عقائدنا بين السائل والمجيب1


عقائدنا

بين السائل والمجيب


السيد محمد علي الحلو

عقائدنا بين السائل والمجيب2




عقائدنا بين السائل والمجيب3


بسم الله الرحمن الرحيم


عقائدنا بين السائل والمجيب4


عقائدنا بين السائل والمجيب5
الاهداء


انّ بين الانتماء المعرفي واللا انتماء ...
مسارات فكر
وملاحم رسالات ...
تحكي ...
جهاد أنبياء ...
وعطاء أوصياء ...
وتضحية صلحاء ...
ليحددوا معالم الانتماء ...
فالى كل اولئك الذين يبحثون عن انتمائهم
جهد هذا الكتاب
محمد علي

عقائدنا بين السائل والمجيب6


عقائدنا بين السائل والمجيب7

المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله بجميع محامده كلّها على جميع نعمه كلّها ، وصلى الله على سيدنا محمد خيرة المرسلين ، وعلى آله الطاهرين ، الصراط الأقوم وشهداء دار الفناء ، وشفعاء دار البقاء ، والرحمة الموصولة والآية المخزونة ، والأمانة المحفوظة ، والباب المبتلى به الناس ، من أتاهم نجى ، ومن لم يأتهم هلك ، الى الله يدعون وعليه يدلون وبه يؤمنون وله يسلّمون وبأمره يصلون والى سبيله يرشدون وبقوله يحكمون .
وبعد :
فهل هي خطرات قلب ، أم هي نوازع رغبات جامحة تطفح بها مراسلات أسئلة يُبعث بها من شتّى البلدان . أم هي دواع الاسترسال في معرفة الأشياء اعتباطاً دون أن تكون لها نوازع مسبقة تدفع ببني الانسان في إشباع الفضول ، أم هي تداعيات الرغبة في البحث عن غوامض الأشياء ، أم هو الترف الذي يودي بالمرء الى ثقافة « العبث » أو قل ثقافة «الترف» لمعرفة ما يستثيره من أسرار ، أم هي صدفة البحث الطائشة لتوقف المرء على حقائق الآراء . أم هي عزمات جهد يدفعه الحرص للعثور على انتمائه ، بل مبتدئه ومنتهاه .
وأحسب أنها نفثات مصدور يبوح بها أحياناً ويكتمها أخرى ، وهي عزمة النفس ، ودفقة الروح تجود بالبحث عن الحقيقة ، وتسمو الى معالي المعرفة لتترفع عن حضيض الحيرة ومهاوي الشك والاضطراب . وينطلق المرء من حرصه على

عقائدنا بين السائل والمجيب8

معرفة كوامن الأشياء ، فيبعث بما عَنَ لديه من خفايا الآراء ، وينطلق العالَم من حرصه على بيان الحق حين تلتبسه الأهواء ، فيُحال حرص السائل الى أسئلة يبعث بها الى مظان الاجابة ، ويُحيل العالم حرصه الى مراكز بحث وثقافة وأحسب انّ مركز الأبحاث العقائدية التابع لمرجعية آية الله العظمى السيد السيستاني دامت افاضاته تكفّل بمثل ما يصبو إليه الحريص على بيان الحق والدفاع عنه ، والمرجعية المعظّمة جديرة بهذه المهمّة ، فكان لها قصب السبق في إنشاء هكذا مراكز دفاعاً عن الحق وأهله ، وكان لسماحة الشيخ فارس الحسون مهمّة الاضطلاع بمسؤولية إدارة هذا المركز بل بإدارة تأسيس ، وجدارة الاستمرار بهذه المهمّة العظيمة ، وبحكم مشاركتي لفترة ما ، فقد لمستُ ضرورة مثل هذا المركز الذي يعدّ مفخرة علمية نسجّلها بكلّ اعتزاز ، وكان لنا نصيب المشاركة في الإجابة على بعض ما تلقاه المركز من أسئلة شرائح مختلفة ، تحكي عن آراء مختلفة وتوجّهات مختلفة تشترك في قضية جديرة بالاهتمام وهي معرفة الحقيقة . وهذا ـ لعمري ـ أهم الدوافع التي تحثّنا للاجابة على مثل هذه الأسئلة ، وهي الدوافع ذاتها تدفعنا لنشرها في هذا الكتاب الذي يُعدّ نموذج لمشاريع الآراء والتوجّهات والمشارب المختلفة .
وقد حرصنا على أن نُثبت السؤال بما هو في صيغته وتركيبته دون تعديل ـ إلا ما تقتضيه الضرورة الفنّية في ذلك ـ ذاكرين اسم السائل وعمره وبلده ليتسنّى للجميع معرفة الحيثيات التي شاركت فيها ثقافة السؤال ، المجتمعة فيها تركيبة السائل الاجتماعية والفنّية والثقافية بل الفسلجية كذلك .
ومن ثمّ ستتوفّر لدينا رؤية واضحة عن الخارطة الفكرية والثقافية التي تشكّلها نماذج الثقافة في العالم الاسلامي ، وتوجّهات الطبقات الشابّة خصوصاً ، ليكون الكتاب مفردة الثقافة الاسلامية المصطبغة بألوان الثقافات

