الاربعون حديثاً 89

يزعمونه لانفسهم من مقام يقتضي خلاف ذلك كله . ان من يدعي انه هادي الخلائق ومرشد الضالين يجب ان يكون هو نفسه منزها عن المهلكات والموبقات ، زاهدا في الدنيا ، غارقا في جمال الله ، لا يتكبر على خلقه ولا يسيء الظن بهم .
كذلك نجد احيانا بين الفقهاء وعلماء الفقه والحديث وطلابهما من ينظر الى سائر الناس بعين الاحتقار ، ويتكبر عليهم ، ويرى نفسه جديرا بكل اكرام واعظام ، ويعتقد ان من المفروض على الناس ان يطيعوا امره اطاعة عمياء ، وانه «لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون» (1) ، وما من احد يستحق الجنة ، في رايه ، الا هو وافراد معدودون مثله ، وكلما جاء ذكر طائفة مقترنا باي علم من العلوم طعن فيهم ، ولا يعترف باي علم سوى علمه القليل الذي يتمتع به ويرى ان تلك العلوم تافهة وغير نافعة ومدعاة للهلاك ، فيرفض العلماء وسائر العلوم جهلا وسفها ، ويُظهر كان تدينه هو الذي يحتم عليه ان يحتقرهم ويستهين بهم ، مع ان العلم والدين منزهان عن امثال هذه الاطوار والاخلاق . ان الشريعة المطهرة تحرم التصريح بقول من دون علم . وتوجب الحفاظ على كرامة المسلم . اما هذا المسكين الذي لا معرفة له بالدين ولا بالعلم ، فيعمل على خلاف قول الله ورسوله ، ثم يقول ان ذلك من صلب الدين ، مع ان سيرة السلف والخلف من العلماء العظام تكون مغايرا لهذا .
ان كل علم من العلوم الشرعية يقضي بان يتصف العلماء بالتواضع ، وان يقتلعوا جذور التكبر من قلوبهم . ولا يوجد علم يدعو الى التكبر ، ويخالف التواضع . وعليه ، سوف نبين العلة في كون علم هؤلاء الاشخاص يخالف عملهم .
ان الكبر منتشر بين علماء سائر العلوم الاخرى ايضا ، في الطب والرياضيات والطبيعة ، وكذلك اصحاب الصناعات الهامة ، كالكهرباء والميكانيك وغيرهما . هؤلاء ايضا لا يقيمون وزنا للعلوم الاخرى مهما تكن ، ويحتقرون اصحابها ، وكل منهم يحسب ان ماعنده وحده هو العلم ، وما عند غيره ليس بعلم ، فيتكبر على الناس في باطنه وظاهره ، مع ان ما عنده من علم لا يقتضي ذلك .
وهناك من غير اهل العلم ، من اهل النسك والعبادة ، من يتكبر ايضا على الناس ويتعالى عليهم ، ولا يعتبر الناس حتى العلماء من اهل النجاة ، وكلما جرى حديث عن العلم قال : ما فائدة علم بلا عمل ؟ العمل هو الاصل . انهم يهتمون بما يقومون به من عمل وطاعة ، وينظرون بعين الاحتقار الى جميع الطبقات ، مع ان المرء اذا كان من اهل الاخلاص والعبادة ينبغي لعمله ان يصلحه . فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وهي معراج المؤمن ، ولكن هذا الذي

(1) سورة الانبياء ، آية : 23 .
الاربعون حديثاً 90

امضى خمسين سنة يصلي ويؤدي الواجبات والمستحبات مصاب برذيلة الكبر التي هي الحاد ، وبالعجب الذي هو اكبر من الفحشاء ، ويتقرب من الشيطان واخلاقيته .
ان الصلاة التي لا تنهى عن الفحشاء ولا تحافظ على القلب ، بل لكثرتها تبعث على ضياع القلب ، ان مثل هذه الطاعة ليست بصلاة . ان صلاتك التي تحافظ عليها كثيرا وتحرص على اقامتها ، اذا كانت تقربك من الشيطان وخصيصته من الكبر ، فهي ليست بصلاة ، لان الصلاة لا تستدعي ذلك .
كل هذه الامور تحصل من العلم والعمل . اما الذي يحصل من غير ذلك فيرجع ايضا الى تصور المرء بانه يمتلك احدى الكمالات وان غيره يفتقر اليها . فهذا الذي يملك الحسب والنسب يتكبر على من لا يملكهما . وقد يتكبر صاحب الجمال على فاقده ، وطالبه ، او اذا كان كثير الاتباع والانصار او ذا قبيلة كبيرة ، او له تلامذة كثيرون ، وامثال ذلك ، فانه يتعالى ويتكبر على الذي ليس له مثل ذلك .
وبناء على ذلك ، فان سبب الكبر انما هو تصور وجود كمال موهوم ، والابتهاج بذلك والعجب به ، ورؤية الآخرين خلوا منه . وقد يحدث احيانا ان صاحب الاخلاق الفاسدة والاعمال القبيحة يتكبر على غيره ، ظانا ان ما فيه ، ضرب من الكمال . وعلى الرغم من ان المتكبر قد يمتنع احيانا لسبب ما من اظهار التكبر علانية ، ولا يفصح عن اي اثر لذلك ، الا ان هذه الشجرة الخبيثة تمد جذورها في قلبه ولا بد ان يتبين اثر ذلك منه اذا خرج عن طوره الطبيعي ، كان يستولي عليه الغضب فيفلت منه الزمام ، واذا به تظهر عليه امارات الكبرياء والتعاظم ، ويباهي الآخرين بما عنده من علم او عمل او اي شيء آخر ، ويفاخرهم به .
وفي احيان اخرى قد لا يهتم باخفاء تكبره على من حوله ، كمام لو كان العنان قد افلت من يده ، فتظهر آثار الكبر في اعماله وحركاته وسكناته ، كان يتقدم في المجالس ويسبق الآخرين في الدخول والخروج ، ولا يسمح للفقراء بحضور مجالسه ، ولا يحضر مجالسهم ، ويحيط نفسه بهالة من الحرمة ، ويظهر التعالي في مشيته وفي نظرته وفي حديثه مع الناس .
يقول احد المحققين ، والذي اخذنا منه الكثير من اصول هذا البحث وترجمناه : «ان ادنى درجة الكبر في العالم هي ان يدير وجهه عن الناس كانه يعرض عنهم ، وفي العابد هي ان يعبس في وجوه الناس ويقطب جبينه ، وكانه يتجنبهم او انه غاضب عليهم ، غافلا من ان الورع ليس في تقطيب الجبين ، ولا في عبوس ملامح الوجه ، ولا في البعد عن الناس والاعراض عنهم ، ولا في ليّ الجيد ، وطأطأة الراس ، ولملمة الاذيال ، بل الورع يكون في القلب . لقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «ههنا التقوى» واشار الى صدره .

