لقد شيعني الحسين (ع) 211

إن كان هذا المال من بيت مال المسلمين ما قدر عملي إن أعطى ثلثمائة ألف ، ولئن كان من مال عثمان ما أحب أن أرزأه من ماله شيئا . وما في هذه الأمور أوضح من أن يشار إليه وينبه عليه .
هذه باختصار هي السياسة المالية غير المتوازية التي كان يسلكها عثمان . ففئة يرى تفقيرها بمنع العطاء عنها ، وفئة أخرى يرى إغراءها بالأموال . أما أقرباؤه فقد أثبت ملكهم ، بأن وسع عليهم توسيعا .
كانت هذه السياسة في مجملها كالسحر إذ ينقلب على الساحر . وكان على بني أمية أن ينقضوا على الحكم كله . فعثمان رجل مهما كان فهو أضعف في رأي الأمويين من معاوية . وسياسة معاوية تقضي بتقتيل المعارضة ، وهذا ما رفضه عثمان لأسباب معينة .
كان موقف معاوية أن يقتل المعارضين ، فأبى عثمان ذلك ، خوفا من استفحال الأزمة . وطلب منه معاوية أن يصطحبه إلى الشام ، حيث يدافع عنه برجاله .
فأبى عثمان .
قال معاوية لعثمان غداة ودعه :
(يا أمير المؤمنين ، انطلق معي إلى الشام قبل أن يهجم عليك من لا قبل لك به ، فإن أهل الشام على الأمر ، لم يزولوا) .
فرفض عثمان .
فطلب منه أن يبعث إليه جندا منهم يقيمون بين ظهراني أهل المدينة لنائبة إن نابت . فرفض عثمان .
قال له معاوية (والله يا أمير المؤمنين لتقاتلن ، ولتغزين) .
فقال معاوية : (يا أيسار الجزور ، وأين أيسار الجزور! ثم خرج (135) .
عرف معاوية أن الأمر يسير هذه الوجهة . فعليه أن يقوي جيشه ليستعد

(135) تجارب الأمم ، وكذا الطبري وفي لفظ هذا الأخير : لتغتالن ، ولتغزين .
لقد شيعني الحسين (ع) 212

للمستقبل القريب . لقد عز عليه أن يرى ابن قرابته تتوزعه سيوف القوم . غير أن الملك عقيم . وهو أغلى . وحيث إن الأمر لا محالة كذلك ، فإن معاوية سيجمع بين الأمرين . أن يترك الأمر إلى ما بعد قتل عثمان ، ليضرب العصفورين بحجر .
ليركب (الانتقام) لعثمان من أجل الاستيلاء على الحكم .

لقد شيعني الحسين (ع) 213

مقتل عثمان . . الأسباب والملابسات

ما يحاول أن يكرسه مؤرخة البلاط ، هو أن عثمان قتل من قبل خوارج الأمة .
وأن عصابة من السبائية ، كاتبت أهل الأمصار للمجئ إلى المدينة حتى ينظروا في ما يريدون .
فماذا عسانا أن نقول؟ أبعد كل ما جرى يكون عثمان مظلوما؟ وهل إذا لم يكن التوزيع الطبقي والعشائري لمال المسلمين ، حمل بني أمية على رقاب المسلمين ، ظلما ، فكيف ، ترى يكون الظلم؟ كيف ، كيف؟؟! .
الواقع إن (عثمان) قتل في ثورة شعبية عارمة . سببها الفساد الذي بدأ يتهدد المجتمع ووصل في فترة عثمان إلى قمة هرمه . والذين شاركوا في قتل عثمان ، ليسوا على كل حالة زنادقة .
ولم يكونوا مجهولين حتى يقال عنهم (مجوسيون) أو (خارجيون) بل كانوا كثيرين إلى درجة يستحيل فيها تجاهلهم . ومن بين أولئك الذين أقاموا الحد الثوري على عثمان ابن أبي بكر ، الذي تحول فيما بعد إلى أقرب الناس للإمام علي (ع) وفيهم طلحة والزبير وفيهم محمد بن أبي حذيفة وغيرهم من الصحابة .
إنه ليس في وسع الباحث إلا أن يعترف بهذه الحقيقة من دون التواء . وقد اعترف بها جميعهم . يقول سيد قطب :
(وأخيرا ثارت الثائرة على عثمان ، واختلط فيها الحق بالباطل ، والخير