عقائدنا بين السائل والمجيب9

العامّة ، وليكون كذلك مصدراً مهماً من مصادر معلومات التأسيس الثقافي التي تفتقدها مشاريع كثيرة إبّان تأسيسها على نزعات «لعلّها غير علمية» .
3 جمادى الاخرة 1424 هـ
ذكرى شهادة السيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام
السيد محمد علي السيد يحيى الحلو

عقائدنا بين السائل والمجيب10


عقائدنا بين السائل والمجيب11

التمهيد
الانتماء المعرفي بين الضرورة والعقلنة

في خضمّ الصراع الفكري الذي يشهده عالمنا المعاصر ، وفي ظل «العوملة» الثقافية التي تُعدّ من أبرز معالم هذا الفكر الشاخص بتجديداته وانفتاحاته على التوجّهات الأخرى ، يبرز التيار الفكري المتجدد الذي يقوده طليعة الشباب الملتزم بثقافته الأصيلة والمنفتح على الثقافات الأخرى ليشكّل «توليفة» ثقافية ناضجة من جهة ، متوجسة من جهة أخرى .
أما نضوجها فيشهد له اتجاهها المعرفي الديني ، الذي ينضوي تحت تطلّعها لهذا الدين بالبحث عن شؤونه ومتعلقاته ، وهذا في الحقيقة ناشيء عن التجربة المريرة التي خاضها هذا الجيل مع كافّة الاتجاهات الفكرية التي لم تقف عند حدّ عدم اشباع فضوله المعرفي ، بل في استجابتها لأي سؤال مطروح بعد أن عجزت عن الأجابة عليه ، أو تلبية حاجاتها الانسانية ومن ثَمَ المعرفية ، ولمّا لم تجد ما يبرر «انضوائها» تحت أي من هذه التوجهات الثقافية ، راحت تبحث عن ذاتها المفقودة تحت ركام هذه الثقافات «الهرمة» لتنهار تحت أقدام الواقع الذي لم تكد تصمد أمامه ، فوجدت ذاتها وهويتها الانسانية مختبئة في دينها الإسلامي ، ومن ثَمَ فهي عاجزة عن المسكِ بهويتها الانسانية هذه ما لم تنتم انتماءً حقيقياً لهذا الدين الأصيل الذي يُصيغ هيكلته المنطقية ، وتشكيلته الإلهية أئمة أهل البيت عليهم السلام ، ودونهم فتبقى عاجزة عن معرفة هذا الدين وشؤونه وحيثياته ، لقوله تعالى «هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أمّ