الاربعون حديثاً 91

وقد يظهر الكبر على اللسان بتبيان المفاخرة والمباهاة وتزكية الذات . فهذا العابد ، وهو في مقام التفاخر ، يقول : انني قمت بكذا عمل . فينتقص بهذا من الآخرين عن طريق اخفاء الاهمية على اعماله . واحيانا لا يصرح بذلك ، ولكنه قد يتفوه بما يوحي بانه يزكي ذاته . والعالم يقول للآخرين : ما ادراك انت ؟ انني طالعت الكتاب الفلاني مرات عديدة ، وامضيت سنوات لدى المجامع العلمية ، ورايت عددا من اساطين العلم واساتذته ، لقد اجهدت نفسي كثيرا ، صنفت والفت الكتب الكثيرة ، وما الى ذلك . وعلى كل حال ، ينبغي ان نتعوذ بالله من شر النفس ومكائدها .

فصل
في مفاسد الكِبَر

اعلم ان لهذه الصفة القبيحة بحد ذاتها مفاسد كثيرة ، وهذه المفاسد تتمخض عنها مفاسد اخرى كثيرة . ان هذه الرذيلة تحول دون وصول الانسان الى الكمالات الظاهرية والباطنية ولا الى الحظوظ الدنيوية والاخروية . انها تبعث في النفوس الحقد والعداوة ، وتحط من قدر الانسان في اعين الخلق وتجعله تافها ، وتحمل الناس على ان يعاملوه بالمثل تحقيرا له واستهانة به .
جاء في «الكافي» عن الامام الصادق عليه السلام انه قال :
«ما من عبد الا وفي راسه حكمة وملك يمسكها ، فاذا تكبر قال له : اتضع وضعك الله ، فلا يزال اعظم الناس في نفسه واصغر الناس في اعين الناس . واذا تواضع رفعه الله عز وجل . ثم قال : انتعش نعشك الله ، فلا يزال اصغر الناس في نفسه وارفع الناس في اعين الناس» (1) .
فيا ايها العزيز ما يحتوي عليه راسك من الدماغ ، تحتويه رؤوس الآخرين ايضا ، اذا كنت متواضعا ، احترمك الناس قهرا واعتبروك كبيرا ، واذا تكبرت على الناس لم تنل منهم شيئا من الاحترام . بل اذا استطاعوا ان يذلوك لاذلوك ولم يكترثوا بك . وان لم يستطيعوا من اذلالك ، لكنت وضيعا في قلوبهم ، وذليلا في اعينهم ، ولا مقام لك عندهم . افتح قلوب الناس بالتواضع فاذا اقبلت عليك القلوب ظهرت آثارها عليك وان ادبرت تكون آثارها على خلاف رغباتك .
اذا فرضنا انك كنت من المبتغين للاحترام والمقام الرفيع ، لكان اللازم عليك ان تسلك الطريق الذي يفضي بك الى الاحترام والسمو ، وهو مجاراة الناس والتواضع لهم . ان التكبر ينتج ما هو على خلاف طلبك وقصدك . انك لا تكسب من وراء التكبر ، نتيجة دنيوية مجدية ،

(1) «اصول الكافي» المجلد الثاني ، كتاب الايمان والكفر ، باب الكبر ح 16 .
الاربعون حديثاً 92

