حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 236

وانما اؤخر دعوته وهي معلقة وقد استجبتها حتى يتم قضائي ، فاذا تم قضائي انفذت ما سأل .
قل للمظلوم : انما اؤخر دعوتك وقد استجبتها لك على من ظلمك لضروب كثيرة غابت عنك وانا احكم الحاكمين :
اما ان تكون قد ظلمت رجلا فدعا عليك فتكون هذه بهذه لا لك ولا عليك .
واما ان تكون لك درجة في الجنة لا تبلغها عندي الا بظلمه لك ، لاني اختبر عبادي في اموالهم وانفسهم .
وربما امرضت العبد فقلّت صلاته وخدمته ، ولصوته اذا دعاني في كربته احب الي من صلاة المصلين .
ولربما صلى العبد فاضرب بها وجهه واحجب عني صوته ، اتدري من ذلك يا داود ؟ ذلك الذي يكثر الالتفات الى حرم المؤمنين بعين الفسق وذلك الذي حدثته نفسه لو ولى امرا لضرب فيه الاعناق ظلما ... .
يا داود : اذا ناولتم الصدقات فاغسلوها بماء اليقين ، فاني ابسط يميني قبل يمين الآخذ ، فاذا كانت من حرام حذفت بها في وجه المتصدق ، وان كانت من حلال قلت : ابنوا له قصورا في الجنة ، وليست الرئاسة رئاسة الملك ، انما الرئاسة رئاسة الآخرة ، سبحان خالق النور .

رحمة الله اوسع :

روي انه بينما كان داود عليه السلام جالس وعنده شاب رث الهيئة يكثر الجلوس عنده ويطيل الصمت .
جاء ملك الموت يوما الى داود فسلم عليه وجلس عنده واخذ يمد النظر

حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 237

الى الشاب ، فقال داود عليه السلام : نظرت الى هذا ؟ فقال : نعم ، اني امرت بقبض روحه الى سبعة ايام في هذا الموضع .
فرحمه داود فقال : يا شاب هل لك امراة ؟ قال : لا وما تزوجت قط ، قال داود عليه السلام : فات فلانا ـ رجلا عظيم القدر من بني اسرائيل ـ فقل له : ان داود يأمرك ان تزوجني ابنتك ، وتدخلها الليلة ، وخذ من النفقة ما تحتاج اليه وكن عندها ، فاذا مضت سبعة ايام فوافني في هذا الموضع .
فمضى الشاب برسالة داود عليه السلام فزوجه الرجل ابنته وادخلوها عليه ، واقام عندها سبعة ايام ، ثم وافى داود يوم الثامن ، فقال له داود عليه السلام : يا شاب كيف رايت ماكنت فيه ؟ قال : ماكنت في نعمة ولا سرور قط اعظم مما كنت فيه .
قال داود : اجلس فجلس وداود ينتظر ان يقبض روحه ، فلما طال قال : انصرف الى منزلك فكن مع اهلك ، فاذا كان يوم الثامن فوافني ههنا .
فمضى الشاب ثم وافاه يوم الثامن وجلس عنده ، ثم انصرف اسبوعا آخر ثم اتاه وجلس ، فجاء ملك الموت الى داود عليه السلام فقال داود : ألست حدثتني بانك امرت بقبض روح هذا الشاب الى سبعة ايام ؟ قال : بلى ، فقال : فقد مضت ثمانية وثمانية وثمانية . قال : يا داود ان الله تعالى رحمه برحمتك له فأخر في اجله ثلاثين سنة(1) .


الصبر والشكر :
روي عن ابي عبد الله عليه السلام : انه اوحى الله تعالى الى داود عليه السلام : ان خلادة(2) بنت اوس بشرها بالجنة ، واعلمها انها قرينتك في الجنة .
1ـ البحار : ج14 ص38.
2ـ وقيل : «جلادة» .
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 238