لقد شيعني الحسين (ع) 214

بالشر ، ولكن لا بد لمن ينظر إلى الأمور بعين الإسلام ، ويستشعر الأمور بروح الإسلام ، أن يقرر أن تلك الثورة في عمومها كانت فورة من روح الإسلام :
وذلك دون إغفال لما كان وراءها من كيد اليهودي ابن سبأ عليه لعنة الله! (136) .
الله! الله! يا سيد ما عهدنا عليه هذه السذاجة . إنه مع اعترافه بحقيقة الأوضاع لا يزال متشبثا بأيديولوجية (عبد الله بن سبأ) ، وكيف لا يتشبث بها وهو يأخذ كل مسلمات التاريخ الإسلامي المصطنع . إنه يعترف أن الثورة كانت فورة من روح الإسلام . إنه اعترف أيضا رحمه الله - : (مضى عثمان إلى رحمة ربه ، وقد خلف الدولة الأموية قائمة بالفعل بفضل ما مكن لها في الأرض ، وبخاصة في الشام ، وبفضل ما مكن للمبادئ الأموية المجافية لروح الإسلام ، من إقامة الملك الوراثي والاستئثار بالمغانم والأموال والمنافع مما أحدث خلخة في الروح الإسلامي العام) .
لا بد إذا من استحضار مجريات الثورة ، وملابسات المقتل ، ومن قتل وكيف ولماذا؟ .
إن استحضار المشهد بكليته حري بأن يعطينا فكرة واضحة عن حقيقة الحدث ، ذلك الحدث الذي ظل يعرض علينا مجردا من ملابساته ، وتحت غمام كثيف من التلفيق والبكاء الأيديولوجي المصحوب بتزييفات ومبررات مشؤومة .
ولكي نكون شجعانا في قراءة التاريخ ، والإخلاص للحق والمعرفة لا بد أن ندخل الحدث من باب التاريخ لا من باب الترجمات الأسطورية .
كان أصل الثورة وجوهرها ، تغييريا إصلاحيا . بيد أن ركوب الفئات المشبوهة موجة الغضب الجماهيري في الانتقام لمشاريعها الخاصة كان موجودا وسنبدأ بهذه الفئات المشبوهة .
كان عمرو بن العاص ، رائد الاتجاه الانتهازي ، الذي يتحدد ولاءه بالمصلحة . عمرو بن العاص ، ليس من الذين أسلموا طوعا . وقد كان حريصا

(136) سيد قطب العدالة الاجتماعية في الإسلام / ص 161 / دار الشروق ، الطبعة الثامنة .
لقد شيعني الحسين (ع) 215

على محو أثر الإسلام . غير أنه لم يوفق . وهو واحد من الذين ساروا إلى النجاشي بالحبشة ، لتأليبه على المهاجرين بقيادة (جعفر بن أبي طالب - رض -) . ظل عمرو حليفا لبني أمية ، بينهما مصالح قوضوا في سبيلها روح الإسلام . وفي زمن عثمان ، كان عمرو يمارس دهاءه بشكل دقيق . كان في نهاية الأمر يدرك أن عثمان مهزوز السلطان وأن الثورة ستنشب لا محالة . فكان في كل مرة ، يظهر للناس مواقفه (الخادعة) ، ليموه عليهم ، ثم يبرر ذلك لعثمان ليحافظ على مكانته عنده ، قال مرة لعثمان :
(إتق الله يا عثمان! فإنك قد ركبت نهابير وركبناها معك ، فتب إلى الله نتب معك) فناداه عثمان : (وإنك هناك يا ابن النابغة قملت جبتك منذ عزلتك عن العمل . ) فنودي من ناحية أخرى : (أظهر التوبة يا عثمان يكف الناس عنك) .
ونودي من ناحية أخرى بمثل ذلك) (137) .
غير أن عمرو بن العاص ، كان حريصا على علاقته بعثمان . ولما تفرق القوم قال له :
(لا والله يا أمير المؤمنين ، لأنت أعز علي من ذلك ، ولكن قد علمت أن الناس قد علموا أنك جمعتنا لتستشيرنا ، وسيبلغهم قول كل رجل منا . فأردت أن يبلغهم قولي فيثقوا بي لأقود إليك خيرا ، وأدفع عنك شرا) (138) .
وبهذه الازدواجية بقي حتى مقتل عثمان ، حين جاء يتوسط لعثمان مع الثوار ، فنهروه ، واتهموه ، فول خائبا . وعندما قتل عثمان ، ولم تعد المصلحة لعمرو بن العاص في أن يتمسك بشرعية عثمان . خرج إلى منزله بفلسطين ، وكان يقول :
والله إني كنت لألقى الراعي فأحرضه على عثمان . . ولما مر به راكب من المدينة وهو مع ابنيه محمد وعبد الله وسلامة بن روح الجذامي فسأله عمرو عن