بل ستحصد من ورائه نتيجة معكوسة . ويضاف الى ذلك ان مثل هذا الخلق يوجب الذل في الآخرة والمسكنة في ذلك العالم . فكما انك احتقرت الناس في هذا العالم ، وترفعت على عباد الله وتظاهرت امامهم بالعظمة والجلال والعزة والاحتشام ، كذلك تكون صورة هذا التكبر في الآخرة ، الهوان كما ورد في الحديث الشريف من كتاب اصول الكافي :
باسناده ، عن داود بن فرقد ، عن اخيه ، قال :
«سمعت ابا عبد الله عليه السلام يقول : ان المتكبرين يُجعلون في صور الذر يتوطاهم الناس حتى يفرغ الله من الحساب» (1) .
وجاء في وصايا الامام الصادق عليه السلام لاصحابه :
«اياكم والعظمة والكبر ، فان الكبر رداء الله عز وجل فمن نازع الله رداءه قصمه الله واذله يوم القيامة» (2) .
ولا اعرف بان الله تعالى اذا اذل شخصا ماذا يصنع به ؟ وبماذا يبتليه ؟ لان امور الآخرة تختلف عن امور الدنيا كثيرا ، فان الذل في الدنيا يغاير الذل في الآخرة ، كما ان نعم الآخرة وعذابها ، لا تتناسب مع هذا العالم ، ان نعمها تفوق تصورنا ، وان عذابها لا يخطر على بالنا . ان كرامتها اسمى من تصورنا ، والذل فيها يختلف عن الذل والهوان الذي نعرفه ، وتكون عاقبة المتكبر النار ففي الحديث «الكبر مطايا النار» (3) فلا يرى الجنة من كان في قلبه كبرا . كما روي عن الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم «لن يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر» (4) وقد حدث الامام الباقر والامام الصادق ـ عليهما السلام ـ ايضا بهذا المضمون . وفي حديث الكافي الشريف ان الامام الباقر عليه السلام قال :
«العز رداء الله ، والكبر ازاره ، فمن تنـاول شيئـا منه اكبه الله في جهنم» (5) .
وما ادراك ما جهنم التي اعدها الله للمتكبرين ، فهي غير جهنم التي اعدت لسائر الناس . يكفي ان نورد هنا الحديث الذي سبق ان ذكرناه :
«عن محمد بن يعقوب ، عن علي بن ابراهيم ، عن ابيه ، عن ابن ابي عمير ، عن ابن بكير ، عن ابي عبد الله عليه السلام قال : «ان في جهنم لواديا للمتكبرين يقال له «سقر» ، شكى الى الله عز وجل

(1) اصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الايمان والكفر ، باب الكبر ، ح 11 .
(2) وسائل الشيعة ، المجلد 11 ، ابواب جهاد النفس ، باب تحريم الكبر ، ح 9 .
(3) وسائل الشيعة ، المجلد 11 ، ابواب جهاد النفس ، باب تحريم الكبر ، ح 14 .
(4) وسائل الشيعة ، المجلد 11 ، ابواب جهاد النفس ، باب تحريم الكبر ، ح 6 .
(5) وسائل الشيعة ، المجلد 11 ، ابواب جهاد النفس ، باب تحريم الكبر ، ح 2 .
الاربعون حديثاً 93

شدة حره وساله ان ياذن له ان يتنفس فتنفس فاحرق جهنم» (1) والحديث في غاية الاعتبار (من حيث السند) بل هو كالصحيح .
اعوذ بالله من مكان رغم كونه دار عذاب ، يشكو حرارته ، فيتنفس فتحترق جهنم من جراء تنفسه . اننا لا نستطيع ان ندرك شدة حرارة نار الآخرة في هذا العالم ، اذ ان اسباب شدة العذاب وضعفه :
من جهة ، تتبع قوة الادراك وضعفه ؛ اذ كلما كان المدرك اقوى والادراك اتم وانقى كان ادراك الالم والعذاب اكثر .
ومن جهة اخرى ن تعتمد على اختلاف المواد التي يقوم بها الحس في تقبل الحرارة ، لان المواد تختلف من حيث تقبل الحرارة . فالذهب والحديد ، مثلا ، يتقبلان الحرارة اكثر من الرصاص والقصدير ، وهذان يتقبلانها اكثر من الخشب والفحم ، وهذان اكثر من الجلد واللحم .
كما ان لمستوى ارتباط قوة الادراك بالموضع المقابل للحرارة اثرا في شدة وضعف العذاب . فمثلا المخ الذي يكون تقبله للحرارة ، اقل من العظام ، يكون تاثره اشد ، لان قوة الادراك فيه اكبر . وان للحرارة نفسها من حيث كمالها ونقصانها ، دورا في الشدة والضعف فالحرارة التي تصل الى مائة درجة تؤلم اكثر من الحرارة التي تصل الى درجة خمسين .
كما ان لمدى ارتباط المادة الحرارية الفاعلة بالمادة المتقبلة لها سببا في تخفيف او تشديد العذاب . فمثلا ، اذا كانت النار قريبة من اليد كان الاحتراق اخف مما اذا التصقت النار باليد .
جميع هذه الاسباب الخمسة المذكورة تكون في هذه الدنيا في منتهى النقص ، وفي الآخرة في منتهى كمال القوة والتمامية . ان جميع ادراكاتنا في هذا العالم ناقصة وضعيفة ومحجوبة بحجب كثيرة لا يتسع المجال لذكرها ولا تناسبه . ان اعيننا لا ترى اليوم الملائكة ولا جهنم ، وآذاننا لا تسمع الاصوات العجيبة والغريبة التي تصدر من البرزخ واصحابه ومن القيامة واهلها ، وحواسنا لا تحس بالحرارة هناك ، كل ذلك لانها ناقصة جميعا . ان الآيات والاخبار الواردة عن اهل البيت صلوات الله عليهم مشحونة بذكر هذا الامر ، تلويحا وتصريحا . ان جسم الانسان في هذا العالم لا يتحمل الحرارة ، اذ لو بقي ساعة واحدة في النار الباردة من الدنيا لاستحال الى رماد . ولكن الله القادر يجعل هذا الجسم يوم القيامة بحيث انه في نار جهنم ـ التي شهد جبرائيل بانه لو جيء بحلقة واحدة من سلاسل جهنم التي طول الواحدة منها

(1) وسائل الشيعة ، المجلد 11 ، ابواب جهاد النفس ، باب تحريم الكبر ، ح 6 .
الاربعون حديثاً 94