فانطلق اليها فقرع الباب عليها ، فخرجت وقالت : هل نزل في شيء ؟ قال : نعم ، قالت : وماهو ؟ قال : ان الله تعالى اوحى الي واخبرني انك قرينتي في الجنة وان ابشرك بالجنة .
قالت : او يكون اسم وافق اسمي ؟ قال : انك لانتي هي ، قالت : يا نبي الله ما اكذبك ، ولا والله ما اعرف من نفسي ما وصفتني به .
قال داود عليه السلام : اخبريني عن ضميرك وسريرتك ماهو ، قالت : اما هذا فساخبرك به .
اخبرك انه لم يصبني وجع قط نزل بي كائنا ما كان ، وما نزل ضر بي وحاجة وجوع كائنا ماكان الا صبرت عليه ولم اسال الله كشفه عني حتى يحوله الله عني الى العافية والسعة ، ولم اطلب بها بدلا ، وشكرت الله عليها وحمدته ، فقال داود عليه السلام : فبهذا بلغت ما بلغت ، ثم قال ابو عبد الله عليه السلام : وهذا دين الله الذي ارتضاه للصالحين .(1)
وروي ان داود عليه السلام خرج مصحرا منفردا ، فاوحى الله اليه :
يا داود مالي اراك وحدانيا ؟ فقال : الهي اشتد الشوق مني الى لقائك ، وحال بيني وبينك خلقك ، فاوحى الله اليه :
ارجع اليهم فانك ان تاتني بعبد آبق اثبتك في اللوح حميدا .(2)


كما تدين تدان :

روي انه كانت امراة على عهد داود عليه السلام يأتيها رجل يستكرهها على نفسها ، فالقى الله عز وجل في نفسها فقالت له :
1ـ قصص الانبياء مخطوط : البحار ج14 ص39.
2ـ ارشاد القلوب : 1ـ 208.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 239

انك لا تاتيني مرة الا وعند اهلك من يأتيهم ، قال : فذهب الى اهله فوجد عند اهله رجلا ، فاتى داود عليه السلام فقال : يا نبي الله اتى الي مالم يؤت الى احد ، قال : وما ذاك ؟ قال : وجدت هذا الرجل عند اهلي ، فاوحى الله عز وجل الى داود : قل له : كما تدين تدان .(1)


العبرة لمن اعتبر
وان الله تعالى اوحى الى داود عليه السلام وقال :
يا داود من تاجرني فهو اربح التاجرين ، ومن صرعته الدنيا فهو اخسر الخاسرين .
ويحك يا ابن آدم ما اقسى قلبك : ابوك وامك يموتان وليس لك عبرة بهما ؟! يا ابن آدم الا تنظر الى بهيمة ماتت فانتفخت وصارت جيفة ، وهي بهيمة وليس لها ذنب ؟ ولو وضعت اوزارك على الجبال الراسيات لهدتها .
يا داود ! وعزتي ما شيء اضر عليكم من اموالكم واولادكم ، ولا اشده في قلوبكم فتنة منها ، والعمل الصالح عندي مرفوع ، وانا بكل شيء محيط ، سبحان خالق النور .


موعظة :

عن ابي عبد الله عليه السلام قال : ان داود عليه السلام لما وقف الموقف بعرفة نظر الى الناس وكثرتهم فصعد الجبل فاقبل يدعو .
فلما قضى نسكه اتاه جبرئيل عليه السلام فقال له : يا داود يقول ربك ، لِمَ صعدت
1ـ من لا يحضره الفقيه : 471.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 240

الجبل ، ظننت انه يخفى علي صوت من صوت ، ثم مضى به الى البحر الى جدة ، فرسب به في الماء مسيرة اربعين صباحا في البر ، فاذا صخرة فغلقها فاذا فيها دودة ، فقال :
يا داود يقول لك ربك انا نسمع صوت هذه في بطن هذه الصخرة في قعر هذا البحر ، فظننت انه يخفى علي صوت من صوت .(1)
وعنه عليه السلام قال : قال داود النبي عليه السلام ، لاعبدن الله اليوم عبادة ولاقرأن قراءة لم افعل مثلها قط ، فدخل محرابه ففعل .
فلما فرغ من صلاته ان هو بضفدع في المحراب ، فقال له : يا داود اعجبك اليوم ما فعلت من عبادتك وقراءتك ؟ فقال : نعم ، فقالت : لا يعجبك فاني اسبح الله في كل ليلة الف تسبيحة يتشعب لي مع كل تسبيحة ثلاثة آلاف تحميدة ، واني لاكون في قعر الماء ، فيصوت الطير في الهواء فاحسبه جائعا ، فاطفو له على الماء لياكلني ، ومالي ذنب .(2)


