمرك إني والخزاعي طارقا كنعجة غـادت حتفهـا تتحفر
أثـارت عليها شفرة بكراعها فظلت بها من آخر الليل تنحر
شمت بقوم هم صديقك أهلكوا أصابهم يـوم من الدهر أعسر

غير أن معاوية كان يروم إلى بث الانكسار والتهدئة في صفوف الإمام الحسن . فراح يسبك أجوبته بشكل منسجم . قائلا في رده على رسالة ابن عباس :
أما بعد : فإن الحسن كتب إلينا بنحو الذي كتبت به ، أنبني بما لم يحقق سوء ظن ورأي في ، وإنك لم تصب مثلي ومثلكم ، وإنما مثلنا كما قال طارق الخزاعي يجيب أمية :
والله ما أدري (وإني لصادق) إلى أي من يتظنني أتعذر
أعنف إن كانت زبينة أهلكت ونال بني لحيان شرفا نفروا

أدرك ابن عباس ، أن معاوية ، صاحب خدعة ومكيدة . وأن الحرب عليه ،

لقد شيعني الحسين (ع) 272

ضرورة تقتضيها طبيعة المرحلة . وكان الإمام الحسن (ع) مصمما على منازلته ، وموطنا عزيمته على إستكمال مسيرة التطهير . تطهير الأمة من الجرثومة الأموية . غير أنه كان يضرب حسابات الواقع إذ ليس معه الجيش الحقيقي القادر على تنفيذ هذا الهدف إلى آخر أشواط الكفاح . فالجيش متضارب العزائم ، ومتباين الأهواء ، ومنكسر في الداخل .
فبعث له ابن عباس رسالة جاء فيها : -
(أما بعد : فإن المسلمين ولوك أمرهم بعد علي (ع) فشمر للحرب وجاهد عدوك وقارب أصحابك ، واشنر من الظنين دينه بما لا يثلم لك دنياه . ولا تخرجن من حق أنت أولى به حتى يحول الموت دون ذلك والسلام) (204) .

(204) ابن أبي الحديد : شرح النهج ، رسائل جمهرة العرب .
لقد شيعني الحسين (ع) 273

الإمام الحسن والواقع الصعب

نحن نريد فهم الأحداث في مجملها ، لا القعود في سرد تفاصيلها الدقيقة ، بما ينافي فلسفة التاريخ . ولكي نفهم الأسباب التي فرضت الصلح على الإمام الحسن ، لا بد من إجراء جرد وتحقيق في الشروط التاريخية التي توافرت للإمام الحسن (ع) هذا الإمام الذي أظهره التاريخ (الفولكلوري) كرجل مسالم ، يهوى الراحة ، ويتقي الشدائد لقد رأينا كيف أن الإمام الحسن (ع) كان تواقا لردم الواقع على بني أمية ، لو توفرت له الشروط الضرورية . غير أن محترفي التاريخ السطحي ، يرون عكس ذلك . يقول (روايت م رونلدس) : (فإن الأخبار تدل على أن الحسن كانت تنقصه القوة المعنوية والقابلية العقلية لقيادة شعبه بنجاح) (205) .
ويذكر (فيليب حتى) في (تاريخ العرب) إن الحسن كان أميل إلى البذخ والترف منه إلى الحكم والإدارة . ولعل هذا التصور الساذج المبني على الوعي بالقشور ، ونقل الأخبار من دون الحفر فيها . هو الذي يترك كثيرا من المؤرخين عربا ومستشرقين ، يقعون في مثل هذه المآزق . ولشد ما ظلم هذا الإمام . فلا أبوه امتدحوه لما قام بقتل رؤرس النفاق ولا ابنه عذروه لما قبل الصلح وهو له كاره .