سبعون ذراعا الى هذه الدنيا لاذابت جميع الجبال من شدة حرارتها ـ يبقى ولا يذوب . فقابلية جسم الانسان للحرارة يوم القيامة لا تقاس بقابليتها لها في دار الدنيا .
اما ارتباط النفس بالجسد في هذه الدنيا فضعيف وناقص ، ففي هذا العالم يستعصى على النفس ان تظهر فيه بكامل قواها ، اما الآخرة فهي عالم ظهور النفس . ان نسبة النفس الى الجسد نسبة الفاعلية والخلاقية ، كما هو ثابت في محله ، وهي اتم مراتب النسبة والارتباط .
ونار هذه الدنيا نار باردة ذاوية وعرضية ومشوبة بمواد خارجية غير خالصة . اما نار جهنم ، فنار خالصة لا تشوبها شائبة ، وجوهر قائم بذاته حي . ذو ارادة يحرق اهله بادراك وارادة ، ويشدد الضغط عليهم بقدر الامكان . ولقد سمعت الصادق المصدق الامين جبرائيل ، وهو يصفها . والقرآن والاخبار مليئة بوصفها . اما ارتباط نار جهنم والتصاقها بالجسم فلا شبيه له في هذا العالم ، ولو تجمعت جميع نيران العالم واحاطت بانسان لما احاطت بغير سطح جسمه . اما نار جهنم ، فتحيط بالظاهر والباطن وبالحواس المدركة وما يتعلق بها . انها نار تحرق القلب والروح والقوى ، وتتحد بها بنحو لا نظير له في هذا العالم .
فيتبين مما ذكر ان هذا العالم لا تتوافر فيه وسائل العذاب باي شكل من الاشكال ، فلا مواده ـ العالم ـ جديرة بالتقبل ، ولا مصادره الحرارية تامة الفاعلية ، ولا الادراك ، تام . ان النار التي تستطيع ان تحرق جهنم بنفس منها ، لا يمكن ان نتصورها ولا ان ندركها ، الا اذا كنا ـ لا سمح الله ـ من المتكبرين ، وننتقل من هذا العالم الى الآخرة قبل ان نطهر انفسنا من هذا الخلق القبيح ، فنراها راي العين «فلبئس مثوى المتكبرين» (1)! .

فصل
في بيان بعض عوامل التكبر

اعلم ان من عوامل التكبر ، فضلا عما سبق ذكره من اسباب ، هو صغر العقل ، وضعف القابلية ، والضعة ، وقلة الصبر . فالانسان لضيق افقه ما ان يجد في نفسه خصلة مميزة حتى يتصور لها مقاما ومركزا خاصا . ولكنه لو نظر بعين العدل والانصاف الى كل امر يتقنه وكل خصلة يتميز بها ، لادرك ان ما تصوره كمالا يفتخر به ويتكبر بسببه ، إما انه ليس كمالا اصلا ، واما انه اذا كان كمالا فانه لا يكاد يساوي شيئا ازاء كمالات الآخرين ، وانه كمن صفع وجهه ليحسب الناس احمرار وجهه نشاطا وحيوية ، كما قيل : «استسمن ذا ورم» . فعلى سبيل المثال ان العارف الذي ينظر من خلال عرفانه الى الناس جميعا بعين الازدراء متكبرا ، او يقول عنهم انهم

(1) سورة النحل ، آية : 28 .
الاربعون حديثاً 95

قشريون وسطحيون . ترى انه لا يملك شيئا من المعارف الالهية ، سوى حفنة من المفاهيم التي لا تعدو جميعا ان تكون حجبا تغطي الحقائق ، او مطبات في الطريق ، ومجموعة من المصطلحات ذات البريق الخادع مما لا علاقة لها بالمعارف الالهية ، وبعيدة كل البعد عن معرفة الله وعن العلم باسمائه وصفاته ؟ ان المعرفة صفة القلب . وكاتب هذه السطور يعتقد ان جميع هذه العلوم هي علوم عملية ، لا مجرد معرفة نظرية وحياكة مصطلحات . لقد راينا خلال هذا العمر القصير والمعرفة القليلة في من يسمون بالعرفاء والعلماء في سائر العلوم ، اشخاصا ـ اقسم بالعرفان والعلم ـ انهم لم يتاثروا قلبيا بهذه الاصطلاحات ، بل كان لها تاثير معكوس عليهم .
ايها العزيز ! ان العرفان بالله ، كما تعلم ، يحيل القلب الى محل تتجلى فيه اسماء الله وصفاته وينزل فيه السلطان الحقيقي الذي يمحو آثار التلوث ويطرد التعين :
«... ان الملوك اذا دخلوا قرية افسدوها وجعلوا اعزة اهلها اذلة ...»(1)انه يجعل القلب احديا احمديا ، فلماذا اذا جعل قلبك والها بجمالك ، وزاد في تلونك ، وضاعف في تعيناتك واضافاتك وابعدك عن الحق تعالى وتجليات اسمائه ، وجعل قلبك موطنا للشيطان فتنظر عباد الله ، واصحاب ابواب الحق ، ومظاهر جمال المحبوب ، نظرة تحقير وازدراء ؟ انك تتكبر على الله ، وتتفرعن في حضرة ذات الله واسمائه وصفاته .
يا طالب المفاهيم ، ويا مضيع الحقائق ! تمهل ، انظر الى ما لديك من المعارف فما الاثر الذي تراه من الحق وصفاته في نفسك ؟ ولعل علم الموسيقي والايقاع ادق من علمك ، واصطلاحات العلوم الاخرى كالفلك والميكانيك وسائر العلوم الطبيعية والرياضية ، تساوي اصطلاحات علمك ودقته كتفا لكتف . فكما ان تلك العلوم ليس لها عرفان بالله ، كذلك فان علمك الذي حجبته الاصطلاحات وسجف المفاهيم والاعتبارات ، لا يرجى منه تغيير في نفس ولا حال ، بل ان تلك العلوم لدى منطق العلوم الطبيعية والرياضية افضل مما هو بك من العلم ، لان تلك العلوم تنتج شيئا ، وليس لعلمك ناتج ، او ان ناتجه معكوس . فالمهندس ينال نتيجة هندسته ، والصائغ نتيجة صنعته ، اما انت فقد قصرت يدك عن النتائج الدنيوية ، ولم تصل الى نتائج عرفانك . فحجابك اثقل واسمك ، وما ان يدور الكلام على الاحدية حتى يغشاك ظلام غير متناه ، وما ان تسمع عن حضرة اسماء الله وصفاته حتى تتصور كثرة غير متناهية . اذاً لم تعثر على الطريق الى الحقائق والمعارف من هذه الاصطلاحات ، بل صارت مدعاة للتفاخر والتكبر على العلماء الحقيقيين . ان المعارف التي تزيد من كدر القلب ليست معارف ، والويل لمعارف