بناء بيت المقدس ووفاة داود عليه السلام :

قيل اصاب الناس في زمان داود عليه السلام طاعون جارف ، فخرج بهم داود الى موضع بيت المقدس ، وكان يرى الملائكة تعرج منه الى السماء ، فلهذا قصده ليدعو فيه ، فلما وقف موضع الصخرة دعا الله تعالى في كشف الطاعون عنهم ، فاستجاب له ورفع الطاعون ، فاتخذوا ذلك الموضع مسجدا ، وكان الشروع في بنائه لاحدى عشرة سنة مضت من ملكه ، وتوفي قبل ان يستتم بناءه ، واوصى الى سليمان باتمامه .
1ـ 2ـ قصص الانبياء للجزائري : ص385.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 241

فلما توفي داود عليه السلام ودفنه سليمان واستتم بناء المسجد ، بناه بالرخام وزخرفه بالذهب ورصعه بالجواهر .
وساعده على ذلك جميعه الجن والشياطين ، فلما فرغ اتخذ ذلك اليوم عيدا عظيما وقرب قربانا ، فتقبله الله منه ، وكان ابتداؤه اولا ببناء المدينة ، فلما فرغ منها ابتدأ بعمارة المسجد .
وقيل : ان سليمان هو الذي ابتدأ بعمارة المسجد .


وفاة النبي داود عليه السلام

ثم ان داود عليه السلام كان له جارية تغلق الابواب كل ليلة وتأتيه بالمفاتيح فيقوم الى عبادته ، فاغلقتها ليلة فرأت في الدار رجلا فقالت : من ادخلك الدار ؟ فقال : انا الذي ادخل على الملوك بغير اذن .
فسمع داود قوله فقال : انت ملك الموت ؟ قال : نعم ، قال : فهلا ارسلت الي لاستعد للموت ؟ .
قال : قد ارسلت اليك كثيرا ، قال : من كان رسولك ؟ قال : اين ابوك واخوك وجارك ومعارفك ؟ قال : ماتوا ، قال : فهم كانوا رسلي اليك ، لانك تموت كما ماتوا ! ثم قبضه ، فلما مات ورث سليمان ملكه وعلمه ونبوته .
وكان لداود عليه السلام تسعة عشر ولدا ، فورثه سليمان دونهم ، وكان عمر داود لما توفي ـ مائة سنة ـ وكانت مدة ملكه اربعين سنة .(1)
1ـ الكامل في التاريخ : ج1 ص157.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 242


حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 243
حكم و مواعظ
من حياة الانبياء عليهم السلام
(16)







النبي سليمان عليه السلام





حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 244


حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 245


قصة النبي سلمان عليه السلام

قال الله عز وجل فيما جاء في قصة سليمان النبي عليه السلام :
«ولقد فتنا سليمان والقينا على كرسيه جسدا ثم اناب * قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لاحد من بعدي انك انت الوهاب * فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث اصاب * والشياطين كل بناء وغواص * وآخرين مقرنين في الاصفاد * هذا عطاؤنا فامنن او امسك بغير حساب * وان له عندنا لزلفى وحسن مآب»(1) .
هذه الآيات المباركة تتحدث عن احداث من قصة سليمان عليه السلام وتبني لنا ان كل انسان مهما امتلك من قوة وقدرة ، فانها ليست منه ، بل ان كل ما عنده هو من الله سبحانه وتعالى .
والحكم والمواعظ التي تزيل حجب الغرور والغفلة عن اعين الانسان ، ويجعله يشعر بصغر حجمه واحتياجه الى رحمة الباري عز وجل وتسديده وهوايته ، نستفيدها من الانبياء والرسل والاوصياء ، ومنهم النبي سليمان ، حيث نقف لحظات على سيرة حياته المليئة بالمواعظ والحكم والعبر والدروس البناءة ، كي نجعلها امام اعيننا ونتعض بها وتكون خير طريق فيه صلاح ديننا
1ـ ص : 34ـ 40.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 246

ودنيانا في كل زمان ومكان .
ومرة اخرى نرى نساجي قصص الخيال ، وتجار القصص نسجوا قصصا خيالية وهمية اخرى وتهم ما انزل الله بها من سلطان ، ولصقوها بهذا النبي الكبير ما لا يليق بالنبوة وينافي مقام العصمة ، ويتنافى اساسا مع المنطق والعقل والادراك .
فعلى من يبحث ويتحقق في القرآن المجيد من العلماء والفقهاء ان يقفوا امام هذه القصص الخرافية التي تسيء الى مقام العصمة والطهارة للانبياء والاوصياء عليهم السلام وسد كافة الابواب امامهم ... .