(137) مسكويه - تجارب الأمم 384 - ج 8 .
(138) نفس المصدر .
لقد شيعني الحسين (ع) 216

عثمان ، فقال : هو محصور . قال عمرو : أنا أبو عبد الله ، قد يضرط العير والمكواة في النار (139) .
كذلك كان عمرو بن العاص ، تحركه المصلحة ، وتملي عليه في الاختيارات الانتهازية . تحرك ضد عثمان لما عزله ، ولم يوسع عليه في الإمارة مثل ما فعل بمعاوية . وهو لا يهمه أن تتقوى عشيرة بني عبد مناف . فهو أصلا لم يحص له التاريخ نسبا يفتخر به ، وقد عرف بابن النابغة ، لأنه وليد نمط معين من الزنا كان معروفا لدى الجاهليين (140) ، فهو ليس ابن الفراش ، لذا فإن ظروفه النفسية والاجتماعية مهيأة لسلوك هذا النوع من الاختيارات المزدوجة . فكان الدافع الاقتصادي والعشائري ، إحدى محفزاته ضد عثمان . وكان بإمكان معاوية أن يذود عن عثمان ويمنع عنه الثوار ولو بالقمع . وكانت أمامه مندوحة للتعجيل بالقدوم ، لنصرة عثمان بجيش الشام . غير أن معاوية أبى إلا أن يمارس دهاءه البطئ والهادئ . إنه لا يريد لعثمان أن يقتل ولكنه في سبيل الملك قد يفعل .
وكان قد كتب إليه عثمان أن يعجل في المجئ إليه ، فتوجه إليه في اثني عشر ألفا ، ثم قال : كونوا بمكانكم في أوائل الشام ، حتى آتي أمير المؤمنين لأعرف صحة أمره ، فأتى عثمان ، فسأله عن المدة ، فقال : قد قدمت لأعرف رأيك وأعود إليهم فأجيئك بهم . قال : لا والله ، ولكنك أردت أن أقتل فتقول : أنا ولي الثأر .
إرجع ، فجئني بالناس! فرجع ، فلم يعد إليه حتى قتل (141) .
كانت هناك شريحة في داخل جهاز السلطة العثماني ، تريد أن تركب موجة التغيير ، لتغير مجراها إلى قصيتها . ورموز هذا التيار ، هما (معاوية بن أبي سفيان) و (عمرو بن العاص) . ذلك إن معاوية وبحكم النفوذ الواسع الذي اكتسبه في بلاد الشام ، حيث أصبح واسع الإمارة ، لما انضافت إليه إمارة فلسطين

(139) التاريخ الكامل لابن الأثير / ج 3 ص 163 .
(140) هو أن يدخل مجموعة من الرجال على امرأة يطؤونها ، فإذا حملت ، تختار واحدا منهم ، وتشير إليه ، فيلحق به الولد .
(141) تاريخ اليعقوبي / ج 3 / ص 175 .
لقد شيعني الحسين (ع) 217

وحمص . أجل ، كان معاوية يطمع في الملك بعد عثمان ، وحريصا على هذا الأمر .
يذكر ابن الأثير في الكامل ، إنه لما نفر عثمان وشخص معاوية والأمراء معه واستقل على الطريق رمز به الحادي فقال :
قد علمت ضوامر المطي وضمرات عـوج القسي
إن الأميـر بعـده علـي وفي الزبير خلف رضي
وطلحة الحامي لها ولي

وكان كعب على عادته في النبوءات السياسية ، يكذبه ويقول :
كذبت بل يلي بعده صاحب البغلة الشهباء ، يعني معاوية ، فطمع فيها من يومئذ . والحقيقة ، إن معاوية يطمع فيها منذ ولاها الخليفتان . وهو رمز الأمويين بعد أبيه أبي سفيان . وهو مخطط قديم يمد جذوره إلى البعثة كما تقدم . فالقوم لا ناقة لهم ولا جمل في قضية الإسلام الرسالية ، بقدر ما لهم مصلحة في ملك العالم الإسلامي . إنهم قد يملكون العرب لو أظهروا نعرتهم القومية ، ولكن كيف يتسنى لهم حكم الأمصار . وما كان لأبناء أمية أن يحكموا عالما بهذه السعة لولا شوكة الإسلام . فالمخطط أدق مما تصور القشريون .
استطاع الصحابة أن يتصلوا بأهل الأمصار ليخبروهم بما يجري من مفاسد الداخل ، واستفحل أمر عثمان ، وذاعت أخبارهم في البلدان . وفي مصر كان محمد بن أبي بكر وكذا محمد بن أبي حذيفة ، يقومان بتحريض الناس على عثمان ، ويذكر ابن الأثير إن عثمان بعث إلى الأمصار برجال من عنده ليهدئوا الأوضاع ، فبعث إلى الكوفة محمد بن مسلمة ، وإلى البصرة ، أسامة بن زيد وابن عمر إلى الشام وعمارا إلى مصر . فرجع الجميع إلا عمار . فظنوا أنه قد قتل ، حتى وصل كتاب عبد الله بن أبي سرح يخبرهم إن عمارا قد استماله قوم وانقطعوا إليه ، منهم :
عبد الله بن السوداء ، وخالد بن ملجم ، وسودان بن حمران ، وكنافة بن بشر .
والواقع إن محمد بن أبي بكر ومحمد بن أبي حذيفة هما اللذان أججا الأوضاع وانضم إليهما عمار بن ياسر الذي كان من قبل أحد المتمردين على خط الرأي . ثم اجتمعت كلمة المسلمين في الداخل والخارج ، واجتمع رأي الأمصار على إرسال