(1) سورة النمل ، آية : 34 .
الاربعون حديثاً 96

تجعل عاقبة صاحبها وارثا للشيطان ! .
ان الكبر من اخلاق الشيطان الخاصة . فقد تكبر على ابيك آدم ، فطرد من حضرة الله ، وانت ايضا مطرود لانك تتكبر على كل الآدميين من ابناء آدم . ومن هنا ايضا يجب ان تفهم حال سائر العلوم الاخرى . ان الحكيم اذا كان حكيما وعرف نسبته الى الخلق والى الحق ، خرج الكبرياء من قلبه واستقام امره . ولكن هذا المسكين الذي يركض وراء المصطلحات والمفاهيم يظن انها هي الحكمة ، وانها هي التي تصنع العالم والحكيم ، فمرة يرى نفسه متصفة بالصفات الواجبة ، فيقول : «الحكمة هي التشبه بالاله» ، ومرة يحسب نفسه في زمرة الانبياء والمرسلين ، فيقرا : «ويعلمهم الكتاب والحكمة» (1) ، واحيانا يقرا : «الحكمـة ضالـة المـؤمـن» (2) ، «ومن يؤت الحكمة فقد اوتي خيرا كثيرا» (3) ، ولكن ما اجهله بالحكمة وما ابعده عنها وعن خيراتها ؟!
يقول الحكيم المتألّه وفيلسوف الاسلام الكبير ، المحقق الداماد ، رضوان الله عليه : «الحكيم من كان جسده كالرداء له ، متى ما شاء خلعه» . فانظر الى ما يقوله هو وما نقوله نحن ! وما ادركه هو من الحكمة وما ادركنا نحن منها ! اذا ، فانت الذي تتباهى ببضعة اصطلاحات ومفاهيم وتتكبر على الناس ، انما ذلك دليل ضيق نفسك وقلة صبرك وعدم اهليتك ! .
ان من يرى نفسه مرشد الخلائق وهاديهم ، ويجلس على كرسي التصوف والتوجيه ، يكون اسوأ حالا من المسعف والمتصوف ، واكثر دلالا منهما . انه سرق المصطلاحات منهما واسبغ بعض المظاهر على بضاعته في السوق ، وصرف قلوب الناس عن الله ووجهها نحو نفسه ودفع بذلك الانسان الطيب النقي السريرة ، على اساءة الظن بالعلماء وعامة الناس . ولكي يعطى اسواقهم شيئا من الرواج ، يطعمون الناس ، عن وعي او بدون وعي ، بعضا من مصطلحاتهم الجذابة ، ظانين ان الفاظا مثل : «مجذوب علي» او «محبوب علي» سوف تمنحهم حقا حالا من الانجذاب والحب ! .
انت يا طالب الدنيا وسارق المفاهيم ، ان عملك هذا كما تظنه لا يدعو الى الفخر والتكبر ! ان المسكين لقلة صبره وصغر عقله ينخدع حتى بنفسه ، فيرى لنفسه مقاما ، وقد امتزج فيه حب النفس وحب الدنيا مع المفاهيم المسروقة والاضافات والاعتبارات ، فولد مولودا مشوها ، اذ نشأ عن تجمعها مزيج عجيب وخليط غريب . وعلى الرغم من كل هذه العيوب يحسب نفسه مرشد الخلائق وهادي الامة الى النجاة ، ومالك سر الشريعة ! بل قد تتجاوز

(1) سورة الجمعة ، آية : 2 .
(2) نهج البلاغة ـ قصار الحكم ـ 80 ـ (الشيخ صبحي الصالح) .
(3) سورة البقرة ، آية : 269 .
الاربعون حديثاً 97