(205) عقيدة الشيعة .
لقد شيعني الحسين (ع) 274

ولكي نبين (لروايت) وأمثاله من المستشرقين بأنهم ليسوا سوى نقله ميكانيكين للمعلومات التاريخية الرسمية . وبأن (فيليب حتى) هو أقل من (حتى) في تقدير الإمام الحسن (ع) لا بد أن نقف على خلفيات الصلح وملابساته .
كيف يتوقع أهل الغباء التاريخي ، أن يقوم الإمام الحسن (ع) ويغامر بالحرب بجيش منهار . فالحرب مع معاوية . هي حرب مع نفوذ أوسع من نفوذ الحسن (ع) وهي حرب مع الدنيا كل (الدنيا) بأيديولوجيتها القبلية والاقتصادية . لقد دخل الدين المحض مع الدنيا المحضة في صراع الاستحقاق .
الجيش العراقي كما سبق ذكره كان يعاني الأزمات الآتية :
1 - حدث اغتيال الإمام ، ترك آثاره السلبية في نفوس الأغلبية ، لأن ذلك الحدث قد تحول بفعل التشكيك الأموي ، إلى هزيمة في جيش العراق . أي بمثابة انهيار نفسي . مقابل معنويات الشاميين . فكان الإمام الحسن حائرا بين قلة معدودة من المتحمسين ، وهنالك من كان على غير يقين في اختياره . مثل عبيد الله بن عباس .
2 - وجود اليأس في صفوف الجيش العراقي ، مضافا إليه التكثيف المضاعف للإعلام المضلل الأموي ، أوجد حالة التدابر والانشطار في المواقف ، كما استطاع الإعلام أن يستميل بعض عناصر هذا الجيش إلى الصف الأموي . كان الإمام الحسن (ع) قد جعل عبيد الله بن عباس على رأس الجيش الذي جهزه لقتال معاوية وأهل الشام . وعندما انطلق معاوية بجيش إلى جسر (منبج) انتشر الذعر في العراقيين ، ووصلت قلوبهم الحناجر ، فكان لا بد للإمام الحسن (ع) أن يزرع الأمل في نفوسهم ، ويعيد إليهم العزيمة في القتال فقال : (أما بعد : فإن الله كتب الجهاد على خلقه وسماه كرها ، ثم قال لأهل الجهاد : اصبروا إن الله مع الصابرين ، فلستم أيها الناس نائلين ما تحبون إلا بالصبر على ما تكرهون ، إنه بلغني أن معاوية بلغه أن كنا أزمعنا على المسير إليه فتحرك لذلك ، اخرجوا رحمكم الله إلى معسكركم في النخيل حتى ننظر وتنظرون ، ونرى وترون) (206) ولم يجد

لقد شيعني الحسين (ع) 275

الإمام الحسن (ع) بعد إتمامه خطبته ، استجابة جماهيرية من العراقيين . لقد ظهر منهم الفزع واليأس . الحالة التي يصورها (عدي بن حاتم) وكان من رموز الجيش الحسني قائلا :
(أنا عدي بن حاتم ، سبحان الله ما أقبح هذا المقام!!! ألا تجيبون إمامكم ، وابن بنت نبيكم؟ أين خطباء المصر الذين ألسنتهم كالمخاريق في الدعة ، فإذا جد الجد راوغوا كالثعالب ، أما تخافون مقت الله ، ولاعيبها وعارها) ثم دعا القوم :
وهذا وجهي إلى معسكرنا ، فمن أحب أن يوافي فليواف (فركب دابته وانطلق وحيدا وعسكر في النخيل) (207) .
ولما رأى ذلك قيس بن سعد بن عبادة ، وزياد بن صعصعه التميمي ومعقل بن قيس الرياحي وكان ممن أدرك النبي صلى الله عليه وآله قاموا يلومون أصحابهم على عدم استجابتهم لأمر الجهاد ، وعلى تخاذلهم في نصرة الإمام الحسن (ع) فأثنى عليهم . فانطلق الإمام بجيشه يريد القتال ، وكان قد أعطى القيادة العامة .
لعبيد الله بن العباس . ورشح للقيادة من بعد عبيد الله كل من قيس بن سعد .
وسعيد بن قيس وكان عدد الجيش ، أربعين ألفا حسب الطبري ، وذكر ابن أبي الحديد إنه (اثنى عشر الفا) (208) وعلى أية حال ، فإن هذه الإحصائيات تدل على أن جيش الإمام جرارا عرمرما . بيد أنه ضعيف البنيان ، متهاك الروح ، متضارب الأهواء . ينصرك اليوم ويخذلك غدا ، ليس له قرار . وذكر ابن الأثير ، إن أربعين ألفا من جيش العراق كان قد بايع الإمام الحسن (ع) على الموت . وهذا ما دعا الإمام أن ينطلق من الكوفة لرد العدوان الأموي . والملاحظ من خلال الاستعدادات التي أبداها الحسن (ع) للحرب ، والتدابير التي اتخذها ، لسحق

(206) شرح النهج لابن أبي الحديد .
(207) نفس المصدر .
(208) اختلفوا في تحديد جيش الحسن (ع) ذكر ابن قتيبة : مائة ألف ، واليعقوبي : تسعين ألف ، أما في البداية والنهاية : فسبعون ألف .
لقد شيعني الحسين (ع) 276