لقد شيعني الحسين (ع) 218

الوفود تحت غطاء (الحج) . وكانت الوفود تتألف من ثلاث أمصار :
1 - الوفد المصري يتألف من خمسمائة إلى - ألف (142) يتزعمهم محمد بن أبي بكر - رض ، وفيهم عبد الرحمن بن عديس البلوي ، وكنانة بن بشر الليثي وسودان بن حمران السكوني وقتيرة بن فلان السكوني . وكان محمد بن أبي بكر قد خرج وبقي محمد بن أبي حذيفة في مصر وغلب عليها لما ذهب عنها عبد الله بن سعد .
2 - الوفد الكوفي ، يتألف من عدد أهل مصر ، على رأسهم مالك الأشتر (رض) وفيهم زيد بن صوحان العبدي والأشتر النخعي وزياد بن النضر الحارثي وعبد الله بن الأصم العامري .
3 - الوفد البصري ، ويتألف من نفس عدد أهل مصر عليهم حكيم بن جبله العبدي ، وذريع بن عباد وبشر بن شريح القيسي وابن المحترش ، ويذكر ابن الأثير ، أن أميرهم كان هو حوقوص بن زهير السعدي .
وكان خروجهم بشوال جميعا .
ورفع الوفد المصري (مذكرته) لعثمان حيث جاء فيها :
(أما بعد : فاعلم أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، فالله ، الله ، ثم الله ، الله ، فإنك على دنيا فاستقم معها آخرة ، ولا تنس نصيبك من الآخرة ، فلا تسوغ لك الدنيا ، واعلم إنا لله ولله نغضب ، وفي الله نرضى ، وإنا لن نضع سيوفنا عن عواتقنا حتى تأتينا منك توبة مصرحة ، أو ضلالة مجلحة مبلجة فهذه مقالتنا لك ، وقضيتنا إليك والله عذيرنا منك والسلام . . ) (143) وكان عمرو بن العاص أراد أن يكلم القوم لما دعاه إلى ذلك عثمان فصاح القوم في

(142) ابن الأثير / التاريخ الكامل / ج 3 / ص 158 .
(143) تاريخ الطبري 5 / 111 - 112 .
لقد شيعني الحسين (ع) 219

وجهه : (إرجع يا عدو الله) . (إرجع يا بن النابغة ، لست عندنا بأمين ولا مأمون) .
ولما رأى عثمان أنه محاصر ، ومطلوب لا محالة ، عاهدهم على تنفيذ كتاب الله وسنة نبيه ، وأن يعدل بين المسلمين ، ويغير عماله ويعزلهم ، وبأن يرد المنفي ولا يجمر في البعوث وأن علي بن أبي طالب ضمين للمؤمنين والمسلمين . وحيث إن جماعة من المهاجرين والأنصار تبلغ ثلاثين رجلا تحت قيادة علي (ع) راحوا إلى المصريين يتوسطون ، ويطلبون من المصريين الرجوع ويذكر ابن الأثير ، إن عثمان جاء قبل ذلك إلى علي يطلبه النصرة وبأن يرد القوم عنه ، فقال له الإمام علي (ع) : على أي شئ أردهم عنك؟ قال على أن يصير إلى ما أشرت إليه ورأيته لي .
فقال علي : إني قد كلمتك مرة بعد أخرى فكل ذلك نخرج ونقول ثم ترجع عنه ، وهذا من فعل مروان وابن عامر ومعاوية وعبد الله بن سعد ، فإنك أطعتهم وعصيتني . قال عثمان : فأنا أعصيهم وأطيعك . وفعلا تم رد المصريين استجابة لطلب الإمام علي (ع) فرجعوا .
إن الإمامة أو الخلافة قانون يحكم مجتمع الإسلام . ومهما ضعف عثمان عن تحمل هذا العبء فإنه لن يعذر أمام القانون ، لأنه كم قد يفسد المجتمع لو أننا أعذرنا من يضعف أو يجهل القانون . وما كان عثمان سوى واجهة ، ومطية للزمرة المشبوهة من بني أمية ، يركبونها ، وهو مرتاح لذلك ، ويعز عليه أن يرضي الأمة بالعدل ، على إغضاب أقربائه على الباطل .
كان مما اتفق عليه بين عثمان والمصريين هو عزل والي مصر ، وجعل محمد بن أبي بكر . فأقرهم على ذلك ، فرجعوا . وما أن ساروا قليلا ، إذا براكب جمل ، أرابهم أمره ، ففتشوه فإذا به يحمل صحيفة من عثمان إلى خليفته عبد الله بن سعد :
إذا قدم عليك النفر ، فاقطع أيديهم وأرجلهم . . وبأن يقتل محمد بن أبي