وقاحته الحدود ، فيرى نفسه في مقام الولاية الكلية . وهذا ناشئ ايضا من صغر العقل وضيق القلب والصدر وقلة الاستعداد والاهلية .
وانت ايضا يا طالب علوم الفقه والحديث وسائر العلوم الشرعية ، لا تملك من علمك اكثر من حفنة من الاصطلاحات الخاصة بالاصول والحديث ، فاذا لم يضف اليك عملك هذا الذي كله عمل ، شيئا ولم يستطع اصلاحك ، بل انتج المفاسد الاخلاقية والعملية ، فان عملك احط من عمل علماء العلوم الاخرى واتفه بل اقل من عمل كل العوام . ان هذه المفاهيم العرضية والمعاني الحرفية والدخول في منازعات لا طائل وراءها ـ ومعظمها لا علاقة له بدين الله ولا يحتسب من العلوم ـ حتى تسميها بالثمرة العلمية ، لا تستوجب كل هذا الابتهاج والتكبر . والله يشهد ، وكفى بالله شهيدا انه لو كانت هذه هي نتيجة العلم ، دون ان تستطيع هدايتك ، ودون ان تبعد عنك المفاسد الاخلاقية والسلوكية ، فان احط الاعمال خير من عملك لان تلك نتائجها عاجلة ومفاسدها الدنيوية والاخروية اقل . وانت ايها المسكين لا تنال سوى الوزر والوبال ، ولا تحصد غير المفاسد الاخلاقية والاعمال القبيحة . وعليه ، فان علمك من حيث الاعتبار العلمي ليس فيه ما يدعو الى التكبر ، بل كل ما في الامر انك لضيق افقك العلمي ، ما ان تضع اصطلاحا فوق اصطلاح حتى تحسب نفسك عالما وسائر الناس جهلاء وتفترش اجنحة الملائكة تحت اقدامك وكانها تطير بك ، وتضيّق على الناس في المجالس وفي الطرقات .
ولكن الاحط من هذا والاصغر مكانة هو ذلك الذي يتكبر ويتباهى بالامور الخارجية ، مثل المال ، والجاه ، والخدم ، والحشم والقبيلة . فهذا المسكين بعيد عن الخلق البشري والادب الانساني فارغ اليد من كل العلوم والمعارف . ولكن بما ان ملابسه من اجود الاصواف ، واباه فلان ابن فلان ، فهو يتكبر على الناس . فما اضيق عقله واشد ظلام قلبه ! انه يقتنع من كل الكمالات باللباس الجميل ، ومن كل جمال بالقبعة والرداء ! يرتضي المسكين مقام الحيوانية ويقبل بحظها ، ويقتنع من جميع المقامات السامية الانسانية بالصورة الخالية من كل شكل ومضمون ، والفارغة من الحقيقة ، ظانا نفسه بهذا انه ذو مقام . وفي الواقع انه على درجة من الضعة ومن عدم اللياقة ، بحيث انه اذا شاهد احدا اعلى منه مرتبة واحدة دنيوية تخضع له كما يتخضع العبد لسيده . لا شك ان من لا هم له سوى الدنيا ، لا يكون الا عبدا للدنيا ولاهلها . وان يغدو ذليلا لدى من يتزلف ويستذل لديهم .
وعلى كل حال ، يعتبر ضيق افق الفكر وانحطاط القابلية من اهم عوامل الكبر ، لذلك فمن يتصف بهذا يتاثر بالامور التي ليست من الكمال ، او ليست من الكمال اللائق ، تاثرا شديدا يدفع به الى العجب والكبر . وكلما كثر حبه للنفس وللدنيا ، ازداد تاثرا بهذه الامور .

الاربعون حديثاً 98

فصل
في بيان معالجة الكبر

بعدما عرفت مفاسد الكبر ، فحاول ان تعالج نفسك مشمرا عن ساعد الجد للبحث عن العلاج ، واشحذ همتك لتطهير القلب من هذا الدرن ، وازل الغبار والاتربة عن مرآته . فاذا كنت ممن قويت نفوسهم ، واتسعت صدورهم ، ولم يتجذر حب الدنيا في قلبك ، ولم يبهرك زبرجها وزخرفها ، وكانت عين انصافك مفتوحة ، فان الفصل السابق خير علاج علمي لك . واذا لم تكن قد دخلت هذه المرحلة ، ففكر قليلا في حالك ، فلعل قلبك يصحو .
فيا ايها الانسان الذي لم تكن شيئا في اول امرك ، وكنت كامنا في دهور العدم والاباد غير المتناهية ، ما هو الاقل من العدم واللاشيء على صفحة الوجود ؟ ثم لما شاءت مشيئة الله ان يظهرك ، الى عالم الوجود فمن جراء قلة قابليتك الناقصة وتفاهتك وضعتك وعدم اهليتك لتقبل الفيض ، أخرجك من هيولى العالم ـ المادة الاولى ـ الذي لا يكون سوى القوة المحضة والضعف الصرف ، الى صورة الجسمية والعنصرية ، التي هي اخس الموجودات واحط الكائنات ، ومن هناك اخرجك نطفة لو مستها يدك لاستقذرتها وتطهرت منها ، ووضعك في منزل ضيق رجس هو خصيتي الاب ، واخرجك من مجرى البول في حالة مزرية قبيحة ، وادخلك في رحم الام من مكان تنفر من ذكر اسمه . وهناك حولك الى علقة ومضغة ، وغذاك بغذاء يزعجك سماع اسمه ويخجلك . ولكن بما ان الجميع هذا هو حالهم وتلك هي بليتهم ، زال الخجل «والبلية اذا عمت طابت» .
في كل هذه التطورات كنت ارذل الموجودات واذلها واحطها ، عاريا عن ادراك ظاهري وباطني ، بريئا من كل الكمالات . ثم شملتك رحمته وجعلك قابلا للحياة ، ظهرت فيك الحياة رغم كونك في اشد حالات النقص ، بحيث انك كنت احط من الدودة في امور حياتك ، فزادت برحمته تدريجيا قابليتك على ادارة شؤون حياتك ، الى ان اصبحت جديرا بالظهور في محيط الدنيا ، اظهرك في هذه الدنيا من خلال اشد المجاري ضعة ، وفي اوطا الحالات ، وانت اضعف في الكمالات وشؤون الحياة ، وادنى من جميع مواليد الحيوانات الاخرى . وبعد ان منحك بقدرته قواك الظاهرية والباطنية ، ما زلت ضعيفا وتافها بحيث ان ايا من قواك ليست تحت تصرفك ، فلست بقادر على المحافظة على صحتك ، ولا على قواك ولا على حياتك ، ولست بقادر على الاحتفاظ بشبابك وجمالك . واذا ما هاجمتك آفة او انتابك مرض فلست بقادر على دفعهما عنك . وعلى العموم ، ليس تحت تصرفك شيء من ذلك . لو جعت يوما لتنازلت حتى لاكل الجيفة ، ولو غلبك العطش لما امتنعت عن شرب اي ماء آسن . وهكذا انت في شؤونك الاخرى عبد ذليل مسكين لا قدرة لك على شيء . ولو قارنت حظك من الوجود ومن الكمالات