خلافة النبي سليمان عليه السلام

روى الثعلبي : انه نزل كتاب من السماء على داود عليه السلام مختوما بخاتم من ذهب فيه ثلاث عشرة مسألة ، فاوحى الله الى داود ان سل عنها ابنك سليمان فان اخبر بهن فهو الخليفة من بعدك .
قال : فدعى داود سبعين قسا وسبعين حبرا ، واجلس سليمان بين ايديهم ، فقال :
اخبرني يا بني ما اقرب الاشياء ؟ وما ابعد الاشياء ؟ وما آنس الاشياء ؟ وما اوحش الاشياء ؟ وما احسن الاشياء ، وما اقبح الاشياء ؟ وما اقل الاشياء ؟ وما اكثر الاشياء ؟ وما القائمان ؟ وما المختلفان ؟ وما المتباغضان ؟ وما الامر الذي اذا ركبه الرجل حمد آخره ؟ والامر الذي اذا ركبه الرجل ذم آخره ؟ .
قال سليمان : اما اقرب الاشياء فالآخرة ، واما ابعد الاشياء ، فما فاتك من الدنيا .
واما آنس الاشياء ، فجسد فيه روح ناطق .

حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 247

واما اوحش الاشياء ، فجسد بلا روح .
واما احسن الاشياء ، فالايمان بعد الكفر .
واما اقبح الاشياء ، فالكفر بعد الايمان .
واما اقل الاشياء ، فاليقين .
واما اكثر الاشياء ، فالشك .
واما القائمان ، فالسماء والارض .
واما المختلفان ، فالليل والنهار .
واما المتباغضان ، فالموت والحياة .
واما الامر الذي اذا ركبه الرجل حمد آخره ، فالحلم على الغضب واما الامر الذي اذا ركبه الرجل ذم آخره ، فالحقد على الغضب .
قال : ففك ذلك الخاتم فاذا هذه المسائل سواء على ما نزل من السماء .
فقال القسيسون والاحبار : ما الشيء الذي اذا صلح صلح كل شيء من الانسان ، واذا فسد فسد كل شيء منه ؟ فقال : القلب ، فرضوا بخلافته.(1)
وما استخلف داود سليمان حتى اختبر عقله ، واستخلف داود سليمان وهو ابن ثلاثة عشر سنة ، ومكث في ملكه اربعين سنة ، وملك ذي القرنين وهو ابن اثني عشر سنة ، ومكث في ملكه ثلاثين سنة .


الامتحان الصعب :
نرى هنا ايضا ان الله عز وجل يمتحن نبيه سليمان عليه السلام كما امتحن الانبياء من قبله ، وكان امتحانهم من الله فيه حكم ومواعظ ودروس للناس جميعا .
1ـ ذكره الثعلبي في العرائس : 161.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 248