لقد شيعني الحسين (ع) 220

بكر . فرجع الوفد إلى المدينة مجددا (144) .
وما أن رجع أهل مصر إلى عثمان وحاصروه ، حتى تمخض القوم مرة أخرى على عثمان ، واستنكف الجميع عن التوسط له عند الثوار لما رأوا ما رأوا . إلا أقرباؤه وحاشيته .
وذهب مروان إلى عائشة ، فقال : يا أم المؤمنين! لو قمت فأصلحت بين هذا الرجل وبين الناس؟ قالت : قد فرغت من جهازي ، وأنا أريد الحج . قال :
فيدفع إليك بكل درهم أنفقته درهمين ، قالت : لعلك ترى أني في شك من صاحبك؟ أما والله لو وددت أنه مقطع بغرارة من غرائري ، وأني أطيق حمله ، فأطرحه في البحر (145) والمعروف عن عائشة إنها كانت أكثر تحريضا على عثمان وهي صاحبة كلمة : (اقتلوا نعثلا فقد كفر)! .
وثقل على الإمام علي (ع) أن يستمر في التوسط إليه مع القوم . ذلك لأن الإمام عليا (ع) يدرك أن عثمان هو المسؤول عن مقتله بسبب عصيانه مشورة كبار الصحابة ، واقتصاره على الطلقاء .
كان (ع) يدرك أن الجماهير المسلمة غاضبة في الله ، وتطلب تحكيم شرعه في قضية الحكم . وأقبل علي (ع) على عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث فقال :
أحضرت خطبة عثمان؟ قال : نعم : أفحضرت مقالة مروان للناس؟ قال نعم فقال علي (ع) : أي عباد الله! يا للمسلمين! إني إن قعدت في بيتي قال لي : تركتني وقرابتي وحقي ، وإني إن تكلمت فجاء ما يريد يلعب به مروان فصار سيفه له يسوقه حيث يشاء بعد كبر السن وصحبة رسول الله صلى الله عليه وآله وقام مغضبا حتى دخل على عثمان فقال له : أما رضيت من مروان ولا رضي منك إلا بتحرفك عن دينك وعن عقلك مثل جمل الضعينة يقاد حيث يسار به؟ والله ما مروان بذي رأي في دينه ولا نفسه! واسم الله إني لأراه يوردك ولا يصدرك! وما أنا عائد بعد

(144) اليعقوبي وابن الأثير في تاريخهما .
(145) نفس المصدر .
لقد شيعني الحسين (ع) 221