الاربعون حديثاً 99

بما لسائر الموجودات ، لوجدت انك انت وكل الكرة الارضية ، بل وكل المنظومة الشمسية ، لا قيمة لكم مقابل هذا العالم الجسماني الذي هو ادنى العوالم واصغرها .
ايها العزيز ! انك لم تر سوى نفسك ، والذي رايته لم تضعه موضع الاعتبار والمقارنة . حاول ان تنظر الى نفسك وما تملك من شؤون الحياة وزخارف الدنيا وقارنها بمدينتك . وقارن مدينتك بوطنك ، ووطنك بسائر الدول في الدنيا التي لم تسمع باكثر من واحدة بالمئة منها ، وقارن كل الدول بالكرة الارضية ، والارض بالمنظومة الشمسية ، وبالكرات الواسعة التي تعيش على فتات اشعة الشمس المنيرة ، وقارن كل المنظومة الشمسية الخارجة عن محيط فكري وفكرك ، بالمنظومات الشمسية الاخرى التي تعد شمسنا وجميع سياراتها ، واحدة من سيارات احدى تلك المنظومات التي لا يمكن ان تقارن شمسنا معها ، والتي يقال ان ما اكتشف منها حتى الآن يبلغ عدة ملايين من المجرات ، وان في هذه المجرة القريبة الصغيرة عدة ملايين من المنظومات الشمسية التي تكبر اصغر شمسها على شمسنا ملايين المرات وتسطع نورا اكثر . هذه كلها من العوالم الجسمانية التي لا يعرفها الا خالقها ، وان ما اكتشف منها لا يبلغ الجزء الضئيل منها . وكل عوالم الاجسام هذه لا تكون شيئا بالقياس الى عالم ما وراء الطبيعة ، فهنالك عوالم لا يمكن للعقل البشري ان يتخيلها .
هذه شؤون حياتك وحياتي وهذه حظوظنا ونصيبنا من عالم الوجود . وعندما تشاء ارادة الله ان تتوفاك من هذه الدنيا ، فانه يامر جميع قواك بالاتجاه نحو الضعف وجميع حواسك بالتوقف عن العمل ، فتختل اجهزة وجودك ، ويذهب سمعك وبصرك ، وتضمحل قواك وقدراتك ، فتصير قطعة جماد تزكم بعد ايام رائحتك العفنة ، انوف الناس وتؤذي مشامهم ، ويهربون من صورتك وهيئتك ، وما ان تمضي عليك ايام اخر حتى تهترأ اعضاؤك وتتفسخ . هذه هي احوال جسمك ، اما احوال اموالك وثروتك فامرها معروف .
اما عالم برزخك : فانك ان انتقلت من هذه الدنيا ـ لا سمح الله ـ قبل ان تصلحه ، فالله يعلم كيف تكون صورتك ، وكيف تكون احوالك ، اذ ان قوى الادراك في هذا العالم عاجزة عن ان تسمع او ترى او تشم شيئا من ذلك العالم .ان ما تسمعه عن ظلمة القبر ووحشته وضيقه انما تقيسه على ما في هذا العالم من ظلمة ووحشة وضيق ، مع ان هذا القياس وهذه المقارنة باطلة . نسال الله ان ينجينا مما اعددنا لانفسنا بانفسنا !
ان عذاب القبر انموذج من عذاب الآخرة ، والمستفاد من بعض الاحاديث ان ايدينا تقصر عن الوصول الى شفاعة الشفعاء في القبر ، فيا له من عذاب ! ان نشاة الآخرة اشد وافظع من جميع الحالات السابقة . انه يوم تبرز فيه الحقائق ، وتنكشف فيه السرائر ، وتتجسد فيه الاعمال والاخلاق . يوم تصفية الحساب . يوم الذلة في المواقف . تلك هي احوال يوم القيامة !