عقائدنا بين السائل والمجيب12

الكتاب وأخر متشابهات فأمّا الذين في قلوبهم زيغ فيتّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنّا به كلّ من عند ربّنا وما يذّكّر إلا أولوا الألباب» (آل عمران : 7)
قال أبو عبد الله الصادق عليه السلام : «نحن الراسخون في العلم ونحن نعلم تأويله» .
وهذه الآية هي أدلّ آية على تحديد «الانتماء المعرفي» لدى الفرد ومحاولة ترشيد انتماءاته من خلال ترسيم معالم الأخذ والاصغاء اللتان تشكّلان اليوم أهم تحولات المعرفة على الصعيد الفردي بل وحتى الجماعي كذلك .
وليست هذه دعوة للانتماء الفكري مجردة عن الواقع ، بقدر ما هي حقيقة مثلت أمامها أجيال المعرفة إبّان الدعوة الإسلامية التي من شأنها أن تخلق «انسانها الجديد» بكل حوافزه المعرفية ودواعي التطلّع الى آفاق هذا الكون الرحب الذي يلفّ معه معادلات بقيت ألغازاً لم تتكفّل الاجابة عنها من الديانات السماوية السابقة عدا ما تقتصر على محور التوحيد والعبادة لله تعالى ، وعلى أخلاقية تكفل نبذ الشرك والعبودية لغير الله وحده ، ويأتي الدين الاسلامي يحمل معه هموم الانسان وتوجهاته ، بل آماله وتوجساته ، ليعيد صياغة الانسان من جديد بما يعرضه من ملاحم المعرفة مدّخراً معها إجابات على تساؤلات يحيلها من ألغاز الى مسلمّات ، ومن هواجس الى حقائق تعيش معه ويعايشها في كل حين .
هذه الملحمة الفكرية التي يقدّمها الدين الجديد باتت منطلقاً لرؤية جديدة لهذا الكون ، ومثاراً لتطلعات معرفية جديدة ، وبقيت مشكلة المسلم تتخذ نطاقاً آخر في ضوء هذه المتغيرات ، فمن «برمجة المعرفة» التي كان يفتقدها العقل الانساني الى مشكلة «الانتماء المعرفي» التي ـ إن لم يحسن اختيارها ـ تفقده الشيء الكثير ، بل تحيله الى منهجية إلتقاطية في المعرفة الانسانية التي

عقائدنا بين السائل والمجيب13

هي فرع معرفته الدينية الكونية .
أي ستكون مشكلة المسلم بعد ذلك هي محاولات التشخيص في اختيار المسلك الفكري ، أو المشرب المعرفي الذي من شأنه أن يُشبع فضوله وتطلّعه الديني .
هذا ما قصدناه من اشارتنا لتوجسه بعد أن بيّنا رشده ونضوجه ، أي ستكون مشكلة الانتماء المعرفي هي المشكلة الشاخصة في ظل هذه التيارات الفكرية وعلى مدى تاريخ الانسان المسلم منذ الدعوة الاسلامية .
في غضون التغيرات التي شهدها العالم إبّان الثورة الصناعية شهدت عدة معادلات تغيراتها كذلك ، فلم تكن هي ثورة تكنلوجية بقدر ما هي ثورة اقتصادية ، وتحولات اجتماعية ، ومتغيرات فكرية ، أي استتبعت هذه المتغيرات في الآلية الصناعية الى متغيرات في آليات الفكر والثقافة كذلك .
وتستوعب هذه الثورة الصناعية ثورات الفكر والاجتماع ، وتترك تأثيراتها حتى على العلاقات العامة بين الأفراد لتمتد تطوراتها بين المجتمعات كذلك .
وفي أواخر القرن العشرين بدأت بوادر «الثورة المعلوماتية» تظهر في اُفق المجتمع العالمي بعد أن كانت تحدد هويتها علاقات المجتمعات تبعاً للمعادلات الدولية المتغيرة سريعاً ، ثم تتفجر هذه الثورة الى حالة عالمية من المعلومات ، ثم توجّه الى علاقات عالمية تتحكم فيها «عولمة» الاقتصاد الى «عولمة» المعلومات والعلاقات الدولية الى عولمة الفكر والثقافة ، سواء على الصعيد الفردي أو الاجتماعي ، أي انّ الفرد المسلم يعيش اليوم وسط ثورة معلوماتية متسارعة تأخذ «بزمام» مجتمعات كاملة لتحيلها تابعة تبعاً لتكنلوجياتها المعلوماتية ، وتحيل المجتمع العالمي الى قرية صغيرة يرتبط غرب الأرض بشرقها في لحظات «اتصالاتية» تفوق تصورات ذهنية الفرد الذي ينكفأ على تقليدياته وسلوكياته