مقامي هذا لمعاتبتك ، أذهبت شرفك وغلبت على رأيك (146) ودخلت عليه زوجه نائلة بعد ذلك ، تحذره من مروان ، وتحثه على طاعة الإمام علي (ع) وكانت قد أمرته بأن يرسل إلى علي (ع) ليستصلحه لما له من قرابة وسمعة . فأرسل عثمان إلى علي (ع) فلم يأته وقال : قد أعلمته إني غير عائد . فلما سمع مروان ما قالته نائلة ، قال له : يا ابنة الغرافصة! فقال عثمان : لا تذكرنها بحرف فاسود وجهك ، فهي والله أنصح لي! فكف مروان (147) .
لم يرجع الإمام علي (ع) إلى عثمان ولم يشأ أن يقف إلى جانب رجل ، إنما ثار عليه الناس طلبا للعدالة والإصلاح ، فأبى عليهم ذلك والتوى عليهم . وما بقي للإمام علي (ع) إلا أن يقوم بدوره الإنساني ، وهو أن يبعث بابنيه لحراسة الباب حتى لا يهجم عليه الناس ، فيقطعونه بالشكل الذي لا ينطبق مع حكم الشريعة ، وينافي حقوق الإنسان كما يدركها المعصوم . تماما كما لم يشأ أن يمثل بقتيله هو عبد الله بن ملجم ، وأوصى بالإحسان إليه ما لم يمت فإن مات فيقم عليه الحد الشرعي بلا زيادة ولا نقصان . هذا الانضباط الشرعي وإنسانية الإمام علي (ع) هي التي جعلته يرسل ابنيه إلى باب عثمان من دون أن يدخلوا في صراع مع ثوار الغضب ، الذين أصروا على إسقاط عثمان أو تصفيته .
وحيث إن عثمان نقض الوثيقة وخان العهد مع الوفود ، ولم يرد أيضا أن ينزل عن السلطة لصالح من هو أولى بها . قرر الثوار أن يقتحموا عليه الدار . ولما كان الحسن (ع) عند الباب ، وحتى لا يصيبه أذى من الجماهير رأى الثوار بقيادة محمد بن أبي بكر ، أن يتسلقوا عليه الدار ، لينفذوا فيه الحد الثوري . فاقتحموا الدار من دار عمرو بن حزم . وسرعان ما تدفق عليه الناس ، واكتضت الدار بالثوار ، وانتدبوا من يقتله ، وجرت محاورات بين الثوار وعثمان قبل قتله كلهم يطلبه لترك الخلافة وهو يأبى ذلك . وأي شجاعة هذه التي يملكها عثمان في الاصرار على الخلافة . هلا كان إصراره أيضا في العدل بين أقربائه والمسلمين! .

(146) ابن الأثير في التاريخ .
(147) نفس المصدر .
لقد شيعني الحسين (ع) 222

وكان محمد بن أبي بكر قد دخل على عثمان ، وأخذ بلحيته وقال : قد أخزاك الله يا نعثل! فقال : لست بنعثل ولكني عثمان وأمير المؤمنين . وقال له : ما أغني عنك معاوية وفلان وفلان! وقال له عثمان : يا ابن أخي فما كان أبوك ليقبض عليها . قال محمد : والذي أريد بك أشد من قبضتي عليها ، فطعنه في جبينه بمشقص كان في يده . فضربه الغافقي بحديدة ، ثم جاء سودان ليضربه ، فأكبت عليه زوجته تتقي السيف بيدها . فنفح أصابعها فأطن أصابع يدها وولت .
ووثب عليه كنانة بن بشر التجيبي فقتله .
وهكذا شارك الثوار في قتله ومثلوا به ، ومنعوا دفنه في قبور المسلمين وبقي ثلاثة أيام في مزبلة . وانطلق به جماعة من الناس خفية معهم عائشة بنت عثمان ومعها مصباح ، حتى وصلوا به حشد كوكب ، فحفروا له حفرة ، فلما رأته ابنته صاحت ، فقال ابن الزبير : والله لئن لم تسكتي لأضربن الذي فيه عيناك ، فدفنوه ، ولم يلحدوه بلبن ، وحثوا عليه التراب حثوا (148) .
لم يكن الثوار من الفئة الواحدة . فمنهم المؤمنون حقا . ومنهم من تضرر بالفقر ، والظلم العثماني - ومنهم من جمع بين الإيمان والضرر الاجتماعي .
فكانت ثورة! .
ويذكر ابن الأثير إن من بين القوم من ثار فأخذ ما وجد ، وتنادوا : أدركوا بيت المال ولا تسبقوا إليه ، وأتوا بيت المال فانتهبوه وماج الناس ، وكان هؤلاء هم المتضررين اقتصاديا من سياسة عثمان المالية ، وقد وثب عليه عمرو بن الحمق وكان ولا يزال به رمق ، فطعنه تسع طعنات ، قال : فأما ثلاث منها فإني طعنتهن إياه لله تعالى . وأما ست فلما كان في صدري عليه . وأقبل عليه عمير ابن صامي ووثب عليه وكسر ضلعا من أضلاعه وقال : سجنت أبي حتى مات في السجن (149) . وكان قتله في الثامن عشر من ذي الحجة سنة 35 ه‍ في يوم الجمعة