الاربعون حديثاً 100

اما حال جهنم التي تكون بعد يوم القيامة فامرها معلوم ايضا . انك تسمع اخبارا عن جهنم ! ان النار ليست وحدها عذاب جهنم . فلو ان بابا منها انفتحت على عينيك وعلى هذا العالم لهلك اهلها خوفا . وكذلك لو انفتحت باب اخرى على اذنيك ، واخرى على خياشيمك ، لو ان ايا منها فتح على اهل هذا العالم لهلكوا جميعا من شدة العذاب .
يقول احد علماء الآخرة : مثلما ان حرارة جهنم اشد ما تكون ، كذلك برودتها اشد ما تكون . والله تعالى قادر على ان يجمع الحرارة والبرودة معا . هكذا هي نهاية حالك .
اذا ، فالذي اوله عدم غير متناه ، وهو منذه ان يضع قدمه في الوجود تكون جميع تطوراته قبيحة وغير جميلة ، وكل حالاته مخجلة ، وكل من دنياه وبرزخه وآخرته افجع من الاخرى ، بِمَ يتكبر ؟ باي جمال او كمال يتباهى ؟ ان من كان جهله اكبر وعقله اصغر كان تكبره اكثر ، ومن كان علمه اكثر وروحه اكبر وصدره اوسع ، كان تواضعه اكثر .
النبي الكريم صلى لله عليه وآله وسلم الذي كان علمه من الوحي الالهي ، وكانت روحه من العظمة بحيث انها بمفردها غلبت نفسيات كل البشر ، ان هذا النبي قد وضع جميع العادات الجاهلية والاديان تحت قدمية ، ونسخ جميع الكتب ، واختتم دائرة النبوة بشخصه الكريم ، وكان هو سلطان الدنيا والآخرة والمتصرف في جميع العوالم باذن الله ، ومع ذلك كان تواضعه مع عباد الله اكثر من اي شخص آخر . كان يكره ان يقوم له اصحابه احتراما ، واذا دخل مجلسا لم يتصدر ، ويتناول الطعام جالسا على الارض قائلا : انني عبد ، آكل مثل العبيد واجلس مجلس العبيد .
لقد نقل عن الامام الصادق عليه السلام ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يحب ان يركب الحمار من دون سرج ، وان يتناول الطعام مع العبيد على الارض ، وكان يعطي الفقراء بكلتا يديه . كان ذلك الانسان العظيم يركب الحمار مع غلامه او غيره ، ويجلس على الارض مع العبيد . وفي سيرته انه كان يشترك في اعمال المنزل ، ويحتلب الاغنام ، ويرقع ثيابه ويخصف نعله بيده ، ويطحن مع خادمه ويعجن ، يحمل متاعه بنفسه ، ويجالس الفقراء والمساكين وياكل معهم . هذه وامثالها ، نماذج من سيرة ذلك الانسان العظيم وتواضعه ، مع انه فضلا عن مقامه المعنوي كان في اكمل حالات الرئاسة الظاهرية .
وهكذا قد اقتدى به امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام ، اذ كانت سيرته من سيرته صلى الله عليه وآله وسلم .
فيا ايها العزيز ! اذا كان التكبر بالكمال المعنوي ، فقد كانا الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم والامام علي عليه السلام ارفع شانا ، واذا كان بالرئاسة والسلطان ، فقد كانت لهما الرئاسة الحقة . ومع ذلك ، كانا اشد الناس تواضعا . فاعلم ، ان التواضع وليد العلم

الاربعون حديثاً 101

والمعرفة ، والكبر وليد الجهل وانعدام المعرفة . فامسح عن نفسك عار الجهل والانحطاط ، واتصف بصفات الانبياء ، واترك صفات الشيطان ، ولا تنازع الله في ردائه ـ الكبرياء ـ فمن ينازع الحق في ردائه فهو مغلوب ومقهور بغضبه ، ويكب على وجهه في النار .
واذا عزمت على اصلاح نفسك ، فطريقه العملي ، امر يسير مع شيء من المثابرة ، وانه طريق لو اتصفت بهمة الرجال وحرية الفكر وعلو النظر ، فلن تصادفك اية مخاطر . فان الاسلوب الوحيد للتغلب على النفس الامارة ، وقهر الشيطان ، ولاتباع طريق النجاة ،هو العمل بخلاف رغباتهما . انه لا يوجد سبيل افضل لقمع النفس من الاتصاف بصفة التواضع ومن السير وفق مسيرة المتواضعين فحيثما تكن درجة التكبر عندك ، ومهما تكن طريقتك في العلم والعمل ، اعمل قليلا بخلاف هوى نفسك ، فان مع الالتفات الى الملاحظات العلمية تجاه التكبر ، والانتباه الى النتائج المطلوبة . فاذا رغبت نفسك بان تتصدر المجلس متقدما على اقرانك ، فخالفها واعمل عكس ما ترغب فيه . واذا كانت نفسك تانف من مجالسة الفقراء والمساكين ، فمرّغ انفها في التراب وجالسهم ، وآكلهم ، ورافقهم في السفر ، ومازحهم وقد تجادلك نفسك فتقول لك : ان لك مقاما ومنزلة ، وان عليك ان تحافظ على مقامك من اجل ترويج الشريعة والعمل في سبيلها ، فمجالستك الفقراء تذهب بمنزلتك من القلوب ، وان المزاح مع مَن هو دونك ، يقلل من عظمتك ، وجلوسك في ذيل المجلس يحط من هيبتك ، فلا تقدر ان تؤدي واجبك الشرعي على خير وجه !! اعلم ، ان هذه كلها من مكائد الشيطان والنفس الامارة . لقد كان مقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الدنيا من حيث الرئاسة والمركز ارفع منك ، ومع ذلك كانت سيرته هي التي قراتها وسمعت بها .
لقد عاصرت شخصيا من العلماء من كانت لهم الرئاسة والمرجعية الدينية كاملة في دولة واحدة ، بل ولكل الشيعة في العالم وكانت سيرتهم تلي سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
منهم ، الاستاذ المعظم والفقيه المكرم الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي حيث كانت له رئاسة الشيعة ومرجعيتهم من 1340 هـ (1) حتى 1355 هـ (2) . كانت سيرته عجيبة ، كان يرافق الخدم في السفر ، ويؤاكلهم ، ويفترش الارض ، ويمازح صغار الطلبة . وخلال ايام مرضه في اواخر حياته ، كان يخرج بعد المغرب يتمشى في الشارع وقد لف راسه بقطعة قماش بسيطة متنعلا حذاءا بسيطا من دون اي اهتمام بالمظهر ، وكان هذا يزيد من وقعه في القلوب ، من دون ان تصاب هيبته باي اعتراض او وهن .

(1) 1920 م (المترجم) .
(2) 1935 م (المترجم) .

السابق السابق الفهرس التالي التالي