وهنا نرى في قصة النبي سليمان عليه السلام ومن خلال الآيات المباركة المذكورة في القرآن الكريم نرى امتحان سليمان بواسطة جسد خالي من الروح القي على كرسيه وامام عينه «ولقد فتنا سليمان والقينا على كرسيه جسدا ثم اناب»(1) .
وقد اورد المفسرون والمحدثون تفسيرات متعددة في هذا المجال وافضلها ما يلي :
ان سليمان عليه السلام كان متزوجا من عدة نساء ، وكان يأمل ان يُرزق باولاد صالحين شجعان ليساعدون على ادارة شؤون البلاد وجهاد الاعداء .
فحدث نفسه يوما قائلا : لاطوفن على نسائي كي ارزق بعدد من الاولاد لعلهم يساعدوني في تحقيق اهدافي ، وغفل ان يقول : «ان شاء الله» .
بعد تمام حديثه مع نفسه ، وغفل عن تلك العبارة التي تبين توكل الانسان على الله سبحانه وتعالى في كل الامور والاحوال ، فلم يرزق سوى ولد ميت ناقص الخلقة ، جيء به والقي على كرسي سليمان عليه السلام .
بعد ذلك غرق سليمان عليه السلام في تفكير عميق ، وتألم لكونه غفل عن الله تعالى لحظة واحدة ، واعتمد على قواه الذاتية ، فتاب الى الله وعاد اليه .
وهناك تفسير آخر لهذه الآية المباركة هو :
ان الله تعالى امتحن سليمان بمرض شديد ، بحيث طرحه على كرسيه كالجسد بلا روح من شدة المرض .
وفي نهاية الامر تاب سليمان الى الله ، واعاد الله اليه صحته ، وعاد كما كان سابقا ، هذا المراد من قوله : «ثم اناب» .
بعد رجوعه الى الله كرر توبته وطلب سليمان من ربه ملكا عظيما لم
1ـ ص : 34.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 249

يحصل عليه احد من قبله : «قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لاحد من بعدي انك انت الوهاب»(1) .
فاستجاب له الله عز وجل وسخر له الشياطين والجن والانس كل بناء وغواص ، وعلمه منطق الطير ومكن له في الارض ، فعلم الناس في وقته وبعده ، ان ملكه لا يشبه ملك الملوك والسلاطين والمالكين بالغلبة والجور .


الامتيازات الخمسة :

وقد منح الله عز وجل للنبي سليمان عليه السلام ملكا يتميز بامتيازات خاصة ونِعَم كبيرة كما وضحتها لنا الآيات المباركة ، ويمكن ايجازها في خمسة اقسام وهي :
1ـ تسخير الرياح : كما تقول الآية : «وسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث اصاب»(2) .
من الطبيعي ان الملك الواسع الكبير يحتاج الى واسطة سريعة للاتصال مع مناطق ملكه وتفقد مملكته بسرعة في الاوقات الضرورية .
اما كيف كانت هذه الرياح تطيع اوامره ؟
وماهي هذه الواسطة التي كان يركبها ، وماهي العوامل التي كانت تحفظهم من السقوط ومن الانخفاض والارتفاع الذي يحدث بواسطة الهواء ؟ وماهي الاسرار الخفية التي كانت موضوعة تحت تصرف سليمان في ذلك العصر ؟
تفاصيل كل هذه التساؤلات ليست واضحة لنا ، وكل ما نعرفه ، ان الله عز وجل قادر ان يلهم انبيائه ويعطيهم القدرة الكاملة في التصرف لتسهيل امورهم والقيام بمهامهم التي من اجلها بعثهم الله تعالى .
1ـ ص : 25.
2ـ ص : 36.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 250

وهذه الامور تعد شيئا بسيطا في مقابل قدرة الباري عز وجل .
2ـ النعمة الثانية التي انعمها الله على عبده سليمان هي :
تسخير الموجودات المتمردة ووضعها تحت تصرفه لتنجز له بعض اعماله التي يحتاج لها ، وذلك في قوله تعالى :
«والشياطين كل بناء وغواص»(1) اي ، ان مجموعة منها منشغلة في البر ببناء البيوت وما يحتاج اليه سليمان من ابنية ، وجماعة اخرى منشغلة بالغوص في البحر لتستخرج المواد الثمينة من اللؤلؤ والمرجان وغير ذلك .
3ـ سيطرته على مجموعة من القوى التخريبية من الشياطين والانس والجن .
هناك احتمال ان كلمة الشياطين المراد منها العصاة والمتمردين من بني الانسان ، وكذلك المجموعات المتمردة والمخربة الذين كانوا مكبلين بالقيود وفي السجون ، والشياطين التي كانت ممنوعة من اداء اي نشاط : «وآخرين مقرّنين في الاصفاد»(2) كل هؤلاء سيطر عليها سليمان عليه السلام واستعملها لتطوير مملكته .
4ـ النعمة الرابعة التي انعمها الله سبحانه وتعالى على نبيه سليمان عليه السلام هي : اعطاؤه الصلاحيات الواسعة والكاملة في توزيع العطايا والنعم على من يريد ومنعها عمن يريد حسب ما تقتضيه المصلحة ، وذلك في قوله تعالى : «هذا عطاؤنا فامنن او امسك بغير حساب»(3) . وعبارة (بغير حساب) اشارة من الباري عز وجل انه اعطى لسليمان عليه السلام صلاحيات واسعة يتمتع بها فيما فيه خير
1ـ ص : 37.
2ـ ص : 38.
3ـ ص : 39.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 251