(148) ابن قتيبة - تاريخ الخلفاء .
(149) ابن الأثير .
لقد شيعني الحسين (ع) 223

وكان عمره يومئذ ستا وثمانين سنة ، وكتبت نائلة بنت الفرافصة إلى معاوية ، تصور له المشهد الذي تم خلاله قتل عثمان ، وأرسلت له قميص عثمان مضرجا بالدم ، وممزقا . وبالخصلة التي نتفها محمد ابن أبي بكر من لحيته ، فعقدت الشعر في زر القميص ، وبعثته إلى معاوية مع النعمان بن بشير الأنصاري (150) . وكان الذين قاموا باقتحام داره وقتله :
محمد بن أبي بكر ، محمد بن أبي حذيفة ، ابن حزم ، كنانة بن بشر التجيبي ، عمرو بن الحمق الخزاعي ، عبد الرحمن ابن عديس البلوي ، وسودان بن حمران (151) .
لقد كانت حقا ثورة من أجل تثبيت العدالة الاجتماعية من جديد ، ثورة شاركت فيها كل فصائل المعارضة في المجتمع ، بكل همومها وأهدافها ، فكل الناس قتل عثمان ، وما من صغير وكبير إلا ونقم عليه . وفرضت عليه عزلة اجتماعية ، ووقف منه الناس موقف الاعتراض والمداهنة والخوف ، وفي كل الأحوال ، كانوا يتربصون الفرصة التي سنحت لهم ليزيحوه عن الخلافة ، ليزيحوا معه طغمته الطليقة . لكن هل استطاعوا ارجاع الأمور إلى نصابها ، هل قضوا فعلا على النفوذ الأموي؟ .
إنهم لم يفعلوا سوى أن صنعوا المنعطف الآخر ، ليدخل التاريخ الإسلامي ، إلى حقبة الاضطرابات الكبرى . فنفوذ بني أمية أوسع وأعمق وأقوى من أن تزيحه ثورة فقراء ، وسنين من الخلافة مضت كان فيها بنو أمية على يقظة في بناء قدراتهم . إن قتل عثمان قواهم بدلا من أن يضعفهم . وما أن قتل عثمان ، حتى اكفهر التاريخ عن وجوه ذميمة ، طالما بيتت النفاق . مقتل عثمان كان مدخلا لفهم حقيقة التاريخ الإسلامي! .

(150) ابن قتيبة .
(151) اليعقوبي .
لقد شيعني الحسين (ع) 224




لقد شيعني الحسين (ع) 225

بيعة الإمام علي (ع)

لقد اصطدمت المؤامرة - ضد الإمام علي (ع) مع التاريخ ولم يبقى أمام الناس سوى الرجوع إليه . وكان لا بد أن يكون للمؤامرة سقف تقف عنده . هذا السقف هو يقظة الجماهير المسلمة على أثر مقتل عثمان . لقد ثار هذا القطاع الواسع من الفقراء والمنبوذين والمؤمنين ، على كل أشكال القهر السياسي والاقتصادي والاجتماعي الأموي في عهد عثمان . آن لهم أن يوقفوا زحف المؤامرة . فهم يتطلعون إلى من يسلك فيهم عدل محمد صلى الله عليه وآله ويسوي بينهم في التوزيع ويرشف قلوبهم عقيدة وتقوى . ليس أمامهم إلا علي . علي فقط! .
ولكم حاول بعض الخنافيس من البدو المقملين والطلقاء ، أن يطرحوا بديلا آخر للخلافة غير علي بن أبي طالب (ع) . لقد لجأ البعض جهلا أو عمدا ، إلى أمثال ابن عمر وغيره .
أفابن عمر هو أيضا ممن منح التقدم على رمز الأمة الإسلامية؟ أيها المجرمون ، ما لكم كيف تحكمون! ها هو ذا التاريخ يضع الأمة أمام الاختيار الصعب . أمام العدل كل العدل ، وأمام الجور كل الجور . فكانت يومها بيعت علي بن أبي طالب ، أتته تحبوا بعد أن عذرها التاريخ . وأتته رثة ، خلقة ، عليلة! ليتحمل الإمام علي (ع) مسؤولية سنوات من التخلف ، مضت ، وليعيد هندسة الاجتماع الإسلامي وفق المبدأ ، وبمقتضى الإسلام كانت مسؤوليته يومئذ ، مسؤولية تاريخية . كيف يعيد إلى الخط المستقيم ، امبراطورية واسعة الأطراف