الجيش الأموي ، والإصرار على تجهيز الجيش . لم يكن يختلف عن سيرة أبيه .
فالقضية واحدة ، والروح العلوية واحدة ، ولكن الظروف تغيرت ، وبتغيرها تختلف المواقف . فقد كان الإمام الحسين (ع) الذي فجر أكبر ثورة في التاريخ ، سامعا مطيعا في عهد أخيه ، ولم ينبس ببنت شفة . لقد علم أن الظرف ليس ظرف قتال .
هذا الجيش بهذه المواصفات . لم يكن مؤهلا للقيام بالدور الرسالي الحقيقي .
ومهيأ للأنهيار في كل لحظة . وأدرك معاوية نقطة الضعف هذه في جيش الإمام الحسن (ع) واستغلها لصالح نفوذه فراح يبث الإشاعات في صفوف الجيش ويبعث لهم الرسائل الميئسة ويغري بعضهم البعض الآخر . ولم يستخدم طريقة واحدة في التعامل مع عناصر الجيش العراقي ، بل سلك كل تلكم السبل ، لأنه يعرف مدى التنوع في أهواء ذلك الجيش فطورا بالترهيب وطورا بالترغيب .
وبث داخل الجيش مجموعة دعايات ، مثل (إن الحسن يكاتب معاوية على الصلح فلم تقتلون أنفسكم) (209) وبعث إلى عبيد الله بن عباس رسالة استطاع استمالته بها :
(إن الحسن قد راسلني في الصلح ، وهو مسلم الأمر إلي فإن دخلت في طاعتي الآن كنت متبوعا ، وإلا دخلت وأنت تابع ، ولك إن أجبتني الآن أن أعطيك ألف ألف درهم ، أعجل لك في هذا الوقت نصفها ، وإذا دخلت الكوفة النصف الآخر) (210) .
واستطاع معاوية أن يضم إليه عبيد الله بن عباس بهذه الكلمة . وخان هذا الأخير إمامه الحسن . وكان هو المحرض الأول لقتال معاوية . فهي حالة كان يدركها الإمام الحسن ، وأدركها معاوية ، لذلك عزف له على وتر الاغراء والرشا . ورأينا كيف أن الجيش العراقي لم يعزم على الخروج إلا للوم هؤلاء

(209) ابن أبي الحديد .
(210) ابن أبي الحديد .
لقد شيعني الحسين (ع) 277

القوم . فهو مستعد للتراجع حيثما ظهر له مبرر ذلك . وأي مبرر أعظم من انكسار القيادة العليا للجيش . فعبيد الله بن عباس الذي خان الإمام الحسن (ع) ، كان يملك قابلية الرشوة والإغراء . فحرب مع الحسن ، قد تطول ، وأفضل له من ذلك دنيا قريبة واستكانة مضمونة . فراح يدبر عملية خيانة داخل الجيش ، فاستجاب له قطيع من الرعاع فانطلقوا إلى معاوية ، ويذكر اليعقوبي ، إن عبيد الله بن عباس تسلل في غلس الليل ومعه ثمانية آلاف من الجيش ، وكانوا كلهم من أهل الأطماع ، فترك هذا الحدث أثرا سلبيا في باقي الجيش ، وكل عارف بقضايا الحروب ، وكل عالم بطبيعة الجيوش ، يدرك مدى ما يمكن أن تخلفه عملية انشقاق مثل تلك ، أو خيانة قيادة عليا ، خصوصا أن القيادة العليا لم تكن اعتباطية ، فعبيد الله وال على اليمن ، وواحد من أتباع الإمام علي (ع) وقد قتل بسر بن أرطأة ولديه . فتراجع هكذا رجال جدير أن يترك أثره على جيش منهار ومختلف الطباع والأهواء ، فانتشر الاضطراب في هذا الجيش وكادت عراه أن تنكسر ، لولا أن بادر إلى إحكامها ، واحد من خلص شيعة الإمام الحسن ، وهو قيس بن سعد ، ابن واحد من أكبر رموز المعارضة في (السقيفة) .
فقد عرف أن سبب اضطراب الجيش ، كان بسبب ما تركته خيانة عبيد الله بن عباس ، فقام خطيبا فيهم ، يكشف لهم عن حقيقة الأوصاف التي يعرفونها عنه ، حيث تبين أمره وأميط اللثام عن حقيقته ، فقال :
(إن هذا وأباه وأخاه لم يأتوا بيوم خير قط ، إن أباه عم رسول الله (ص) خرج يقاتله ببدر فأسره أبو اليسر كعب بن عمرو الأنصاري فآتى به رسول الله صلى الله عليه وآله فأخذ فداءه ، فقسمه بين المسلمين وإن أخاه ولاه علي على البصرة فسرق ماله ومال المسلمين فاشترى به الجواري ، وزعم أن ذلك له حلال ، وأن هذا ولاه علي على اليمن فهرب من بسر بن أبي أرطأة ، وترك ولده حتى قتلوا ، وصنع الآن هذا الذي صنع (211) . وسرعان ما أعادت هذه الكلمة ، التوازن إلى الجيش ، وأدركوا أن الخيانة كان طبيعية من عبيد الله بن العباس ، وما برحوا أن

(211) مقاتل الطالبين .

السابق السابق الفهرس التالي التالي