عقائدنا بين السائل والمجيب14

الساذجة .
اذن يُعد الفرد المسلم جزءاً من هذه الثورة المعلوماتية ، أي في خضمّ هذه المعادلات المعلوماتية يشكّل رقماً له تأثيراته البالغة على حساباتها ، وإذا كان البعض متوجساً من عولمة الثقافة والفكر فذلك شعور بالخيبة أن يُزج العالم الاسلامي في مثل هذه الثورة الهائلة من التكنلوجيا المعلوماتية ، فالتوجس الذي يستشعره البعض في التعامل التقني المعلوماتي بحجة «الانخراط السيء» في خضمّ هذه الثورة وما سينتج من العواقب السيئة عند ذاك ، فإنّ هذا البعض ـ وإن كان منطلقاً من الحرص والإخلاص ـ إلا أنّ توجساته لا تُعد مبرراً في نفسها من أجل حجر المجتمع الاسلامي متقوقعاً ضمن علاقاته الخاصة دون الانفتاح على الآخر .
وإذا كنا والاخر لا تربطنا قواسم مشتركة ـ في حدود التقنية المعلوماتية على الأقل ـ فإنّ ذلك سيزيد من واقع توجساتنا ليحيلها الى حقائق نتعامل معها ـ فيما بعد ـ تابعين غير متبوعين ، فعدم الانفتاح ومحاورة الاخر يوشك بنا أن ننغلق على أنفسنا ، وننكفأ على ذواتنا غير جديرين من «ملاحقة» ذلك الكم الهائل من المستجدات اليومية المتسارعة والخاطفة ، ثم نسير الهوينا لنتابع ما جرى في الساحة العالمية من حدث أو مجريات . وليست هذه دعوة لأن ننسلخ عن ذواتنا وقيمنا وثوابتنا ، بقدر ما هي دعوة لإعادة الثقة في نفوسنا ، فنحن جديرون في التعامل مع الآخر على أساس التبادل المشترك في وجهات النظر المختلفة ، وليس على أساس التبعية الفكرية أو الاستعمار الثقافي .
انّ ثقتنا بمبادئنا يدفعنا الى محاولة فهم الاخر على أساس ما نتمسك به ونعتز به من قيمنا الأصيلة .
لماذا هذا التوجس ونحن نملك ديناً يضمن لنا أن نقتحم الطرق الوعرة بنجاح ، فما بالنا ونحن نتعايش في زمن حضاري يتطلب منّا جهداً «عادياً» للحوار

عقائدنا بين السائل والمجيب15

مع الآخر فنستعرض بذلك حضارتنا التي يستذوق حلاوتها الجميع وتأنس الى نغماتها كل فطرة ؟!
ويسعى الانسان بكل جهده للبحث عن ذاته المضيعة في خضمّ صراعات فكرية شهدها العالم منذ خليقته ، ويبدأ الصراع بين الخير والشر ، في ملاحمه الطويلة ، فتيار الخير الذي يمثّله آدم عليه السلام يتغلب على نزعات الشر والعدوان الذي سيكون الشيطان مصدره ومنتهاه ، وكلما حاول هذا الشر أن يغوي آدم عليه السلام خسر الجولة وفشل محاولاته عند ذلك ، فإنّ لآدم عليه السلام انتمائه المعرفي الالهي الذي لم يخيبه لحظة واحدة في كل حين من أحايين هذا الصراع ، فقوله تعالى «وعلّم آدم الأسماء كلّها ثمّ عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علّمتنا إنّك أنت العليم الحكيم» (البقرة : 31 ـ 32) فهي إشارة واضحة الى هذا الانتماء المعرفي الذي سيكون المصدر الوحيد لمعرفة آدم «بالأسماء» وقد اعترف الملائكة من قبل ذلك بعجزهم عن استقلالهم في المعرفة وعلمهم من دون ما يعلّمهم الله تعالى ، فقد حددوا انتماءاتهم المعرفية وأوكلوها الى الله تعالى .
وتشهد الأرض أول مرّة ذلك الصراع الدامي بين انتمائين ، بين الانتماء الإلهي المعرفي الذي مثّله هابيل ، وبين اللاإنتماء أو الانتماء الشيطاني الذي آل أمره الى الانتقام من هابيل وقتله ، والقرآن الكريم يصوّر لنا هذا المشهد الدامي الحزين : «واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحقّ إذ قرّبا قرباناً فتُقُبّل من أحدهما ولم يُتقبّل من الآخر قال لأقتلنّك قال إنّما يتقبّل الله من المتّقين لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إنّي أخاف الله ربّ العالمين إنّي أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين فطوّعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين فبعث الله غراباً يبحث في الأرض