لقد شيعني الحسين (ع) 226

- تضم أكثر من 40 دولة - كلها لم تر ولم تعلم من الإسلام سوى رتوش قشرية ، ليقول (ع) ولبس الإسلام لبس الفرو مقلوبا) وكيف يقنع الأمصار بأن الإسلام قد جاء اليوم بعد أن اغتيل مع محمد صلى الله عليه وآله ، هاهو قد جاء ، ليتمثل في من خوله الشرع والتاريخ مسؤولية الجهاد في سبيل التأويل . مثلما خول محمدا صلى الله عليه وآله مسؤولية الجهاد من أجل التنزيل .
اتجه التاريخ بالأمة صوب علي (ع) لتركع أمام الحق ، معترفة بخطيئتها!
ليتحمل الكل مسؤوليته ، فلا غموض بعد اليوم . فأما حق بين وأما باطل مبلج! .
كان اليوم جمعة ، لخمس بقين من ذي الحجة يوم بويع الإمام علي (ع) من قبل المهاجرين والأنصار . وكان فيهم طلحة والزبير . ورفض الإمام علي (ع) البيعة ، وقال لهم : التمسوا غيري! إمعانا منه في تسجيل الموقف المسبق . فلقد أدرك أن القوم سيحاربونه لا محالة ، وبأن الكثير ممن بايعه سينقلبون ، وبأن المسؤولية جسيمة ، ورأي علي (ع) فيها حاسم . ومتى قبلت الأمة الحسم بعد رسول الله صلى الله عليه وآله إنه يسجل عليهم موقفا تاريخيا . وإن الإمام علي (ع) قد قال للزبير إن شئت بايعني وإن شئت أبايعك . فبايع الزبير . وقد علم الزبير إن عليا (ع) يروم اختباره من خلال هذا العرض ، واعترف بذلك لقد قالها الزبير وطلحة : (إنما فعلنا ذلك خشية على نفوسنا ، وعرفنا أنه لا يبايعنا . وهرب إلى مكة بعد قتل عثمان بأربعة أشهر (152) .
كان طلحة يومها أول من بايع . ذلك أن الأشتر أتاه فقال له : (بايع) فقال : (امهلني أنظر) فجرد الأشتر سيفه وقال : (لتبايعن أو لأضعنه بين عينيك) .
فقال طلحة (وأين المذهب عن أبي الحسن) ، ثم صعد المنبر فبايعه . فقال رجل من بني أسد :

(152) تاريخ ابن الأثير ص 191 ج 3 .
لقد شيعني الحسين (ع) 227

(إنا لله وإنا إليه راجعون ، أول يد بايعت أمير المؤمنين يد شلاء ، لا يتم هذا الأمر أبدا) (153) وبايع الزبير أيضا . كان الإمام علي (ع) يدرك أن الأمور آلت إلى واقع مريض ، ولا يقوم به إلا رجل يطاع ، وهو يعلم أن الناس ليسوا على قلب واحد ، فقال (ع) (دعوني والتمسوا غيري ، فإنا مستقبلون أمرا له وجوه .
لا تقوم له القلوب ، ولا تثبت عليه العقول) (154) . وكان لا بد أيضا للزبير وطلحة أن يبايعا ، وقالوا : (إن دخل طلحة والزبير فقد استقامت) لذلك بعث المصريون ببصري إلى الزبير ، في نفر ، وكان ذلك ، حكيم بن جبلة وكذا بعثوا إلى طلحة كوفيا مع نفر ، وقالوا لكل واحد منهما (احذر لا تحابه) .
فراحوا إليهما يحدونهما بالسيف . والسبب هو أن الزبير وطلحة طمعا في الخلافة ، وقد كان هوى البصريين على الزبير وهوى الكوفيين على طلحة كما ذكر المؤرخون ، فيما كان هوى المصريين على علي (ع) ، وأولئك هم مجموع الوفود التي جاءت للثورة على عثمان .
ويذكر ابن الأثير أن الأنصار بايعت إلا نفرا يسيرا منهم حسان بن ثابت وكعب بن مالك ، ومسلمة بن مخلد ، وأبو سعيد الخدري ، ومحمد بن مسلمة ، والنعمان ابن بشير ، وزيد بن ثابت ، ورافع بن خديج ، وفضالة بن عبيد ، وكعب بن عجرة وكانوا عثمانية .
كان سبب عدم بيعتهم ، هو الخوف من عدالة الإمام علي (ع) ، فهم الذين عاشوا كالفيروس الاجتماعي ، ينخر ثروة الأمة ، ويعيش على سبيل النهب . كان حسان بن ثابت - كما ذكر ابن الأثير شاعرا لا يبالي ما يصنع . وأما زيد بن ثابت فولاه عثمان الديوان وبيت المال ، فلما حضر عثمان قال : يا معشر الأنصار كونوا أنصارا لله ، مرتين ، فقال له أبو أيوب : ما تنصره إلا لأنه أكثر لك من العبدان ، فماذا - بالله - تنتظر من هكذا رجل . خصوصا وإن الإمام

(153) مسكويه في تجاربه - ابن الأثير واليعقوبي في تاريخيهما .
154) مسكويه في تجارب الأمم .

السابق السابق الفهرس التالي التالي