الدنيا والآخرة له ولمن يريد .
5ـ والنعمة الخامسة والاخيرة التي منحها الله سبحانه وتعالى بها على سليمان عليه السلام هي : المراتب المعنوية اللائقة التي شملته ، كما ورد ذلك في قوله تعالى : «وان له عندنا لزلفى وحسن مآب»(1) .
وهذه الآية المباركة تشير ايضا الى الرد المناسب على اولئك الذين يدنسون قدسية الانبياء العظام بادعاءات باطلة وواهية ، يستقونها من كتاب التوراة الحالي المحرف .
وعبارة «حسن مآب» التي تبشره بحسن العاقبة والمنزلة الرفيعة عند الله ، هي ، في نفس الوقت ـ اشارة الى زيف الادعاءات المحرفة التي نسبتها كتب التوراة اليه ... .
وكذلك النعم التي حصل عليها سليمان من اجل ادارة مملكته القوية والامكانيات المادية والاقتصادية والسياسية الواسعة ، لا تتنامى مع المقامات المعنوية والقيم الالهية والانسانية ، كما ورد في الآية المباركة ... وان له عندنا لزلفى وحسن مآب ... . فان ذلك لم يزد سليمان الا تخشعا وتعبدا لله تعالى .


المواهب العظيمة :

لقد من الله عز وجل ثلاث مواهب عظيمة خص بها نبيه سليمان عليه السلام ، وأحد هذه المواهب تسخير الرياح له ، حيث قال تعالى : «ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر»(2) .
من الملفت هنا ، هو انه ، نرى الله عز وجل قد سخر لداود الاب جسما
1ـ ص : 40.
2ـ سبأ : 12.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 252

خشنا وصلبا جدا وهو الحديد ، بان الانه له ، ونرى انه تعالى فقد سخر لسليمان الابن موجودا لطيفا للغاية ، جسم صلب يلين لداود ، وامواج الهواء اللطيفة تُجعل محكمة وفعالة لسليمان ... فتامل !!
اما كيفية تحرك الريح ، وماهي الوسيلة التي كان يتحرك عليها سليمان ، هل هي كرسيا ام بساطا ام غير ذلك ؟ فليس بواضح لنا ، وهذا لا يصعب على الله جل جلاله . قدرة .
لقد استطاع الانسان بقدرته الحقيرة امام قدرة الله تعالى ان يحرك البالونات والطائرات التي تحمل آلاف المسافرين ، والاقمار الصناعية الثقيلة الى عنان السماء ، أفيمكن القول بان تحريك بساط سليمان او اي وسيلة اخرى ، بواسطة الريح ، تشكل مشكلة للباري جلت قدرته ؟!
والموهبة الثانية التي خص الله بها سليمان عليه السلام كما تقول الآية المباركة : «واسلنا له عين القطر»(1) .
«اسلنا» بمعنى الاجراء من الجريان ، و«القطر» بمعنى النحاس ، والمقصود : اننا اذبنا له هذا الفلز وجعلناه كينبوع الماء . وقال البعض بان «القطر» يعني انواع الفلزات والرصاص ، اذيبت باجمعها لسليمان ، ليصنع منها ما يحتاجه لتطوير مملكته والدفاع عنها .. .
وايضا نقول : كيف يكون النحاس والفلزات الذائبة كينبوع الماء بين يدي سليمان ، هل كانت عيون من المعادن الفلزية الذائبة ، او عيون البراكين الفعالة ، او بشكل آخر ؟ كل هذا ليس واضح لدينا كيف كان ذلك ، والذي نعلمه هو ان ذلك كان من الالطاف الالهية والاعجاز لهذا النبي العظيم .
1ـ نفس المصدر .

السابق السابق الفهرس التالي التالي