عقائدنا بين السائل والمجيب16

ليريه كيف يواري سوءة أخيه قال يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأُواري سوءة أخي فأصبح من النادمين» (المائدة / 27 ـ 30) .
فالصراع بين انتمائين أو بين الانتماء واللاانتماء ، سيكون فاتحة عهد الانسان وهو يعيش على ظهر هذه الأرض ، ولم يغفل القرآن الكريم أن يشير الى أهمية الانتماء ، ويشيد بالانتساب المعرفي الإلهي الذي يختاره الانسان منطلقاً من حرصه على ذلك الكمال المعرفي والرشد الفكري ، ثم هو ينعى على قابيل في انتمائه الخاطئ ، أو اللاانتماء المعرفي الذي ستكون نتيجته «الأنا» الضيقة التي تودي بالآخر لتبعده عن أصل وجود أو محاولة تهميشه على أقل تقدير ، ويُبرز القرآن في هذه الآيات أهمية «الانتماء المعرفي» الذي يولي اهتمامه بالآخر ويتعامل معه على أساس انسانيته دون إلغاء أو تهميش .
وبقدر ما تمتد مساحة الانتماء المعرفي بامتداد مساحة الوعي والادراك ، تضيق معها حالات اللاانتماء بعدما يستشعر الانسان انّ في اللاانتماء ضياعه وحيرته ، أي انّ التدرج المعرفي الانساني يحمل معه حالات الانتماء المعرفي مسجّلة على أساس تصاعد الخط البياني للوعي والادراك الذي ينعم به أفراد النوع الانساني ، وبمعنى آخر فإنّ هذه البيانات التصاعدية للوعى والادراك تظهر معالمها واضحة بشدة إبّان عهد الرسالات النبوية ، فمعالم الوعي الانساني يتكفّلها الأنبياء لمهمتهم الاصلاحية التي سادت مجتمعاتهم وقتذاك ، لذا فإنّ الحقبة الاصلاحية التي نعمَ بها مجتمع نبيّ الله نوح عليه السلام ، يسجّله القرآن الكريم على أنها فترة إصلاح عالمية يشهدها العالم وهو يعيش ممارسات تلقي المعرفة الصحيحة منها أو الخاطئة كذلك ، بمعنى انّ الانتماء المعرفي إبّان عهده الشريف شهد تحولات في الجانب المعرفي فأصابه بعض وأخطأها الاخر ، وكانت لسفينة نوح عليه السلام أثر في تشخيص الانتماء المعرفي وقتذاك ، لذا فإنّ القرآن الكريم سجّل

عقائدنا بين السائل والمجيب17

حالة الانتماء هذه مصنّفة على أساس ركوب السفينة وعدم ركوبها ، من هنا فانّ السور القرآنية في سورة هود تتحشدُ «وثائقياً» في تقديم صورة الانتماء المعرفي وتشخيص ممارسة النوع الانساني بغض النظر عن انتمائاته وتوجهاته فالسور القرآنية تستعرض لنا بشكل «وثائقي» ناجح سيرة هذه المعرفة لطرفي الانتماء المعاكس ، فالذين انتموا الى نوح عليه السلام لا تربطهم إلا رابطة الايمان وعلاقة المعرفة وإن بعدوا في علقتهم النسبية ، بينما مثّل ابن نوح انتماءً خاطئاً ، أو اللاانتماء الذي أودى به الى الحضيض والهلاك قال تعالى : «قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين قال إنّما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربّكم وإليه ترجعون أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعليّ إجرامي وأنا بريء ممّا تجرمون» (هود : 32 ـ 35) . وهذا الصراع الذي تشهده رسالة نوح بين واقعية الانتماء وبين اللاانتماء تُسفر عنه حالة الضياع ومن ثمّ الهلاك .
قال تعالى : «وأوحي إلى نوح أنّه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون» (هود : 36) . فانّ نتيجة هذا الصراع سيُصنّف القوم الى الانتماء والى اللاانتماء ، وسيحدد هذا الانتماء على أساس الإيمان برسالة نوح عليه السلام والانتساب إليها .
قال تعالى : «واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنّهم مغرقون ويصنع الفلك وكلّما مرّ عليه ملأٌ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منّا فإنّا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحلّ عليه عذاب مقيم حتّى إذا جاء أمرنا وفار التنّور قلنا احمل فيها من كلٍّ زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل

عقائدنا بين السائل والمجيب18

وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إنّ ربّي لغفور رحيم وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بنيّ اركب معنا ولا تكن مع الكافرين قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين» (هود / 37 ـ 43) .
وهنا تتوالى مراحل الصراع بين الانتمائين ، بين الانتماء الإلهي الذي ستمثله سفينة نوح عليه السلام وبين اللاانتماء الذي ستشكله جبهة عريضة من المتمردين الذي سيمثلهم نموذجاً في الانتماء النسبي لنوح عليه السلام دون أن ينتسب إليه معرفياً ، وسيكون ابنه الذي يتمرّد على هذا الانتماء ليصفه القرآن الكريم بأنه عمل غير صالح «ونادى نوح ربّه فقال ربّ إنّ ابني من أهلي وإنّ وعدك الحقّ وأنت أحكم الحاكمين قال يا نوح إنّه ليس من أهلك إنّه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إنّي أعظك أن تكون من الجاهلين» (هود / 45 ـ 46) .
فالعلقة النسبية والقرب السببي لا علاقة لهما في تزكية الفرد إذا أخطأ الاختيار في انتمائه المعرفي .
من هنا علينا أن نقرأ حديث رسول الله صلى الله عليه وآله في أهل بيته وتشبيههم بسفينة نوح عليه السلام فقال : (إنما مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح في قومه ، من ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق) (المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري 151 / 3 ، ينابيع المودة : 30 ، الصواعق المحرقة لابن حجر : 184 و234) .
فالركوب في السفينة وعدم الركوب إشارة إلى الانتماء المعرفي وعدمه لأهل البيت عليهم السلام ، والتعبير بالغرق دلالة على الضلالة والضياع ، وكأنّ قصة سفينة نوح عليه السلام وظّفها القرآن الكريم لهذا الغرض ، أي مسألة الانتماء وعدمه ، وأوضحها النبي صلى الله عليه وآله بتشبيه أهل بيته عليهم السلام بسفينة نوح .
من هنا علينا أن نتعرف بعض الشيء على جهود الانتماء المعرفي الذي بذله

عقائدنا بين السائل والمجيب19

الأئمة الأطهار عليهم السلام في معرفة هذا الانتماء وبيانه للأمّة وهم يعيشون تحولات الظرف السياسي المتشنج ليسيّروا دفّة الصراع المعرفي لصالح مهمتهم ورسالتهم ، وبالفعل حقق جهدهم المبارك تقدماً واضحاً في احتواء التيارات المعرفية المختلفة وهي في خضمّ تنافساتها ليحوز انتسابهم المعرفي تقدماً واسعاً ، وقبولاً منقطع النظير بالرغم من تيارات الفكر المعارض .
وإذا كنّا في الزمن الصعب من الانفتاح على الاخر تبعاً للمعادلات الدولية القائمة ، فانّ أئمة آل البيت عليهم السلام كانوا في الزمن الأصعب نتيجة للمعادلات التي كانت تطرحها الأنظمة السياسية الجائرة وقتذاك ، ومع هذا فقد أبدى أهل البيت عليهم السلام ـ تبعاً لجدّهم رسول الله صلى الله عليه وآله ـ «لياقةً» منقطعة النظير في أداء الحوار مع الآخر وحققوا تقدماً رائعاً في الحصول على نتائج بقيت تشهد لها مدونات التاريخ .
ولكي تكتمل صورة هذا العطاء فإنّ عرضاً تاريخياً لتسجيل هذه الجهود الحوارية التي امتاز بها النبي صلى الله عليه وآله وأئمة آل البيت عليهم السلام نذكرها كشارات نصر لهذا المجهود العظيم ...
قال الصادق عليه السلام في حديث طويل : (ولقد حدّثني أبي الباقر عن جدّي علي بن الحسين عن أبيه الحسين بن علي سيد الشهداء عن أبيه أمير المؤمنين صلوات الله عليهم أنه اجتمع يوماً عند رسول الله صلى الله عليه وآله أهل خمسة أديان : اليهود ، والنصارى ، والدهرية ، والثنوية ومشركوا العرب .
فقالت اليهود : نحن نقول : عزير ابن الله ، وقد جئناك يا محمد لننظر ما تقول فإن اتبعتنا فنحن اسبق الى الصواب منك وأفضل ، وإن خالفتنا خصمناك .
وقالت النصارى : نحن نقول : انّ المسيح ابن الله اتّحد به وقد جئناك لننظر ما تقول .

الفهرس التالي التالي